الباب السابع - في البيان والبلاغة والفصاحة وذكر الفصحاء من الرجال والنساء وفيه فصول
الفصل الأول في البيان والبلاغة
أما البيان فقد قال الله تعالى ( الرحمن علم القرآن خلق الانسان علمه البيان ) وقال أن من البيان لسحرا قال ابن المعتز البيان ترجمان القلوب وصيقل العقول وأما حده فقد قال الجاحظ البيان اسم جامع لكل ما كشف لك عن المعنى
وأما البلاغة فانها من حيث اللغة هي أن يقال بلغت المكان إذا أشرفت عليه وإن لم تدخله قال الله تعالى ( فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف ) وقال بعض المفسرين في قوله تعالى ( أم لكم أيمان علينا بالغة ) أي وثيقة كأنها قد بلغت النهاية وقال اليوناني البلاغة وضوح الدلالة وانتهاز الفرصة وحسن الاشارة وقال الهندي البلاغة تصحيح الاقسام واختيار الكلام وقال الكندي يجب للبليغ أن يكون قليل اللفظ كثير المعاني وقيل إن معاوية سأل عمرو بن العاص من أبلغ الناس فقال أقلهم لفظا وأسهلهم معنى وأحسنهم بديهة ولو لم يكن في ذلك الفخر الكامل لما خص به سيد العرب والعجم وافتخر به حيث يقول نصرت بالرعب وأوتيت جوامع الكلم وذلك أنه كان عليه الصلاة والسلام يتلفظ باللفظ اليسير الدال على المعاني الكثيرة وقيل ثلاثة تدل على عقول أصحابها الرسول على عقل المرسل والهدية على عقل المهدي والكتاب على عقل الكاتب وقال أبو عبد الله وزير المهدي البلاغة ما فهمته العامة ورضيت به الخاصة وقال البحتري خير الكلام ما قل وجل ودل ولم يمل وقالوا البلاغة ميدان لا يقطع إلا بسوابق الاذهان ولا يسلك إلا ببصائر البيان
وقال الشاعر
( لك البلاغة ميدان نشأت به ... وكلنا بقصور عنك نعترف )
( مهد لي العذر نظم بعثت به ... من عنده الدر لا يهدي له الصدف )
وروي أن ليلى الأخيلية مدحت الحجاج فقال يا غلام اذهب إلى فلان فقل له يقطع لسانها قال فطلب حجاما فقالت ثكلتك أمك إنما أمرك أن تقطع لساني بالصلة فلولا تبصرها بأنحاء الكلام ومذاهب العرب والتوسعة في اللفظ ومعاني الخطاب لتم عليها جهل هذا الرجل
وقال الثعالبي البليغ من يحول الكلام على حسب الامالي ويخيط الألفاظ على قدر المعاني والكلام البليغ ما كان لفظه فحلا ومعناه بكرا وقال الامام فخر الدين الرازي رحمة الله تعالى عليه في حد البلاغة إنها بلوغ الرجل بعبارته كنه ما في قلبه مع الاحتراز عن الإيجاز المخل والتطويل الممل ولهذه الأصول شعب وفصول لا يحتمل كشفها هذا المجموع ويحصل الغرض بهذا القدر وبالله التوفيق إلى أقوم طريق
الفصل الثاني في الفصاحة
قال الامام فخر الدين الرازي رحمة الله تعالى عليه اعلم أن الفصاحة خلوص الكلام من التعقيد وأصلها من قولهم أفصح اللبن إذا أخذت عنه الرغوة وأكثر البلغاء لا يكادون يفرقون بين البلاغة والفصاحة بل يستعملونهما استعمال الشيئين المترادفين على معنى واحدة في تسوية الحكم بينهما ويزعم بعضهم أن البلاغة في المعاني والفصاحة في الألفاظ ويستدل بقولهم معنى بليغ ولفظ فصيح
وقال يحيى بن خالد ما رأيت رجلا قط الا هبته حتى يتكلم فان كان فصيحا عظم في صدري وإن قصر سقط من عيني
