الفجر المنير فى الصلاة على البشير النذير
للفكهانى
علي بن سالم بن صدقة اللخمي المالكي الشهير بتاج الدين الفاكهاني يكنى أبا حفص الإسكندري
للفكهانى
علي بن سالم بن صدقة اللخمي المالكي الشهير بتاج الدين الفاكهاني يكنى أبا حفص الإسكندري
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وجعلنا من أمة خير الأنام، محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. أرسله والكفر قد نشرت له الأعلام، واستولى سلطانه، وقوي شيطانه، حتى عبدت الأوثان والأصنام، وأظلم نور الحق أي ظلام، وتغيرت معالم الدين وتنكرت منه الأعلام، فلم يزل صلى الله عليه وسلم مجتهداً ومجاهداً باللسان والسنان، والحسام، مقاتلة معه الملائكة الكرام، حتى ظهر الحق واستبانت منه المعالم والأعلام، وأسفرت الشريعة المحمدية عن وجه كالبدر في التمام، وأشرف محلها غاية الشرف فحلت منه في ذروة السنام، واضمحل دين الكفر واستولى عليه الظلام، وحصحص الحق، فلا ارتياب ولا اتهام.
أحمده حمد من توالت عليه النعم التوام، وأشكره، وشكري له من جملة الإفضال والإنعام.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة سماؤها مصحية ليس فيها غمام.
وأصلي على أكرم رسله محمد المصطفى، وحبيبه المجتبى، المرسل رحمة لكل الأنام، مؤيد بالحجج البالغة، والأدلة القاطعة، والأنوار الساطعة الباهرة الدامغة لأعداء الإسلام.
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وأزواجه ما سح غمام، وهطل ركام، واستمرت الشهور، وتطاولت الأعوام.
أما بعد
فإن من أحب شيئاً أكثر من ذكره، ومن أحسن وأجمل فلا بد من ذكر إحسانه ونشره، والثناء عليه دائماً بشكره والاشتمال على محبته وبره، والانطواء على معاضدته ونصره، لا سيما من محبته فرض على القلوب حتماً، وموالاته مقدمة على كل الموالاة جزما، وكيف لا ؟ وقد أنقذنا الله تعالى به من النار قدماً قدما، وشرح به صدوراً ملئت هماً، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صما، هذا وقد كمله الله تعالى خَلْقَاً وخُلُقا، وفهماً وعلماً وحِلما، وفضله على سائر الخلق عرباً وعجما، فكان أقواهم يقيناً وعزما، وأعلاهم رتبة وأسمى، وأعز سلطاناً وأحمى، وأشدهم بهم رأفة ورحما، وأكثر المرسلين أتباعاً وأنمى، وأعود بالخير على الخليقة وأجدى، آياته تتلى، ومحاسنه تجلى، ومعجزاته تسمو وتسمى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تنمو وتنمى، ونحوز بها من مغنم السعادة قسما.
ولا طريق إلى شكره عليه الصلاة والسلام سوى محبته وبره، والصلاة عليه والتسليم في مساء كل يوم وفجره، والتنويه بمحاسنه وذكره، والاشتياق إلى مشاهدة آثاره، وزيارة قبره، والتحلي بذكر أسمائه وصفاته الخَلْقِية والمعنوية في سر العبد وجهره، ونشر معجزاته، وبيان آياته على كر الزمان ومره.
فتعين أن أذكر في هذا اثني عشر باباً:
الباب الأول: في حكم الصلاة عليه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم على التحرير، وذكر الخلاف في ذلك والتقدير.
الباب الثاني: في فضل الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وما في ذلك من الثواب، والتقرب إلى رب الأرباب.
الباب الثالث: في كيفية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم والتسليم، وما يترتب على ذلك من الأجر العظيم.
الباب الرابع: في المواطن التي تستحب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيها، ويكثر ويعظم الأجر عليها.
الباب الخامس: في ذم من لم يصل عليه، وتفويق سهام الملامة إليه.
الباب السادس: في زيارة قبره عليه الصلاة والسلام، وما في ذلك من الآداب المرتب عليها كثرة الأجر والثواب.
الباب السابع: في أسمائه المعظمة ونعوته المكرمة.
الباب الثامن: في صفاته الخلقية وشمائله المرضية.
الباب التاسع: في صفاته المعنوية وما اختصه به رب البرية.
الباب العاشر: في معجزاته، وما اختصه به تعالى من آياته.
