المسلمون وابتكار علم الجبر
منقول
المصدر
موقع قصة الإسلام
د. راغب السرجاني
مما لا شك فيه أن علم الحساب علم سابق على ظهور الإسلام، بل هو علم مُغْرِق في القِدَم؛ حيث إن لفافات البردي - التي كشفت كيف كان المصريون القدماء يجرون عمليات الحساب - ترجع إلى ما قبل الميلاد بحوالي ألفي عام، كذلك عرف البابليون والإغريق والهنود المتواليات الحسابية وغيرها مما يتعلق بعلم الحساب.
وتدل المخطوطات على أن الموروث الحسابي الذي تناوله المسلمون ممن سبقهم قبل عهد الترجمة كان نظامين لا واحدًا:
أحدهما: سماه العرب حساب المنجمين، لأنه كان يقتصر استعماله على الفلكيين، كما سموه حساب الزيج، وحساب الدرج والدقائق.
أما الآخر: فقد كان اسمه علم الحساب بدون تمييز. ولكن حيث يلزم التمييز يسمونه حساب اليد، أو الحساب الهوائي، أو حساب العقود، أو حساب الروم والعرب.
وقد عرَّف العلماء علم الحساب بأنه: علم بقواعد تُعرَف بها طرق استخراج المجهولات العددية من المعلومات العددية المخصوصة من الجمع والتفريق والتضعيف والضرب والقسمة. والمراد بالاستخراج معرفة كمياتها.
وقال: ومنفعته ضبط المعاملات وحفظ الأموال وقضاء الديون وقسمة المواريث والتركات.
أمّا الجبر فهو علم إسلامي محض، قام العالم المسلم أبو عبد الله الخوارزمي بابتكاره وإنشائه من الأصل؛ لذا احتفظ الغرب باسمه عَلمًا على ذلك العلم، ولكن تحرَّف اسمه عند الأوروبيين فأطلقوا عليه ( ALGEBRA) ، وهو من فروع علم الحساب، لأنه عِلم يُعرَف به كيفية استخراج مجهولات عدديةٍ بمعادلتها لمعلومات مخصوصة على وجه مخصوص, ومعنى الجبر: زيادة قدر ما نقص من الجملة المعادلة بالاستثناء في الجملة الأخرى لتتعادلا، ومعنى المقابلة إسقاط الزائد من إحدى الجملتين للتعادل....
اهتمام المسلمين بعلمي الحساب والجبر:
لقد وجّه القرآن الكريم نظر الإنسان إلى العدّ والحساب في آيات كثيرة, فلقد وجه الله سبحانه وتعالى الإنسان إلى العَدِّ على أنه حقيقة واقعة في حياة الإنسان فيقول تعالى: "وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ"(الحج: 47)، ويوجه الإنسان إلى عناصر الزمن التي بحسابها يصل إلى الساعات والأيام والشهور ثم السنين... فيقول تعالى: "هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ"(يونس: 5), ويقول أيضًا: "وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ"(الإسراء: 12)، وقد أحصى الله عزَّ وجلَّ كل شيء وعدَّه بعلمه وقدرته، قال تعالى: "إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا"(مريم: 93:95).
كما أورد القرآن الكريم أصول علم الحساب وأساس الأرقام، وهذه بعض الآيات القرآنية التي تذكر الأرقام صراحة:
قال الله تعالى : "قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ"(الأنعام: 19)، وقال أيضًا: "وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ"(النحل: 51)، وقال: "وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ"(النساء: 171).