وقد اختلف الناس في الفصاحة فمنهم من قال إنها راجعة إلى الألفاظ دون المعاني ومنهم من قال إنها لا تخص الألفاظ وحدها واحتج من خص الفصاحة بالألفاظ بأن قال نرى الناس يقولون هذا لفظ فصيح وهذه الالفاظ فصيحة ولا نرى قائلا يقول هذا معنى فصيح فدل على أن الفصاحة من صفات الالفاظ دون المعاني وإن قلنا إنها تشمل اللفظ والمعنى لزم من ذلك تسمية المعنى بالفصيح وذلك غير مألوف في كلام الناس والذي أراه في ذلك أن الفصيح هو اللفظ الحسن المألوف في الاستعمال بشرط أن يكون معناه المفهوم منه صحيحا حسنا ومن المستحسن في الالفاظ تباعد مخارج الحروف فإذا كانت بعيدة المخارج جاءت الحروف متمكنة في مواضعها غير قلقة ولا مكدودة والمعيب من ذلك كقول القائل
( لو كنت كنت كتمت الحب كنت كما ... كنا وكنت ولكن ذاك لم يكن )
وكقول بعضهم أيضا
( ولا الضعف حتى يبلغ الضعف ضعفه ... ولا ضعف ضعف الضعف بل مثله ألف )
وكقول الآخر
( وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر )
قيل إن هذا البيت لا يمكن إنشاده في الغالب عشر مرات متوالية إلا ويغلظ المنشد فيه لأن القرب في المخارج يحدث ثقلا في النطق به وقيل من عرف بفصاحة اللسان لحظته العيون بالوقار وبالفصاحة والبيان استولى يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام على مصر وملك زمام الأمور وأطلعه ملكها على الخفي من أمره والمستور
قال الشاعر
( لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... ولم يبق إلا صورة اللحم والدم )
وسمع النبي من عمه العباس كلاما فصيحا فقال بارك الله لك يا عم في جمالك أي فصاحتك
وعرضت على المتوكل جارية شاعرة فقال أبو العيناء يستجيزها أحمد الله كثيرا فقالت حيت أنشأك ضريرا فقال يا امير المؤمنين قد أحسنت في إساءتها فاشترها وقال فيلسوف كما أن الآنية تمتحن بأطيانها فيعرف صحيحها من مكسورها فكذلك الإنسان يعرف حاله من منطقه
وقال المبرد قلت للمجنون أجزني هذا البيت
( أرى اليوم يوما قد تكاثف غيمه ... وإبراقه فاليوم لا شك ماطر )
فقال
( وقد حجبت فيه السحائب شمسه ... كما حجبت ورد الخدود المحاجر )
وقال عبد الملك لرجل حدثني فقال يا أمير المؤمنين افتتح فإن الحديث يفتح بعضه بعضا وقال الهيثم ابن صالح لابنه يا بني إذا أقللت من الكلام أكثرت من الصواب قال يا أبت فإن أنا أكثرت
وأكثرت يعني كلاما وصوابا قال يا بني ما رأيت موعوظا أحق بأن يكون واعظا منك وقال الشعبي كنت أحدث عبد الملك بن مروان وهو يأكل فيحبس اللقمة فأقول أجزها أصلحك الله فإن الحديث من وراء ذلك فيقول والله لحديثك أحب إلي منها وقال ابن عيينة الصمت منام العلم والنطق يقظته ولا منام إلا بتيقظ ولا يقظة إلا بمنام قال ابن المبارك
( وهذا اللسان بريد الفؤاد ... يدل الرجال على عقله )
ومر رجل بأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ومعه ثوب فقال له ابو بكر رضي الله عنه أتبيعه فقال لا رحمك الله فقال أبو بكر لو تستقيمون لقومت ألسنتكم هلا قلت لا ورحمك الله
ومنه ما حكي أن المأمون سأل يحيى بن اكثم عن شيء فقال لا وأيد الله أمير المؤمنين فقال المأمون ما أظرف هذه الواو وأحسن موقعها وكان الصاحب يقول هذه الواو أحسن من واوات الأصداغ ويقال اللسان سبع صغير الجرم عظيم الجرم وقال بعضهم شعرا
( سحبان يقصر عن بحور بيانه ... عجزا ويغرق منه تحت عباب )