الباب الحادي عشر: في من استغاث به عليه الصلاة والسلام فأغيث في القديم والحديث.
الباب الثاني عشر: فيما ختم الله به أيام حياته، وذكر مرضه ووفاته.
الباب الأول في حكم الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم على التحرير وذكر الخلاف في ذلك والتقدير
اعلم أن الصلاة على نبينا صلى الله عليه وسلم فريضة واجبة على الجملة، غير مؤقتة بوقت معلوم.
قال الله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}.
وهذا محمول عند العلماء قاطبة على الوجوب، وإن كان أبو جعفر الطبري يقول: محمله على الندب، وادعى في ذلك الإجماع.
قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى: ولعله (أراد) بذلك ما زاد على المرة الواحدة ككلمة الشهادة.
قلت: وهو الظاهر المتعين وإلا فهو وهم، ولا ينعقد الإجماع دون مالك وأصحابه، والشافعي، على ما سيأتي بيانه وتحريره.
قال القاضي أبو بكر: افترض الله تعالى على خلقه أن يصلوا على نبيه ويسلموا، ولم يجعل لذلك وقتاً معلوماً، فالواجب أن يكثر المرء منها، ولا يغفل عنها.
قال القاضي أبو الحسن: المشهور عن أصحابنا أن ذلك واجب في الجملة على الإنسان، وفرض عليه أن يأتي بها مرة من دهره مع القدرة على ذلك.
قلت: انظر قوله: المشهور هل له مفهوم بحيث يكون بإزائه قول شاذ بعدم الوجوب أم لا مفهوم له ؟، ويريد أن ذلك اشتهر من قول الأصحاب، لا أن ثم مخالف، والظاهر الأول، إن لم يتأول، ويحتمل أن يكون تحرز بقوله المشهور من قول الطبري إن لم يتأول، على ما قاله القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى.
وقال الشافعي: إنما تجب بعد التشهد الأخير وقبل السلام.
ولابن المواز من أصحابنا قول كقول الشافعي.
وأنكره غير واحد من العلماء، وقالوا: إنه قول مخترع، لا سابق له فيه، ولا سنة.
قلت: وظاهر كلام أحمد كمذهب الشافعي على ما نقله ابن هبيرة، وتابعه اسحق، إلا أنه فرَّق بين تركها عمداً، فلا تصح الصلاة، وبين تركها سهواً، فتصح الصلاة.
قال الخطابي: ولا أعلم للشافعي في هذا قدوة .
قلت: الظاهر أن الشعبي تقدمه، والله أعلم.
وقيل: تجب كلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، واختاره الطحاوي من الحنفية، والحليمي من الشافعية.
ودليل الجمهور: الأحاديث الصحيحة الصريحة، كحديث ابن مسعود الآتي في التشهد وأنه لم يعلم الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وحديث المسيء صلاته أيضاً كذلك.
وقال ابن عطية: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كل حال واجبة وجوب السنن المؤكدة التي لا يسع تركها، ولا يغفلها إلا من لا خير فيه.
قلت: وهذا ينحو إلى ما نحا إليه الطبري من حمل الآية على الندب، إن لم يتأول قوله ما تقدم.
ولنرجع إلى تفسير قوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} الآية.
قال ابن عباس: إن الله وملائكته يباركون على النبي.
قلت: وقد فسرت البركة في الحديث بالزيادة من الخير، والكرامة، والتكثير.
(وقد) تكون بمعنى الثبات على ذلك من قولهم:بركت الإبل. وتكون البركة بمعنى التطهر والتبرئة من المعايب، وكما قال الله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}.
قال القاضي: وهو أحد التأويلات في تبارك الله .
وقيل: إن الله يترحم على النبي وملائكته يدعون له.
قال المبرد: وأصل الصلاة الترحم، فهي من الله: رحمة، ومن الملائكة: رقة واستدعاء للرحمة من الله تعالى.
وقد ورد في الحديث صفة صلاة الملائكة على من جلس ينتظر الصلاة: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه ، فهذا دعاء.
وقال أبو بكر القشيري: الصلاة من الله تعالى لمن دون النبي صلى الله عليه وسلم رحمة، وللنبي صلى الله عليه وسلم تشريف وزيادة تكرمة.
قلت: واختلف في الرحمة، هل هي صفة ذات، أو صفة فعل؟، فمن فسرها بأنها إرادة نفع العبد قال: هي صفة ذات، وبه قال ابن فورك.
