تفسير سورة الأعلى
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ }
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاَعْلَى * الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى }.
{سبح اسم ربك الأعلى} الخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والخطاب الموجه للرسول في القرآن الكريم على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يقوم الدليل على أنه خاص به فيختص به.
القسم الثاني: أن يقوم الدليل على أنه عام فيعم.
القسم الثالث: أن لا يدل دليل على هذا ولا على هذا، فيكون خاصًّا به لفظاً، عامًّا له وللأمة حكماً.
مثال الأول: قوله تبارك وتعالى: {ألم نشرح لك صدرك. ووضعنا عنك وزرك} [الشرح: 1، 2]. ومثاله أيضاً قوله تعالى: {وأرسلناك للناس رسولاً} [النساء: 79]. فإن هذا من المعلوم أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ومثال الثاني الموجه للرسول عليه الصلاة والسلام، وفيه قرينة تدل على العموم: قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1]. فوجه الخطاب أولاً للرسول عليه الصلاة والسلام قال: {يا أيها النبي} ولم يقل «يا أيها الذين آمنوا إذا طلقتم» قال: {يا أيها النبي إذا طلقتم}، ولم يقل: (يا أيها النبي إذا طلقت) قال: {يا أيها النبي إذا طلقتم} فدل هذا على أن الخطاب الموجه للرسول عليه الصلاة والسلام موجه له وللأمة.
وأما أمثلة الثالث: فهي كثيرة جداً يوجه الله الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام، والمراد الخطاب له لفظاً وللعموم حكماً.
هنا يقول الله عز وجل: {سبح اسم ربك الأعلى}
{سبح} يعني نزه الله عن كل ما لا يليق بجلاله وعظمته، فإن التسبيح يعني التنزيه، إذا قلت: سبحان الله، يعني أنني أنزه الله عن كل سوء، عن كل عيب، عن كل نقص، ولهذا كان من أسماء الله تعالى (السلام، القدوس) لأنه منزه عن كل عيب. وأضرب أمثلة: من صفات الله تعالى: الحياة ليس فيها نقص بوجه من الوجوه، وحياة المخلوق فيها نقص، أولاً: لأنها مسبوقة بالعدم فالإنسان ليس أزلياً. وثانياً: أنها ملحوقة بالفناء {كل من عليها فان} [الرحمن: 26].
مثال آخر: سمع الله عز وجل ليس فيه نقص يسمع كل شيء، حتى إن المرأة التي جاءت تشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلّم والتي ذكر الله تعالى قصتها في سورة المجادلة، كانت تُحدث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعائشة في الحجرة يخفى عليها بعض حديثها، والله تعالى يقول في كتابه: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} [المجادلة: 1]. ولهذا قالت عائشة: (الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات)(110)، إن المرأة المجادلة لتشتكي إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإنه ليخفى علي بعض حديثها. إذن معنى {سبح} نزه الله عن كل عيب ونقص.
وقوله: {اسم ربك الأعلى} قال بعض المفسرين: إن قوله {اسم ربك} يعني مسمى ربك؛ لأن التسبيح ليس للاسم بل لله نفسه، ولكن الصحيح أن معناها: سبح ربك ذاكراً اسمه، يعني لا تسبحه بالقلب فقط بل سبحه بالقلب واللسان، وذلك بذكر اسمه تعالى، ويدل لهذا المعنى قوله تعالى: {فسبح باسم ربك العظيم} [الواقعة: 96]. يعني سبح تسبيحاً مقروناً باسم، وذلك لأن تسبيح الله تعالى قد يكون بالقلب، بالعقيدة، وقد يكون باللسان، وقد يكون بهما جميعاً، والمقصود أن يسبح بهما جميعاً بقلبه لافظاً بلسانه.