( وكذاك قس ناطق بعكاظه ... يعيا لديه بحجة وجواب )
وقيل أنه حج مع ابن المنكدر شابان فكانا إذا رأيا امرأة جميلة قالا قد أبرقنا وهما يظنان أن ابن المنكدر لا يفطن فرأيا قبة فيها امرأة فقالا بارقة وكانت قبيحة فقال ابن المنكدر بل صاعقة وكان أصحاب أبي علي الثقفي إذا رأوا امرأة جميلة يقولون حجة فعرضت لهم قبيحة فقالوا داحضة وكتب إبراهيم بن المهدي إياك والتتبع لو حشي الكلام طمعا في نيل البلاغة فإن ذلك العناء الأكبر وعليك بما سهل مع تجنبك الألفاظ السفل ويقال القول على حسب همة القائل يقع والسيف بقدر عضد الضارب يقطع وقال الأحنف سمعت كلام أبي بكر حتى مضي وكلام عمر حتى مضى وكلام عثمان حتى مضى وكلام علي حتى مضى رضي الله تعالى عنهم ولا والله ما رأيت فيهم أبلغ من عائشة وقال معاوية رضي الله تعالى عنه ما رأيت أبلغ من عائشة رضي الله تعالى عنها ما أغلقت بابا فأرادت فتحه إلا فتحته ولا فتحت بابا فأرادت إغلاقه إلا أغلقته
ومن غريب الكنايات الواردة على سبيل الرمز وهو من الذكاء والفصاحة ما حكي أن رجلا كان أسيرا في بني بكر بن وائل وعزموه على غزو قومه فسألهم في رسول يرسله إلى قومه فقالوا لا ترسله إلا بحضرتنا لئلا تنذرهم وتحذرهم فجاؤا بعبد أسود فقال له أتعقل ما أقوله لك قال نعم إني لعاقل فأشار بيده إلى الليل فقال ما هذا قال الليل قال ما أراك إلا عاقلا ثم ملأ كفيه من الرمل وقال كم هذا قال لا أدري وإنه لكثير فقال أيما أكثر النجوم أم النيران قال كل كثير فقال أبلغ قومي التحية وقل لهم يكرموا فلانا يعني أسيرا كان في أيديهم من بكر بن وائل فإن قومه لي مكرمون وقل لهم إن العرفج قد دنا وشكت النساء وأمرهم أن يعروا ناقتي الحمراء فقد أطالوا ركوبها وان يركبوا جملي الأصهب بأمارة ما اكلت معكم حيسا واسألوا عن خبري أخي الحرث فلما أدى العبد الرسالة إليهم قالوا لقد جن الأعور والله ما نعرف له ناقة حمراء ولا جملا أصهب ثم دعوا بأخيه الحرث فقصوا عليه القصة فقال قد أنذركم أما قوله قد دنا العرفج يريد أن الرجال قد استلأموا ولبسوا السلاح وأما قوله شكت النساء أي أخذت الشكاء للسفر واما قوله أعروا ناقتي الحمراء أي ارتحلوا عن الدهناء واركبوا الجمل الأصهب أي الجبل وأما قوله أكلت معكم حيسا أي أن أخلاطا من الناس قد عزموا على غزوكم لأن الحيس يجمع التمر والسمن والأقط فامتثلوا أمره وعرفوا لحن الكلام وعملوا به فنجوا
وأسرت طيء غلاما من العرب فقدم أبوه ليفديه فاشتطوا عليه فقال أبوه والذي جعل الفرقدين يمسيان ويصبحان على جبل طيء ما عندي غير ما بذلته ثم انصرف وقال لقد أعطيته كلاما إن كان فيه خير فهمه فكأنه قال له الزم الفرقدين يعني في هروبك على جبل طيء ففهم الإبن ما أراده أبوه وفعل ذلك فنجى
