كيف تتقى الله عز وجل
منقول من كتاب التقوى – تأليف الشيخ أحمد فريد
هذا باب لا يدخل فيه إلا النفوس الفاضلة الشريفة الأبية ، التى لا تقنع بالدون ، ولا تبيع الأعلى بالأدنى بيع العاجز المغبون .
فبعد أن بينا شرف التقوى وتشوقت النفوس إليها فقد يقول قائل : بالله عليك كيف أحوز هذه الجوهرة النفيسة وأصل إلى هذه المرتبة الشريفة ، فإن المؤمن إذا رغب فى الخير رغب ، وإذا خوف من الشر هرب ، ولا خير فيمن إذا زجر لا ينزجر ، وإذا أمر لا يأتمر .
قال الغزالي رحمة الله : " إنما الفضيلة فى أمر هذه النفس أن تقوم عليها بقوة العزم فتمنعها عن كل معصية ، وتصونها عن كل فضول ، فإذا فعلت ذلك كنت قد اتقيت الله تعالى فى عينك وأذنك ولسانك وقلبك وبطنك وفرجك وجميع أركانك ، وألجمتها بلجام التقوى ، ولهذا الباب شرح يطول ، وأما الذي لا بد منه هاهنا فأن نقول : من أراد أن يتقى الله فليراع الأعضاء الخمسة فإنهن الأصول : وهى العين والأذن واللسان والقلب والبطن ، فيحرص عليها بالصيانة لها عن كل ما يخاف منه ضرراً فى أمر الدين من معصية وحرام وفضول وإسراف من حلال،
وإذا حصل صيانة هذه الأعضاء فمرجو إن يكف سائر أركانه ،
ويكون قد قام بالتقوى الجامعة بجميع بدنه لله تعالى " (1)
فإن قلت : كيف لى أن أصون الأعضاء الخمسة عن معصية الله عز وجل ؟ وكيف أقيدها بطاعة الله ، فان هذا لب السؤال وغاية الآمال والسبب الموصل إلى رحمة الكبير المتعال ؟ قلت : سوف اجمع لك من السطور ما يبين لى ولك الطريق ، والله ولى التوفيق.
q وألخص ذلك فى خمسة أمور :
1- محبة الله عز وجل تغلب على قلب العبد يدع لها كل محبوب
ويضحى فى سبيلها بكل مرغوب
2- أن تستشعر فى قلبك مراقبة الله عز وجل وتستحى منه حق الحياء .
3- أن تعلم ما فى سبيل المعاصى والاثام من الشرور والآلام .
4- أن تعلم كيف تغالب هواك وتطيع مولاك .
5- أن تدرس مكائد الشيطان ومصائده ، وان تحذر من وساوسه ودسائسه.
1- محبة الله عز وجل :
قال ابن القيم رحمة الله : فالمحبة شجرة فى القلب ، عروقها الذل للمحبوب وساقها معرفته ، وأغصانها خشيته ، وورقها الحياء منه ، وثمرتها طاعته ، ومادتها التى تسقيها ذكره ،
فمتى خلا الحب عن شئ من ذلك كان ناقصاً . (2)
وقال ابن رجب رحمه الله : ومحبة الله سبحانة وتعالى على درجتين :
أحداهما : فرض لازم ، وهى أن يحب الله سبحانه وتعالى محبة توجب له محبة ما فرضه الله عليه ، وبغض ما حرمه عليه ، ومحبة لرسوله المبلغ عنه أمره و نهيه ، وتقديم محبته على النفوس والاهلين والرضا بما بلغه عن الله من الدين ، وتلقى ذلك بالرضى والتسليم ، ومحبة الانبياء والرسل والمتبعين لهم باحسان جملة ، وعموما لله عز وجل ، وبغض الكفار والفجار جملة وعموما لله عز وجل وهذا القدر لابد منه فى تمام الايمان الواجب ،
ومن اخل بشئ منه فقد نقص من ايمانه الواجب بحسب ذلك ، قال الله عز وجل :
] فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [..… ( النساء : 65 ) وكذلك ينقص من محبته الواجبة بحسب ما أخل به من ذلك ، فإن المحبة الواجبة تقتضى فعل الواجبات وترك المحرمات .
الدرجة الثانية : درجة السابقين المقربين ، وهى أن ترتقى المحبة إلى محبة ما يحبه من نوافل الطاعات ، وكراهة ما يكرهه من دقائق المكروهات ، وإلى الرضا بما يقدره ويقضيه مما يؤلم النفوس من المصائب ، وهذا أفضل مستحب مندوب إليه
وفى صحيح البخاري عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم :
قال : ( يقول الله عز وجل : من عادى لى ولياً فقد أذنته بالحرب ، وما تقرب إلى عبدى بشئ أحب إليه مما افترضت عليه، ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوفل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به ، وبصره الذى يبصر به ، ويده التى يبطش بها ورجله التى يمشى بها ، ولئن سألنى لأعطينه ، ولئن استعاذنى لأعيذنه ، وما تردت عن شئ أنا فاعله ترددى فى قبض نفس عبدى المؤمن ، يكره الموت وأنا أكره مساءته )) (3)
قال ابن القيم رحمه الله :
ولو لم يكن فى المحبة إلا أنها تنجى محبه من عذابه ، لكان ينبغى للعبد أن لا يتعوض عنها بشئ أبداً . وسئل بعض العلماء أين تجد فى القران إن الحبيب لا يعذب حبيبه : فى قوله تعالى : ] وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم [ (4) .....( المائده : 18 )
q الأسباب الجالبة للمحبة :
1- قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعاينه .
