أبو يوسف الفقيه والمفكر الاقتصادي
(يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري المعروف بأبي يوسف)
(في ذكرى وفاته : 5 ربيع الأول 182 هـ.)
ازدهر الفقه الإسلامي في مطلع العصر العباسي ازدهارا عظيما، واتسعت دائرته وتكونت مدارسة المختلفة، وزادت ثروته وأصبح عِلما قائما بذاته، وتخصص له أعلام شهد لهم التاريخ بالنبوغ والإبداع، ودُوّنت أصوله، وظهرت قواعد الاستنباط، وقوانين الاجتهاد التي يلتزمها الفقهاء، ومن يريد استنباط الأحكام من أدلة الشرع الحنيف.
وامتاز العصر العباسي بظهور عدد من الفقهاء النابغين، ذاع صِيتهم وانتشر فقههم، وصار لهم أتباع وتلاميذ ينشرون علمهم، وينتصرون لهم، ويدعون لمذهبهم بين الناس، وكان الإمام أبو يوسف أبرز تلاميذ الإمام أبي حنيفة النعمان مؤسس المذهب الحنفي، الذين قاموا بجهد هائل في نشر مذهب الحنفية ووضع أصوله.
نسبه
هو الإمام المجتهد العلامة المحدث قاضي القضاة ، أبو يوسف ، يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن حبيش بن سعد بن بُجَير بن معاوية الأنصاري الكوفي . وسعد بن بجير له صحبة ، وهو سعد ابن حبْتَة ، وهي أمه ، وهو بجلي من حلفاء الأنصار ، شهد الخندق وغيرها
النشأة
ولد يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري المعروف بأبي يوسف في الكوفة سنة (113هـ=731م)، وبها نشأ وتعلم، واتجه مبكرا إلى دراسة الحديث، فسمع أبا إسحاق الشيباني، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة، وعطاء بن السائب، ودرس المغازي على محمد بن إسحاق، صاحب السيرة النبوية المعروفة باسمه، ثم تتلمذ على عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه الكوفي المعروف، ثم اتصل بالإمام أبي حنيفة، ولازم حلقته ودروسه، غير أنه أحيانا كان ينقطع عنها؛ لاضطراره أن يعمل حتى يواجه نفقات الحياة، فلما رأى أبو حنيفة ذلك وأحزنه أن تصرف ضرورات العيش تلميذه النجيب عن طلب العلم؛ تكفله بالعيش، وأمدّه بماله حتى يفرغ تماما للدراسة.
وصُنْع أبي حنيفة مع تلميذه خليق بالإعجاب والتقدير، فهو يتحمل أعباءه المالية كما يتحمل أعباء تعليمه وتهذيبه، ويسوّي بينه وبين ولده في الإنفاق والتهذيب، وإذا كان التاريخ لا يعتد بما خلّفه أبو حنيفة من أموال وعقار، فإنه يفخر بما أنجب من تلاميذ، ملئوا الدنيا علمًا وفقهًا، وحسبك من أستاذ يكون بين تلاميذه: أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن الشيباني، وزفر، والحسن بن زياد.
ولم يكتف أبو يوسف بما حصله من علم أبي حنيفة، فرحل إلى المدينة المنورة، واتصل بعالمها المبرز الإمام مالك، فأخذ عنه الحديث والفقه، ووجد منهجًا يختلف عن منهج إمامه أبي حنيفة، فوازن بينهما وقارن، وجادل شيخه وحاجّه، ثم رجع إلى العراق مزودًا بعلم أهل المدينة، فجمع بين المدرستين: مدرسة الأثر في المدينة، ومدرسة الرأي في العراق، وقرّب بينهما، وساعده على ذلك اشتغاله برواية الحديث.
أبو يوسف قاضيا
روي عن أبي حنيفة أنه قال عن تلاميذه: أصحابنا ستة وثلاثون رجلا ، ثمانية وعشرون يصلحون للقضاء، وفيهم ستة يصلحون للفتوى، وفيهم اثنان يصلحان لتأديب القضاة وأصحاب الفتوى، وأشار إلى أبي يوسف، وزفر.