ومن فسرها بأنها خلق نفع العبد قال: هي صفة فعل.
وقال أبو العالية: صلاة الله تعالى هي ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء.
قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى: وقد فرَّق النبي صلى الله عليه وسلم في حديث تعليم الصلاة (بين لفظ الصلاة، ولفظ البركة؛ فدل أنهما بمعنيين).
وقال ابن عطية: هذه الآية شرف الله تعالى بها رسوله صلى الله عليه وسلم وذكر منزلته.
قلت: وليس في القرآن الكريم، ولا في غيره في ما علمت صلاة من الله تعالى على غير نبينا صلى الله عليه وسلم، فهي خصيصة اختصه الله تعالى بها دون سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وعن الأصمعي قال: سمعت المهدي على منبر البصرة يقول: إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته، فقال: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} آثره الله بها من بين الرسل، وأتحفكم بها من بين الأمم، فقابلوا نعمة الله بالشكر.
وعن أبي عثمان الواعظ: سمعت الإمام سهل بن محمد يقول: هذا التشريف الذي شرف الله تعالى به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله: {إن الله وملائكته يصلون} الآية، أتم وأجمع من تشريف آدم عليه السلام بأمر الملائكة له بالسجود، لأنه لا يجوز أن يكون الله مع الملائكة في ذلك التشريف، فتشريف يصدر عنه أبلغ من تشريف يختص به الملائكة.
وقوله تعالى:{يصلون}: قالت فرقة: الضمير لله تعالى، وللملائكة، وهذا قول من الله تعالى شرف به ملائكته، فلا يصحبه الاعتراض الذي جاء في قول الخطيب عند النبي صلى الله عليه وسلم:من أطاع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد ضل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بئس الخطيب أنت).
قالوا: لأنه ليس لأحد من البشر أن يجمع ذكر الله مع غيره في ضمير واحد، ولله سبحانه أن يفعل في ذلك ما يشاء.
وقالت فرقة: في الكلام حذف تقديره: إن الله يصلي على النبي، وملائكته يصلون.
وقالت فرقة: بل جمع الله الملائكة مع نفسه في ضمير واحد، وذلك جائز للبشر إن فعله ولم يقل صلى الله عليه وسلم: بئس الخطيب لهذا المعنى، وإنما قال لأن الخطيب وقف على: ومن يعصهما وسكت سكتة.
ومما يؤيد هذا أن في كلام النبي صلى الله عليه وسلم في مصنف أبي داود:ومن يعصهما فجمع ذكر الله تعالى وذكر رسوله في ضمير.
ومما يؤيد الأول: أن في كتاب مسلم: بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله.
قال ابن عطية: وهذا يحتمل أن يكون لما خطأه في وقفه وقال:بئس الخطيب أنت أصلح بعد ذلك كلامه، لأن فصل ضمير الله تعالى من ضمير اسمه أولى لا محالة، فقال له: بئس الخطيب لموضع خطئه في الوقف، وحملة على الأولى في فصل الضمير وإن كان جمعها جائز.
وأورد بعض المعاصرين السؤال معتمداً على أن خطأ الخطيب إنما هو جمع الضميرين، لا لأجل الوقف المذكور، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)؛ فقد جمع بينهما في الضمير كما جمع الخطيب، فما الفرق بينهما، وما الجواب؟.
والجواب من وجهين:
أحدهما: ذكره الشيخ عز الدين بن عبد السلام قدس الله روحه، فقال: إن منصب الخطيب حقير قابل للتذلل، فإذا نطق بهذه العبارة فقد يتوهم فيه لنقصه أنه إنما جمع بينهما في الضمير لأنه أهمل الفصل بينهما والفرق، فلذلك امتنع لما فيه من إيهام التسوية. ومنصب النبي صلى الله عليه وسلم في غاية الجلالة والبعد عن الوهم، فلا يقع بسبب جمعه عليه الصلاة والسلام إيهام التسوية.
وثانيها: ذكره بعض الفضلاء فقال: كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة واحدة، وتقدم الظاهر في الجملة الواحدة يبعد استعمال الظاهر مع موضع المضمر، بل المضمر هو الحسن، وكلام الخطيب جملتان؛ أحدهما مدح، والآخر ذم، فلذلك حسن استعمال الظاهر موضع المضمر.
قلت: وهذا الجواب الثاني أمس بالقواعد العربية من حيث اللفظ، والأول لا بأس به من جهة المعنى.
