من كتاب الآداب الشرعية
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ أَقْضَى الْقُضَاةِ , شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُفْلِحٍ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ ( فِي إبَاحَةِ الْمَعَارِيضِ وَمَحَلِّهَا )
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ فِي الْمَعَارِيضِ , وَتُبَاحُ الْمَعَارِيضُ وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيُّ : عِنْدَ الْحَاجَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الرِّعَايَةِ وَغَيْرِهَا وَتُكْرَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَالْمُرَادُ بِعَدَمِ تَحْرِيمِ الْمَعَارِيضِ لِغَيْرِ الظَّالِمِ . وَقِيلَ : يَحْرُمُ وَقِيلَ : لَهُ التَّعْرِيضُ فِي الْكَلَامِ دُونَ الْيَمِينِ بِلَا حَاجَةٍ . قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَذَكَرَ فِي بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ أَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ . قَالَ مُثَنَّى لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : كَيْفَ الْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ فِي الْمَعَارِيضِ فِي الْكَلَامِ ؟ قَالَ : الْمَعَارِيضُ لَا تَكُونُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ , وَتَصْلُحُ بَيْنَ النَّاسِ . فَلَعَلَّ ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَعَارِيضَ فِيمَا اسْتَثْنَى الشَّرْعُ مِنْ الْكَذِبِ وَلَا تَجُوزُ الْمَعَارِيضُ فِي غَيْرِهَا . وَسَأَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ عَنْ الرَّجُلِ يَحْلِفُ فَيَقُولُ : هُوَ اللَّهُ لَا أَزِيدُكَ يُوهِمُ الَّذِي يَشْرِي مِنْهُ قَالَ : هَذَا عِنْدِي يَحْنَثُ إنَّمَا الْمَعَارِيضُ فِي الرَّجُلِ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ فَأَمَّا فِي الشِّرَاءِ , وَالْبَيْعِ لَا تَكُونُ مَعَارِيضَ قُلْتُ : أَوْ يَقُولُ هَذِهِ الدَّرَاهِمُ فِي الْمَسَاكِينِ إنْ زِدْتُكَ قَالَ هُوَ عِنْدِي يَحْنَثُ . وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ إنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يُعَارِضُ فِي كَلَام الرَّجُلِ يَسْأَلُنِي عَنْ الشَّيْءِ أَكْرَهُ أَنْ أُخْبِرَهُ بِهِ ؟ قَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ يَمِينٌ فَلَا بَأْسَ , فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ . وَهُوَ إذَا احْتَاجَ إلَى الْخِطَابِ , فَأَمَّا الِابْتِدَاءُ بِذَلِكَ فَهُوَ أَشَدُّ . فَهَذَا النَّصُّ قَوْلٌ خَامِسٌ , وَجَزَمَ فِي الْمُغْنِي وَغَيْرِهِ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَقَالَ : ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ لَهُ تَأْوِيلُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا . وَذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ إجْمَاعًا وَاحْتَجَّ فِي الْمُغْنِي بِأَنَّ مُهَنَّا كَانَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَهُوَ وَالْمَرُّوذِيُّ وَجَمَاعَةٌ فَجَاءَ رَجُلٌ يَطْلُبُ الْمَرُّوذِيَّ وَلَمْ يُرِدْ الْمَرُّوذِيُّ أَنْ يُكَلِّمَهُ فَوَضَعَ مُهَنَّا أُصْبُعَهُ فِي كَفِّهِ وَقَالَ لَيْسَ الْمَرُّوذِيُّ هَهُنَا يُرِيدُ لَيْسَ الْمَرُّوذِيُّ فِي كَفِّهِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ . قَالَ الْمَرُّوذِيُّ : جَاءَ مُهَنَّا إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَمَعَهُ أَحَادِيثُ فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَعِي هَذِهِ وَأُرِيدُ أَنْ أَخْرُجَ قَالَ مَتَى تُرِيدُ تَخْرُجُ ؟ قَالَ السَّاعَةَ أَخْرُجُ , فَحَدَّثَهُ بِهَا وَخَرَجَ , فَلَمَّا كَانَ مَنْ الْغَدِ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ جَاءَ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : أَلَيْسَ قُلْتَ السَّاعَةَ أَخْرُجُ ؟ قَالَ : قُلْتُ أَخْرُجُ مِنْ بَغْدَادَ ؟ إنَّمَا قُلْتُ لَكَ أَخْرُجُ مِنْ زُقَاقِكَ قَالَ فِي الْمُغْنِي : وَقَدْ ذَكَرَهُ بِنَحْوِ هَذَا الْمَعْنَى فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ انْتَهَى كَلَامُهُ . وَهَذَانِ النَّصَّانِ لَا يَمِينَ فِيهِمَا . وَاحْتَجَّ فِي الْمُغْنِي بِالْأَخْبَارِ الْمَشْهُورَةِ فِي ذَلِكَ وَبِآثَارٍ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا يَمِينٌ كَقَوْلِهِ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ } وَلِمَنْ اسْتَحْمَلَهُ { إنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِرَجُلٍ حُرٍّ { مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ } , وَغَيْرُ ذَلِكَ قَالَ : وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ التَّأْوِيلِ وَالْمَعَارِيضِ وَقَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا فَقَالَ : { لَا أَقُولُ إلَّا حَقًّا } وَكَانَ يَقُولُ ذَلِكَ فِي الْمِزَاحِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهِ انْتَهَى كَلَامُهُ . يُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ إذَا جَازَ التَّعْرِيضُ فِي الْخَبَرِ بِغَيْرِ يَمِينٍ جَازَ بِالْيَمِينِ ; لِأَنَّهُ إنْ كَانَ بِالتَّعْرِيضِ كَذِبًا مُنِعَ مِنْهُ مُطْلَقًا وَقَدْ ثَبَتَ جَوَازُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ , وَإِنْ كَانَ صِدْقًا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَأْكِيدِ الصِّدْقِ بِالْيَمِينِ وَغَيْرِهَا وَغَايَةُ مَا فِيهِ إيهَامُ السَّامِعِ وَلَيْسَ بِمَانِعٍ , وَلَا الْمَنْعُ بِغَيْرِ يَمِينٍ وَالْغَرَضُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَيْسَ بِظَالِمٍ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ وَلَا يُقَالُ : لَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الْإِيهَامِ بِغَيْرِ يَمِينٍ جَوَازُهُ بِهَا لِأَنَّهُ مَعَهَا آكَدُ وَأَبْلَغُ لِأَنَّا نَقُولُ : لَمْ نَقِسْ بَلْ نَقُولُ : إنْ كَانَ الْإِيهَامُ عَلَيْهِ لِلْمَنْعِ فَلْيُطْرَدْ وَقَدْ جَاءَ بِغَيْرِ يَمِينٍ , وَأَيْضًا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْإِيهَامَ عَلَيْهِ لِلْمَنْعِ دَعْوَى تَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ , وَلَا يُقَالُ الْأَصْلُ فِي كُلِّ يَمِينٍ عَقَدَهَا الْمُؤَاخَذَةُ بِهَا لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ , وَلَا دَلِيلَ لِأَنَّا نَقُولُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عَقْدَهَا مَعَ التَّأْوِيلِ وَالتَّعْرِيضِ يَشْمَلُهَا الْقُرْآنُ ثُمَّ هِيَ يَمِينٌ صَادِقٌ فِيهَا بِدَلِيلِ صِدْقِهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ , يُؤَيِّدُهُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْكَلَامِ تَخْتَلِفُ بِالْيَمِينِ وَعَدَمِهَا فَمَا كَانَ صِدْقًا بِدُونِهَا كَانَ صِدْقًا مَعَهَا , هَذَا لَا شَكَّ فِيهِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ , وَعَدَمُ تَغَيُّرِهِ بِالْيَمِينِ فَمُدَّعِي خِلَافَهُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ . وَقَدْ رُوِيَ { إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنْ الْكَذِبِ } هَذَا ثَابِتٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ . وَرُوِيَ مَرْفُوعًا وَلَيْسَ هُوَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَلَا الْكُتُبِ السِّتَّةِ وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْمَعَارِيضِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ بَسَّامٍ عَنْ دَاوُد بْنِ الزِّبْرِقَانِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنْ الْكَذِبِ } . وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَبِي زَيْدٍ النُّمَيْرِيِّ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ مَحْبُورٍ حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ سَعِيدٍ فَذَكَرَهُ , وَدَاوُد وَالْعَبَّاسُ ضَعِيفَانِ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ : مَعَ ضَعْفِهِمَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُمَا وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمُغْنِي هَذَا الْخَبَرَ تَعْلِيقًا بِصِيغَةِ الْجَزْمِ مُحْتَجًّا بِهِ وَلَمْ يَعْزُهُ إلَى كِتَابٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } الْمَعَارِيضُ لَا تُذَمُّ خُصُوصًا إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهَا ثُمَّ ذَكَرَ خَبَرَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَلَمْ يَعْزُهُ قَالَ : وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِمَا أَعْلَمُ مِنْ مَعَارِيضِ الْقَوْلِ مِثْلَ أَهْلِي وَمَالِي . وَقَالَ النَّخَعِيُّ : لَهُمْ كَلَامٌ يَتَكَلَّمُونَ بِهِ إذَا خَشَوْا مِنْ شَيْءٍ يَدْرَءُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ : الْكَلَامُ أَوْسَعُ مِنْ أَنْ يَكْذِبَ ظَرِيفٌ وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ كَلَامًا كَثِيرًا فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لَا يَجُوزُ مَعَ الْيَمِينِ وَمِنْ غَيْرِ يَمِينٍ يَجُوزُ , وَعَنْهُ لَا , وَعَنْهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَغَيْرِهِ , وَقَدْ يُقَيِّدُونَ بِهِ الْجَوَازَ الْأَوْلَى بِالْمَصْلَحَةِ لَا مُطْلَقًا , وَعَلَيْهِ تُحْمَلُ الْآثَارُ . وَأَمَّا الْأَصْحَابُ فَتَجُوزُ عِنْدَهُمْ الْمَعَارِيضُ , وَقِيلَ : تُكْرَهُ وَقِيلَ : تَحْرُمُ وَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا مِنْهُمْ صَرَّحَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْيَمِينِ وَغَيْرِهَا .
وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ : التَّدْلِيسُ عَيْبٌ وَقَالَ : أَكْرَهُهُ قَالَ : لَا يُعْجِبُنِي وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ يَتَزَيَّنُ لِلنَّاسِ , فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ وَكَذَا اقْتَصَرَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى كَرَاهَتِهِ يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا وَقِيلَ : لَهُ كَانَ شُعْبَةُ يَقُولُ : التَّدْلِيسُ كَذِبٌ فَقَالَ لَا قَدْ دَلَّسَ قَوْمٌ وَنَحْنُ نَرْوِي عَنْهُمْ . وَلَوْ كُرِهَ التَّعْرِيضُ مُطْلَقًا أَوْ حَرُمَ , أَوْ كَانَ كَذِبًا لَعَلَّلَ بِهِ لِاطِّرَادِهِ وَعُمُومِ فَائِدَتِهِ , بَلْ عَلَّلَ بِالتَّزَيُّنِ , وَغَالِبُ صُوَرِ التَّعْرِيضِ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهَا فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ لَا تَزَيُّنَ فِيهَا , وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ذَلِكَ كَالْمَوْضِعِ الَّذِي اسْتَعْمَلَهَا الشَّارِعُ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَلِهَذَا اقْتَصَرَ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ . قَالَ الْقَاضِي : وَلِأَنَّهُ يُفْعَلُ ذَلِكَ كَرَاهَةَ الْوَضْعِ فِي الْحَدِيثِ لِرَاوِيهِ , وَمَنْ كَرِهَ التَّوَاضُعَ فِي الْحَدِيثِ فَقَدْ أَسَاءَ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَحْمَدَ يَتَزَيَّنُ انْتَهَى كَلَامُهُ , فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ أَمْرٌ يَخْتَصُّ بِالرِّوَايَةِ , لَكِنْ لَا يُعَارِضُ هَذَا نَصَّهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْيَمِينِ وَغَيْرِهَا . قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : كُلُّ كَرَاهَتِهِ هُنَا لِلتَّحْرِيمِ يَخْرُجُ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي الْمَعَارِيضِ إذَا لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا وَلَا مَظْلُومًا وَالْأَشْبَهُ التَّحْرِيمُ فَإِنَّ التَّدْلِيسَ فِي الرِّوَايَةِ وَالْحَدِيثِ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي الْبَيْعِ كَذَا قَالَ . قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ : وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ إلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ مَا كَذَبَ بَلْ صَدَقَ إلَّا أَنَّهُ أَوْهَمَ , وَمَنْ أَوْهَمَ فِي خَبَرِهِ لَمْ يُرَدَّ خَبَرُهُ كَمَنْ قِيلَ لَهُ حَجَجْت ؟ فَقَالَ : لَا مَرَّةً وَلَا مَرَّتَيْنِ يُوهِمُ أَنَّهُ حَجَّ أَكْثَرُ وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ مَا حَجَّ أَصْلًا , فَلَا يَكُونُ كَذِبًا انْتَهَى كَلَامُهُ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا سَبَقَ . وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِي الدِّينِ : لَيْسَ بِصَادِقٍ فِي الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ فَيُقَالُ : قَدْ يَمْنَعُ ذَلِكَ وَعَدَمُ فَهْمِ بَعْضِ النَّاسِ لَيْسَ بِحُجَّةِ فَقَدْ يَفْطِنُ لِلتَّعْرِيضِ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ وَلِهَذَا لَا يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ كَذِبًا ; لِأَنَّهُ صَادِقٌ لُغَةً وَالْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ وَلِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِاسْتِعْمَالِ الشَّارِعِ وَحَقِيقَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَعَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ حُدِّثْتُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا { يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِصَالِ كُلِّهَا إلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ } عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا كَانَ خُلُقٌ أَبْغَضَ إلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْكَذِبِ . لَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَكْذِبُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَذْبَةَ فَمَا يَزَالُ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ أَحْدَثَ مِنْهَا تَوْبَةً رَوَاهُ أَحْمَدُ . وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي ضَرَّةً فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ إنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِي غَيْرَ الَّذِي يُعْطِينِي قَالَ الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمْ . وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا { وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ } لَهُ طُرُقٌ إلَى بَهْزٍ وَهُوَ ثَابِتٌ إلَيْهِ وَبَهْزٌ حَدِيثُهُ حَسَنٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد , وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَلِأَحْمَدَ حَدِيثُ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ . قَالَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مَرْفُوعًا { لَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ الْإِيمَانَ كُلَّهُ حَتَّى يَتْرُكَ الْكَذِبَ فِي الْمُزَاحِ وَيَتْرُكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا } الْمِرَاءُ فِي اللُّغَةِ الْجِدَالُ يُقَال : مَارَى يُمَارِي مُمَارَاةً وَمِرَاءً , أَيْ : جَادَلَ . وَتَفْسِيرُ الْمِرَاءِ فِي اللُّغَةِ اسْتِخْرَاجُ غَضَبِ الْمُجَادِلِ مِنْ قَوْلِهِمْ : مَرَيْتُ الشَّاةَ إذَا اسْتَخْرَجْتُ لَبَنَهَا . وَعَنْ السَّائِبِ بْنِ أَبِي السَّائِبِ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُنْتَ شَرِيكِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَكُنْتَ خَيْرَ شَرِيكٍ لَا تُدَارِينِي , وَلَا تُمَارِينِي } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَلَفْظُهُ : { كُنْتَ شَرِيكِي فَنِعْمَ الشَّرِيكُ } . وَتُدَارِينِي مِنْ الْمُدَارَاةِ بِلَا هَمْزٍ وَرُوِيَ بِالْهَمْزِ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ . وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ : لَا تُمَارِيَنَّ حَكِيمًا , وَلَا تُجَادِلَنَّ لَجُوجًا , وَلَا تُعَاشِرَنَّ ظَلُومًا , وَلَا تُصَاحِبَنَّ مُتَّهَمًا . وَقَالَ أَيْضًا يَا بُنَيَّ مَنْ قَصَّرَ فِي الْخُصُومَةِ خَصِمَ , وَمَنْ بَالَغَ فِيهَا أَثِمَ , فَقُلْ الْحَقَّ وَلَوْ عَلَى نَفْسِكَ فَلَا تُبَالِ مَنْ غَضِبَ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : كَفَى بِكَ ظَالِمًا أَنْ لَا تَزَالَ مُخَاصِمًا , وَكَفَى بِكَ آثِمًا أَنْ لَا تَزَالَ مُمَارِيًا . وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ . وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى : مَا مَارَيْتُ أَخِي أَبَدًا ; لِأَنِّي إنْ مَارَيْتُهُ إمَّا أَنْ أَكْذِبَهُ , وَإِمَّا أَنْ أُغْضِبَهُ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ : الْخُصُومَةُ تَمْحَقُ الدِّينَ وَتُثَبِّتُ الشَّحْنَاءَ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ . يُقَالُ : لَا تُمَارِ حَكِيمًا وَلَا سَفِيهًا , فَإِنَّ الْحَكِيمَ يَغْلِبُكَ , وَالسَّفِيهَ يُؤْذِيكَ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ : سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ : مَنْ لَاحَى الرِّجَالَ وَمَارَاهُمْ قَلَّتْ كَرَامَتُهُ , وَمَنْ أَكْثَرَ مِنْ شَيْءٍ عُرِفَ بِهِ . وَقَالَ بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ ( الْإِمَامُ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَلْفَ رَكْعَةٍ وَمَحَلُّهُ بِالشَّامِ كَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ بِالْبَصْرَةِ ) قَالَ : إذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ لَجُوجًا مُمَارِيًا فَقَدْ تَمَّتْ خَسَارَتُهُ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أُسَيْدٍ وَيُقَالُ أَسَدٌ مَرْفُوعًا { كَبُرَتْ خِيَانَةً أَنْ تُحَدِّثَ أَخَاكَ حَدِيثًا هُوَ لَكَ بِهِ مُصَدِّقٌ وَأَنْتَ بِهِ كَاذِبٌ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَأَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ بَقِيَّةَ عَنْ ضُبَارَةَ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ وَبَقِيَّةُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ مُدَلِّسٌ وَأَبُو ضُبَارَةَ تَفَرَّدَ عَنْهُ ابْنُهُ تَرْجَمَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد ( بَابٌ فِي الْمَعَارِيضِ ) وَلِأَحْمَدَ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ هَارُونَ وَهُوَ ضَعِيفٌ , وَثَمَّ الْمُرَادُ بِهَا الْكَذِبُ , أَوْ التَّعْرِيضُ مِنْ ظَالِمٍ أَوْ الْكَرَاهَةُ وَاَللَّه أَعْلَمُ . وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْخَبَرَ الَّذِي يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا أُسْرِيَ بِي كَانَ أَوَّلُ مَا أَمَرَنِي بِهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ قَالَ إيَّاكَ وَعِبَادَةَ الْأَوْثَانِ , وَشُرْبَ الْخُمُورِ وَمُلَاحَاةَ الرِّجَالِ } . وَقَالَ مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ يُوصِي ابْنَهُ كِدَامًا شِعْرًا : إنِّي مَنَحْتُكَ يَا كِدَامُ وَصِيَّتِي فَاسْمَعْ لِقَوْلِ أَبٍ عَلَيْكَ شَفِيقِ أَمَّا الْمُزَاحَةُ وَالْمِرَاءُ فَدَعْهُمَا خُلُقَانِ لَا أَرْضَاهُمَا لِصَدِيقِ إنِّي بَلَوْتُهُمَا فَلَمْ أَحْمَدْهُمَا لِمُجَاوِرٍ جَارٍ وَلَا لِرَفِيقِ وَالْجَهْلُ يُزْرِي بِالْفَتَى وَعُمُومُهُ وَعُرُوقُهُ فِي النَّاسِ أَيُّ عُرُوقِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الرِّيَاشِيُّ : وَإِذَا بُلِيتُ بِجَاهِلٍ مُتَجَاهِلٍ يَجِدُ الْمُحَالَ مِنْ الْأُمُورِ صَوَابَا أَوْلَيْتُهُ مِنِّي السُّكُوتَ وَرُبَّمَا كَانَ السُّكُوتُ عَنْ الْجَوَابِ جَوَابَا وَيَأْتِي بِالْقُرْبِ مِنْ نِصْفِ الْكِتَابِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا , وَتَحْرِيمِ الْكِبْرِ وَالْفَخْرِ وَالْعُجْبِ .
