سياسة الملك
من كتاب
تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك
أبو الحسن علي بن محمد الماوردي
تمهيد
قال أقضى القضاة رحمه الله
حق على من مكنه الله تعالى من أرضه وبلاده وائتمنه على خلقه وعباده أن يقابل جزيل نعمته بحسن السريرة ويجري من الرعية بجميل السيرة
قال الله تعالى 30 آ
يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى
وقال عز وجل
ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما احسن الله إليك
وروي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنه قال
( من سار فيمن بين ظهريه بسيرة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سار فيمن بين ظهريه بسيرة سيئة كان عليه وزرها ووزر العاملين بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيء )
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال
لو ضاعت سخلة على شاطئ فرات لخشيت أن يسألني الله عليها
وحكي أن عثمان بن عبد الله وقف على محمد بن سماعة القاضي وهو في مجلس قضائه يحكم بين الناس فقال
إسمع لا سمعت يا ابن سماعة وأنشد يقول
لقد كلفت يا مسكين أمرا
تضيق له قلوب الخائفينا
أتعلم أن رب العرش قاض
وتقضي أنت بين العالمينا
من الوافر
فقام ابن سماعة من مجلسه ودموعه تجري على خديه
فليس أحد أجدر بالحذر والإشفاق وأولى بالنصب والاجتهاد ممن تقلد امور الرعية لأنها أمانة الله التي أمنه عليها ورعيته التي استرعاه فيها واستخلفه على أمورها وهو تعالى ولي السؤال عنها
ولأنه سبحانه حسم مواد الاعتراض منها على أفعاله وكف ألسنتها عن رد ما رآه في اجتهاده وأوجب عليها طاعته وألزمها الانقياد لحكمه وأمرهم أن يتصرفوا بين أمره ونهيه فقال تعالى
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم
وجعل صلاح جماعتهم بصلاحه وفساد أمورهم بفساده لأنه قلب وهم أطراف وقطب وهم أكناف
30 ب
قال بعض العقلاء
رشاد الوالي خير من خصب الزمان
وأرشد الولاة من حرس بولايته الدين وانتظم بنظره صلاح المسلمين لأن الدين يصلح سرائر القلوب ويمنع من ارتكاب الذنوب ويبعث على التأله والتناصف ويدعو إلى الألفة والتعاطف وهذه قواعد لا تصلح الدنيا إلا بها ولا يستقيم الخلق إلا عليها وإنما السلطنة زمام لحفظها وباعث على العمل بها ولو أهملوا ونوازع الأهواء جاذبة واختلاف الآراء متقاربة لتمارحوا وتغالبوا ولما عرف حق من باطل ولا تميز صحيح من فاسد وليس في العقل ما يجمعهم على حكم يتساوى فيه قويهم وضعيفهم ويتكافأ فيه شريفهم ومشروفهم فلذلك وقفت مصالحهم على دين يقودهم إلى جمع الشمل واتفاق الكلمة وينقطع به تنازعهم وتنحسم به مواد أطماعهم واختلافهم وتصلح به سرائرهم وتنحفظ به أمانتهم
وربما أهمل بعض الملوك الدين وعول في أموره على قوته وكثرة أجناده وليس يعلم أن أجناده إذا لم يعتقدوا وجوب طاعته في الدين كانوا أضر عليه من كل ضد مباين لاقتراحهم عليه ما لا ينهض به وتحكمهم عليه بما لا يثبت له فإن سمعوا بنابغ نبغ عليه قوي طمعهم في اجتياح أمواله ولم يقنعهم استيعاب حاله وكان منهم على شفا جرف هار لا يأمن سطوتهم به
وقد قيل
من جعل ملكه خادما لدينه انقاد له كل سلطان ومن جعل دينه خادما لملكه طمع فيه كل إنسان