وجاء يصلون بصيغة المضارعة الدالة على الدوام والاستمرار، ولم يأت بصيغة الماضي التي يصدق بالمرة الواحدة.
قالوا: فهذا يعطي أنه سبحانه وتعالى وجميع ملائكته يصلون على النبي دائماً أبداً، وغاية مطلوب الأولين والآخرين صلاة واحدة من الله تعالى، وأنى لهم بذلك؟.
بل لو قيل للعاقل: أيما أحب إليك أن تكون أعمال جميع الخلائق في صحيفتك أو صلاة من الله تعالى عليك ؟ لما اختار غير الصلاة من الله تعالى، فما ظنك بمن يصلي عليه ربنا سبحانه وتعالى، وجميع ملائكته على الدوام والاستمرار؟، فكيف يحسن بالمؤمن أن لا يكثر من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم أو يغفل عن ذلك ؟.
فإن قلت: إذا كان الله صلى عليه وهو كذلك، فما فائدة طلب الحاصل، وإيجاد المحصول ؟.
قلت: صلاتنا عليه صلى الله عليه وسلم عبادة لنا، وزيادة حسنات في أعمالنا، وتربي البركات المبثوثة فينا المنزلة علينا.
وجواب آخر وفيه نكتة بديعة وهو: أنه عليه الصلاة والسلام أحب الخلق إلى الله تعالى على الإطلاق، وأعز الخلق عنده تعالى بالاتفاق، ونحن إنما نذكره صلى الله عليه وآله وسلم بأذكار الله تعالى، فكأنه سبحانه وتعالى هو الذاكر، و (من أحب شيئاً أكثر من ذكره)، فلذلك أمرنا بالصلاة عليه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم مع ما ينضاف إلى ذلك من موضوع العقيدة، وإخلاص النية، وإظهار المحبة، والمداومة على الطاعة، والاحترام للواسطة الكريمة التي أنقذنا الله بها من الهلكة، ونلنا بها كل خير وبركة، {وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها}.
اللهم اجعلنا من خيار أمته، ولا تخالف بنا عن اتباع سنته، يا أكرم الأكرمين.
وقوله: على النبيء بهمز، ولا يهمز، فمن همزه أخذه من النبأ الذي هو الخبر، لأن النبي مخبر عن الله تعالى. ومن لم يهمزه احتمال أن يكون من النَّبْوَة وهي الارتفاع، لارتفاع منزلته صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى. أو من النبي على التسهيل.
قالوا: والنبوة اختصاص العبد بكلام الله تعالى، واطلاعه على وحيه محتملاً للرسالة وعدمها. فالرسالة أخص من النبوة، كما أن الرسول أخص من النبي عند الجمهور.
وأما الرسالة: فـ فعالة من أرسل، وهو اختصاص النبي بخطاب التبليغ.
فإن قلت: الألف واللام في النبي من أي أقسامها العشرة ؟.
قلت: هي للغلبة في قولك قرأت الكتاب العزيز، هذا هو الأليق بها في هذا المكان، ويحتمل أن تكون للعهد، وقد تقدم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قبل (و) الأول أولى لما يأتي بعد.
هذا ما يتعلق بتفسير الصلاة .
وأما التسليم: فقال القاضي أبو الفضل: فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: السلام لك ومعك، وتكون السلامة مصدراً (كاللذاذ) واللذاذة.
الثاني: أي السلام على حفظك ورعايتك متول له، وكفيل به، ويكون هنا السلام اسم الله تعالى.
الثالث: أن السلام بمعنى المسالمة والانقياد، كما قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما}، انتهى.
وإذا ثبت هذا؛ فالظاهر من الآية تساوي حكم الصلاة والسلام في الوجوب، وأن الواجب من ذلك المرة الواحدة في العمر على المختار الذي عليه الجمهور كما تقرر.
فإن قلت: لم أكد السلام بالمصدر دون الصلاة، وما الحكمة في ذلك ؟.
قلت: الذي يظهر في ذلك والله أعلم أنه سبحانه لما علم بدوام صلاته عليه، وملائكته كذلك، ثم أمرنا بعد بالصلاة عليه، والمعنى: صلوا عليه كما صلى الله تعالى وملائكته عليه، كان ذلك أبلغ من التأكيد اللفظي، ولما لم يعلمنا بالتسليم عليه كما أعلمنا بالصلاة عليه حسن التأكيد، إذ ليس ثم ما يقوم مقامه، والله أعلم.
