للحافظ ابن كثير
فضائل القرآن
قال البخارى رحمه الله كيف نزل الوحى وأول ما نزل قال ابن عباس : المهيمن الأمين القرآن أمين على كل كتاب قبله.
حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان عن يحيى عن أبى سلمه قال: أخبرتنى عائشة و ابن عباس قالا: لبث النبى صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن، وبالمدينة عشرا .
ذكر البخارى رحمه الله كتاب فضائل القرآن بعد كتاب التفسير لأن التفسيرأهم فلهذا بدأ به، فجرينا على منواله وسننه مقتضين به، وقول ابن عباس فى المهيمن: إنما يريد به البخارى قوله تعالى فى المائدة بعد ذكر التوراة والانجيل وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله:ثنا المثنى ثنا عبد الله بن صالح حدثنى معاويه عن علي يعنى ابن أبى طلحة عن ابن عباس قوله ومهيمنا عليه قال: المهيمن الأمين قال: القرآن أمين على كل كتاب قبله وفى رواية شهيدا عليه . وقال سفيان الثورى وغير واحد من الأئمة عن أبى اسحاق السبيعي عن التميمى عن ابن عباس ومهيمنا عليه قال: مؤتمنا، وبنحو ذلك قال مجاهد و السدى و قتادة و ابن جريج و الحسن البصرى وغير واحد من أئمة السلف وأصل الهيمنة الحفظ والإرتقاب، يقال إذا ارقب الرجل الشىء وحفظه وشهده: قد هيمن فلان عليه، فهو مهيمن هيمنة، وهو عليه مهيمن، وفى أسماء الله تعالى المهيمن وهو الشهيد على كل شىء الرقيب الحفيظ بكل شىء.
وأما الحديت الذى اسنده البخارى أنه عليه السلام أقام بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن وبالمدينة عشرا، فهو مما انقرد به البخارى دون مسلم وإنما رواه النسائى من حديث شيبان وهو ابن عبد الرحمن عن يحيى وهو ابن كثير عن أبى سلمة عنهما، وقال أبوعبيد القاسم بن سلام : ثنا يزيد عن داود بن أبىهند عن عكرمة عن ابن عباس قال: أنزل القران جملة واحدة إلى سماء الدنيا فى ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك فى عشرين سنة. ثم قرأ وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا هذا إسناد صحيح أما إقامته بالمدينة عشرا فهذا مما لا خلاف فيه. وأما إقامته بمكة بعد النبوة فالمشهور ثلاث عشرة سنة، لأنه عليه السلام أوحى إليه وهو ابن أربعين سنة، وتوفى وهو ابن ثلاث وستين سنة على الصحيح، ويحتمل أنه حذف ما زاد على العشر اختصارا فى الكلام، لأن العرب كثيرا ما يحذفون الكسور فى كلامهم، أو أنهما اعتبراقرن جبريل عليه السلام، فإنه قد روى الإمام أحمد أنه قرن به عليه السلام ميكائيل فى ابتداء الأمر يلقى اليه الكلمة وشىء ثم قرن به جبريل . ووجه مناسبة هذا الحديث بـ فضائل القرآن أنه ابتدئ بنزوله فى مكان شريف وهو البلد الحرام، كما أنه فى زمن شريف، وهو شهر رمضان، فاجتمع له شرف الزمان والمكان.
ولهذا يستحب إكثار تلاوة القرآن فى شهر رمضان، لأنه ابتدئ بنزوله، ولهذا كان جبريل يعارض به رسول الله فى كل سنة فى شهر رمضان، فلما كانت السنة التى توفى فيها عارضه مرتين تأكيدا وتثبيتا وأيضا ففى الحديث بيان أنه من القرآن مكى، ومنه مدنى، فالمكى ما نزل قبل الهجرة، والمدنى ما نزل بعد الهجرة سواء كان بالمدينة أو بغيرها من أى البلاد كان، حتى ولوكان بمكة أو عرفة.
وقد أجمعوا على سور أنها من المكى وأخر أنها من المدنى، واختلفوا فى أخر وأراد بعضهم ضبط ذلك بضوابط فى تقييدها عسر ونظر ولكن قال بعضهم: كل سورة فى أولها شىء من الحروف المقطعة فهى مكية، إلا البقرة وآل عمران، كما أن كل سورة فيها يا أيها الذين آمنوا فهى مدنية، وما فيه يا أيها الناس فيحتمل أن تكون من هذا ومن هذا، والغالب أنه مكى، وقد يكون مدنيا كما فى البقرة: يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون - يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين .
قال أبوعبيد : ثنا أبومعاوية ثنا من سمع الأعمش يحدث عن إبراهيم عن علقمة : كل شىء فى القرآن يا أيها الذين آمنوا فانه أنزل بالمدينة، وما كان منها يا أيها الناس فانه أنزل بمكة ثم قال: ثنا على بن معبد عن أبى المليح عن ميمون بن مهران قال: ما كان فى القرآن يا أيها الناس و يا بني آدم فإنه مكى وما كان يا أيها الذين آمنوا فإنه مدنى.