2- التقرب إلى الله عز وجل بالنوافل بعد الفرائض .
3- دوام ذكره بالقلب واللسان .
4- إيثاره محابه على محابك عند غلبات الهوى
5 – مطالعة أسمائه وصفاته ، ومشاهدتها ، والتقلب فى رياض معانيها.
6- تذكر نعمه وإحسانه وبره على العبد ، فإن القلوب جلبت على محبة من أحسن إليها
وبغض من اساء إليها .
7- الخلوة به وقت النزول الإلهى والإذن العام ، عند قوله عز وجل : هل من سائل .. هل من تائب .. هل من مستغفر . (5)
8- مجالسة المحبين الصادقين ، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم.
9- مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله من الشهوات والشبهات .
10- التفكر فى مصنوعاته الدالة على كماله ، فإن القلوب مفطورة على محبة الكمال ، وكان السلف يفضلون التفكر على عبادة البدن .
11- تذكر ما ورد فى الكتاب والسنة من رؤية أهل الجنة لربهم وزيارتهم له واجتماعهم يوم المزيد .
ولا شك فى أن الاشتغال بهذه الاسباب الجالبة للمحبة مما يشغل القلب بطاعة الله ويبعده عن المعاصى، ثم إذا كملت المحبة فإن المحب لا يعصى محبوبه كما قيل :
تعصى الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمرى فى القياس شنيع
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
وإذا فتح للعبد هذا الباب الشريف ، ودخل هذا القصر المنيف ، فإنه تحبب إليه الطاعات ويجد فيها منتهى راحته وسعادته ، قال النبى صلى الله عليه وسلم : ( وجعلت قرة عينى فى الصلاة ) (6))، وكان يصلى حتى ترم ساقاه وتشقق قدماه فيقال له فى ذلك فيقول صلى الله عليه وسلم: ( أفلا أكون عبداً شكوراً ) (7)
فمحبة الله عز وجل من أعظم أسباب التقوى ، كما قال القائل:
وكن لربك ذا حب لتخدمه ***** إن المحبين للأحباب خدام
فإن المحب يسر بخدمة محبوبه وطاعته ، ولا تطاوعه نفسه على معصيته كما قال بعض الصالحين : إنى لا أحسن أن أعصى الله . أى أن جوارحه لا تأتى معه فى المعصية ، لمحبتها للطاعات ، وبغضها للمعاصى .
كما نصحت إحدى الصالحات من السلف بنيها فقالت لهم : " تعودوا حب الله وطاعته فإن المتقين ألفت جوارحهم الطاعة فاستوحشت من غيرها ، فإذا أمرهم الملعون بمعصية ، مرت المعصية بهم محتشمه فهم لها منكرون ".
فنسال الله الغنى الكريم أن يمن علينا بمحبته وأن يوفقـنا لأسباب فضله ورحمته.
2- ومما يعين على تقوى الله عز وجل أن يدرب العبد نفسه على المراقبة وان يستشعر اطلاع الله عز وجل عليه فيستحى عند ذلك من المعصية ويجتهد فى الطاعة :
قال الله تعالى :] وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [ …… ( الحديد : 4 )
قال ابن كثير رحمه الله : أى رقيب عليكم شهيد على أعمالكم حيث كنتم وأين كنتم ، من بر أو بحر ، فى ليل او نهار ، فى البيوت او القفار ، الجميع فى علمه على السواء ، وتحت بصره وسمعه فيسمع كلامكم ، ويرى مكانكم ، ويعلم سركم ونجواكم (8)
وقال تعالى : ] أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [ ........ ( هود : 5 )
قال الشنقيطى رحمة الله : بين الله تعالى فى هذة الاية الكريمه أنه لايخفى عليه شىء ، وان السر كالعلانية عنده ، فهو عالم بما تنطوى عليه الضمائر وما يعلن وما يسر والايات المبينة لهذا كثيرة جدا كقوله تعالى :
] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ ... ( ق : 16 )
وقوله جلا وعلا ] وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [ ........ ( البقره : 235 )
وقوله ] فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ [ ........ ( الأعراف : 7 )
وقوله ] وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء [ ....... ( يونس : 61 )
ولا تقلب ورقة من المصحف الكريم إلا وجدت فيها أية بهذا المعنى.
