الإنسان بين العمل والأمل والأجل
بقلم الأستاذ
هشام عبد الرزاق الحمصي
دار الكلم الطيب
دمشق- بيروت
مقدمة
الحمد لله كفى، والصَّلاة والسلام على سيدنا المصطفى، وعلى آله وصحبه، ومن وفّى ووفى.
وبعد:
ففي قرنٍ كثرت فيه المغرياتُ، وفشت الضَّلالاتُ، وسيطر الناس حبُّ الشهوات، وصدَّق الكثيرُ منهم الخرافات، حتى تغلغل كثيرٌ من الباطل إلى كثير من بيوتات المؤمنين والمؤمنات، وعاش الناسُ ساهمين، لاهين، عابثين، وكأنهم مخلدون في هذه الحياة الدنيا، ناسين لقاء الله، معرضين عن ذكر الممات، مشتغلين بمطالب الجسد، مشغولين عن مطالب الروح، والقلب، والفكر، فشردوا كثيراً عن الجادة، مُنغمسين في أوحال المادة، متناسين الآخرة؛ التي هي خير وأبقى.
حكم المنية في البريّة جاري ما هذه الدُّنيا بدار قرار
بينا يرى الإنسانُ فيها مخبراً فإذا به خيرٌ من الأخبار
ومكلف الأيامِ ضدّ طباعها متطلبّ في الماء جذوة نار
وفي عصر كثرت فيه الآراءُ، وتشعّبت الأهواء، وأغرق أكثرُ الناس في التعرضّ للأهواء والأدواء، مُعرِضين عن الحقيقة والدواء.
كلُّ ذلك دعاني إلى أن أضعَ كُتيِّباً صغيراً عن الإنسان بين الأَمل والعمل والأجل، يُبصِّره بعظة الموت، ويكفيه، ويغنيه في هذا الموضوع عن المجلدات والمطوّلات؛ التي انصرف الناسُ عنها في عصر السرعة، يؤثرون الكتابَ الصَّغير على الكبير، والمختصر الوجيز على الواسع المبسوط، والواضح على المعقّد، شريطةَ البعد عن قصر مخلّ، أو طول مملّ.
فأسأل الله تعالى؛ الذي علم الإنسان ما لم يعلم، أن يجعل ثوابَ هذا العلم وابلاً من الرَّحماتِ، وفسيحاً من الجنَّات، يتَغمّد بها والديّ، ومن سبقنا إلى رحمته من حبيبٍ أو قريب، أو صديق، أو غريب، إنه نعم المولى، ونعم المجيب.
وأرى لزاماً عليَّ أن أشيرَ إلى الجهد؛ الذي قامت به دار الكَلِم الطَّيِّب، تجاه هذا الكتاب وغيره، ممَّا يدلُّ على حُسن النيّة، وسلامة الطويّة لدى القائمين عليها، والعاملين فيها، فقد بذلوا ما في وسعهم من ضبط الكتاب، وتخريج أحاديثه، وتصحيح تجارب طباعته، وإخراجه بحلة قشيبة، تنمُّ عن ذوقٍ رفيع، وحُسن اختيار بديع.
وأسأل الله- عز وجل- أن يسدِّد الخطى نحو الخير، ويُكلل المساعي بالنجاح والفلاح والتوفيق.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وكتبه
هشام عبد الرزاق الحمصي
أبو هاني
كل نفس ذائقة الموت
يقول الله تعالى في سورة [آل عمران: 185] ) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ( يقرّر الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنَّ كلَّ مخلوق سيموت إذ: ) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ( [الرحمن: 26- 27]
فمن بذل جهداً كبيراً لينجو من النار فقد أفلح وفاز، وكان سعيه مشكوراً، وعمله مبروراً.
وكلمة (زحزح) تعني أمرين:
(1) بذل جهد كبير؛ لأن الشيء الثقيل هو الذي يزحزح لصعوبة حمله. والإنسان يزحزح نفسه عن النار بإيمانه، وتقواه، وإخلاصه.- لصعوبة تحملها-.
(2) المثابرة والمداومة على ذلك إلى الممات.
)وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ( [الحجر: 99] أي: الموت.