وكانت علية بنت المهدي تهوى غلاما خادما اسمه طل فحلف الرشيد أن لا تكلمه ولا تذكره في شعرها فاطلع الرشيد يوما عليها وهي تقرأ في آخر سورة البقرة فإن لم يصبها وابل فالذي نهى عنه أمير المؤمنين ومن ذلك قولهم تركت فلانا يأمر وينهي وهو على شرف الموت أي يأمر بالوصية وينهي عن النوح ويقال ما رأيت فلانا أي ما ضربته في رئته ولا كلمته أي ما جرحته فإن الكلوم الجراح وما رأيت ربيعا فالربيع حظ الأرض من الماء والربيع النهر وما رأيت كافرا ولا فاسقا فالكافر السحاب والفاسق الذي تجرد من ثيابه وما رأيت فلانا راكعا ولا ساجدا ولا مصليا فالراكع العاثر الذي كبا لوجهه والساجد المدمن النظر والمصلي الذي يجيء بعد السابق وما أخذت لفلان دجاجة ولا فروجا فالدجاجة الكبة من الغزل والفروجة الدراعة وما أخذت لفلان بقرة ولا ثورا فالبقرة العيال الكثيرة يقال جاء فلان يسوق بقره أي عياله والثور القطعة الكبيرة من الأقط
وحكي أن معاوية رضي الله تعالى عنه بينما هو جالس في بعض مجالسه وعنده وجوه الناس فيهم الأحنف بن قيس إذ دخل رجل من أهل الشام فقام خطيبا وكان آخر كلامه أن لعن عليا رضي الله تعالى عنه ولعن لاعنه فقال الأحنف يا أمير المؤمنين إن هذا القائل لو يعلم أن رضاك في لعن المرسلين للعنهم فاتق الله يا امير المؤمنين ودع عنك عليا رضي الله تعالى عنه فلقد لقي ربه وأفرد في قبره وخلا بعمله وكان والله المبرور سيفه الطاهر ثوبه العظيمة مصيبته فقال معاوية يا أحنف لقد تكلمت بما تكلمت وأيم الله لتصعدن على المنبر فتلعنه طوعا أو كرها فقال له الأحنف يا امير المؤمنين إن تعفني فهو خير لك وإن تجبرني على ذلك فوالله لا تجري شفتاي به أبدا فقال قم فاصعد قال أما والله لأنصفنك في القول والفعل قال وما أنت قائل إن أنصفتني قال أصعد المنبر فأحمد الله وأثني عليه وأصلي على نبيه محمد ثم أقول أيها الناس إن أمير المؤمنين معاوية أمرني أن ألعن عليا ألا وإن معاوية وعليا اقتتلا فاختلفا فادعى كل واحد منهما أنه مبغي عليه وعلى فئته فإذا دعوت فأمنوا رحمكم الله ثم أقول اللهم ألعن أنت وملائكتك وأنبياؤك وجميع خلقك الباغي منهما على صاحبه والعن الفئة الباغية اللهم العنهم لعنا كثيرا أمنوا رحمكم الله يا معاوية لا أزيد على هذا ولا أنقص حرفا ولو كان فيه ذهاب روحي فقال معاوية إذا نعفيك يا أبا بحر
وقال معاوية لعقيل بن أبي طالب إن عليا قد قطعك وأنا وصلتك ولا يرضيني منك إلا أن تلعنه على المنبر قال أفعل فصعد المنبر ثم قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه أيها الناس إن معاوية بن ابي سفيان قد امرني أن ألعن علي بن أبي طالب فالعنوه فعليه لعنة الله ثم نزل فقال له معاوية إنك لم تبين من لعنت منهما بينه فقال والله لا زدت حرفا ولا نقصت حرفا والكلام إلى نية المتكلم ودخلت امرأة على هرون الرشيد وعنده جماعة من وجوه أصحابه فقالت يا أمير المؤمنين أقر الله عينك وفرحك بما آتاك واتم سعدك لقد حكمت فقسطت فقال لها من تكونين أيتها المرأة فقالت من آل برمك ممن قتلت رجالهم وأخذت أموالهم وسلبت نوالهم فقال أما الرجال فقد مضى فيهم أمر الله ونفذ فيهم قدره وأما المال فمردود إليك ثم التفت إلى الحاضرين من أصحابه فقال أتدرون ما قالت هذه المرأة فقالوا ما نراها قالت إلا خيرا قال ما أظنكم فهمتم ذلك أما قولها أقر الله عينك أي أسكنها عن الحركة وإذا سكنت العين عن الحركة عميت وأما قولها وفرحك بما آتاك فأخذته من قوله تعالى ( حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة ) وأما قولها وأتم الله سعدك فأخذته من قول الشاعر
( إذا تم أمر بدا نقصه ... ترقب زوالا إذا قيل تم )