ثم قال تحت عنوان .... : تنبية هام :
اعلم ان الله تبارك وتعالى ما أنزل من السماء الى الارض واعظاً أكبر ولا زاجراً أعظم مما تضمنته هذة الايات الكريمة وامثالها فى القرآن ، من انه تعالى عالم بكل ما يعمله خلقه ، رقيب عليهم ، ليس بغائب عما يفعلون ، وضرب العلماء لهذا الواعظ الاكبر والزاجر الاعظم مثلا ليصير بة كالمحسوس فقالوا : لو فرضنا ان ملكاً قتالاً للرجال ، سفاكاً للدماء ، شديد البطش والنكال على من انتهك حرمته ظلماً وسيافه قائم على رأسه ، والنطع مبسوط للقتل ، والسيف يقطر دماً ، وحول هذا الملك الذى هذة صفته جواريه وازواجه وبناته ، فهل ترى ان احداً من الحاضرين يهتم بريبة او بحرام يناله من بنات الملك وازواجه، وهو ينظر اليه ، عالم بأنه مطلع عليه ؟ لا وكلا ، بل جميع الحاضرين يكونون خائفين ، وجلة قلوبهم، خاشعة عيونهم ، ساكنة جوارحهم ، خوفا من بطش ذلك الملك.
ولا شك ولله المثل الأعلى أن رب السموات والارض جل وعلا أشد علماً واعظم مراقبةً ، واشد بطشاً واعظم نكالاً وعقوبةً من ذلك الملك ، وحماه فى أرضه محارمه ، فإذا لاحظ الإنسان الضعيف أن ربه جل وعلا ليس بغائب عنه ، وأنه مطلع على ما يقول وما يفعل وما ينوى ، لان قلبه ، وخشى الله تعالى ، وأحسن عمله لله جل وعلا. (9)
وقد دلت الأحاديث الشريفة على ما دلت عليه هذه الأيات الكريمات من وجوب مراقبة
الله تعالى ، والاستحياء منه حق الحياء.
عن ابن مسعود رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم استحيوا من الله حق الحياء ، من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى ، وليحفظ البطن وما حوى ، وليذكر الموت والبلا ، ومن أراد الأخرة ترك زينة الحياة الدنيا ، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء ) (10)
قال المناوى فى الفيض : " استحيوا من الله حق الحياء " بترك الشهوات والنهمات ، وتحمل المكاره على النفس حتى تصير مدبوغة ، فعندها تطهر الأخلاق ، وتشرق أنوار الأسماء فى صدر العبد ، ويقرر علمه بالله فيعيش غنياً بالله ماعاش .
قال البيضاوى : ليس حق الحياء من الله ما تحسبونه ، بل أن يحفظ نفسه بجميع جوارحه عما لا يرضاه من فعل وقول .
وقال سيفان بن عيينه : الحياء أخف التقوى ، ولا يخاف العبد حتى يستحى ، وهل دخل أهل التقوى إلا من الحياء ( من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس ) أى راسه ( وما وعى ) : ما جمعه من الحواس الظاهرة والباطنة ، وحتى لا يستعملها إلا فيما يحل ( وليحفظ البطن وما حوى ) أى : وما جمعه الجوف باتصاله به من القلب والفرج واليدين والرجلين ، فإن هذه الأعضاء متصله بالجوف فلا يستعمل منها شئ فى معصية الله ، فإن الله ناظر إلى العبد لا يواريه شئ (11)
وعن أسامة بن شريك رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما كرهت أن يراه الناس منك فلا تفعله بنفسك إذا خلوت ) . (12)
وعن ثوبان رضى الله عنه قال :
قال رسول الله صلى اله عليه وسلم ( لأعملن أقواماً من أمتى ياتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباء منشورا ، أما إنهم إخوانكم ، ومن جلدتكم ، ويأخذون من الليل كما تأخذون ، ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها ).) (13)
وعن أنس رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله علية وسلم : ( ثلاث مهلكات وثلاث منجيات : فقال : ثلاث مهلكات : شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه . وثلاث منجيات : خشية الله فى السر والعلانية ، والقصد فى الفقر والغنى ، والعدل فى الغضب والرضا ). (14)
قال المناوى : قدم السر لأن تقوى الله فيه أعلى درجة من العلن لما يخاف من شوب رؤية الناس ، وهذه درجة المراقبة وخشيته فيهما تمنع من إرتكاب كل منهى ، وتحثه على فعل كل مأمور ، فإن حصل للعبد غفلة عن ملاحظة خوفه وتقواه فارتكب مخالفة مولاه لجأ إلى التوبة ثم داوم الخشية (15)
وسئل النبى صلى الله علية وسلم عن الإحسان فى الحديث المسمى بأم السنه
فقال صلى الله علية وسلم : ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك). (16)
قال النووى رحمه الله : " هذا من جوامع الكلم التى أوتيها صلى الله عليه وسلم ، لأنا لو قدرنا أن احداً قام فى عبادة وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى ، لم يترك شيئاً ما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت واجتماعه بظاهره وباطنه على
الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلا أتى به فقال صلى الله عليه وسلم : ( اعبد الله فى جميع أحوالك كعبادتك فى حال العيان ) فإن التتميم المذكور فى حال العيان إنما كان لعلم العبد باطلاع الله سبحانه وتعالى عليه ، فلا يقدم العبد على تقصير فى هذا الحال للاطلاع عليه ، وهذا المعنى موجود مع رؤية العبد ، فينبغى أن يعمل بمقتضاه ، فمقصود الكلام الحث على الأخلاص فى العبادة ومراقبة العبد ربه تبارك وتعالى فى إتمام الخشوع والخضوع وغير ذلك ، وقد ندب أهل الحقائق إلى مجالسة الصالحين ليكون ذلك مانعاً من تلبسه من النقائض إحتراماً لهم وإستحياءً منهم ، فكيف بمن لا يزال الله مطلعا عليه فى سره وعلانيته (17).