وَقَالَ مَنْصُورٌ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : رُخِّصَ فِي الْكَذِبِ فِي ثَلَاثٍ قَالَ : وَمَا بَأْسٌ عَلَى مَا قِيلَ فِي الْحَدِيثِ . وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا بَأْسَ أَنْ يَكْذِبَ لَهُمْ لِيَنْجُوَ يَعْنِي الْأَسِيرَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَرْبُ خُدْعَةٌ } . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ : الْكَذِبُ لَا يَصْلُحُ مِنْهُ جَدٌّ وَلَا هَزْلٌ قُلْتُ لَهُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إلَّا أَنْ يَكُونَ يُصَالِحُ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ رَجُلٍ لِامْرَأَتِهِ يُرِيدُ بِذَلِكَ رِضَاهَا } قَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ , فَأَمَّا ابْتِدَاءُ الْكَذِبِ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ , وَفِي الْحَرْبِ كَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَرْبُ خُدْعَةٌ } وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا لَمْ يَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا فِي الْحَرْبِ } . فَأَمَّا الْكَذِبُ بِعَيْنِهِ فَلَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْكَذِبُ مُجَانِبُ الْإِيمَانِ } كَذَا قَالَ , وَرُوِيَ هَذَا الْخَبَرُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مَوْقُوفًا وَقَالَ أَحْمَدُ : وَلَا يَصْلُحُ مِنْ الْكَذِبِ إلَّا فِي كَذَا وَكَذَا وَقَالَ : لَا يَزَالُ يَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا فَهَذَا مَكْرُوهٌ فَقَدْ نَصَّ عَلَى إبَاحَةِ الْكَذِبِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ لَكِنْ هَلْ هُوَ التَّوْرِيَةُ أَوْ مُطْلَقًا ؟ وَرِوَايَةُ حَنْبَلٍ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ ابْتِدَاءِ الْكَذِبِ , وَرِوَايَةُ ابْنِ مَنْصُورٍ ظَاهِرَةٌ فِي الْإِطْلَاقِ فَصَارَ الْمَسْأَلَتَانِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَالْإِطْلَاقُ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَلِهَذَا اسْتَثْنَوْهُ مِنْ الْكَذِبِ الْمُحَرَّمِ أَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ وَالْأَصْحَابَ كَمَا اسْتَثْنَاهُ الشَّارِعُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّصْرِيحُ وَأَيْضًا التَّعْرِيضُ يَجُوزُ فِي الْمَشْهُورِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِلَا حَاجَةٍ فَلَا وَجْهَ إذًا لِاسْتِثْنَاءِ هَذِهِ الثَّلَاثَة وَاخْتِصَاصِ التَّعْرِيضِ بِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَعَنْ أَمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مَرْفُوعًا { لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ قَالَ بَيْنَ النَّاسِ فَيَقُولُ خَيْرًا أَوْ يُنْمِي خَيْرًا } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَزَادَ وَلَمْ أَسْمَعْهُ يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبًا إلَّا فِي ثَلَاثٍ يَعْنِي : الْحَرْبَ , وَالْإِصْلَاحَ بَيْنَ النَّاسِ , وَحَدِيثَ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ وَحَدِيثَ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا , وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ قَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ : لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبًا , وَذَكَرَهُ , وَلِأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ قَالَ مَا سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكَذِبِ إلَّا فِي ثَلَاثٍ الْحَدِيثَ كَمَا تَقَدَّمَ . وَعَنْ شَهْرٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ مَرْفُوعًا { كُلُّ الْكَذِبِ يُكْتَبُ عَلَى ابْنِ آدَمَ إلَّا ثَلَاثَ خِصَالٍ , إلَّا رَجُلٌ كَذَبَ لِامْرَأَتِهِ لِيُرْضِيَهَا , أَوْ رَجُلٌ كَذَبَ فِي خَدِيعَةِ حَرْبٍ , أَوْ رَجُلٌ كَذَبَ بَيْنَ امْرَأَيْنِ مُسْلِمَيْنِ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمَا } رَوَاهُ أَحْمَدُ . وَلِلتِّرْمِذِيِّ { لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ } . وَفِي رِوَايَةٍ { لَا يَصْلُحُ الْكَذِبُ إلَّا فِي ثَلَاثٍ يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا , وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ , وَالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ } وَقَالَ : حَسَنٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ شَهْرٍ مُرْسَلًا . وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ مُرْسَلًا { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْذِبُ لِامْرَأَتِي ؟ فَقَالَ لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ فَقَالَ : فَأَعِدُهَا وَأَقُولُ لَهَا ؟ فَقَالَ لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ } . وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ { كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ ثُمَّ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَتَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ . فَقَالَ : إنِّي لَاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنِّي لَا أَدْخُلُ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَإِنْ رَأَيْت أَنْ تُؤْوِيَنِي إلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ قَالَ : نَعَمْ قَالَ أَنَسٌ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ الثَّلَاثَ فَلَمْ أَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ إذَا تَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ تَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ فَذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إلَّا خَيْرًا فَكِدْتُ أَحْتَقِرُ عَمَلَهُ قُلْتُ : يَا عَبْدَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ , وَلَا هِجْرَةٌ وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إلَيْكَ لِأَنْظُرَ عَمَلَكَ لِأَقْتَدِيَ بِهِ فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ ؟ قَالَ : مَا هُوَ إلَّا مَا رَأَيْتَ غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا , وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ } . وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْكَذِبُ فِي الصُّلْحِ بَيْنَ الْكَافِرِينَ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْأَخْبَارِ وَرِوَايَةُ أَحْمَدَ " بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ " فِي الْخَبَرِ إرْسَالٌ وَشَهْرٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى ثُمَّ ظَاهِرُهُ غَيْرُ مُرَادٍ لِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْنَ كَافِرٍ وَمُسْلِمٍ لِحَقِّ الْمُسْلِمِ كَالْحُكْمِ بَيْنَهُمَا ثُمَّ هُوَ مَفْهُومُ اسْمٍ وَفِيهِ خِلَافٌ وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَخْتَصَّ بِالْمُسْلِمِينَ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ وَهُوَ أَخَصُّ كَمَا يَخْتَصُّ الْأَخْذُ مِنْ الزَّكَاةِ لِلصُّلْحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ إطْلَاقِ الْآيَةِ فِيهِ فَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ وَلَعَلَّهُ مُتَعَيَّنٌ ; لِأَنَّ الْكَذِبَ إنَّمَا جَازَ لِمَصْلَحَةٍ شَرْعِيَّةٍ . وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالتَّأْلِيفِ بَيْنَهُمْ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ يَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ ثُمَّ يُقَال : لَوْ كَانَ مَصْلَحَةً شَرْعِيَّةً لَجَازَ دَفْعُ الزَّكَاةِ فِي الْغُرْمِ فِيهِ كَالصُّلْحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَلِأَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ دَرَجَةَ الْإِصْلَاحِ أَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ , وَالصِّيَامِ , وَالصَّدَقَةِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَيْسَ بِأَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الصُّلْحَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ , وَأَنَّ الَّذِي رَغَّبَ فِيهِ وَحَضَّ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي أَجَازَ الْكَذِبَ لِأَجْلِهِ وَأَنَّهُ لَا تَجِبُ إجَابَةُ دَعَوْتِهِمْ بَلْ تُسْتَحَبُّ أَوْ تَجُوزُ أَوْ تُكْرَهُ مَعَ أَنَّ الشَّارِعَ أَمَرَ بِهَا أَمْرًا عَامًّا وَأَجَابَ دَعْوَةَ يَهُودِيٍّ فَالدَّلِيلُ الَّذِي أَخْرَجَهُمْ مِنْ الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ وَهُوَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِكْرَامِ وَالْمَوَدَّةِ فَهُنَا مِثْلُهُ فَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ قُوَّةِ الدَّلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْكَذِبُ لِلصُّلْحِ بَيْنَهُمْ وَهَلْ يُسْتَحَبُّ أَوْ يُبَاحُ أَوْ يُكْرَهُ ؟ يَخْرُجُ فِيهِ خِلَافٌ وَعَلَى هَذَا قَوْلُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ الْإِجْمَاعِ : اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ الْكَذِبِ إلَّا فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ , وَمُدَارَاةِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ , وَإِصْلَاحٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ , وَدَفْعِ مَظْلَمَةٍ مُرَادَةٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ مُسْلِمَيْنِ , أَوْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ لِمَا سَبَقَ , وَقَدْ عُرِفَ بِمَا سَبَقَ أَنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ مَدْخُولٌ . قَالَ أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ ؟ قَالُوا بَلَى قَالَ إصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ , وَإِفْسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ } سَالِمٌ هُوَ ابْنُ أَبِي الْجَعْدِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ هَنَّادٍ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَقَالَ : حَسَنٌ صَحِيحٌ الْحَالِقَةُ الْخَصْلَةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَحْلِقَ أَيْ تُهْلِكَ , وَتَسْتَأْصِلَ الدِّينَ كَمَا يَسْتَأْصِلُ الْمُوسَى الشَّعْرَ .