ابتكار علم الجبر:
لم يأخذ المسلمون ما تركه الأقدمون من قواعد علم الحساب واكتفوا به، بل قاموا كعادتهم - وكما يأمرهم الإسلام – بالاجتهاد في تطوير هذا العلم؛ ومن ثَمَّ نشأ علم الجبر؛ فقد طبَّق المسلمون في زمن الخليفة عمر بن الخطاب t الإحصاء عن طريق تأسيس الدواوين حيث يتم فيها تدوين المعلومات عن الجند, ودخول بيت المال, وغيرها من البيانات اللازمة للتموين وتجهيز الجيوش... وهذه الطريقة لا تزال تُستَخدَم في كثير من الأمور الإحصائية الحديثة وهي بداية الإحصاء. كذلك استخدم الخليفة أبو جعفر المنصور وسائل متطورة وعديدة لتسليح وتموين الجند إضافة إلى تبويب مدخولات بيت المال والمصروفات, والأبواب الأخرى المتعلقة بإدارة الدولة. أمَّا الإحصاء التطبيقي فقد أسهم فيه المسلمون عن طريق التوفير للمنحنى المفترض عن البيانات المعلومة، وهذا المفهوم العلمي الرياضي لا يزال الأساس في علم الإحصاء لإيجاد أفضل المعادلات لقياس واقعية تجربة أُجْرِيَت من قِبَل الباحثين في حقول المعرفة المختلفة. وما طريقة عمر الخيام لحلِّ المعادلات التكعيبية ذات المجهول الواحد عن طريق ما يُسمّى (بحساب الخطأين) عند المسلمين وما يسمى حديثًا بطريقة (False Regula) في التحليلات العددية الحديثة إلا خير دليل على أن المسلمين اتبعوا خطوات هندسية حديثة ومتطورة, وسبقوا زمنهم في هذا المجال.
عوامل تقدُّم المسلمين في علم الجبر:
تُعَدُّ الحضارة الإسلامية من المرتكزات الأساسية وأحد الروافد الكبرى للحضارة البشرية لأصالتها وشموليتها وإنسانيتها, بالإضافة إلى المنهج العلمي الذي كان الصفة المميزة لنتاج علماء الأمة؛ ولقد احتلَّت العلوم الرياضية مركزًا مهمًّا في حضارتنا الإسلامية؛ حيث اهتمَّ بها المسلمون اهتمامًا واضحًا، ويظهر ذلك من خلال النظريات والأفكار الرياضية المتطورة التي قدمها المسلمون. وقد ساعدت جملة من العوامل على تقدمهم في ذلك المجال العلمي المهم، هي:
*طبيعة العقلية العربية المتفتحة صافية الذهن التي عمل الإسلام على تبلورها، حيث إن القرآن الكريم عدَّ التأمُّـل والتفكر في خلق الله في جملة المفاهيم الإسلامية التي لابد للمسلم أن يأخذ بها، بالإضافة إلى تأكيده على ضرورة الاهتمام بالعلوم بصورة عامة.
*احتواء القرآن الكريم على الكثير من الأمور التي لابد من معرفتها, والمتعلقة بأسس العبادة, وأن العمل لا يتم إلا بعد معرفة بعض الجوانب الرياضية, وكان ذلك في جملة العوامل التي دعت العرب والمسلمين إلى الاهتمام أكثر بدراسة وفهم الرياضيات للاستفادة منها سواء في تحديد مواقيت الصلاة وبداية الأشهر الهجرية وأهمها رمضان المبارك وشهر الحج وبقية الأشهر الحرم عمومًا, أو تحديد اتجاه القبلة, وقسمة المواريث والغنائم.
وكان للعلماء المسلمين اليد الطُّولى والفضل الأكبر في تطور العلوم الرئيسية, وعلى رأسها الرياضيات بكل علومها المعقدة, ومنها الجبر والهندسة، والحساب والمقابلة، وأقسام العدد، والعددان المتحابان, وخواص الأعداد والكسور والضرب والقسمة والمساحة للأشكال الهندسية, وقوانين الأشكال الهندسية والجذور والإحصاء وغيرها من العلوم الرياضية المعقدة.