وقال ابن رجب رحمه الله : يشير إلى أن العبد يعبد الله تعالى على هذه الصفة وهو استحضار قربه ، وأنه بين يديه كأنه يراه ، وذلك يوجب الخشية والهيبة والتعظيم ن كما جاء فى رواية أبى هريره : ( أن تخشى الله كأنك تراه ) ويوجب أيضاً النصح فى العبادة وبذل الجهد فى تحسينها وإتمامها وإكمالها ، وقد وصى النبى صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة
بهذه الوصية .
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) قيل : إنه تعليل للأول ، فإن العبد إذا أمر بمراقبة الله تعالى فى العبادة واستحضار قربة من عبده حتى كأن العبد يراه فإنه قد يشق ذلك عليه ، فيستعين على ذلك بإيمانه بأن الله يراه ويطلع على سره وعلانيته وباطنة وظاهره ، ولا يخفى عليه شئ من أمره فإذا تحقق هذا المقام سهل عليه الانتقال إلى المقام الثانى،
وهو دوام التحقق بالبصيرة إلى قرب الله من عبده ومعيته حتى كأنه يراه ، وقيل :
بل هو إشارة إلى أن من شق عليه أن يعبد الله كأنه يراه فليعبد الله على أن الله يراه ويطلع عليه فليستحى من نظره إليه ، كما قال بعض العارفين : اتق الله أن يكون أهون الناظرين
إليك . وقال بعضهم : خف الله على قدر قدرته عليك واستحى من الله على قدر قربه منك . (18)
وصفوة الكلام أن يقال : مما يعين على التقوى التدرب على مراقبة الله عز وجل
وإحساس القلب بقربة وإطلاعه ، فيستحى العبد عند ذلك من المعصية ويبذل جهده
فى أداء الطاعة على أحسن وجوهها ، وهذه بعض الأثار فى تقرير هذا المعنى :
ذكر عن أعرابى قال : خرجت فى بعض ليالى الظلم فإذا أنا بجارية كأنها علم (19) ، فأردتها
عن نفسها فقالت : ويلك أما كان لك زاجر من عقل إذا لم يكن لك ناهٍ من دين ؟
فقلت : إنه والله ما يرانا إلا الكواكب ، فقالت : فأين مكوكبها.
وسئل الجنيد بم يستعان على غض البصر ؟ قال : بعلمك أن نظر الله إليك أسبق إلى ما تنظر إليه.
وقال الحارث المحاسبى : المراقبة علم القلب بقرب الرب .
وكان الإمام أحمد ينشد :
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل على رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعـــة ولا أن ما يخفى عليه يغيب
3- ومما يعين على التقوى معرفة ما فى سبيل الحرام من المفاسد والألام
فليس فى الدنيا والأخرة شر و داء إلا وسببه الذنوب والمعاصى ،
قال ابن القيم رحمه الله : فما الذى أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم
والبهجة والسرور إلى دار الالام والأحزان والمصائب .
وما الذى أخرج أبليس من ملكوت السماء ، وطرده ولعنه ومسخ ظاهره وباطنه فجعلت صورته أقبح صوره وأشنعها ، وباطنه أقبح من صورته وأشنع وبدل بالقرب بعداً ، وبالرحمة لعنه ، وبالجنة ناراً تلظى ، فهان على الله غاية الهوان ، وسقط من عينه غاية السقوط ، فصار
قوداً لكل فاسق ومجرم ، رضى لنفسه بالقيادة بعد تلك العبادة والسيادة ، فعياذاً بك اللهم
من مخالفة أمرك ، وأرتكاب نهيك .
وما الذى أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رؤوس الجبال .