وقوله {ربك} الرب معناه الخالق المالك المدبر لجميع الأمور، فالله تعالى هو الخالق، وهو المالك، وهو المدبر لجميع الأمور، والمشركون يقرون بذلك {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} [لقمان: 25]. {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} [الزخرف: 87]. وأخبر الله سبحانه وتعالى أنهم إذا سئلوا {أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله} [يونس: 31]. فهم يقرون بأن الله له الملك، وله التدبير، وله الخلق، لكن يعبدون معه غيره، وهذا من الجهل، كيف تقر بأن الله وحده هو الخالق، المالك، المدبر للأمور كلها وتعبد معه غيره!! إذن معنى الرب هو الخالق، المالك، المدبر لجميع الأمور، وكل إنسان يقر بذلك يلزمه أن لا يعبد إلا الله، كما تدل عليه الآيات الكثيرة: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم} [البقرة: 21]. قال: {اعبدوا ربكم الذي خلقكم} يعني لا تعبدون غيره.
{الأعلى} من العلو، وعلو الله عز وجل نوعان: علو صفة، وعلو ذات، أما علو الصفة: فإن أكمل الصفات لله عز وجل، قال تعالى: {ولله المثل الأعلى} [النحل: 60].
وأما علو الذات: فهو أن الله تعالى فوق عباده مستو على عرشه، والإنسان إذا قال: يا الله أين يتجه؟ يتجه إلى السماء إلى فوق، فالله جل وعلا فوق كل شيء مستو على عرشه. إذن {الأعلى} إذا قرأتها فاستشعر بنفسك أن الله عال بصفاته، وعال بذاته، ولهذا كان الإنسان إذا سجد يقول: سبحان ربي الأعلى، يتذكر بسفوله هو، لأنه هو الان نزل، فأشرف ما في الإنسان وأعلى ما في الإنسان هو وجهه ومع ذلك يجعله في الأرض التي تداس بالأقدام، فكان من الحكمة أن تقول: سبحان ربي الأعلى، يعني أنزه ربي الذي هو فوق كل شيء، لأني نزلت أنا أسفل كل شيء، فتسبح الله الأعلى بصفاته، والأعلى بذاته، وتشعر عندما تقول: سبحان ربي الأعلى، أن ربك تعالى فوق كل شيء، وأنه أكمل كل شيء في الصفات.
ثم قال: {الذي خلق فسوى}
{خلق} يعني أوجد من العدم، كل المخلوقات أوجدها الله عز وجل، قال الله تبارك وتعالى: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه} [الحج: 23]. وهو مثل عظيم، كل الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً، ولو اجتمعوا له، لو يجتمع جميع الالهة التي تعبد من دون الله وجميع السلاطين وجميع الرؤساء وجميع المهندسين على أن يخلقوا ذباباً واحداً ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ونحن في هذا العصر وقد تقدمت الصناعة هذا التقدم الهائل لو اجتمع كل هؤلاء الخلق أن يخلقوا ذباباً ما استطاعوا، حتى لو أنهم كما يقولون: صنعوا آدمياً آلياً ما يستطيعون أن يخلقوا ذبابة، هذا الادمي الالي ما هو إلا الالات تتحرك فقط، لكن لا تجوع، ولا تعطش، ولا تحتر، ولا تبرد، ولا تتحرك إلا بتحريك، الذباب لا يمكن أن يخلقه كل من سوى الله، فالله سبحانه وتعالى وحده هو الخالق وبماذا يخلق؟ بكلمة واحدة {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} [آل عمران: 59]. {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [يس: 82]. كلمة واحدة، الخلائق كلها تموت وتفنى وتأكلها الأرض، وتأكلها السباع، وتحرقها النيران، وإذا كان يوم القيامة زجرها الله زجرة واحدة أخرجي فتخرج. {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة} [النازعات: 13]. {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون} [يس: 53]. كل العالم من إنس وجن، ووحوش وحشرات وغيرها كلها يوم القيامة تحشر بكلمة واحدة. إذن فالله عز وجل وحده هو الخالق ولا أحد يخلق معه، والخلق لا يعسره ولا يعجزه وهو سهل عليه ويكون بكلمة واحدة.