من الذي بدأ؟
أول من كتب في هذا العلم أبو عبد الله الخوارزمي (وسيأتي الحديث عنه تفصيليًّا في المقال القادم بإذن الله), وبعده أبو كامل شجاع بن أسلم، وجاء الناس على أثره فيه و كتابه في مسائله الست من أحسن الكتب الموضوعة فيه, وشَرَحَه كثيرٌ من أهل الأندلس فأجادوا, ومن أحسن شروحاته كتاب القرشي, وليس الخوارزمي هو واضع علم الجبر فحسب، بل يتضح أن انتشار هذا العلم في الشرق والغرب إنما يرجع الفضل فيه إلى كتاب الخوارزمي الذي صار المرجع الأول للمؤلفين والمترجمين من عرب وأعاجم؛ ولذا يحق لنا القول: إن الخوارزمي هو واضع علم الجبر ومعلمه للناس أجمعين. وكذلك استعمل علماء العرب أيضا بعد الخوارزمي الرموز في الأعمال الرياضية وسبقوا الغربيين في هذا الميدان.
ولعل أوروبا والحضارة الغربية بشكل أخص لا تستطيع إنكار فضل اكتشافات الخوارزمي على مسيرتهم العلمية، فطريقة العدِّ العشري واستعمال الصفر ظلاّ مرجعية جبرية لا غِنى للأوربيين عنها حتى القرن السادس عشر. فلولا الصفر لما استطاع العلماء حلَّ كثير من المعادلات الرياضية في مختلف الدرجات بالسهولة التي تُحَلُّ بها الآن، ولما تقدمت فروع الرياضيات تقدمها المشهود وبالتالي لما تقدمت المدنية هذا التقدم العجيب..
* إنجازات المسلمين في علم الجبر وتأثيرهم في الحضارة الغربية:
لعلَّ أبرز إنجازات المسلمين في مجال الرياضيات أنهم استطاعوا أن يؤلفوا مما لديهم ومن شتات ما اقتبسوه عن الهنود نظامين: أولهما: نظام الأرقام الهندية، وهو المستعمل في الأقطار الإسلامية والعربية، وفيه استُعمِلَتِ النقطةُ لتدل على الصفر, وعرف النظام الآخر بنظام الأرقام الغُبَارية وهو المنتشر في المغرب والأندلس, وفيها استعملت الدائرة لتدلَّ على الصفر، ومنها دخلت إلى أوروبا.
ومن أهم مآثر المسلمين في هذا المضمار أنهم عرفوا حَلَّ المعادلات من الدرجة الثانية، وهي نفس الطريقة المستعملة الآن في كتب الجبر للمدارس الثانوية.
ولم يجهل المسلمون أن لهذه المعادلات جذرين, واستخراجهما إذا كانا موجبين، وهذا من أهم الأعمال التي تَفَوَّق بها العرب, وفاقوا بها غيرهم من الأمم التي سبقتهم، كما ابتكروا طرقاً هندسية لحل بعض المعادلات.
وفي باب المساحة في كتاب (الجبر والمقابلة) للخوارزمي توجد عمليات هندسية حلَّها بطرق جبرية؛ مما يدل على أن العرب كذلك هم أول من استعان بالجبر في المسائل الهندسية.
ومن أروع الشهادات في هذا السياق قول الدكتور على مصطفى مشرفة: إنه يجب ألا يغرب عن بالنا أنه رغم البحوث المستفيضة في تاريخ الرياضيات عند الإغريق وعند الهنود، لم نعثر على كتاب واحد يشبه كتاب الخوارزمي.. ويستطرد الدكتور مشرفة فيقول: إنه يميل إلى الظن بأنه لم يكن قبل الخوارزمي علمٌ يسمى علم الجبر.
والعرب هم أول من استعمل الرموز في الأعمال الرياضية وسبقوا الغربيين في هذا الميدان، ولا يخفي بطبيعة الحال ما لاستعمال الرموز من أثر بليغ في تقدم الرياضيات العالية على اختلاف فروعها.
والعرب أيضاً هم من حل المعادلات التكعيبية بوساطة قُطُوع المخروط، وهذا العمل هو من أعظم الأعمال التي قام بها العرب، وإذن يكون العرب قد سبقوا ديكارت وبيكر في هذه البحوث.