تنبيه 0000
اعلم أن الفخامة في هذه الآية الكريمة من سبعة أوجه:
الأول: تصديرها بحرف التأكيد.
الثاني: إيلاؤه اسم الذات وهو أعظم أسمائه تعالى وأهمها، وأهيبها.
الثالث: عطف جميع الملائكة عليه بصيغة الإضافة الدالة على العموم، وعدد الملائكة لا يحصيه إلا الله تبارك وتعالى، فإن الملك كله ظاهراً وباطناً أقطار للعالم كله؛
فمنهم: ملائكة موكلون بالأرض لا يحصي عددهم إلا الله تعالى، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تستدبر القبلة ببول أو غائط إكراماً للمصلين.
ومنهم: ملائكة موكلون بالبحر.
ومنهم: ملائكة موكلون بالهواء فيما بين السماء والأرض.
ومنهم: السياحون الذين يتتبعون مجالس الذكر، كما هو في الصحيح، فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر، قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضاً بأجنحتهم حتى يملؤوا ما بينهم وما بين السماء والأرض.
ومنهم: الذين ينقلون الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم إليه ممن يصلي عليه صلى الله عليه دائماً أبداً.
ومنهم: ساكن في السماوات السبع، وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء.
ومنهم: خزنة الجنة.
ومنهم: خزنة النار.
ومنهم: حملة العرش.
ومنهم: موكلون بالحجب.
ومنهم: موكلون بالمطر، حتى أنه ورد أنه لا تنزل قطرة من السماء إلا ومعها ملك.
ومنهم: موكلون بالأرحام وخلق النطف.
وموكلون بنفخ الأرواح في الأجساد.
وموكلون بخلق النبات.
وبخلق تصريف الرياح.
وجري الأفلاك والنجوم.
ومنهم: حفظة على أعمال العباد.
ومنهم: موكلون بحفظ بني آدم، يحفظونه من أمر الله تعالى.
وبالجملة فإنهم عامرون للمُلك كله، حتى أنه ليس في العالم موضع شبر إلا وهو معمور بالملائكة المقربين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فجميع هؤلاء، وكل من يصدق عليه ملك دل ظاهر الآية أو نصها على أنهم يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً أينما كانوا، وحيث كانوا، صلى الله عليه وسلم.
الرابع: مجيء يصلون بصيغة المضارعة الدالة على الدوام والاستمرار كما تقرر.
الخامس: التعبير عنه عليه الصلاة والسلام بـ النبي صلى الله عليه وسلم دون التصريح باسمه عليه الصلاة والسلام، وفيه من الفخامة ما لا يخفى، وكانت الألف واللام فيه للغلبة كما تقدم، وكأنه المعروف بذلك، الحقيق المقدم على سائر الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كما كان القرآن المنزل عليه أشرف الكتب المنزلة، وكما كانت أمته خير الأمم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم دائماً أبداً.
السادس: الختم بالصلاة عليه والتسليم صلى الله عليه وسلم.
السابع: التوكيد بالمصدر كما تقدم، وقرأ الحسن: يا أيها الذين آمنوا (فصلوا) عليه. وهذه الفاء تقوي معنى الشرط أي: صلى الله عليه وسلم، فصلوا أنتم كما تقول: أعطيتك فخذ.
في حرف عبد الله: صلوا عليه كما صلى الله عليه وسلموا تسليما. قاله ابن عطية.
فائدة
روينا في كتاب القربة لابن بشكوال بسنده إلى محمد بن عمر أن يونس اليماني قال: كنت (بصنعاء) فرأيت رجلاً، والناس مجتمعون عليه، فقلت: ما هذا ؟ قالوا: هذا رجل كان يؤمُّ بنا في شهر رمضان، فكان حسن الصوت بالقرآن، فلما بلغ:{إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} قرأ: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}، فخرس وتجذم، وبرص، وأقعد، فهذا مكانه.
الباب الثاني
في فضل الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وما جاء في ذلك من الثواب والتقريب إلى رب الأرباب
جاء في صحيح مسلم، وأبي داود: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإن من صلى علي مرة، صلى الله بها عشرا، ثم سلوا لي الوسيلة، فإنها منزلة لا ينبغي إلا لعبد واحد، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة).
سؤال: قال القاضي أبو بكر بن العربي: قال الله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} فما فائدة هذا الحديث؟.