وأما قولها لقد حكمت فقسطت فأخذته من قوله تعالى ( وأماالقاسطون فكانوا لجهنم حطبا ) فتعجبوا من ذلك
وحكي أن بعضهم دخل على عدوه من النصارى فقال له أطال الله بقاءك وأقر عينك وجعل يومي قبل يومك والله إنه ليسرني ما يسرك فأحسن إليه وأجازه على دعائه وامر له بصلة وكان ذلك دعاء عليه لأن معنى قوله أطال الله بقاءك حصول منفعة المسلمين به في اداء الجزية واما قوله وأقر عينك فمعناه سكن الله حركتها أي أعماها وأما قوله وجعل يومي قبل يومك أي جعل الله يومي الذي أدخل فيه الجنة قبل يومك الذي تدخل فيه النار وأما قوله إنه ليسرني ما يسرك فإن العافية تسره كما تسر الآخر فانظر إلى الاشتراك وفائدته ولولا الاشتراك ما تهيأ لمتستر مراد ولا سلم له في التخلص قياد وكان حماد الراوية لا يقرأ القرآن فكلفه بعض الخلفاء القراءة في المصحف فصحف في نيف وعشرين موضعا من جملتها قوله تعالى ( وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ) بالغين المعجمة والسين المهملة وقوله ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه ) بالباء الموحدة ليكون لهم عدوا وحزنا بالباء الموحدة ( وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار ) بالجيم والباء الموحدة ( هم احسن أثاثا ورئيا ) بالزاي وترك الهمزة ( عذابي أصيب به من أشاء ) بالسين المهملة ( صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ) بالنون والعين المهملة ( سلام عليكم لا نبتغي ) باسقاط التاء ( بل الذين كفروا في عزة وشقاق ) بالغين المعجمة والراء المهملة قرن الشقاق بالغرة وهذا لا يقع إلا من الأذكياء
وحكي أن المأمون ولي عاملا على بلاد وكان يعرف منه الجور في حكمه فأرسل إليه رجلا من أرباب دولته ليمتحنه فلما قدم عليه أظهر له أنه قدم في تجارة لنفسه ولم يعلمه أن أمير المؤمنين عنده علم منه فأكرم نزله وأحسن إليه وسأله أن يكتب كتابا إلى أمير المؤمنين المأمون يشكر سيرته عنده ليزداد فيه أمير المؤمنين رغبة فكتب كتابا فيه بعد الثناء على أمير المؤمنين أما بعد فقد قدمنا على فلان فوجدناه آخذا بالعزم عاملا بالحزم قد عدل بين رعيته وساوى في أقضيته أغنى القاصد وأرضى الوارد وأنزلهم منه منازل الأولاد وأذهب ما بينهم من الضغائن والأحقاد وعمر منهم المساجد الداثرة وأفرغهم من عمل الدنيا وشغلهم بعمل الآخرة وهم مع ذلك داعون لأمير المؤمنين يريدون النظر إلى وجهه والسلام فكان معنى قوله آخذا بالعزم أي إذا عزم على ظلم أو جور فعله في الحال وقوله قد عدل بين رعيته وساوى في أقضيته أي أخذ كل ما معهم حتى ساوى بين الغني والفقير وقوله عمر منهم المساجد الداثرة وأفرغهم من عمل الدنيا وشغلهم بعمل الآخرة يعني أن الكل صاروا فقراء لا يملكون شيئا من الدنيا ومعنى قوله يريدون النظر إلى وجه أمير المؤمنين أي ليشكوا حالهم وما نزل بهم فلما جاء الكتاب إلى المأمون عزله عنهم لوقته وولى عليهم غيره