وقد ثبت أن ثابت بن قرة أعطى حلولاً هندسية لبعض المعادلات التكعيبية, ومما رفع من ذكر العرب أنهم حلّوا بعض أوضاع المعادلات ذات الدرجة الرابعة وكشفوا النظرية القائلة بأن مجموع مكعبين لا يكون عدداً مكعباً، وهذه هي أساس نظرية "Fermat" ومن حلولهم هذه يتبين أنهم جمعوا بين الهندسة والجبر في بعض الأعمال الجبرية؛ فهم – بذلك - واضعو أساس الهندسة التحليلية ولا يخفى أن الرياضيات الحديثة تبدأ بها.
وأهم مآثر العرب هي طريقة الإحصاء العشري, واستعمال الصفر لنفس الغاية التي نستعملها الآن, ومزايا هذا النظام أنه يقتصر على تسعة أعداد فقط وصفر، في حين كانت الأرقام اليونانية والغربية القديمة القائمة على حساب الجمل تشتمل على عدد من الأرقام بقدر حروف الهجاء. ولقد سهَّلت هذه الطريقة عمليات الحساب بدرجة هائلة، وأدت في الواقع إلى تقدم العلوم الرياضية ؛ إذ لولا الصفر لما استطاع العلماء حلَّ كثير من المعادلات الرياضية في مختلف الدرجات بالسهولة التي تُحَلُّ بها الآن، ولما تقدمت فروع الرياضيات تقدمها المشهود؛ وبالتالي لما تقدمت المدنية هذا التقدم العجيب.
ويُنسَب استعمال الكسر العشري للعالم الرياضي "ستيفن" في حين أن العالم الرياضي غياث الدين جمشيد الكاشي كان أول من وضع علامة الكسر العشري واستعملها قبل ستيفن بأكثر من 175 سنة، وبيَّن فوائد استعمالها وطريقة الحساب بها، ويذكر الكاشي نفسه في مقدمة كتابه "مفتاح الحساب" وعلى الصفحة الخامسة منه أنه اخترع الكسور العشرية ليسهل الحساب للأشخاص الذين لا يجيدون الطريقة الستينية. وإذن فهو يعلم أنه اخترع شيئًا جديدًا.
وإذا كان العالم ( فيتا ) يعد هو واضع مبدأ استعمال الرموز في الجبر، وذلك المبدأ الذي وجد فيه ديكارت ما ساعده على التقدم ببحوثه في الهندسة خطوات واسعة مهدت السبيل للعلوم الرياضية وارتقائها تقدماً وارتقاء نشأ عنهما علم الطبيعة الحديث، إلا أن العرب قد سبقوا " فيتا " في مبدأ استعمال الرموز. ولا شك في أن كثيراً من علماء أوروبا قد اطَّلعوا على كتاب "القلصادي" المترجم إلى اللاتينية في مبدأ استعمال الرموز.
ومن التأثيرات الواضحة لمجهودات المسلمين في الجبر تعديلات "الطوسي" على "إقليدس" حيث اكتشف أن هناك نقصاً في بحوث إقليدس فيما يخص قضية المتوازيات؛ فعدل هذا النقص وكمله في كتابه "تحرير أصول إقليدس" وفي "الرسالة الشافية للطوسي" وهما العملان اللذان كان لهما بالغ الأثر في تقدم بعض النظريات الهندسية، وقد نشر "جون واليس" هذه البحوث باللاتينية عام 1651م.
ومن الإشارات العلمية على فضل حضارة المسلمين على الغرب في مجال الحساب أن "أديلار الباثي" قام بترجمة كتاب الخوارزمي في الحساب تحت عنوان Algoroitmi donameroindoram وظل الحساب يُعرَف في أوروبا باسم (الغوريتمي) وهو تصحيف لاسم الخوارزمي.
أما كتاب الخوارزمي في الجبر "كتاب الجبر والمقابلة" فقد قام بترجمته "جيرار الكريموني" في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، وهذا كتاب أثر في الفكر الرياضي في أوروبا أكثر من أي كتاب آخر لأي كاتب من كتاب القرون الوسطى، وقد استخدم متناً تعليمياً أساسياً في الجامعات الأوربية حتى القرن السادس عشر.
منقول
المصدر
موقع قصة الإسلام