وقوله {فسوى} يعني سوى ما خلقه على أحسن صورة، وعلى الصورة المتناسبة، فالإنسان مثلاً قال الله تعالى في سورة الانفطار: {الذي خلقك فسواك فعدلك. في أي صورة ما شاء ركبك} [الانفطار: 7، 8]. {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} [التين: 4]. لا يوجد في الخلائق شيء أحسن من خلقة الإنسان، رأسه فوق، وقلبه في الصدر، وعلى هيئة تامة، ولهذا أول من يدخل في قوله: {فسوى} هو تسوية الإنسان {الذي خلق فسوى} كل شيء يسوى على الوجه الذي يكون لائقاً به.
{والذي قدر فهدى} قدر كل شيء عز وجل كما قال تعالى: {وخلق كل شيء فقدره تقديراً} [الفرقان: 2]. قدره في حاله، وفي مآله، وفي ذاته، وفي صفاته، كل شيء له قدر محدود، فالآجال محدودة، والأحوال محدودة، والأجسام محدودة، وكل شيء مقدر تقديراً كما قال تعالى: {وخلق كل شيء فقدره تقديراً}.
وقوله: {فهدى} يشمل الهداية الشرعية، والهداية الكونية،
الهداية الكونية: أن الله هدى كل شيء لما خلق له، قال فرعون لموسى: {فمن ربكما يا موسى. قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه: 49، 50]. تجد كل مخلوق قد هداه الله تعالى لما يحتاج إليه، فالطفل إذا خرج من بطن أمه وأراد أن يرضع يهديه الله عز وجل إلى هذا الثدي يرتضع منه، وانظر إلى أدنى الحشرات النمل مثلاً لا تصنع بيوتها إلا في مكان مرتفع على ربوة من الأرض تخشى من السيول تدخل بيوتها فتفسدها، وإذا جاء المطر وكان في جحورها، أو في بيوتها طعام من الحبوب تخرج به إذا طلعت الشمس تنشره لئلا يعفن، وهي قبل أن تدخره تأكل أطراف الحبة لئلا تنبت فتفسد عليهم، هذا الشيء مشاهد مجرب من الذي هداها لذلك؟ إنه الله عز وجل، وهذه هداية كونية أي: أنه هدى كل مخلوق لما يحتاج إليه.
أما الهداية الشرعية ـ وهي الأهم بالنسبة لبني آدم ـ فهي أيضاً بينها الله عز وجل حتى الكفار قد هداهم الله يعني بيّـن لهم، قال الله تعالى: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} [فصلت: 17]. والهداية الشرعية هي المقصود من حياة بني آدم {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]. وإنما أخبرنا الله بذلك لأجل أن نلجأ إليه في جميع أمورنا، إذا علمنا أنه هو الخالق بعد العدم وأصابنا المرض نلجأ إلى الله لأن الذي خلقك وأوجدك من العدم قادر على أن يصح بدنك، إذاً الجأ إلى ربك، اعتمد عليه، ولا حرج أن تتناول ما أباح لك من الدواء، لكن مع اعتقاد أن هذا الدواء سبب من الأسباب جعله الله عز وجل، وإذا شفيت بهذا السبب فالذي شفاك هو الله عز وجل، هو الذي جعل هذا الدواء سبباً لشفائك، ولو شاء لجعل هذا الدواء سبباً لهلاكك، فإذا علمنا أن الله هو الخالق فنحن نلجأ في أمورنا كلها إلى الله عز وجل، إذا علمنا أنه هو الهادي فإننا نستهدي بهدايته، بشريعته حتى نصل إلى ما أعد لنا ربنا عز وجل من الكرامة.
المصدر: منتديات أحباب الاردن - من قسم: منتدى تفسير سور القران الكريم