ومنهم من يقول: إن بعض السور نزل مرتين: مرة بالمدينة ومرة بمكة، والله أعلم. ومنهم من يستثنى من المكى آيات، يدعى أنها من المدنى، كما فى سورة الحج وغيرها.
والحق فى ذلك ما دل عليه الدليل الصحيح، فالله أعلم.
وقال أبوعبيد : حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن على بن أبى طلحة قال: نزلت بالمدينة سورة البقرة، وال عمران والنساء، وا لمائدة، والأنفال، والتوبة، والحج، وا لنور، والأحزاب، والذ ين كفروا، والفتح، والحد يد، والمجادلة، والحشر، والممتحنة، والحواريون، والتغابن، و يا أيها النبي إذا طلقتم النساء و يا أيها النبي لم تحرم و الفجر ، و الليل إذا يغشى و إنا أنزلناه في ليلة القدر و لم يكن . و إذا زلزلت و إذا جاء نصر الله والفتح . وسائر ذلك بمكة، هذا إسناد صحيح عن ابن أبى طلحة مشهور، وهو أحد أصحاب ابن عباس الذين رووا عنه التفسير.
وقد ذكر فى المدنى سورا فى كونها مدنية نظر. وما به الحجرات المعوذات.
وقال البخارى : ثنا موسى بن إسماعيل ثنا معتمر قال: سمعت أبىعن أبى عثمان قال، قال: أنبئت أن جبريل عليه السلام أتى النبى صلى الله عليه وسلم وعنده أم سلمة فجعل يتحدث، فقال النبى صلى الله عليه وسلم لأم سلمة : من هذا أو كما قال، قالت: هذا دحيه، فلما قام قالت: والله ما حسبته إلا إياه حتى سمعت خطبة النبى صلى الله عليه وسلم يخبر خبر جبريل أو كما قال قال أبى: قلت لأبىعثمان : ممن سمعت هذا؟ قال: من أسامة بن زيد رضي الله عنه .
وهكذا رواه أيضا فى علامات النبوة عن عباس بن الوليد النرسى و مسلم فى فضائل أم سلمة عن عبدالأعلى بن حماد و محمد بن عبد الأعلى كلهم عن معتمر بن سليمان به. والغرض من ايراده هذا الحديث ههنا أن السفير بين الله وبين محمد صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام، وهو ملك كريم، ذو وجاهة وجلالة ومكانة، كما قال تعالى: نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين وقال تعالى: إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين * وما صاحبكم بمجنون الآيات.
فمدح الرب تبارك وتعالى عبديه ورسوليه جبريل ومحمدا صلى الله وسلم عليهما، وسنستقصى الكلام على تفسيرهذا المكان فى موضعه إذا وصلنا إليه إن شاء الله تعالى وبه الثقة وفى الحديث فضيلة عظيمة لأم سلمة رضى الله عنها- كما بينه مسلم رحمه الله، لرؤيتها هذا الملك العظيم وفضيلة أيضا لدحية بن خليفة الكلبى وذلك أن جبريل عليه السلام كان كثيرا ما يأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على صورة دحية وكان جميل الصورة رضى الله عنه، وكان من قبيلة أسامة بن زيد بن حارثة الكلبى وهم من قبيلة قضاعة، وقضاعة قيل: إنهم من عدنان، وقيل من قحطان، كلهم ينسبون إلى كلب بن وبره، وقيل بطن مستقل بنفسه، والله أعلم.
الحديث الثالث
حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا الليث ثنا سعيد المقبرى عن أبيه، عن أبى هريرة قال، قال النبى صلى الله عليه وسلم: ما من الانبياء نبى إلا أعطى من الأيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذى أوتيت وحيا أوحاه الله إلى، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ورواه أيضا فى الاعتصام عن عبد العزيز بن عبد الله و مسلم و النسائى عن قتيبة جميعا عن الليث بن سعد عن سعيد بن أبى سعيد عن أبيه واسمه كيسان المقبرى به.
وفى هذا الحديث فضيلة عظيمة للقرآن المجيد على كل معجزة أعطيها بنى من الأنبياء وعلى كل كتاب أنزله، وذلك أن معنى الحديث: ما من نبى إلا أعطى- أى من المعجزات- ما آمن عليه البشر، أى ما كان دليلا على تصديقه فيما جاءهم به واتبعه من اتبعه من البشر، ثم لما مات الأنبياء لم تبق لهم معجزة بعدهم إلا ما يحكيه أتباعهم عما شاهدوه فى زمانه .
وأما الرسول الخاتم للرسالة محمد صلى الله عليه وسلم فإنما كان معظم
ما آتاه الله وحيا منه إليه منقولا الى الناس بالتواتر، ففى كل حين هو كما أنزل. فلهذا قال: فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا وكذلك وقع فإن أتباعه أكثر من أتباع الأنبياء لعموم رسالته، ودوامها الى قيام الساعة واستمرار معجزته. ولهذا قال الله تعالى: تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا وقال تعالى: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .
ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه فقال أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ثم تحداهم إلى أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، فقال أم يقولون افتراه قل فاتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين وقصر التحدى على هذ المقام فى السور المكية- كما ذكرنا فى المدنية أيضا، كما فى سورة البقرة حيث قال تعالى: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين وأخبرهم أنهم عاجزون عن معارضته بمثله وأنهم لا يفعلون ذلك فى المستقبل أيضا.
هذا وهم أفصح الخلق وأعلمهم بالبلاغة والشعر وقريض الكلام وضروبه، لكن جاءهم من الله مالا قبل لأحد من البشر به من الكلام الفصيح البليغ الوجيز المحتوى على العلوم الكثيرة الصحيحة النافعة، والأخبار الصادقة، عن الغيوب الماضية والآتية، والأحكام العادلة المحكمة، كما قال تعالى: وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا .
وقال الإمام أحمد بن حنبل : ثنا يعقوب بن إبراهيم ثنا أبى، ثنا محمد بن اسحاق قال: ذكر محمد بن كعب القرظى عن الحارث بن عبد الله الأعور قال: قلت لآتين أمير المؤمنين فلأ سألنه عما سمعت العشية، قال: فجئته بعد العشاء فدخلت عليه، فذكر الحديث. قال ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أتانى جبريل فقال: يامحمد إن أمتك مختلفة بعدك- قال- فقلت له: فأين المخرج يا جبريل؟ قال: فقال: كتاب الله، به يقصم الله كل جبار، من اعتصم به نجا، ومن تركه هلك- مرتين- قول فصل، وليس بالهزل، لا تخلقه الألسن، ولا تفنى عجائبه، فيه نبأ من كان قبلكم، وفصل مابينكم، وخبرماهو كائن بعدكم رواه الإمام أحمد .
وقد قال أبوعيسى الترمذى : ثنا عبد بن حميد ثنا حسين بن على الجعفى ثنا حمزة الزيات عن أبى المختار الطائى عن ابن أخى الحارث الأعور عن الحارث الأعور قال: مررت إلى المسجد فاذا الناس يخوضون فى الأحاديث، فدخلت على علي فقلت: يا أمير المؤمنين ألا ترى الناس قد خاضو فى الأحاديث؟ قال: أوقد فعلوها؟ قلت: نعم، قال: أما إنى قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:ألا إنها ستكون فتنة فقلت: فما المخرج منها يارسول الله؟ قال: كتاب الله فيه نبأ ماقبلكم، وخبر مابعدكم وحكم مابينكم، وهو الفصل، ليس بالهزل، من تركه من جبارقصمة الله، ومن ابتغى الهدى فى غيره أضله الله. وهو حبل الله المتين. وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم هو التى لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنه، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضى عجائبه، هو الذى لم تنته الجن إذا سمعته حتى قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به من قال به صدق، ومن عمل به أجر. ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم خذها اليك يا أعور . ثم قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حمزة الزيات وإسناده مجهول، وفى حديث الحارث مقال.
قلت: لم ينفرد بروايته حمزة بن حبيب الزيات بل قد رواه محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظى عن الحارث الأعور فبرئ حمزة من عهدته على أنه وإن كان ضعيف الحديث فإنه إمام فى القراءة. والحديث مشهور من رواية الحارث الأعور وقد تكلموا فيه بل قد كذبه بعضهم من جهة رأيه واعتقاده، أما أنه تعمد الكذب فى الحديث فلا، والله أعلم.
وقصارى هذا الحديث أنما يكون من كلام أمير المؤمنين على رضى الله عنه، وقد وهم بعضهم فى رفعه، وهو كلام حسن صحيح على أنه قد روى له شاهد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام العلم أبوعبيد الله القاسم بن سلام رحمه الله فى كتابة فضائل القرآن : ثنا أبو اليقظان عمار بن محمد الثورى أو غيره عن أبى إسحاق الهجرى عن أبى الاحوص عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله، وهو النور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يعوج فيقوم ولا يزيغ فيستعتب ولا تنقضى عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد، فاتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما أنى لا أقول: الم، حرف، ولكن ألف عشر ولام عشر وميم عشر .
وهذا غريب من هذا الوجه، ورواه محمد بن تفضيل عن أبى إسحاق الهجرى واسمه إبراهيم بن مسلم وهو أحد التابعين، ولكن تكلموا فيه كثيرا، وقال أبو حاتم الرازى : لين ليس بالقوى. وقال أبو الفتح الأزدى : رفاع كثير الوهم.
قلت: فيحتمل- والله أعلم- أن يكون وهم فى رفع هذا الحديث وإنما هو من كلام بن مسعود ولكن له شاهد من وجه أخر والله أعلم.
وقال أبو عبيد أيضا: ثنا حجاج عن إسرائيل عن أبى اسحاق عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن مسعود قال: لا يسأل عبد عن نفسه الا القرآن فإن كان يحب القرآن فإنه يحب الله ورسوله.