فَصْلٌ فِي وُجُوبِ التَّوْبَةِ وَأَحْكَامِهَا وَمَا يُنَابُ مِنْهُ
تَلْزَمُ التَّوْبَةُ شَرْعًا لَا عَقْلًا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ , قَالَ بَعْضُهُمْ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ , كُلُّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ قَدْ أَثِمَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ , وَقِيلَ : غَيْرُ مَظْنُونٍ . قَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُبْتَدِئِينَ : تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِمَّا يُظَنُّ أَنَّهُ إثْمٌ , وَقِيلَ لَا , وَلَا تَجِبُ بِدُونِ تَحَقُّقِ إثْمٍ , وَالْحَقُّ وُجُوبُ قَوْلِهِ : إنِّي تَائِبٌ إلَى اللَّهِ مِنْ كَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهُ , وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ صِحَّةِ تَوْبَتِهِ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي مَذْهَبًا ; لِأَنَّ التَّوْبَةَ هِيَ النَّدَمُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ وَالنَّدَمُ لَا يُتَصَوَّرُ مَشْرُوطًا ; لِأَنَّ الشَّرْطَ إذَا حَصَلَ بَطَلَ النَّدَمُ . قَالَ الْقَاضِي : وَإِذَا شَكَّ فِي الْفِعْلِ الَّذِي فَعَلَهُ هَلْ هُوَ قَبِيحٌ أَمْ لَا ؟ فَهُوَ مُفَرِّطٌ فِي فِعْلِهِ وَتَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنْ هَذَا التَّفْرِيطِ , وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَعْرِفَةِ قُبْحِ ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ حُسْنِهِ ; لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ أُخِذَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُقْدِمَ عَلَى فِعْلِ قَبِيحٍ , وَلَا عَلَى مَا لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا , فَإِذَا قَدِمَ عَلَى فِعْلٍ يَشُكُّ أَنَّهُ قَبِيحٌ فَإِنَّهُ مُفَرِّطٌ وَذَلِكَ التَّفْرِيطُ ذَنْبٌ تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهُ . وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَذْكُورٌ فِي آخِرِ بَابِ الْأَمَانَةِ . قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : فَمَنْ تَابَ تَوْبَةً عَامَّةً كَانَتْ هَذِهِ التَّوْبَةُ مُقْتَضِيَةً لِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ كُلِّهَا إلَّا أَنْ يُعَارِضَ هَذَا الْعَامَّ مُعَارِضٌ يُوجِبُ التَّخْصِيصَ , مِثْلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الذُّنُوبِ لَوْ اسْتَحْضَرَهُ لَمْ يَتُبْ مِنْهُ لِقُوَّةِ إرَادَتِهِ إيَّاهُ , أَوْ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ حَسَنٌ , وَتَصِحُّ مِنْ بَعْضِ ذُنُوبِهِ فِي الْأَصَحِّ . وَذَكَرَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ : أَنَّهَا تَصِحُّ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاطِبِيُّ أَنَّهُ خِلَافُ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ قَالَ : فِي رَجُلٍ قَالَ : لَوْ ضُرِبْتُ مَا زَنَيْتُ وَلَكِنْ لَا أَتْرُكُ النَّظَرَ فَقَالَ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ فَسَلَبَهُ الِانْتِفَاعَ بِتَرْكِ الزِّنَا مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى مُقَدِّمَاتِهِ وَهُوَ النَّظَرُ .
فَأَمَّا صِحَّةُ التَّوْبَةِ عَنْ بَعْضِ الذُّنُوبِ فَهِيَ أَصْلُ السُّنَّةِ وَإِنَّمَا يَمْنَعُ صِحَّتَهَا الْمُعْتَزِلَةُ وَالْقَائِلُونَ بِالِاحْتِيَاطِ وَأَنَّهُ لَا تَنْفَعُ طَاعَةٌ مَعَ مَعْصِيَةٍ , فَأَمَّا مَنْ صَحَّحَ الطَّاعَةَ مَعَ الْمَعَاصِي صَحَّحَ التَّوْبَةَ مِنْ بَعْضِ الْمَعَاصِي انْتَهَى كَلَامُهُ . وَذَكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ الْقَاضِي . ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْإِرْشَادِ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَلَفْظُهَا قَالَ : أَيُّ تَوْبَةٍ هَذِهِ ؟ وَصَرَّحَ أَنَّهَا اخْتِيَارُهُ وَأَنَّهَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ , وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي تَعَالِيقِ إبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ لَوْ كَانَ فِي الرَّجُلِ مِائَةُ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ وَكَانَ يَشْرَبُ النَّبِيذَ لَمَحَتْهَا كُلَّهَا , وَهَذَا مِنْ أَغْلَظِ مَا يَكُونُ , وَاحْتَجَّ لِاخْتِيَارِهِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ . وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : إنَّمَا أَرَادَ يَعْنِي أَحْمَدَ أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ تَوْبَةً عَامَّةً , لَمْ يُرِدْ أَنَّ ذَنْبَ هَذَا كَذَنْبِ الْمُصِرِّ عَلَى الْكَبَائِرِ فَإِنَّ نُصُوصَهُ الْمُتَوَاتِرَةَ تُنَافِي ذَلِكَ , وَحَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى مَا يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا أَوْلَى , لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْقَوْلُ الْآخَرُ مُبْتَدَعًا لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ , انْتَهَى كَلَامُهُ . وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ أَيْضًا فِي الْفُنُونِ : قَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ لَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى غَيْرِهِ , فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ قَتَلَ لِإِنْسَانٍ وَلَدًا , وَأَحْرَقَ لَهُ بَيْدَرًا ثُمَّ اعْتَذَرَ عَنْ إحْرَاقِ الْبَيْدَرِ دُونَ قَتْلِ الْوَلَدِ لَمْ يُعَدَّ اعْتِذَارًا , وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ , وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَذْهَبُ ; لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ إذَا تَرَكَ الصَّلَاةَ تَكَاسُلًا كَفَرَ وَإِنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ . وَفِي مَأْخَذِهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ : اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ هَلْ تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ الْقَبِيحِ مَعَ الْمُقَامِ عَلَى قَبِيحٍ آخَرَ يَعْلَمُ التَّائِبُ بِقُبْحِهِ أَوْ لَا يَعْلَمُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ : ( إحْدَاهُمَا ) تَصِحُّ , اخْتَارَهَا وَالِدِي وَشَيْخُهُ ; لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ يَصِحُّ التَّقَرُّبُ مِنْ الْمُكَلَّفِ بِفِعْلٍ وَاجِبٍ مَعَ تَرْكِ مِثْلِهِ فِي الْوُجُوبِ كَذَا فِي مَسْأَلَتِنَا ( وَالثَّانِيَةُ ) لَا تَصِحُّ اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } : فَوَعَدَ بِغُفْرَانِ الصَّغَائِرِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ , فَإِذَا ارْتَكَبَ الْكَبَائِرَ أُخِذَ بِالْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ , وَاخْتَارَهَا ابْنُ شَاقِلَا وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوبًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } . وَيَكُونُ فِي حَالِ مَا هُوَ مَحْبُوبٌ يَفْعَلُ مَا هُوَ مَمْقُوتٌ . وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنْ الْأَغَرِّ بْنِ يَسَارٍ الْمُزَنِيّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : إنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ } . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا { يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنِّي أَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ وَقَالَ : " سَبْعِينَ مَرَّةً " وَلِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { وَاَللَّهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً } . وَلِأَحْمَدَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ حَدَّثَنَا سَالِمُ بْنُ مِسْكِينٍ وَالْمُبَارَكُ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِأَسِيرٍ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي أَتُوبُ إلَيْكَ وَلَا أَتُوبُ إلَى مُحَمَّدٍ , فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفَ الْحَقَّ لِأَهْلِهِ , } مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَلَمْ يَسْمَعْ الْحَسَنُ مِنْ الْأَسْوَدِ . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَنَسٍ مَرْفُوعًا { لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ وَلَنْ يَمْلَأَ فَاهُ إلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . وَلِأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : أَعْذَرَ اللَّهُ إلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً } وَإِنْ جَهِلَهُ تَابَ مُجْمَلًا , وَالْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ تَوْبَةٌ عَامَّةٌ وَإِلَّا فَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّ التَّوْبَةَ الْمُجْمَلَةَ لَا تُوجِبُ دُخُولَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الذُّنُوبِ فِيهَا وَلَا تَمْنَعُ دُخُولَهُ كَاللَّفْظِ الْمُطْلَقِ بِخِلَافِ الْعَامِّ وَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ , وَعَنْهُ لَا تُقْبَلُ مِنْ الدَّاعِيَةِ إلَى بِدْعَتِهِ الْمُضِلَّةِ وَالْقَاتِلِ , ذَكَرَهَا الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ التَّوْبَةُ مِنْ سَائِرِ الذُّنُوبِ مَقْبُولَةٌ خِلَافًا لِإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الْقَاتِلِ وَلَا الزِّنْدِيقِ ثُمَّ بَحَثَ الْمَسْأَلَةَ وَقَالَ : الزِّنْدِيقُ إذَا ظَهَرَ لَنَا هَلْ يَجِبُ أَنْ نَحْكُمَ بِإِيمَانِهِ الظَّاهِرِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَافِرًا ؟ قَالَ وَلِأَنَّ الزَّنْدَقَةَ نَوْعُ كُفْرٍ فَجَازَ أَنْ تُحْبَطَ بِالتَّوْبَةِ كَسَائِرِ الْكُفْرِ مِنْ التَّوَثُّنِ , وَالتَّمَجُّسِ وَالتَّهَوُّدِ , وَالتَّنَصُّرِ وَكَمَنْ تَظَاهَرَ بِالصَّلَاحِ إذَا أَتَى مَعْصِيَةً وَتَابَ مِنْهَا وَقَالَ : وَلَيْسَ الْوَاجِبُ عَلَيْنَا مَعْرِفَةَ الْبَاطِنِ جُمْلَةً وَإِنَّمَا الْمَأْخُوذُ عَلَيْنَا حُكْمُ الظَّاهِرِ فَإِذَا كَانَ لَنَا فِي الظَّاهِرِ حُسْنُ طَرِيقَتِهِ , وَتَوْبَتِهِ وَجَبَ قَبُولُهَا وَلَمْ يَجُزْ رَدُّهَا لِمَا بَيَّنَّا وَإِنَّ جَمِيعَ الْأَحْكَامِ تَتَعَلَّقُ بِهَا , وَلَمْ أَجِدْ لَهُمْ شُبْهَةً أَوْرَدُوهَا إلَّا أَنَّهُمْ حَكَوْا عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَتَلَ زِنْدِيقًا وَلَا أَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ , وَإِنَّ الْإِمَامَ إذَا رَأَى قَتْلَهُ لِأَنَّهُ سَاعٍ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ سَاغَ لَهُ ذَلِكَ . فَأَمَّا أَنْ تَكُونَ تَوْبَتُهُ لَمْ تُقْبَلْ بِدَلَالَةِ أَنَّ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُمْ بَعْدَ الْقُدْرَةِ وَيُحْكَمُ بِصِحَّتِهَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي غَيْرِ إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُمْ فَلَيْسَ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَسْقُط الْقَتْلُ لَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ . وَلَعَلَّ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنَى بِقَوْلِهِ : لَا تُقْبَلُ فِي غَيْرِ إسْقَاطِ الْقَتْلِ فَيَكُونُ مَا قَبْلَهُ هُوَ مَذْهَبُهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً . وَقَالَ أَيْضًا : وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ لَعَلَّ أَحْمَدَ تَعَلَّقَ بِأَنَّ فِيهِ حَقَّ آدَمِيٍّ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّوْبَةِ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ فَالتَّوْبَةُ تُسْقِطُ مَا يَثْبُتُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ , وَيَبْقَى ظُلْمُ الْآدَمِيِّ وَمُطَالَبَتُهُ عَلَى حَالِهَا وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّوْبَةِ , وَكَذَلِكَ قَالَ هُوَ , وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ غَيْرِهِ كَمَنْ قَالَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الْمُبْتَدِعِ . نَحْنُ لَا نَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُطَالَبًا بِمَظَالِمِ الْآدَمِيِّينَ وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُ هَذَا صِحَّةَ التَّوْبَةِ كَالتَّوْبَةِ مِنْ السَّرِقَةِ , وَقَتْلِ النَّفْسِ , وَغَصْبِ الْأَمْوَالِ صَحِيحَةً مَقْبُولَةً , وَالْأَمْوَالُ وَالْحُقُوقُ لِلْآدَمِيِّ لَا تَسْقُطُ وَيَكُونُ هَذَا الْوَعِيدُ رَاجِعًا إلَى ذَلِكَ , وَيَكُونُ نَفْيُ الْقَبُولِ عَائِدًا إلَى الْقَبُولِ الْكَامِلِ , وَمِنْ كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَذَكَرَ أَنَّهُ نَقَلَ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ أَخِيهِ . قَالَ الْمَرُّوذِيُّ سُئِلَ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمَّا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ احْتَجَزَ التَّوْبَةَ عَنْ صَاحِبِ بِدْعَةٍ } . وَحَجْزُ التَّوْبَةِ أَيُّ شَيْءٍ مَعْنَاهُ ؟ قَالَ أَحْمَدُ : لَا يُوَفَّقُ وَلَا يُيَسَّرُ صَاحِبُ بِدْعَةٍ لِتَوْبَةٍ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ : { إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ لَيْسَتْ لَهُمْ تَوْبَةٌ } قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : لِأَنَّ اعْتِقَادَهُ لِذَلِكَ يَدْعُوهُ إلَى أَنْ لَا يَنْظُرَ نَظَرًا تَامًّا إلَى دَلِيلِ خِلَافِهِ فَلَا يَعْرِفُ الْحَقَّ , وَلِهَذَا قَالَ السَّلَفُ إنَّ الْبِدْعَةَ أَحَبُّ إلَى إبْلِيسَ مِنْ الْمَعْصِيَةِ . وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَغَيْرُهُ : إنَّ الْمُبْتَدِعَ لَا يَرْجِعُ . وَقَالَ أَيْضًا : التَّوْبَةُ مِنْ الِاعْتِقَادِ الَّذِي كَثُرَ مُلَازَمَةُ صَاحِبِهِ لَهُ وَمَعْرِفَتُهُ بِحُجَجِهِ يَحْتَاجُ إلَى مَا يُقَارِبُ ذَلِكَ مِنْ الْمَعْرِفَةِ , وَالْعِلْمِ , وَالْأَدِلَّةِ , وَمِنْ هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اُقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَبْقُوا شَبَابَهُمْ } قَالَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ : لِأَنَّ الشَّيْخَ قَدْ عَسَا فِي الْكُفْرِ فَإِسْلَامُهُ بَعِيدٌ بِخِلَافِ الشَّابِّ فَإِنَّ قَلْبَهُ لَيِّنٌ فَهُوَ قَرِيبٌ إلَى الْإِسْلَامِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا تَوْبَةَ لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا وَقَالَ إنَّ آيَةَ الْفُرْقَانِ : { وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ } { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ } . وَقَالَ أَيْضًا عَنْ آيَةِ النِّسَاءِ : لَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ وَإِنَّ آيَةَ الْفُرْقَانِ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ . رَوَى ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ . وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي نَفْيِ قَبُولِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ يُشْبِهُ وَاَللَّه أَعْلَمُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّ حَقَّ الْمَقْتُولِ لَا يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ مَظْلِمَةِ الْآدَمِيِّينَ وَهَذَا حَقٌّ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَإِنَّ مِنْ تَمَامِ تَوْبَتِهِ تَعْوِيضَ الْمَظْلُومِ فَيُمَكِّنُ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ وَإِذَا مَكَّنَهُمْ فَقَتَلُوهُ , أَوْ عَفَوْا عَنْهُ , أَوْ صَالَحُوهُ عَلَى الدِّيَةِ فَهَلْ يَسْقُطُ حَقُّ الْمَقْتُولِ فِي الْآخِرَةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . وَلَعَلَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ : لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمَقْتُولِ فِي الْآخِرَةِ قَالَ : وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَيَأْخُذُ الْمَقْتُولُ مِنْ حَسَنَاتِ الْقَاتِلِ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَإِذَا اسْتَكْثَرَ الْقَاتِلُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الظُّلْمِ التَّائِبِينَ مِنْ الْحَسَنَاتِ مَا يُوَفِّي بِهِ غُرَمَاءَهُ , وَيَبْقَى لَهُ فَضْلٌ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَلَيْهِ دُيُونٌ وَاكْتَسَبَ أَمْوَالًا يُوَفِّي بِهَا دُيُونَهُ , وَيَبْقَى لَهُ فَضْلٌ , وَيَأْتِي كَلَامٌ فِي تَوْبَةِ الْمُبْتَدِعِ وَغَيْرِهِ أَيْضًا . وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمَّارٍ عَنْ سَالِمٍ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَجُلٍ قَتَلَ مُؤْمِنًا , ثُمَّ تَابَ , وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا , ثُمَّ اهْتَدَى قَالَ : وَيْحَكَ وَأَنَّى لَهُ الْهُدَى ؟ سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { يَجِيءُ الْمَقْتُولُ مُتَعَلِّقًا بِالْقَاتِلِ يَقُولُ يَا رَبِّ سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي ؟ } وَاَللَّهِ لَقَدْ أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى نَبِيِّكُمْ وَمَا نَسَخَهَا بَعْدَ إذْ أَنْزَلَهَا قَالَ : وَيْحَكَ وَأَنَّى لَهُ الْهُدَى ؟ عَمَّارٌ هُوَ الذَّهَبِيُّ وَسَالِمٌ هُوَ ابْنُ أَبِي الْجَعْدِ إسْنَادٌ جَيِّدٌ . وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا بِمَعْنَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَرَوْحٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُسْلِمٍ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَمُسْلِمٌ هُوَ ابْنُ مِخْرَاقٍ . وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ : إذَا قِيلَ لَا تَوْبَةَ لَهُ مَعْنَاهُ يُعَذَّبُ عَلَى هَذَا الذَّنْبِ وَلَا بُدَّ , ثُمَّ يَخْرُجُ كَأَهْلِ الْكَبَائِرِ إذَا لَمْ يَتُوبُوا , لَا أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ أَبَدًا وَلَمْ أَجِدْ هَذَا صَرِيحًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا عَنْ أَحْمَدَ , وَحَكَاهُ بَعْضُهُمْ قَوْلًا فِي التَّفْسِيرِ , وَلَا وَجْهَ لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَلَا وَجْهَ عِنْدَهُمْ لِتَخْلِيدِ مُسْلِمٍ فِي النَّارِ .