وَقَالَ صَالِحٌ لِأَبِيهِ : قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ } يُحَدِّثُ الرَّجُلُ بِكُلِّ شَيْءٍ يُرِيدُ قَالَ أَبِي يَرْوِي عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ حَدَّثَ عَنِّي حَدِيثًا يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ } فَفَرَّقَ بَيْنَ مَا يُحَدَّثُ عَنْهُ وَبَيْنَ مَا يُحَدَّثُ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ فَقَالَ { حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ فَإِنَّهُ كَانَتْ فِيهِمْ الْ
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ أَقْضَى الْقُضَاةِ , شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُفْلِحٍ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ ( فِي إبَاحَةِ الْمَعَارِيضِ وَمَحَلِّهَا )
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ فِي الْمَعَارِيضِ , وَتُبَاحُ الْمَعَارِيضُ وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيُّ : عِنْدَ الْحَاجَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الرِّعَايَةِ وَغَيْرِهَا وَتُكْرَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَالْمُرَادُ بِعَدَمِ تَحْرِيمِ الْمَعَارِيضِ لِغَيْرِ الظَّالِمِ . وَقِيلَ : يَحْرُمُ وَقِيلَ : لَهُ التَّعْرِيضُ فِي الْكَلَامِ دُونَ الْيَمِينِ بِلَا حَاجَةٍ . قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَذَكَرَ فِي بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ أَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ . قَالَ مُثَنَّى لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : كَيْفَ الْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ فِي الْمَعَارِيضِ فِي الْكَلَامِ ؟ قَالَ : الْمَعَارِيضُ لَا تَكُونُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ , وَتَصْلُحُ بَيْنَ النَّاسِ . فَلَعَلَّ ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَعَارِيضَ فِيمَا اسْتَثْنَى الشَّرْعُ مِنْ الْكَذِبِ وَلَا تَجُوزُ الْمَعَارِيضُ فِي غَيْرِهَا . وَسَأَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ عَنْ الرَّجُلِ يَحْلِفُ فَيَقُولُ : هُوَ اللَّهُ لَا أَزِيدُكَ يُوهِمُ الَّذِي يَشْرِي مِنْهُ قَالَ : هَذَا عِنْدِي يَحْنَثُ إنَّمَا الْمَعَارِيضُ فِي الرَّجُلِ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ فَأَمَّا فِي الشِّرَاءِ , وَالْبَيْعِ لَا تَكُونُ مَعَارِيضَ قُلْتُ : أَوْ يَقُولُ هَذِهِ الدَّرَاهِمُ فِي الْمَسَاكِينِ إنْ زِدْتُكَ قَالَ هُوَ عِنْدِي يَحْنَثُ . وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ إنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يُعَارِضُ فِي كَلَام الرَّجُلِ يَسْأَلُنِي عَنْ الشَّيْءِ أَكْرَهُ أَنْ أُخْبِرَهُ بِهِ ؟ قَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ يَمِينٌ فَلَا بَأْسَ , فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ . وَهُوَ إذَا احْتَاجَ إلَى الْخِطَابِ , فَأَمَّا الِابْتِدَاءُ بِذَلِكَ فَهُوَ أَشَدُّ . فَهَذَا النَّصُّ قَوْلٌ خَامِسٌ , وَجَزَمَ فِي الْمُغْنِي وَغَيْرِهِ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَقَالَ : ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ لَهُ تَأْوِيلُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا . وَذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ إجْمَاعًا وَاحْتَجَّ فِي الْمُغْنِي بِأَنَّ مُهَنَّا كَانَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَهُوَ وَالْمَرُّوذِيُّ وَجَمَاعَةٌ فَجَاءَ رَجُلٌ يَطْلُبُ الْمَرُّوذِيَّ وَلَمْ يُرِدْ الْمَرُّوذِيُّ أَنْ يُكَلِّمَهُ فَوَضَعَ مُهَنَّا أُصْبُعَهُ فِي كَفِّهِ وَقَالَ لَيْسَ الْمَرُّوذِيُّ هَهُنَا يُرِيدُ لَيْسَ الْمَرُّوذِيُّ فِي كَفِّهِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ . قَالَ الْمَرُّوذِيُّ : جَاءَ مُهَنَّا إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَمَعَهُ أَحَادِيثُ فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَعِي هَذِهِ وَأُرِيدُ أَنْ أَخْرُجَ قَالَ مَتَى تُرِيدُ تَخْرُجُ ؟ قَالَ السَّاعَةَ أَخْرُجُ , فَحَدَّثَهُ بِهَا وَخَرَجَ , فَلَمَّا كَانَ مَنْ الْغَدِ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ جَاءَ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : أَلَيْسَ قُلْتَ السَّاعَةَ أَخْرُجُ ؟ قَالَ : قُلْتُ أَخْرُجُ مِنْ بَغْدَادَ ؟ إنَّمَا قُلْتُ لَكَ أَخْرُجُ مِنْ زُقَاقِكَ قَالَ فِي الْمُغْنِي : وَقَدْ ذَكَرَهُ بِنَحْوِ هَذَا الْمَعْنَى فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ انْتَهَى كَلَامُهُ . وَهَذَانِ النَّصَّانِ لَا يَمِينَ فِيهِمَا . وَاحْتَجَّ فِي الْمُغْنِي بِالْأَخْبَارِ الْمَشْهُورَةِ فِي ذَلِكَ وَبِآثَارٍ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا يَمِينٌ كَقَوْلِهِ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ } وَلِمَنْ اسْتَحْمَلَهُ { إنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِرَجُلٍ حُرٍّ { مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ } , وَغَيْرُ ذَلِكَ قَالَ : وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ التَّأْوِيلِ وَالْمَعَارِيضِ وَقَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا فَقَالَ : { لَا أَقُولُ إلَّا حَقًّا } وَكَانَ يَقُولُ ذَلِكَ فِي الْمِزَاحِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهِ انْتَهَى كَلَامُهُ . يُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ إذَا جَازَ التَّعْرِيضُ فِي الْخَبَرِ بِغَيْرِ يَمِينٍ جَازَ بِالْيَمِينِ ; لِأَنَّهُ إنْ كَانَ بِالتَّعْرِيضِ كَذِبًا مُنِعَ مِنْهُ مُطْلَقًا وَقَدْ ثَبَتَ جَوَازُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ , وَإِنْ كَانَ صِدْقًا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَأْكِيدِ الصِّدْقِ بِالْيَمِينِ وَغَيْرِهَا وَغَايَةُ مَا فِيهِ إيهَامُ السَّامِعِ وَلَيْسَ بِمَانِعٍ , وَلَا الْمَنْعُ بِغَيْرِ يَمِينٍ وَالْغَرَضُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَيْسَ بِظَالِمٍ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ وَلَا يُقَالُ : لَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الْإِيهَامِ بِغَيْرِ يَمِينٍ جَوَازُهُ بِهَا لِأَنَّهُ مَعَهَا آكَدُ وَأَبْلَغُ لِأَنَّا نَقُولُ : لَمْ نَقِسْ بَلْ نَقُولُ : إنْ كَانَ الْإِيهَامُ عَلَيْهِ لِلْمَنْعِ فَلْيُطْرَدْ وَقَدْ جَاءَ بِغَيْرِ يَمِينٍ , وَأَيْضًا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْإِيهَامَ عَلَيْهِ لِلْمَنْعِ دَعْوَى تَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ , وَلَا يُقَالُ الْأَصْلُ فِي كُلِّ يَمِينٍ عَقَدَهَا الْمُؤَاخَذَةُ بِهَا لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ , وَلَا دَلِيلَ لِأَنَّا نَقُولُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عَقْدَهَا مَعَ التَّأْوِيلِ وَالتَّعْرِيضِ يَشْمَلُهَا الْقُرْآنُ ثُمَّ هِيَ يَمِينٌ صَادِقٌ فِيهَا بِدَلِيلِ صِدْقِهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ , يُؤَيِّدُهُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْكَلَامِ تَخْتَلِفُ بِالْيَمِينِ وَعَدَمِهَا فَمَا كَانَ صِدْقًا بِدُونِهَا كَانَ صِدْقًا مَعَهَا , هَذَا لَا شَكَّ فِيهِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ , وَعَدَمُ تَغَيُّرِهِ بِالْيَمِينِ فَمُدَّعِي خِلَافَهُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ . وَقَدْ رُوِيَ { إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنْ الْكَذِبِ } هَذَا ثَابِتٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ . وَرُوِيَ مَرْفُوعًا وَلَيْسَ هُوَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَلَا الْكُتُبِ السِّتَّةِ وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْمَعَارِيضِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ بَسَّامٍ عَنْ دَاوُد بْنِ الزِّبْرِقَانِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنْ الْكَذِبِ } . وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَبِي زَيْدٍ النُّمَيْرِيِّ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ مَحْبُورٍ حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ سَعِيدٍ فَذَكَرَهُ , وَدَاوُد وَالْعَبَّاسُ ضَعِيفَانِ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ : مَعَ ضَعْفِهِمَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُمَا وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمُغْنِي هَذَا الْخَبَرَ تَعْلِيقًا بِصِيغَةِ الْجَزْمِ مُحْتَجًّا بِهِ وَلَمْ يَعْزُهُ إلَى كِتَابٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } الْمَعَارِيضُ لَا تُذَمُّ خُصُوصًا إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهَا ثُمَّ ذَكَرَ خَبَرَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَلَمْ يَعْزُهُ قَالَ : وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِمَا أَعْلَمُ مِنْ مَعَارِيضِ الْقَوْلِ مِثْلَ أَهْلِي وَمَالِي . وَقَالَ النَّخَعِيُّ : لَهُمْ كَلَامٌ يَتَكَلَّمُونَ بِهِ إذَا خَشَوْا مِنْ شَيْءٍ يَدْرَءُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ : الْكَلَامُ أَوْسَعُ مِنْ أَنْ يَكْذِبَ ظَرِيفٌ وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ كَلَامًا كَثِيرًا فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لَا يَجُوزُ مَعَ الْيَمِينِ وَمِنْ غَيْرِ يَمِينٍ يَجُوزُ , وَعَنْهُ لَا , وَعَنْهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَغَيْرِهِ , وَقَدْ يُقَيِّدُونَ بِهِ الْجَوَازَ الْأَوْلَى بِالْمَصْلَحَةِ لَا مُطْلَقًا , وَعَلَيْهِ تُحْمَلُ الْآثَارُ . وَأَمَّا الْأَصْحَابُ فَتَجُوزُ عِنْدَهُمْ الْمَعَارِيضُ , وَقِيلَ : تُكْرَهُ وَقِيلَ : تَحْرُمُ وَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا مِنْهُمْ صَرَّحَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْيَمِينِ وَغَيْرِهَا .
وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ : التَّدْلِيسُ عَيْبٌ وَقَالَ : أَكْرَهُهُ قَالَ : لَا يُعْجِبُنِي وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ يَتَزَيَّنُ لِلنَّاسِ , فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ وَكَذَا اقْتَصَرَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى كَرَاهَتِهِ يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا وَقِيلَ : لَهُ كَانَ شُعْبَةُ يَقُولُ : التَّدْلِيسُ كَذِبٌ فَقَالَ لَا قَدْ دَلَّسَ قَوْمٌ وَنَحْنُ نَرْوِي عَنْهُمْ . وَلَوْ كُرِهَ التَّعْرِيضُ مُطْلَقًا أَوْ حَرُمَ , أَوْ كَانَ كَذِبًا لَعَلَّلَ بِهِ لِاطِّرَادِهِ وَعُمُومِ فَائِدَتِهِ , بَلْ عَلَّلَ بِالتَّزَيُّنِ , وَغَالِبُ صُوَرِ التَّعْرِيضِ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهَا فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ لَا تَزَيُّنَ فِيهَا , وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ذَلِكَ كَالْمَوْضِعِ الَّذِي اسْتَعْمَلَهَا الشَّارِعُ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَلِهَذَا اقْتَصَرَ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ . قَالَ الْقَاضِي : وَلِأَنَّهُ يُفْعَلُ ذَلِكَ كَرَاهَةَ الْوَضْعِ فِي الْحَدِيثِ لِرَاوِيهِ , وَمَنْ كَرِهَ التَّوَاضُعَ فِي الْحَدِيثِ فَقَدْ أَسَاءَ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَحْمَدَ يَتَزَيَّنُ انْتَهَى كَلَامُهُ , فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ أَمْرٌ يَخْتَصُّ بِالرِّوَايَةِ , لَكِنْ لَا يُعَارِضُ هَذَا نَصَّهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْيَمِينِ وَغَيْرِهَا . قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ : كُلُّ كَرَاهَتِهِ هُنَا لِلتَّحْرِيمِ يَخْرُجُ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي الْمَعَارِيضِ إذَا لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا وَلَا مَظْلُومًا وَالْأَشْبَهُ التَّحْرِيمُ فَإِنَّ التَّدْلِيسَ فِي الرِّوَايَةِ وَالْحَدِيثِ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي الْبَيْعِ كَذَا قَالَ . قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ : وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ إلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ مَا كَذَبَ بَلْ صَدَقَ إلَّا أَنَّهُ أَوْهَمَ , وَمَنْ أَوْهَمَ فِي خَبَرِهِ لَمْ يُرَدَّ خَبَرُهُ كَمَنْ قِيلَ لَهُ حَجَجْت ؟ فَقَالَ : لَا مَرَّةً وَلَا مَرَّتَيْنِ يُوهِمُ أَنَّهُ حَجَّ أَكْثَرُ وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ مَا حَجَّ أَصْلًا , فَلَا يَكُونُ كَذِبًا انْتَهَى كَلَامُهُ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا سَبَقَ . وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِي الدِّينِ : لَيْسَ بِصَادِقٍ فِي الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ فَيُقَالُ : قَدْ يَمْنَعُ ذَلِكَ وَعَدَمُ فَهْمِ بَعْضِ النَّاسِ لَيْسَ بِحُجَّةِ فَقَدْ يَفْطِنُ لِلتَّعْرِيضِ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ وَلِهَذَا لَا يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ كَذِبًا ; لِأَنَّهُ صَادِقٌ لُغَةً وَالْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ وَلِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِاسْتِعْمَالِ الشَّارِعِ وَحَقِيقَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَعَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ حُدِّثْتُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا { يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِصَالِ كُلِّهَا إلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ } عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا كَانَ خُلُقٌ أَبْغَضَ إلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْكَذِبِ . لَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَكْذِبُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَذْبَةَ فَمَا يَزَالُ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ أَحْدَثَ مِنْهَا تَوْبَةً رَوَاهُ أَحْمَدُ . وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي ضَرَّةً فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ إنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِي غَيْرَ الَّذِي يُعْطِينِي قَالَ الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمْ . وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا { وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ } لَهُ طُرُقٌ إلَى بَهْزٍ وَهُوَ ثَابِتٌ إلَيْهِ وَبَهْزٌ حَدِيثُهُ حَسَنٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد , وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَلِأَحْمَدَ حَدِيثُ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ . قَالَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مَرْفُوعًا { لَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ الْإِيمَانَ كُلَّهُ حَتَّى يَتْرُكَ الْكَذِبَ فِي الْمُزَاحِ وَيَتْرُكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا } الْمِرَاءُ فِي اللُّغَةِ الْجِدَالُ يُقَال : مَارَى يُمَارِي مُمَارَاةً وَمِرَاءً , أَيْ : جَادَلَ . وَتَفْسِيرُ الْمِرَاءِ فِي اللُّغَةِ اسْتِخْرَاجُ غَضَبِ الْمُجَادِلِ مِنْ قَوْلِهِمْ : مَرَيْتُ الشَّاةَ إذَا اسْتَخْرَجْتُ لَبَنَهَا . وَعَنْ السَّائِبِ بْنِ أَبِي السَّائِبِ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُنْتَ شَرِيكِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَكُنْتَ خَيْرَ شَرِيكٍ لَا تُدَارِينِي , وَلَا تُمَارِينِي } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَلَفْظُهُ : { كُنْتَ شَرِيكِي فَنِعْمَ الشَّرِيكُ } . وَتُدَارِينِي مِنْ الْمُدَارَاةِ بِلَا هَمْزٍ وَرُوِيَ بِالْهَمْزِ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ . وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ : لَا تُمَارِيَنَّ حَكِيمًا , وَلَا تُجَادِلَنَّ لَجُوجًا , وَلَا تُعَاشِرَنَّ ظَلُومًا , وَلَا تُصَاحِبَنَّ مُتَّهَمًا . وَقَالَ أَيْضًا يَا بُنَيَّ مَنْ قَصَّرَ فِي الْخُصُومَةِ خَصِمَ , وَمَنْ بَالَغَ فِيهَا أَثِمَ , فَقُلْ الْحَقَّ وَلَوْ عَلَى نَفْسِكَ فَلَا تُبَالِ مَنْ غَضِبَ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : كَفَى بِكَ ظَالِمًا أَنْ لَا تَزَالَ مُخَاصِمًا , وَكَفَى بِكَ آثِمًا أَنْ لَا تَزَالَ مُمَارِيًا . وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ . وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى : مَا مَارَيْتُ أَخِي أَبَدًا ; لِأَنِّي إنْ مَارَيْتُهُ إمَّا أَنْ أَكْذِبَهُ , وَإِمَّا أَنْ أُغْضِبَهُ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ : الْخُصُومَةُ تَمْحَقُ الدِّينَ وَتُثَبِّتُ الشَّحْنَاءَ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ . يُقَالُ : لَا تُمَارِ حَكِيمًا وَلَا سَفِيهًا , فَإِنَّ الْحَكِيمَ يَغْلِبُكَ , وَالسَّفِيهَ يُؤْذِيكَ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ : سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ : مَنْ لَاحَى الرِّجَالَ وَمَارَاهُمْ قَلَّتْ كَرَامَتُهُ , وَمَنْ أَكْثَرَ مِنْ شَيْءٍ عُرِفَ بِهِ . وَقَالَ بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ ( الْإِمَامُ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَلْفَ رَكْعَةٍ وَمَحَلُّهُ بِالشَّامِ كَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ بِالْبَصْرَةِ ) قَالَ : إذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ لَجُوجًا مُمَارِيًا فَقَدْ تَمَّتْ خَسَارَتُهُ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أُسَيْدٍ وَيُقَالُ أَسَدٌ مَرْفُوعًا { كَبُرَتْ خِيَانَةً أَنْ تُحَدِّثَ أَخَاكَ حَدِيثًا هُوَ لَكَ بِهِ مُصَدِّقٌ وَأَنْتَ بِهِ كَاذِبٌ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَأَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ بَقِيَّةَ عَنْ ضُبَارَةَ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ وَبَقِيَّةُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ مُدَلِّسٌ وَأَبُو ضُبَارَةَ تَفَرَّدَ عَنْهُ ابْنُهُ تَرْجَمَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد ( بَابٌ فِي الْمَعَارِيضِ ) وَلِأَحْمَدَ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ هَارُونَ وَهُوَ ضَعِيفٌ , وَثَمَّ الْمُرَادُ بِهَا الْكَذِبُ , أَوْ التَّعْرِيضُ مِنْ ظَالِمٍ أَوْ الْكَرَاهَةُ وَاَللَّه أَعْلَمُ . وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْخَبَرَ الَّذِي يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا أُسْرِيَ بِي كَانَ أَوَّلُ مَا أَمَرَنِي بِهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ قَالَ إيَّاكَ وَعِبَادَةَ الْأَوْثَانِ , وَشُرْبَ الْخُمُورِ وَمُلَاحَاةَ الرِّجَالِ } . وَقَالَ مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ يُوصِي ابْنَهُ كِدَامًا شِعْرًا : إنِّي مَنَحْتُكَ يَا كِدَامُ وَصِيَّتِي فَاسْمَعْ لِقَوْلِ أَبٍ عَلَيْكَ شَفِيقِ أَمَّا الْمُزَاحَةُ وَالْمِرَاءُ فَدَعْهُمَا خُلُقَانِ لَا أَرْضَاهُمَا لِصَدِيقِ إنِّي بَلَوْتُهُمَا فَلَمْ أَحْمَدْهُمَا لِمُجَاوِرٍ جَارٍ وَلَا لِرَفِيقِ وَالْجَهْلُ يُزْرِي بِالْفَتَى وَعُمُومُهُ وَعُرُوقُهُ فِي النَّاسِ أَيُّ عُرُوقِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الرِّيَاشِيُّ : وَإِذَا بُلِيتُ بِجَاهِلٍ مُتَجَاهِلٍ يَجِدُ الْمُحَالَ مِنْ الْأُمُورِ صَوَابَا أَوْلَيْتُهُ مِنِّي السُّكُوتَ وَرُبَّمَا كَانَ السُّكُوتُ عَنْ الْجَوَابِ جَوَابَا وَيَأْتِي بِالْقُرْبِ مِنْ نِصْفِ الْكِتَابِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا , وَتَحْرِيمِ الْكِبْرِ وَالْفَخْرِ وَالْعُجْبِ .