وما الذى سلط الريح العقيم على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على سطح الأرض كأنهم
أعجاز نخل خاوية ، ودمرت ما مرت عليه من ديارهم وحروثهم ، وما الذى أرسل على
قوم ثمود الصيحه حتى قطعت قلوبهم فى أجوافهم وماتوا عن أخرهم ؟ وما الذى رفع
قرى ال****ة حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم ثم قلبها عليهم ، فجعل عاليها سافلها ، ثم أتبعهم حجارة من سجيل ، فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه على أمه غيرهم ، ولإخوانهم أمثالها وما هى من الظالمين ببعيد ، وما الذى أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل ،
فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم ناراً تلظى ؟ وما الذى أغرق فرعون وقومه فى البحر ، ثم نقلت ارواحهم إلى جهنم ، فالأجساد للغرق ، والأرواح للحرق ، وما الذى أهلك القرون من بعد نوح ودمرها تدميراً. (20)
ثم ذكر رحمه الله أثار الذنوب والمعاصى فلتراجع فإنها مفيده جداً فى الزجر عن معصية
الله والمباعدة عنها ، وهى التقوى المقصودة والدرة المفقودة ، نسال الله السلامه ، ونعوذ
بالله من الحسرة والندامه ، فحقيق بكل عاقل أن لا يسلك طريقاً حتى يعلم سلامتها وأفاتها ، وما توصل إليه من سلامة أوعطب ،
ولا شك أن سبيل المعاصى فيه من التعرض للعذاب العاجل والأجل وضيق الصدر والرزق وبغض الخلق ومحق البركة فهى كطعام لذيذ مسموم يتمتع به لحظات وتبقى آلامه فى
الحياة وبعد الممات كما قال القائل :
تفنى اللذاذة من نال لذتها من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء من مغبتها لا خير فى لذة من بعدها النار
4- ومما يعين على التقوى أن تتعلم كيف تغالب هواك وتطيع مولاك
قال الشيخ مصطفى السباعى رحمه الله : " إذا همت نفسك بالمعصية فذكرها بالله ، فإذا
لم ترجع فذكرها بأخلاق الرجال ، فإذا لم ترجع فذكرها بالفضيحه إذا علم الناس ، فإذا لم ترجع فاعلم أنك تلك الساعة انقلبت إلى حيوان " . (21)
وقال ابن القيم رحمه الله : " وملاك الأمر كله الرغبة فى الله وأرادة وجهه والتقرب
إليه بأنواع الوسائل والشوق إلى الوصول إليه ، وإلى لقائه ، فإن لم يكن للعبد همة على
ذلك فالرغبة فى الجنة ونعيمها وما أعد الله فيها لأوليائه ، فإن لم تكن له همة عالية تطالبه
بذلك ، فخشية النار وما أعد الله فيها لمن عصاه ، فإن لم تطاوعه نفسه لشئ من ذلك ، فليعلم أنه خلق للجحيم لا للنعيم ، ولا يقدر على ذلك بعد قدر الله وتوفيقه إلا بمخالفة هواه .
فلم يجعل الله طريقا إلى الجنة غير متابعته ، ولم يجعل للنار طريقاً غير مخالفته ،
قال الله تعالى :
] فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [ ..... ( النازعات : 37 - 41 )
وقال تعالى : ] وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [ ..... ( الرحمن : 46 )
قيل : هو العبد يهوى المعصية فيذكر مقام ربه عليه فى الدنيا ومقامه بين يديه فى
الأخرة فيتركها لله .
وقد أخبر الله عز وجل أن اتباع الهوى يضل عن سبيله فقال الله تعالى :
] يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ [ (22)..... ( ص : 26 )
وقد حكم الله تعالى لتابع هواه بغير هدى من الله أنه أظلم الظالمين فقال الله عز وجل :
] فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [ ..... ( القصص : 50 )
وجعل سبحانه وتعالى المتبع قسمين لا ثالث لهما : إما ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم
وإما الهوى : فمن اتبع أحداهما لم يمكنه إتباع الأخر . (23)
وقال ابن الجوزى رحمه الله : " الحذر الحذر من المعاصى فإنها سيئة العواقب ، والحذر من الذنوب خصوصاَ ذنوب الخلوات ، فإن المبارزة لله تعالى تسقط العبد من عينه سبحانه ، ولا
ينال لذة المعاصى إلا دائم الغفلة ، فأما المؤمن اليقظان فإنه لا يلتذ بها ، لأنه عند إلتذاذه يقف بإيذائه علمه بتحريمها ، وحذره من عقوبتها ، فإن قويت معرفته رأى بعين علمه قرب الناهى – وهو الله – فيتنغص
عيشه فى حال إلتذاذه ،فإن غلبه سكر القلب متنغصاً بهذه المراقبات ، وإن كان الطبع
فى شهوته فما هى إلا لحظة ثم خزى دائم وندم ملازم وبكاء متواصل وأسف على ما كان مع طول الزمان ، حتى لو تيقن العفو وقف بإزائه حذر العتاب .