قلنا: فيه أعظم فائدة؛ وذلك: أن القرآن اقتضى أن من جاء بحسنة تضاعف عشرا، والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم حسنة، فيقتضي القرآن أن يعطى عشر درجات في الجنة، فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه يصلي على من صلى على رسوله صلى الله عليه وسلم عشراً، وذكرُ اللهِ العبدَ أعظمُ من الجنة مضاعفة، وتحقيق ذلك: أن الله تعالى لم يجعل جزاء ذكره إلا ذكره، لذلك جعل جزاء ذكر نبيه صلى الله عليه وسلم ذكره لمن ذكره.
قلت: وهذه نكتة حسنة أجاد فيها وأفاد، رحمه الله تعالى.
وخرّج أبو داود السلمي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن صلاتكم معروضة علي، قالوا: وكيف تعرض عليك وقد أرمت ؟ يعني: بليت قال: إن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء).فائدة
روينا في كتاب القربة لابن بشكوال بسنده إلى محمد بن عمر أن يونس اليماني قال: كنت (بصنعاء) فرأيت رجلاً، والناس مجتمعون عليه، فقلت: ما هذا ؟ قالوا: هذا رجل كان يؤمُّ بنا في شهر رمضان، فكان حسن الصوت بالقرآن، فلما بلغ:{إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} قرأ: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}، فخرس وتجذم، وبرص، وأقعد، فهذا مكانه.
الباب الثاني
في فضل الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وما جاء في ذلك من الثواب والتقريب إلى رب الأرباب
جاء في صحيح مسلم، وأبي داود: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإن من صلى علي مرة، صلى الله بها عشرا، ثم سلوا لي الوسيلة، فإنها منزلة لا ينبغي إلا لعبد واحد، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة).
سؤال: قال القاضي أبو بكر بن العربي: قال الله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} فما فائدة هذا الحديث؟.
قلنا: فيه أعظم فائدة؛ وذلك: أن القرآن اقتضى أن من جاء بحسنة تضاعف عشرا، والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم حسنة، فيقتضي القرآن أن يعطى عشر درجات في الجنة، فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه يصلي على من صلى على رسوله صلى الله عليه وسلم عشراً، وذكرُ اللهِ العبدَ أعظمُ من الجنة مضاعفة، وتحقيق ذلك: أن الله تعالى لم يجعل جزاء ذكره إلا ذكره، لذلك جعل جزاء ذكر نبيه صلى الله عليه وسلم ذكره لمن ذكره.
قلت: وهذه نكتة حسنة أجاد فيها وأفاد، رحمه الله تعالى.
قال ابن العربي: ولم يثبت.
قلت: ثبت بالإجماع فيما علمت أن الأرض لا تعدو على أجساد الأنبياء، وزاد بعضهم: الأنبياء، والصالحين، والشهداء، والمؤذنين.
وقال أبو عيسى: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك صلى الله عليه وسلم، فإن فعلت انخرق الحجاب، ودخل الدعاء، وإن لم تفعل رجع ذلك الدعاء).
وفي رواية: (إن الدعاء كله محجوب حتى يكون أوله ثناء على الله عز وجل، وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو يستجاب له).
وهذه الترجمة صحيحة، خرّجها مالك، ومسلم، ولم يخرجها البخاري.
ومثل هذا إذا قاله عمر لا يكون إلا توقيفاً لأنه لا يدرك بنظر.
ويعضده ما خرجه مسلم: قال النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن 000)، خرجه العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن جده، عن عمر رضي الله عنه.
وأنشد بعضهم:
ومن يرتجي الرحما من الله والقربا
أيا من أتى ذنباً وقارف زلة
على خير مبعوث وأكرم من نبا
تعاهد صلاة الله في كل ساعة
ويكفيك ذنباً أعظم به ذنبا
فيكفيك هماً أي هم تخافه
يجد قبل أن يرقى إلى ربه حجبا
ومن لم يكن يفعل فإن دعاءه
وروى أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشر صلوات، وحط عنه عشر خطيئات، ورفع له عشر درجات).
ومن رواية عبد الرحمن بن عوف عنه عليه الصلاة والسلام: (لقيت جبريل عليه السلام، فقال: إني أبشرك أن الله يقول: من سلَّم عليك سلمت عليه، ومن صلى عليك صليت عليه).
ونحوه من رواية أبي هريرة، ومالك بن أوس بن الحدثان، وعبد الله بن أبي طلحة رضي الله عنهم.