تفسير سورة الطارق
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{وَالسَّمَآءِ وَالطَّارِقِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ * إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ * فَلْيَنظُرِ الإِنسَـنُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآئِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآئِرُ * فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ}.
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{وَالسَّمَآءِ وَالطَّارِقِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ * إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ * فَلْيَنظُرِ الإِنسَـنُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآئِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآئِرُ * فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ}.
{والسماء والطارق} ابتدأالله عز وجل هذه السورة بالقسم، أقسم الله تعالى بالسماء والطارق وقد يشكل على بعض الناس كيف يقسم الله سبحانه وتعالى بالمخلوقات مع أن القسم بالمخلوقات شرك لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك»(103)، وقال عليه الصلاة والسلام: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت»(104). فلا يجوز الحلف بغير الله لا بالأنبياء، ولا بالملائكة، ولا بالكعبة، ولا بالوطن، ولا بأي شيء من المخلوقات؟
والجواب على هذا الإشكال أن نقول: إن الله سبحانه وتعالى له أن يقسم بما شاء من خلقه، وإقسامه بما يقسم به من خلقه يدل على عظمة الله عز وجل، لأن عِظم المخلوق يدل على عِظم الخالق، وقد أقسم الله تعالى بأشياء كثيرة من خلقه، ومن أحسن ما رأيته تكلم على هذا الموضوع ابن القيم رحمه الله في كتابه (التبيان في أقسام القرآن) وهو كتاب جيد ينفع طالب العلم كثيراً، فهنا يقسم الله تعالى بالسماء، والسماء هو كل ما علا، فكل ما علاك فهو سماء، حتى السحاب الذي ينزل منه المطر يسمى سماءً، كما قال الله تعالى: {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها} [الرعد: 17]. وإذا كان يطلق على كل ما علاك فإنه يشمل ما بين السماء والأرض ويشمل السماوات كلها لأنها كلها قد علتك وهي فوقك. وأما قوله: {والطارق} فهو قسم ثان، أي أن الله أقسم بالطارق فما هو الطارق؟ ليس الطارق هو الذي يطرق أهله ليلاً بل فسره الله عز وجل بقوله: {النجم الثاقب} هذا هو الطارق، والنجم هنا يحتمل أن يكون المراد به جميع النجوم فتكون (ال) للجنس، ويحتمل أنه النجم الثاقب، أي: النجم اللامع، قوي اللمعان، لأنه يثقب الظلام بنوره، وأيًّا كان فإن هذه النجوم من آيات الله عز وجل الدالة على كمال قدرته، في سيرها وانتظامها، واختلاف أشكالها واختلاف منافعها أيضاً، قال الله تبارك وتعالى: {وعلامات وبالنجم هم يهتدون} [النحل: 16]. وقال تعالى: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين} [الملك: 5]. فهي زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها. ثم بين الله المقسم عليه بقوله:
{إن كل نفس لما عليها حافظ} {إن} هنا نافية يعني ما كل نفس، و{لما} بمعنى (إلا) يعني ما كل نفس إلا عليها حافظ من الله، وبين الله سبحانه وتعالى مهمة هذا الحافظ بقوله: {وإن عليكم لحافظين. كراماً كاتبين. يعلمون ما تفعلون} [الانفطار: 10 ـ 12]. هؤلاء الحفظة يحفظون على الإنسان عمله، ما له وما عليه، ويجده يوم القيامة كتاباً منشوراً يقال له: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} [الإسراء: 14]. هؤلاء الحفظة يكتبون ما يقوم به الإنسان من قول، وما يقوم به من فعل، سواء كان ظاهراً كأقوال اللسان، وأعمال الجوارح، أو باطناً حتى ما في القلب مما يعتقده الإنسان فإنه يكتب عليه لقوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد. إذ يتلقى المتلقيان عن اليمن وعن الشمال قعيد. ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق 16 ـ 18]. هذا الحافظ يحفظ عمل بني آدم، وهناك حفظة آخرون ذكرهم الله في قوله: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} [الرعد: 11].