فأفً للذنوب ! ما أقبح أثارها ؟ وأسوأ أخبارها ؟ ولا كانت شهوه لا تنال إلا بمقدار
قوة الغفله . (24)
وقال ابن القيم رحمه الله : " واعلم أن الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة ، فإن الشهوة إما أن توجب ألماً وعقوبة ، وغما أن تقطع لذة أكمل منها ، وإما أن تضيع وقتاً إضاعته حسرة وندامة ، وإما أن تثلم عرضاً توفيره أنفع للعبد من ثلمه ، وإما أن تذهب مالاً بقاؤه خير من ذهابة ، وإما أن تضع قدراً قيامه خير من وضعه ، وإما أن تسل نعمة بقاؤها ألذ من قضاء الشهوة ". (25)
وخلاصة هذا الفصل أن الناس فى ترك المعاصى والتورع عنها دوافع متعددة :
· منهم من يدفعه عن معصية محبة الله عز وجل وإجلاله أن يخالف أمره ويرتكب نهيه كما قال بعضهم : وددت أن جلدى قرض بالمقارض ، وأن هؤلاء الخلق أطاعوا الله عز وجل ، وهذه أعلى مراتب الخشية واغلى دوافع التقوى.
· ومن الناس من يدفعه عن المعصيه الرغبة فى دار القرار وما فيها من نعيم مقيم للأبرار ، قال النبى صلى اله عليه وسلم : (من شرب الخمر فى الدنيا لم يشربها فى الأخرة إلا أن يتوب) . (26)
فالتمتع بالحرام فى دار الفناء سبب للحرمان من النعيم المقيم فى دار البقاء ، فلن يجعل الله من أذهب طيباته فى حياته الدنيا واستمتع بها كمن صام عنها ليوم فطره من الدنيا إذا لقى الله عز وجل . قال بعضهم :
أنت فى دار شتات فتأهب لشتاتك
واجعل الدنيا كيوم صمته عن شهواتك
واجعل الفطر عند الله فى يوم وفاتك
قال الخطابى : معناه لم يدخل الجنة ، لأن الخمر شراب أهل الجنة ( جامع الاصول 5/99)
وقال النووى : معناه أنه يحرم شربها فى الجنة وإن دخلها من فاخر شراب الجنة فيمنعها هذا العاصى بشربها فى الدنيا ، وقيل إنه ينسى شهوتها لان الجنة فيها كل ما يشتهى ، وقيل
لا يشتهيها وإن ذكرها ويكون هذا نقص نعيم فى حقه تمييزاً بينه وبين تارك شربها –
النووى على صحيح مسلم ( 13 / 173 ) .
· ومنهم من يتركها خوفاً من النار وإتقاء غضب الجبار . قال بعضهم :
إذا ما هممنا صدنا وازع التقى فولى على أعقابه الهم خاسئاً
وقال أخر :
لا خير فيمن لا يراقب ربه عند الهوى ويخافه إيماناً
حجب التقى سبل الهوى فأخو التقى يخشى إذا وافى المعاد هواناً
· ومنهم من يتركها خوف العار والشنار (27) واستبقاء الحياء والوقار كما قال بعضهم :
ما إن دعانى الهوى لفاحشة إلا نهانى الحياء والكرم
فلا إلى فاحش مددت يدى ولا مشت بى لريبة قدم
· ومنهم من يترك المعصية لما يعقبها من شرور ومصائب وألام كما قال بعضهم :
وكم من معاص نال منهن لذة ومات فخلاها وذاق الدواهيا
تصرم لذات المعاصى وتنقضى وتبقى تباعات المعاصى كما هيا
فيا سوءتا والله راء وسامع لعبد بعين الله يخشى المعاصى
· ومنهم من يحمله على ترك المعاصى لذة العفة والاستعلاء عن أتباع الهوى فإن
لذلك حلاوة فى القلوب لا يعرفها إلا من ذاقها .
كما قال بعضهم :
وإنى لمشتاق إلى كل غاية من المجد يكبو دونها المتطاول
بذول لمالى حين يبخل ذو النهى عفيف عن الفحشاء قرم حلاحل (28)
· ومنهم من يتركها لإنها تنافى المروءة والشهامة كما قال عنترة وهو من شعراء العصر الجاهلى لم يسمع قول الله عز وجل : ] قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [ ....( النور : 30)
وأغض طرفى إن بدت لى جارتى حتى يوارى جارتى مأواها
· ومنهم من يتركها إستحياء من الناس ولا يخشى الله عز وجل وهذة أدنى المراتب : كما قال بعضهم :
لم يكن شأنى العفاف ولكن كنت خلا لزوجها فاستحييت
5- ومما يعين على تقوى الله عز وجل معرفة مكائد الشيطان ومصائده
، والحذر من وساوسه ودسائسه :
قال العلامة ابن مفلح المقدسى رحمه الله : اعلم أن الشيطان يقف للمؤمنين فى سبع عقبات ، عقبة الكفر ، فإن سلم منه ففى عقبة البدعة ، ثم فى عقبة فعل الكبائر ، ثم فى عقبة
فعل الصغائر ، فإن سلم منه ففى عقبة فعل المبيحات فيشغله بها عن الطاعات ،
فإن غلبه شغله بالأعمال المفضولة عن الأعمال الفاضلة ، فإن سلم من ذلك وقف له فى العقبة السابعة ، ولا يسلم منها المؤمن إذ لو سلم منها أحد لسلم منه رسول الله صلى الله علية وسلم وهى تسليط الأعداء الفجرة بأنواع الأذى . (29)
فلا شك فى أن معرفة العقبات التى يقف عندها الشيطان ، ومعرفة مداخله إلى قلب ابن أدم مما يعين على الحذر منه ، وأولى من ذلك بالذكر أن تعرف أن الشيطان عدو لبنى أدم فلا يمكن أن يأمره بخير أو ينهاه عن شر .