وحين استشار الإمام أبو حنيفة تلميذه أبا يوسف في قبول وظيفة القضاء ونصحه أبو يوسف بالقبول، قال له شيخه: لكأني بك قاضيا، وهي النبوءة التي قال عنها هارون الرشيد فيما بعد: إن أبا حنيفة كان ينظر بعين عقله ما لا يراه بعين رأسه.
اشتغل أبو يوسف بالقضاء في سنة (166هـ = 782م) في عهد الخليفة العباسي "المهدي"، وبلغ الغاية في عهد الخليفة "هارون الرشيد" حيث تولى منصب قاضي القضاة، وهو منصب استُحدث لأول مرة في تاريخ القضاء، وشاءت الأقدار أن يكون أبو يوسف هو أول من يشغله في التاريخ الإسلامي.
وقد أتاح هذا المنصب الجليل لأبي يوسف أن ينشر مذهبه وفقه شيخه أبي حنيفة، وجعله الفقه الرسمي بالقضاء والإفتاء والتدوين، وأتاح له الذيوع والانتشار، وصقله عمليًا، فإن القضاء فيه مواجهة لمشاكل الناس، ووضْع طرق لمعالجتها، ووقوف على الشئون العامة، ومن ثم مكّن أبو يوسف للمذهب الحنفي بأن يسود ويعم بتعيين أتباعه في كراسي القضاء، حيث كان يناط به تعيينهم في الولايات؛ باعتباره القاضي الأول في الدولة العباسية.
أبو يوسف المفكر الاقتصادي
هو أحد أبرز الشخصيات الاقتصادية في الرعيل الأول بلغت شهرته من حيث انه صاحب أبي حنيفة من جهة ، ومن خلال كتابه الخراج من جهة أخرى .
وهو احد مصادر الإيرادات العامة في الدولة الإسلامية، فقد ضمنه كثيراً من الأفكار الاقتصادية سواء ما يتعلق بالاقتصاد العام أو الاقتصاد الخاص .
وكان رائداً للاقتصاد لم يسبقه احد من العلماء . منها تغيير القيمة الحقيقية للنقود وما ينبغي عمله في تلك الحالة . تجاه عقود الائتمان التجاري وغيره .
ومسألة الاحتكار ومدى شموله لمختلف السلع.
ويعتبر قد رسم خطة للسياسة الاقتصادية للدولة التي يجب ان تسير عليها . وتكلم عن النفقات الاستثمارية كحفر الترع وتعبيد الطرق وإقامة القناطر والسدود وكري لانهار.
وبحث دراسة جدية موضوعية للمشروعات على المستوى القومي وضرورة ان يكون هناك علماء متخصصون ذوي كفاءة وامانة .
ووضع قاعدة للنفقات العامة . وقد وضح صور الاستثمار المتاحة أمام الفرد خاصة في القطاع الزراعي في التسويق والتبادل وقد بحث في المزارعة والإجارة في الأرض .
أبو يوسف مجتهدا
يتفق المؤرخون في أن أبا يوسف يعد صاحب الفضل الأكبر في نشر المذهب الحنفي، وأنه كان من أفقه أهل عصره، فهو أول من وضع في أصول الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة، وأملى المسائل، وبث علم الإمام في أقطار الأرض.
ومع اتصاله بأبي حنيفة اتصال التلميذ بالأستاذ، وأخذه الفقه عنه.. فإنه خالف إمامه في مسائل متعددة، واستقل في تفكيره عنه؛ ولذا عدّه بعض العلماء من المجتهدين المستقلين الذين يستخرجون الأحكام من الكتاب والسنة وليسوا تابعين لأحد في اجتهادهم، كالأئمة الأربعة.