{فلينظر الإنسان مما خلق} (اللام) هنا للأمر، والمراد بالنظر هنا نظر الاعتبار وهو النظر بالبصيرة، يعني ليفكر الإنسان مما خلق؟ هل خلق من حديد؟ هل خلق من فولاذ؟ هل خلق من شيء قاسٍ قوي؟ والجواب على هذه التساؤلات: أنه {خلق من ماء دافق} وهو ماء الرجل، ووصفه الله تعالى في آيات أخرى بأنه ماء مهين ضعيف السيلان ليس كالماء العادي المنطلق، ووصفه الله تعالى في آية أخرى أنه نطفة أي قليل من الماء، هذا الذي خلق منه الإنسان، والعجب أن يخلق الإنسان من هذا الماء المهين، ثم يكون قلبه أقسى من الحجارة ـ والعياذ بالله ـ إلا من ألان الله قلبه لدين الله، ثم بين أن هذا الماء الدافق
{يخرج من بين الصلب والترائب} من بين صلب الرجل وترائبه أعلى صدره، وهذا يدل على عمق مخرج هذا الماء، وأنه يخرج من مكان مكين في الجسد، وقال بعض العلماء: {يخرج من بين الصلب} أي صلب الرجل {والترائب} ترائب المرأة. ولكن هذا خلاف ظاهر اللفظ، والصواب أن الذي يخرج من بين الصلب والترائب هو ماء الرجل، لأن الله تعالى وصفه بذلك.
ثم قال تعالى: {إنه على رجعه لقادر} {إنه} أي الله عز وجل. {على رجعه} أي على رجع الإنسان {لقادر} وذلك يوم القيامة لقوله {يوم تبلى السرائر} فالذي قدر على أن يخلق الإنسان من هذا الماء الدافق المهين، قادر على أن يعيده يوم القيامة، وهذا من باب الاستدلال بالمحسوس على المنظور المترقب، وهو قياس عقلي، فإن الإنسان بعقله يقول إذا كان الله قادراً على أن يخلق الإنسان من هذا الماء المهين ويحييه قادر على أن يعيده مرة ثانية {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} [الروم: 27]. ولهذا يستدل الله عز وجل بالمبدأ على المعاد لأنه قياس جلي واضح، ينتقل العقل من هذا إلى هذا بسرعة وبدون كلفة،
وقوله: {يوم تبلى السرائر} أي تختبر السرائر، وهي القلوب، فإن الحساب يوم القيامة على ما في القلوب، والحساب في الدنيا على ما في الجوارح، ولهذا عامل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المنافقين معاملة المسلمين حيث كان يُستأذن في قتلهم فيقول: «لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه»(105)، فكان لا يقتلهم وهو يعلم أن فلانًا منافق، وفلانًا منافق، لكن العمل في الدنيا على الظاهر ويوم القيامة على الباطن {يوم تبلى السرائر} أي تختبر وهذا كقوله: {أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور. وحصل ما في الصدور} [العاديات: 9، 10]. ولهذا يجب علينا العناية بعمل القلب أكثر من العناية بعمل الجوارح، عمل الجوارح علامة ظاهرة، لكن عمل القلب هو الذي عليه المدار، ولهذا أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن الخوارج يخاطب الصحابة يقول: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم ـ يعني أنهم يجتهدون في الأعمال الظاهرة لكن قلوبهم خالية والعياذ بالله ـ لا يتجاوز الإسلام حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية»(106)، قال الحسن البصري رحمه الله: (والله ما سبقهم أبو بكر بصلاة ولا صوم، وإنما سبقهم بما وقر في قلبه من الإيمان) والإيمان إذا وقر في القلب حمل الإنسان على العمل، لكن العمل الظاهر قد لا يحمل الإنسان على إصلاح قلبه، فعلينا أن نعتني بقلوبنا وأعمالها، وعقائدها، واتجاهاتها، وإصلاحها وتخليصها من شوائب الشرك والبدع، والحقد والبغضاء، وكراهة ما أنزل الله على رسوله وكراهة الصحابة رضي الله عنهم، وغير ذلك مما يجب تنزيه القلب عنه.
ثم قال تعالى: {فما له من قوة} يعني يوم القيامة ما للإنسان من قوة ذاتية {ولا ناصر} وهي القوة الخارجية، هو بنفسه لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، ولا أحد يستطيع أن يدافع عنه، قال الله تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} [المؤمنون: 101]. في الدنيا يتساءلون، يسأل بعضهم بعضاً، ويحتمي بعضهم ببعض، لكن يوم القيامة لا أنساب يعني لا قرابة، لا تنفع القرابة ولا يتساءلون
المصدر: منتديات أحباب الاردن - من قسم: منتدى تفسير سور القران الكريم