ومن ذلك ما حكي أن القاضي الفاضل كان صديق خصيص به وكان صديقه هذا قريبا من الملك الناصر صلاح الدين وكان فيه فضيلة تامة فوقع بينه وبين الملك أمر فغضب عليه وهم بقتله فتسحب إلى بلاد التتر وتوصل إلى أن صار وزيرا عندهم وصار يعرف التتر كيف يتوصل إلى الملك الناصر بما يؤذيه فلما بلغه ذلك نفر منه وقال للفاضل اكتب إليه كتابا عرفه فيه انني ارضي عليه واستعطفه غاية الاستعطاف إلى أن يحضر فإذا حضر قتلته واسترحت منه فتحير الفاضل بين الاثنين صديقه يعز عليه والملك لا يمكنه مخالفته فكتب إليه كتابا واستعطفه غاية الاستعطاف ووعده بكل خير من الملك فلما انتهى الكتاب ختمه بالحمدلة والصلاة والسلام على النبي وكتب إن شاء الله تعالى كما جرت به العادة في الكتب فشدد إن ثم أوقف الملك على الكتاب قبل ختمه فقرأه في غاية الكمال وما فهم إن وكان قصد الفاضل أن الملأ ياتمرون بك ليقتلوك فلما وصل الكتاب إلى الرجل فهمه وكتب جوابه بأنه سيحضر عاجلا فلما أراد أن ينهي الكتاب ويكتب إن شاء تعالى مد النون وجعل في آخرها ألفا وأراد بذلك أنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فلما وصل الكتاب إلى الفاضل فهم الاشارة ثم أوقف الملك على الجواب بخطه ففرح بذلك
وحكي أن بعض الملوك طلع يوما إلى أعلى قصره يتفرج فلاحت منه التفاتة فرأى امرأة على سطح دار إلى جانب قصره لم ير الراؤن أحسن منها فالتفت إلى بعض جواريه فقال لها لمن هذه فقالت يا مولاي هذه زوجة غلامك فيروز قال فنزل الملك وقد خامره حبها وشغف بها فاستدعى بفيروز وقال له يا فيروز قال لبيك يا مولاي قال خذ هذا الكتاب وامض به إلى البلد الفلانية وائتني بالجواب فأخذ فيروز الكتاب وتوجه إلى منزله فوضع الكتاب تحت رأسه وجهز أمره وبات ليلته فلما أصبح ودع أهله وسار طالبا لحاجة الملك ولم يعلم بما قد دبره الملك وأما الملك فإنه لما توجه فيروز قام مسرعا وتوجه متخفيا إلى دار فيروز فقرع الباب قرعا خفيفا فقالت امرأة فيروز من بالباب قال أنا الملك سيد زوجك ففتحت له فدخل وجلس فقالت له أرى مولانا اليوم عندنا فقال زائر فقالت أعوذ بالله من هذه الزيارة وما أظن فيها خيرا فقال لها ويحك إنني الملك سيد زوجك وما أظنك عرفتني فقالت بل عرفتك يا مولاي ولقد علمت أنك الملك ولكن سبقتك الأوائل في قولهم
( سأترك ماءكم من غير ورد ... وذاك لكثرة الوراد فيه )
( إذا سقط الذباب على طعام ... رفعت يدي ونفسي تشتهيه )
( وتجتنب الأسود ورود ماء ... إذا كان الكلاب ولغن فيه )
( ويرتجع الكريم خميص بطن ... ولا يرضى مساهمة السفيه )
وما أحسن يا مولاي قول الشاعر
( قل للذي شفه الغرام بنا ... وصاحب الغدر غير مصحوب )
( والله لا قال قائل أبدا ... قد أكل الليث فضلة الذيب )
ثم قالت أيها الملك تأتي إلى موضع شرب كلبك تشرب منه قال فاستحيا الملك من كلامها وخرج وتركها فنسي نعله في الدار هذا ما كان من الملك وأما ما كان من فيروز فانه لما خرج وسار تفقد الكتاب فلم يجده معه في رأسه فتذكر أنه نسيه تحت فراشه فرجع إلى داره فوافق وصوله عقب خروج الملك من داره فوجد نعل الملك في الدار فطاش عقله وعلم أن الملك لم يرسله في هذه السفرة إلا لأمر يفعله فسكت ولم يبد كلاما وأخذ الكتاب وسار إلى حاجة الملك فقضاها ثم عاد إليه فأنعم عليه بمائة دينار فمضى فيروز إلى السوق واشترى ما يليق بالنساء وهيأ هدية حسنة وأتى إلى زوجته فسلم عليها وقال لها قومي إلى زيارة بيت أبيك قالت وما ذاك قال إن الملك أنعم علينا وأريد أن تظهري لأهلك ذلك قالت حبا وكرامة ثم قامت من ساعتها