.. مؤلفًاته
ترك أبي يوسف رحمه الله لمن بعضه الكنوز العظيمة والكتب الكثيرة التي دوّن فيها آراءه وآراء شيخه، والتي خلدت أسمه وأحيت ذكره على مدى العصور والأزمان , أشهرها على الإطلاق كتاب الخراج والذي يعد من أعظم كتب الفقه الإسلامي ، كان تأليفه استجابة لرسالة من هارون الرشيد إلى قاضيه أبي يوسف في أن يضع له كتابا في مالية الدولة وفق أحكام الشرع الحنيف، وقد كتب له في كتاب "الخراج": "هذه الكلمات المضيئة (وقد كتبت لك ما أمرت وشرحته لك وبينته فتفقهه وتدبره، وردد قراءته حتى تحفظه، فإني قد اجتهدت لك في ذلك ولم آلك والمسلمين نصحا")..
تضمن الكتاب بيانا بموارد الدولة على اختلافها، حسبما جاءت به الشريعة، ومصارف تلك الأموال، وتطرّق إلى بيان الطريقة المثلى لجمع تلك الأموال، وتعرض لبعض الواجبات التي يلزم بيت المال القيام بها.. وهو ما أغفله بعض الولاة.والكتاب وثيقة تاريخية مهمة في تصوير بعض الأحوال المالية والاجتماعية في هذا العصر، فهو يندد ببعض ممارسات بعض الولاة مع أهل الخراج، حيث يطالبونهم بما ليس واجبا عليهم من أموال، ويشتطون في تحصليها
ويقترح أبو يوسف في "الخراج" على الخليفة أن يجلس للنظر في مظالم الرعية مجلسا واحدا في الشهر أو الشهرين، يسمع فيه من المظلوم، وينكر على الظالم؛ حتى ينتهي الولاة عن ظلم رعيتهم، كما حثّه على أن يجيب مطالب المزارعين وأهل الخراج في كل ما فيه مصلحة لهم، كحفر الأنهار. ويلتزم بيت المال بالإنفاق على تلك المشروعات.. وخلاصة القول إن أبا يوسف وضع نظاما شاملا للخراج يتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية.
قسم الكتاب إلى عشرة أبواب كانت على التوالي:
1- في معنى الخراج.
2- فيما ورد في السنة في ذكر الخراج.
3- في أصل وضع الخراج.
4- فيما يوضع عليه الخراج من الأرضين.
5- في الخراج هل هو أجرة أو ثمن أو جزية.
6- فيما وضع عليه عمر الخراج من الأرض ثم عقد فصلاً في تقسيم أرض العنوة.
7- في مقدار الخراج.
8- في حكم تصرفات أرباب الأرض الخراجية فيها.
9- في حكم تصرفات الإمام في أرض العنوة.
10- في حكم حال الخراج ومصارفه
كما له أيضا العديد من الكتب والمؤلفات المتنوعة وقد ذكرها ابن النديم في "الفهرست"، فقال: ولأبي يوسف من الكتب في الأصول والأمالي: كتاب الصلاة، كتاب الزكاة ، كتاب الصيام، كتاب الفرائض، كتاب البيوع، كتاب الحدود… غير أن أشهر كتبه: كتاب الخراج، وقد تحدثنا عنه، وكتاب الآثار، وهو مسند لأبي حنيفة رواه أبو يوسف عنه، ويضم طائفة من الأحاديث التي اعتمد عليها أبو حنيفة في بعض ما استنبطه من أحكام وفتاوى، بالإضافة إلى مجموعة أخرى من فتاوى التابعين من فقهاء الكوفة والعراق.
"وكتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلي، وهو كتاب جمع فيه أبو يوسف مسائل اختلف فيها أبو حنيفة مع ابن أبي ليلى الفقيه الكوفي المعروف، وهو يصور ما كان يجري بين علماء ذلك العصر من دراسة عميقة للمسائل المختلفة، وعُنِي أبو يوسف فيه بذكر آراء المختلفين مدعومة بالدليل، وإن كان ينتصر كثيرا لآراء شيخه أبي حنيفة".