قال الله تعالى : ] إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [
.........) فاطر : 6 )
وقال تعالى : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ [ ......... ( النور : 21 )
قال أبو افرج بن الجوزى : " إنما يدخل إبليس على الناس بقدر ما يمكنه ، ويزيد تمكنه منهم ويقل على مقدار يقظتهم ، وغفلتهم وجهلهم ، وعلمهم ، واعلم أن القلب كالحصن ، وعلى ذلك الحصن سور ، وللسور أبواب ، وفيه ثلم (30)، وساكنه العقل ، والملائكة تتردد على الحصن ، وإلى جانبه ربض (31) فيه
الهوى ، والشياطين تختلف إلى ذلك الربض من غير مانع ، والحارس قائم بين أهل الحصن وأهل الربض ، والشياطين لا تزال تدور حول الحصن تطلب غفلة الحارس والعبور من بعض الثلم ، فينبغى للحارس أن يعرف جميع أبواب الحصن الذى قد وكل بحفظه وجميع الثلم ، وأن لا يفتر عن الحراسة لحظة فإن العدو ما يفتر " .
قال رجل للحسن البصرى : أينام إبليس ؟ قال : لو نام لوجدنا راحة ، وهذا الحصن مستنير بالذكر مشرق بالإيمان ، وفيه مرآة صقيلة يتراءى بها صور كل ما يمر به ، فأول ما يفعل الشيطان فى الربض إكثار الدخان فتسود حيطان الحصن وتصدأ المرآة ، وكمال الفكر يرد الدخان ، وصقل الذكر يجلو المرآة ، وللعدو حملات فتارة يحمل فيدخل الحصن فيكر
عليه الحارس فيخرج ، وربما دخل فعاث (32)، وربما أقام لغفلة الحارس ، وربما ركدت الريح الطاردة للدخان فتسود حيطان الحصن وتصدأ المرآة فيمر الشيطان ولا يدرى به ، وربما جرح الحارس لغفلته وأسر واستخدم . (33)
واعلم أن أول ما يغوى به الشيطان ابن أدم الوساوس التى يوسوس بها إليه ، كما قال تعالى أمراً بالاستعادة بالله عز وجل من وساوسه:
] قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ [ ....... ( الناس )
فإذا غفل القلب عن ذكر الله عز وجل جثم عليه الشيطان واخذ يوسوس إليه بالذنوب والمعاصى ، فإذا ذكر الله عز وجل واستعاذ به انخنس الشيطان وانقبض ، وإذا كره ما وسوس به فإن ذلك محض الإيمان ، عن أبى هريره قال : جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى الله علية وسلم
فسألوه : إنا نجد فى أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال : ( وقد وجدتموه ؟ ) قالوا : نعم . قال : ( ذلك صريح الإيمان ) . (34)
قال ابن القيم رحمه الله :
" الوسوسة هى مبادئ الإرادة فإن القلب يكون فارغاً من الشر والمعصية فيوسوس إليه ويخطر الذنب بباله فيصوره لنفسه ويمنيه ويشهيه فيصير شهوه ، ويزينها له ويحسنها ويخيلها له
فى خيال تميل نفسه إليه فتصير إرادة ، ثم لا يزال يمثل ويخيل ويمنى ويشهى وينسى
علمه بضررها ويطوى عنه سوء عاقبتها فيحول بينه وبين مطالعته ، فلا يرى إلا صورة
المعصية وألتذاذه بها فقط ، وينسى ما وراء ذلك فتصير الأراده عزيمه جازمه ، فيشتد الحرص عليها من القلب ، فيبعث الجنود فى الطلب فيبعث الشيطان معهم مدداً لهم وعوناً ، فإن فتروا حركهم ، وإن ونوا أزعجهم كما قال تعالى :
] أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [ ........( مريم : 83)
أى تزعجهم إلى المعاصى ازعاجاً كلما فتروا أو ونوا أزعجتهم الشياطين وأزتهم وأثارتهم ، فلا تزال بالعبد تقوده إلي الذنب ، وتنظم شكل الأجتماع بألطف حيله وأتم مكيده .