وتوجهت إلى بيت أبيها ففرحوا بها وبما جاءت به معها فأقامت عند أهلها شهر فلم يذكرها زوجها ولا ألم بها فأتى إليه أخوها وقال له يا فيروز إما أن تخبرنا بسبب غضبك وإما أن تحاكمنا إلى الملك فقال إن شئتم الحكم فافعلوا فما تركت لها علي حقا فطلبوه إلى الحكم فأتى معهم وكان القاضي إذ ذاك عند الملك جالسا إلى جانبه فقال أخو الصبية أيد الله مولانا قاضي القضاة أني أجرت هذا الغلام بستانا سالم الحيطان ببئر ماء معين عامرة وأشجار مثمرة فأكل ثمره وهدم حيطانه وأخرب بئره فالتفت القاضي إلى فيروز وقال له ما تقول يا غلام فقال فيروز أيها القاضي قد تسلمت هذا البستان وسلمته إليه أحسن ما كان فقال القاضي هل سلم إليك البستان كما كان قال نعم ولكن أريد منه السبب لرده قال القاضي ما قولك قال والله يا مولاي ما رددت البستان كراهة فيه وإنما جئت يوما من الأيام فوجدت فيه أثر الأسد فخفت أن يغتالني فحرمت دخول البستان إكراما للأسد قال وكان الملك متكئا فاستوى جالسا وقال يا فيروز ارجع إلى بستانك آمنا مطمئنا فوالله ان الأسد دخل البستان ولم يؤثر فيه أثرا ولا التمس منه ورقا ولا ثمرا ولا شيئا ولم يلبث فيه غير لحظة يسيرة وخرج من غير بأس ووالله ما رأيت مثل بستانك ولا أشد احترازا من حيطانه على شجره قال فرجع فيروز إلى داره ورد زوجته ولم يعلم القاضي ولا غيره بشيء من ذلك والله أعلم
وهذا كله مما يأتي به الانسان من غرائب الكنايات الواردة على سبيل الرمز ومنه ما يجده المتستر في أمره من الراحة في كتمان حاله مع لزوم الصدق ورضا الخصم بما وافق مراده لأن في المعاريض مندوحة عن الكذب كما روي في غزوة بدر أن النبي كان سائرا بأصحابه يقصد بدرا فلقيهم رجل من العرب فقال ممن القوم فقال له النبي من ماء أخذ ذلك الرجل يفكر ويقول من ماء من ماء يرددها لينظر أي العرب يقال لهم ماء فسار النبي بأصحابه لوجهته وكان قصده أن يكتم أمره وقد صدق رسول الله في قوله فإن الله عز وجل قال ( فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق ) وكما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال للكافر الذي سأله عن رسول الله وقت ذهابهما إلى الغار هو رجل يهديني السبيل وقد صدق فيما قال رضي الله عنه فقد هداه الله وهدانا السبيل ولا سبيل أوضح ولا أقوم من الأسلام وكما حكي عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه لما سأله بعض المعتزلة بحضرة الرشيد ما تقول في القرآن فقال الشافعي أياي تعني قال نعم قال مخلوق فرضى خصمه منه بذلك ولم يرد الشافعي إلا نفسه وكما حكي عن ابن الجوزي رحمه الله تعالى أنه سئل وهو على المنبر وتحته جماعة من مماليك الخليفة وخاصته وهم فريقان قوم سنية وقوم شيعة فقيل له من أفضل الخلق بعد رسول الله أبو بكر أم علي رضي الله عنهما فقال أفضلها بعده من كانت ابنته تحته فأرضى الفريقين ولم يرد إلا أبا بكر رضي الله عنه لأن الضمير في ابنته يعود إلى أبي بكر رضي الله عنه وهي عائشة رضي الله عنها وكانت تحت رسول الله والشيعة ظنوا أن الضمير في ابنته يعود إلى رسول الله وهي فاطمة رضي الله عنها وكانت تحت علي رضي الله عنه فهذه منه جيدة حسنة وكلمة باتت جفون الفريقين منها وسنة والله أعلم