الفصل التاسع عشر
أن يكون الملك أفضل الناس دينا
الدين والملك
ينبغي للملك أن يأنف من أن يكون 31 آ في رعيته من هو أفضل دينا منه كما يأنف أن يكون في رعيته من هو أنفذ أمرا منه
وقال أردشير بن بابك في عهده إلى ملوك فارس
إن الدين والملك توأمان لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه لأن الدين أس والملك حارس ولا بد للملك من أسه ولا بد للأس من حارسه لأن ما لا حارس له ضائع وما لا اس له منهدم
الدفع عن الدين بالملك
وكتب حكيم الروم إلى الإسكندر
إدفع عن دينك بملكك ولا تدفع بدينك عن ملكك وصير دنياك وقاية لآخرتك ولا تصير آخرتك وقاية لدنياك
وكيف يرجو من تظاهر بإهمال الدين استقامة ملك وصلاح حال وقد صار أعوان دولته أضدادها وسائر رعيته أعداءها مع قبح أثره وشدة ضرره وبذلك قال النبي {صلى الله عليه وسلم}
( إنكم ستحرصون على الإمارة ثم تكون حسرة وندامة يوم القيامة فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة ) 151
وقد قيل
الملك خليفة الله في بلاده ولن يستقيم أمر خلافته مع مخالفته
فالسعيد من وقى الدين بملكه ولم يوق الملك بدينه وأحيى السنة بعدله ولم يمتها بجوره وحرس الرعية بتدبيره ولم يضعها بتدميره ليكون لقواعد ملكه موطدا ولأساس دولته مشيدا ولأمر الله في بلاده ممتثلا فلن يعجز الله استقامة الدين عن سياسة الملك وتدبير الرعايا 152
الفصل العشرون
قواعد الملك
ثم أقول
إن قواعد الملك مستقرة على أمرين
تأسيس
وسياسة
وقد قيل
الملك خليفة الله في بلاده ولن يستقيم أمر خلافته مع مخالفته
فالسعيد من وقى الدين بملكه ولم يوق الملك بدينه وأحيى السنة بعدله ولم يمتها بجوره وحرس الرعية بتدبيره ولم يضعها بتدميره ليكون لقواعد ملكه موطدا ولأساس دولته مشيدا ولأمر الله في بلاده ممتثلا فلن يعجز الله استقامة الدين عن سياسة الملك وتدبير الرعايا 152
الفصل العشرون قواعد الملك
ثم أقول
إن قواعد الملك مستقرة على أمرين
تأسيس
وسياسة
الفصل العشرون قواعد الملك
ثم أقول
إن قواعد الملك مستقرة على أمرين
تأسيس
وسياسة
تأسيس الملك وأقسامه
فأما تأسيس الملك فيكون في تثبيت أوائله ومباديه وإرساء قواعده ومبانيه
وتنقسم ثلاثة أقسام
تأسيس دين
وتأسيس قوة 31 ب
وتأسيس مال وثروة
تأسيس الملك على الدين
فأما القسم الأول وهو تأسيس الدين فهو أثبتها قاعدة وأدومها مدة وأخلصها طاعة
وليس يخلو انتقال الملك به من ثلاثة أسباب
أحدها
أن يخرج الملك من منصيب الدين حتى يتولى عليه غير أهله ويظهر منه خلاف عقده فتنفر منه النفوس إن لان وتعانده إن خشن تعصيه
القلوب وإن أطاعته الأجساد فيتطلب الناس للخلاص منه أسبابا ويفتحون للوثوب عليه أبوابا يستهلون فيها بذل النفوس والأموال حفظا لدينهم فيصير ملكه عرضة للطالب وحريمه غنيمة للسالب وقد قال حكيم الروم
لا يزال الجائر من الملوك ممهلا حتى يتخطى إلى أركان العمارة ومباني الشريعة فإذا قصدها اقتربت مدته
والسبب الثاني
أن يكون الملك ممن قد استهان بالدين وهون أهله فأهمل أحكامه وطمس أعلامه حتى لا تؤدى فروضه وتوفى حقوقه إما لضعف عزمه في الدين وإما لانهماكه في اللذات فيرى الناس أن الدين أقوم ولحقوقه وفروضه ألزم فيصير دينه مذحولا وملكه محلولا