فأصل كل معصيه وبلاء إنما هى الوسوسة . (35)
فمهما كان العبد مشغولاً بالطاعات وذكر الله عز وجل ، فإنه لا يكون عند ذلك محلاً للوساوس فإذا غفل عن الذكر والطاعة وسوس إليه الشيطان بالمعاصى كما قال ابن القيم رحمه الله :
إذا غفل القلب ساعة عن ذكر الله جثم عليه الشيطان وأخذ يعده ويمنيه .
وأختم هذا الفصل بما يستعان به من طاعة الرحمن الرحيم حتى يحفظ العبد نفسه من وساوس الشياطين :
1- الاستعاذة بالله قال الله تعالى : ] وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [ ..... ( الأعراف : 201 )
وعن سليمان بن صرد قال : كنت جالساً مع النبى صلى الله عليه وسلم ورجلان
يستبان فاحدهما احمر وجهه وانتفخت أوداجه ، فقال النبى صلى الله علية وسلم :
( إنى لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد لو قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
ذهب عنه ما يجد ) ... الحديث (36).
2- قراءة المعوذات فقد قال صلى الله علية وسلم : " لم يتعوذ الناس بمثلهن " . (37)
3- قراءة أية الكرسى عند النوم كما فى حديث أبى هريره فمن قرأها عند نومه لا يزال عليه من الله حافظ لا يقربه شيطان .
4- قراءة سورة البقرة قال النبى صلى الله عليه وسلم
( إن البيت الذى فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان ) . (38)
5- خاتمة سورة البقرة عن أبى مسعود الانصارى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( من قرأ الأيتين من أخر سورة البقرة فى ليلة كفتاه ) . (39)
6- " لا أله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير " مائة مرة من قرأها فى يوم كانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسى .
7- كثرة ذكر الله عز وجل فما أحرز العبد نفسه من الشيطان بمثل ذكر الله عز وجل .
8- الوضوء والصلاة قال ابن القيم : وهذا أمر تجربته تغنى عن إقامة الدليل عليه .
9- إمساك فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الناس ، فإن الشيطان إنما يتسلط على
ابن أدم وينال منه غرضه من هذه الأربعة . (40)
-----------------------------------------------------------
----------------------------------------------------------
الهوامش:
1- منهاج العابدين ( 67 / 77 ) باختصار
2- روضة المحبين ( 904 ) دار الصفا .
3- استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس ( 11 - 15 ) باختصار ، والحديث رواه البخارى ( 1 / 341 ) الرقاق ، وأبو نعيم فى الحليه ( 1 / 4 ) ، وانظر طرق الحديث فى الصحيحة رقم ( 1640) .
4- روضة المحبين ( 416 ) .
5- حديث النزول رواه البخارى ( 13 / 464 ) التوحيد ، ومسلم ( 6 / 38 ، 39 ) والترمذى ( 13 / 30 ) الدعوات ، وأبو داود ( 1301 ) الصلاه .
6- رواه أحمد ( 128 / 3 ) والنسائى ( 7 / 61 ) عشرة النساء ، والحاكم ( 2 / 160 ) النكاح وصححه على شرط مسلم ، ووافقه الذهبى وصححه الألبانى فى الصحيحة رقم ( 1809 ) .
7- رواه البخارى ( 3 / 14 ) التهجد موصولاً عن المغيره وبمعناه معلقاً عن عائشه ، وابن ماجه ( 1419 )
8- تفسير القرآن العظيم ( 4 / 304 ) .
9- أضواء البيان : ( 3 / 9 – 10 )
10- رواه الترمذي ( 90 / 281 ) القيامه ، والحاكم ( 4 / 323 ) الرقاق وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبى ، وحسنه الألبانى .
11- فيض القدير ( 1 / 488 )
12- رواه ابن حبان فى روضة العقلاء : ( 12 – 13 ) ، والضياء فى المختارة ( 1 / 449 ) وقال الألبانى : والأسناد ضعيف قال : ثم وجدت للحديث شاهداً مرسلاً فى ( جامع بن وهب ) ص65 - فالحديث به حسن إن شاء الله – الصحيحة ( 1055 ) .
13- رواه ابن ماجه ( 4245) الزهد وصححه الألبانى فى الصحيحة (505)
14- رواه البزار (08) ، والعقيلى ( ص352) وأبو بكر الدينورى فى ( المجالسه وجواهر العلم ) والسياق له ، وأبو نعيم ( 2 / 343 ) وله طرق هو بمجموعها حسن ، باختصار من الصحيحة ( 1802)
15- فيض القدير ( 3 / 307 )
16- رواه البخارى ( 1 / 114 ) الإيمان ، ومسلم ( 1 / 157 ، 158 ) الإيمان ، والترمذى ( 10 – 87 / 88 ) الإيمان ، وأبو داود ( 4670) السنه ، والنسائى ( 8 / 97 ) الإيمان .
17- شرح النووى على صحيح مسلم ( 1 / 157 – 158 ) .
18- جامع العلوم والحكم ( 33 – 34 ) باختصار
19- علم : أي جبل
20- الجواب ال