فتكرار الزاي والحاء في (زحزح) يدل على تكرار بذل الجهد للنجاة من عذاب النار، أما الذين يزعمون أنهم وصلوا إلى مرتبة اليقين فسقطت عنهم التكاليف، ولا سيما العبادة، مفسرين كلمة اليقين بغير الموت، فقد ضلوا ضلالاً بعيداً، فـ (حتى) تدخل على نهاية الشيء، ونهاية الإنسان في الدنيا الموت، وهو اليقين، أي: هو حق.
وقد ورد في الأثر: (الموت حق).
وقد ظل رسول الله r يعبد ربه طول طول حياته، بل كان يقوم الليل أحياناً حتى تشفق عليه زوجته، وتذكره بفضل الله عليه، ومكانته عند ربه في الدنيا والآخرة، فيجيبها: "أفلا أكون عبداً شكوراً". متفق عليه.
وهو rأكمل الناس إيماناً ويقيناً، وأحسنهم خلقاً، وأكثرهم بالله والحق معرفة.
ومريم- عليها السلام- اصطفاها الرحمن، فقبلها في الكنيسة، ولم يكن يقبل قبلها إلا الذّكر- وهذا هو الاصطفاء الأول-: ) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا( [آل عمران: 37] واصطفاها الاصطفاء الثاني على نساء العالمين، فهي المرأةُ الوحيدةُ في العالم؛ التي وَلدت دون زوج سبق، أي: بأمر الله؛ الذي نفخ فيها من روحه، أي: أرسل جبريل- عليه السلام- لينفخ فيها فتحمل بأمر الله: ) يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ( [آل عمران: 42]. وهذا الاصطفاء كان مدعاةً لأن تَستزيد من الطاعات شكراً لله تعالى: ﭽ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَﭼ [آل عمران: 43]. فهل من مدّكر؟!
النفس والروح
اختلف العلماءُ والمفكرون فيهما، فمن قائل: إنهما شيءٌ واحد، ومن قائل: إنهما شيئان كل منهما له خصائصه المتميزة. والرأي الثاني هو الذي تميلُ النفس إليه، ونراه أصوب وأصحّ.
وأضرب مثلاً قبل البدء بالبحث يوضّح هذا الفرقَ بينهما، فالسيارة التي تسيرُ على وجه الأرض، روحها النفط (البنزين)، ونفسها قائد السيارة المسئول عن كل حادث، أو جنوح، أو تفريط.
وهيكلها، وقطعها، وأجزاؤها هي الجسد. والنفط والهيكل، وما حوله لا يسألان عن تفريط السائق الذي يمثّل النفس.
وهكذا الإنسانُ من روح، ونفس، وجسد، فبالروح يتحرك، وبالنفس يعقل ويفهم، ويدرك، ويحسن التصرف.
وجسده أعضاء تتحركُ بأمر العقل والقلب، اللذين يمثلان النفس.
والروح تصعدُ عند الموت إلى خالقها، تنتظر أن يعيدَها إلى الميت متى شاء، والنفس تبقى تتنعمُ في عالم البرزخ إلى يوم الدين، إذا بشّرت من الملكين بالعاقبة السليمة في نعيم مقيم، وكأنها في روضٍ من رياض الجنة. أو: تتألم في عالم البرزخ إلى يوم الدين، إذا أنذِرَت من الملكين بعاقبةٍ وخيمةٍ في عذاب وجحيم، وكأنها في حفرةٍ من حفر النار.
والجسد يفنى ويبلى إلى يوم الدين.
ألا ترى إلى النائم على صخر يُسَرُّ ويسعد إذا رأى رؤيا جميلة، سارّة، مُطمئِنة، وإلى نائم آخر يتألم ويصرخن وقد يبكي إذا رأى رؤيا مخيفة، مزعجة، مرعبة؛ ولو كان ينام عل حرير؟
وكذلك المرءُ في قبره إلى يوم الحساب، إما أن يتنعم بنعيم نفسه، وإيمانها، وإخلاصها، وتقواها إلى أن يبعث، فيشهد النعيم عين اليقين.
وإما أن يتألم بألم نفسه بكفرها، وفسقها، وضلالها إلى أن يبعث، فيشهد الجحيم عين اليقين.