قال بعض الحكماء
إذا أقبلت الدولة خدمت الشهوات للعقول وإذا أدبرت خمدت العقول للشهوات
والسبب الثالث
أن يكون الملك ممن قد احدث بدعة في الدين شنعة واختار فيه أقوالا بشعة يفضي استمرارها إلى تبديله ويؤول إلى تغييره وتعطيله فتأبى نفوس الناس بغير دين قد صح لهم معتقده واستقرت في القلوب أصوله وقواعده فيصير دينه مرفوضا وملكه منقوضا
فإذا طرأ على الدين هذه الأسباب الثلاثة ونهض إلى طلب الملك
من يقوم بنصرة الدين ويدفع 32 آ تبديل المبتدعين ويجري فيهم على السنن المستقيم أذعنت النفوس لطاعته واشتدت في مؤازرته ونصرته ورأوا أن بذل النفوس له من حقوق الله المفترضة وأن النصرة له من أوامره الملتزمة فملك القلوب والأجساد واستخلص الأعوان والأجناد فإن نالوا معه من الدنيا حظا وجمعوا به بين صلاحي الدين والدنيا صار مجتذبا إلى الملك لا جاذبا ومرغوبا إليه لا راغبا ولان له كل صعب وهان عليه كل خطب وتوطد له من اس الملك ما لا يقاوم سلطانه ولا تغل أعوانه لفرق ما بين ملك الطالب والمطلوب وتباين ما بين طاعة الخاطب والمخطوب
تأسيس الملك على القوة
وأما القسم الثاني وهو تأسيس القوة فهو أن يحل نظام الملك إما بالإهمال والعجز وإما بالظلم والجور فينتدب لطلب الملك أولو القوة ويتوثب عليه ذو القدرة إما طمعا في الملك حين يضعف وإما دفعا للظلم حين استمر
وهذا إنما يتم لجيش قد اجتمعت فيهم ثلاث خلال
كثرة العدد
وظهور الشجاعة
وتفويض الأمر الى مقدم عليهم إما لنسب وأبوة وإما لفضل رأي وشجاعة
فإذا توثبوا على الملك بالكثرة واستولوا عليه بالقوة كان ملك قهر فإن عدلوا مع الرعية وساروا فيهم بالسيرة الجميلة صار ملك تفويض وطاعة فرسا وثبت
وإن جاروا وعسفوا فهي حولة توثب ودولة تغلب يبيدها الظلم ويزيلها البغي بعد أن تهلك بهم الرعايا وتخرب بهم البلاد
تأسيس الملك على المال والثروة
وأما القسم الثالث فهو تأسيس المال والثروة فهو أن يكثر المال في 32 ب قومه فيحدث لهم بعلو الهمة طمعا في الملك وقل أن يكون هذا الأمر إلا فيمن له بالسلطنة اختلاط وبأعوان الملك امتزاج فيبعث مطامع الراغبين فيه على طاعته وتسليم الأمر إلى زعامته
وبعيد أن يتم ذلك إلا عند ضعف الملك ووهائه وفساد أعوانه وزعمائه
وقيل في منثور الحكم
المال ربما سود غير السيد وقوى غير الأيد
فإذا انتقل به الملك كان أوهى الأسباب قاعدة وأقصرها مدة لأن المال ينفذ مطامع طالبيه ويذهب باقتراح الراغبين فيه
وقد قيل
من ودك لأمر ولى مع انقضائه
قال سليمان بن داود عليه السلام
الذي يتوكل على غنائه سقوطه سريع
فإن اقترن بسبب يقتضي ثبوت الملك ثبت وإلا فهو وشيك الزوال سريع الانتقال
واعلم أن الدولة تبتدئ بخشونة الطباع وشدة البطش لتسرع النفوس إلى بذل الطاعة ثم تتوسط باللين والاستقامة لاستقرار الملك وحصول الدعة ثم تختم بانتشار الجور وشدة الضعف لانتقاض الأمر وقلة الحزم
وبحسب هذه الأحوال الثلاثة يكون ملوكها في الآراء والطباع
وقد شبه المتقدمون الدولة بالثمرة فإنها تبدو حسنة الملمس مرة الطعم ثم تدرك فتلين وتستطاب ثم تنضج فتكون أقرب للفساد والاستحالة
وكما تبتدأ الدولة بالقوة وتختم بالضعف كذلك تبتدأ بالوفاء وتختم بالغدر لأن الوفاء مشيد والغدر مشرد