وَقَالَ مَنْصُورٌ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : رُخِّصَ فِي الْكَذِبِ فِي ثَلَاثٍ قَالَ : وَمَا بَأْسٌ عَلَى مَا قِيلَ فِي الْحَدِيثِ . وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا بَأْسَ أَنْ يَكْذِبَ لَهُمْ لِيَنْجُوَ يَعْنِي الْأَسِيرَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَرْبُ خُدْعَةٌ } . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ : الْكَذِبُ لَا يَصْلُحُ مِنْهُ جَدٌّ وَلَا هَزْلٌ قُلْتُ لَهُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إلَّا أَنْ يَكُونَ يُصَالِحُ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ رَجُلٍ لِامْرَأَتِهِ يُرِيدُ بِذَلِكَ رِضَاهَا } قَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ , فَأَمَّا ابْتِدَاءُ الْكَذِبِ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ , وَفِي الْحَرْبِ كَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَرْبُ خُدْعَةٌ } وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا لَمْ يَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا فِي الْحَرْبِ } . فَأَمَّا الْكَذِبُ بِعَيْنِهِ فَلَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْكَذِبُ مُجَانِبُ الْإِيمَانِ } كَذَا قَالَ , وَرُوِيَ هَذَا الْخَبَرُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مَوْقُوفًا وَقَالَ أَحْمَدُ : وَلَا يَصْلُحُ مِنْ الْكَذِبِ إلَّا فِي كَذَا وَكَذَا وَقَالَ : لَا يَزَالُ يَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا فَهَذَا مَكْرُوهٌ فَقَدْ نَصَّ عَلَى إبَاحَةِ الْكَذِبِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ لَكِنْ هَلْ هُوَ التَّوْرِيَةُ أَوْ مُطْلَقًا ؟ وَرِوَايَةُ حَنْبَلٍ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ ابْتِدَاءِ الْكَذِبِ , وَرِوَايَةُ ابْنِ مَنْصُورٍ ظَاهِرَةٌ فِي الْإِطْلَاقِ فَصَارَ الْمَسْأَلَتَانِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَالْإِطْلَاقُ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَلِهَذَا اسْتَثْنَوْهُ مِنْ الْكَذِبِ الْمُحَرَّمِ أَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ وَالْأَصْحَابَ كَمَا اسْتَثْنَاهُ الشَّارِعُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّصْرِيحُ وَأَيْضًا التَّعْرِيضُ يَجُوزُ فِي الْمَشْهُورِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِلَا حَاجَةٍ فَلَا وَجْهَ إذًا لِاسْتِثْنَاءِ هَذِهِ الثَّلَاثَة وَاخْتِصَاصِ التَّعْرِيضِ بِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَعَنْ أَمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مَرْفُوعًا { لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ قَالَ بَيْنَ النَّاسِ فَيَقُولُ خَيْرًا أَوْ يُنْمِي خَيْرًا } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَزَادَ وَلَمْ أَسْمَعْهُ يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبًا إلَّا فِي ثَلَاثٍ يَعْنِي : الْحَرْبَ , وَالْإِصْلَاحَ بَيْنَ النَّاسِ , وَحَدِيثَ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ وَحَدِيثَ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا , وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ قَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ : لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبًا , وَذَكَرَهُ , وَلِأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ قَالَ مَا سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكَذِبِ إلَّا فِي ثَلَاثٍ الْحَدِيثَ كَمَا تَقَدَّمَ . وَعَنْ شَهْرٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ مَرْفُوعًا { كُلُّ الْكَذِبِ يُكْتَبُ عَلَى ابْنِ آدَمَ إلَّا ثَلَاثَ خِصَالٍ , إلَّا رَجُلٌ كَذَبَ لِامْرَأَتِهِ لِيُرْضِيَهَا , أَوْ رَجُلٌ كَذَبَ فِي خَدِيعَةِ حَرْبٍ , أَوْ رَجُلٌ كَذَبَ بَيْنَ امْرَأَيْنِ مُسْلِمَيْنِ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمَا } رَوَاهُ أَحْمَدُ . وَلِلتِّرْمِذِيِّ { لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ } . وَفِي رِوَايَةٍ { لَا يَصْلُحُ الْكَذِبُ إلَّا فِي ثَلَاثٍ يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا , وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ , وَالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ } وَقَالَ : حَسَنٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ شَهْرٍ مُرْسَلًا . وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ مُرْسَلًا { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْذِبُ لِامْرَأَتِي ؟ فَقَالَ لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ فَقَالَ : فَأَعِدُهَا وَأَقُولُ لَهَا ؟ فَقَالَ لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ } . وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ { كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ ثُمَّ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَتَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ . فَقَالَ : إنِّي لَاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنِّي لَا أَدْخُلُ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَإِنْ رَأَيْت أَنْ تُؤْوِيَنِي إلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ قَالَ : نَعَمْ قَالَ أَنَسٌ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ الثَّلَاثَ فَلَمْ أَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ إذَا تَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ تَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ فَذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إلَّا خَيْرًا فَكِدْتُ أَحْتَقِرُ عَمَلَهُ قُلْتُ : يَا عَبْدَ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ , وَلَا هِجْرَةٌ وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إلَيْكَ لِأَنْظُرَ عَمَلَكَ لِأَقْتَدِيَ بِهِ فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ ؟ قَالَ : مَا هُوَ إلَّا مَا رَأَيْتَ غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا , وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ } . وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْكَذِبُ فِي الصُّلْحِ بَيْنَ الْكَافِرِينَ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْأَخْبَارِ وَرِوَايَةُ أَحْمَدَ " بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ " فِي الْخَبَرِ إرْسَالٌ وَشَهْرٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى ثُمَّ ظَاهِرُهُ غَيْرُ مُرَادٍ لِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْنَ كَافِرٍ وَمُسْلِمٍ لِحَقِّ الْمُسْلِمِ كَالْحُكْمِ بَيْنَهُمَا ثُمَّ هُوَ مَفْهُومُ اسْمٍ وَفِيهِ خِلَافٌ وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَخْتَصَّ بِالْمُسْلِمِينَ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ وَهُوَ أَخَصُّ كَمَا يَخْتَصُّ الْأَخْذُ مِنْ الزَّكَاةِ لِلصُّلْحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ إطْلَاقِ الْآيَةِ فِيهِ فَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ وَلَعَلَّهُ مُتَعَيَّنٌ ; لِأَنَّ الْكَذِبَ إنَّمَا جَازَ لِمَصْلَحَةٍ شَرْعِيَّةٍ . وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالتَّأْلِيفِ بَيْنَهُمْ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ يَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ ثُمَّ يُقَال : لَوْ كَانَ مَصْلَحَةً شَرْعِيَّةً لَجَازَ دَفْعُ الزَّكَاةِ فِي الْغُرْمِ فِيهِ كَالصُّلْحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَلِأَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ دَرَجَةَ الْإِصْلَاحِ أَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ , وَالصِّيَامِ , وَالصَّدَقَةِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَيْسَ بِأَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الصُّلْحَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ , وَأَنَّ الَّذِي رَغَّبَ فِيهِ وَحَضَّ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي أَجَازَ الْكَذِبَ لِأَجْلِهِ وَأَنَّهُ لَا تَجِبُ إجَابَةُ دَعَوْتِهِمْ بَلْ تُسْتَحَبُّ أَوْ تَجُوزُ أَوْ تُكْرَهُ مَعَ أَنَّ الشَّارِعَ أَمَرَ بِهَا أَمْرًا عَامًّا وَأَجَابَ دَعْوَةَ يَهُودِيٍّ فَالدَّلِيلُ الَّذِي أَخْرَجَهُمْ مِنْ الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ وَهُوَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِكْرَامِ وَالْمَوَدَّةِ فَهُنَا مِثْلُهُ فَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ قُوَّةِ الدَّلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْكَذِبُ لِلصُّلْحِ بَيْنَهُمْ وَهَلْ يُسْتَحَبُّ أَوْ يُبَاحُ أَوْ يُكْرَهُ ؟ يَخْرُجُ فِيهِ خِلَافٌ وَعَلَى هَذَا قَوْلُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ الْإِجْمَاعِ : اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ الْكَذِبِ إلَّا فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ , وَمُدَارَاةِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ , وَإِصْلَاحٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ , وَدَفْعِ مَظْلَمَةٍ مُرَادَةٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ مُسْلِمَيْنِ , أَوْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ لِمَا سَبَقَ , وَقَدْ عُرِفَ بِمَا سَبَقَ أَنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ مَدْخُولٌ . قَالَ أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ ؟ قَالُوا بَلَى قَالَ إصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ , وَإِفْسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ } سَالِمٌ هُوَ ابْنُ أَبِي الْجَعْدِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ هَنَّادٍ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَقَالَ : حَسَنٌ صَحِيحٌ الْحَالِقَةُ الْخَصْلَةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَحْلِقَ أَيْ تُهْلِكَ , وَتَسْتَأْصِلَ الدِّينَ كَمَا يَسْتَأْصِلُ الْمُوسَى الشَّعْرَ .
وَقَالَ صَالِحٌ لِأَبِيهِ : قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ } يُحَدِّثُ الرَّجُلُ بِكُلِّ شَيْءٍ يُرِيدُ قَالَ أَبِي يَرْوِي عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ حَدَّثَ عَنِّي حَدِيثًا يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ } فَفَرَّقَ بَيْنَ مَا يُحَدَّثُ عَنْهُ وَبَيْنَ مَا يُحَدَّثُ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ فَقَالَ { حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ فَإِنَّهُ كَانَتْ فِيهِمْ الْ