وكتاب الرد على سير الأوزاعي وفي هذا الكتاب يرد أبو يوسف على الأوزاعي فيما خالف فيه أبا حنيفة من أحكام الحروب، وما يتصل بها من الأمان والهدنة والأسلاب والغنائم، وينتصر لشيخه على الأوزاعي في هذه المسائل وما يتصل بها.
مكانته
قال الذهبي : الامام المجتهد قاضي القضاة بلغ من رئاسة العلم ما لا مزيد عليه .
قال محمد بن جرير الطبري : وتحامى حديثه قوم من أهل الحديث من أجل غلبة الرأي عليه وتفريعه الفروع و الأحكام مع صحبة السلطان وتقلده القضاء .
وعن هلال الرأي قال : كان ابو يوسف يحفظ التفسير ويحفظ المغازي وايام العرب ، وكان احد علومه الفقه.
قال عمار بن أبي مالك : ما كان في اصحاب ابي حنيفة مثل ابي يوسف .
قال ابن معين :ما رأيت في أصحاب الرأي أثبت في الحديث ولا أحفظ ولا أصح رواية من أبي يوسف .
وفاته:
توفي 5 من ربيع الأول 182 هـ= 21 من إبريل 798م توفي أبو يوسف وصلى عليه الخليفة هارون الرشيد، وأمر بدفنه في مقابر قريش، وسمعه السامع يوم مات يقول: اللهم إنك تعلم أنني لم أَجُر في حكم حكمت فيه بين اثنين من عبادك تعمدًا، وقد اجتهدت في الحكم بما وافق كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
مراجع الدراسة
• ابن خلكان – وفيات الأعيان – تحقيق إحسان عباس- دار الثقافة – بيروت – 1968.
• أبو الوفاء القرشي – الجواهر المضية في طبقات الحنفية – تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو – عيسي البابي الحلبي- القاهرة – 1399هـ – 1979.
• محمد أبو زهرة – أبو حنيفة حياته وعصره – دار الفكر العربي – القاهرة – 1977م.
• محمد ضياء الدين الريس- الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية – دار المعارف – القاهرة – 1969م.
(يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري المعروف بأبي يوسف)
(في ذكرى وفاته : 5 ربيع الأول 182 هـ.)
ازدهر الفقه الإسلامي في مطلع العصر العباسي ازدهارا عظيما، واتسعت دائرته وتكونت مدارسة المختلفة، وزادت ثروته وأصبح عِلما قائما بذاته، وتخصص له أعلام شهد لهم التاريخ بالنبوغ والإبداع، ودُوّنت أصوله، وظهرت قواعد الاستنباط، وقوانين الاجتهاد التي يلتزمها الفقهاء، ومن يريد استنباط الأحكام من أدلة الشرع الحنيف.
وامتاز العصر العباسي بظهور عدد من الفقهاء النابغين، ذاع صِيتهم وانتشر فقههم، وصار لهم أتباع وتلاميذ ينشرون علمهم، وينتصرون لهم، ويدعون لمذهبهم بين الناس، وكان الإمام أبو يوسف أبرز تلاميذ الإمام أبي حنيفة النعمان مؤسس المذهب الحنفي، الذين قاموا بجهد هائل في نشر مذهب الحنفية ووضع أصوله.
نسبه
هو الإمام المجتهد العلامة المحدث قاضي القضاة ، أبو يوسف ، يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن حبيش بن سعد بن بُجَير بن معاوية الأنصاري الكوفي . وسعد بن بجير له صحبة ، وهو سعد ابن حبْتَة ، وهي أمه ، وهو بجلي من حلفاء الأنصار ، شهد الخندق وغيرها
النشأة
ولد يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري المعروف بأبي يوسف في الكوفة سنة (113هـ=731م)، وبها نشأ وتعلم، واتجه مبكرا إلى دراسة الحديث، فسمع أبا إسحاق الشيباني، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة، وعطاء بن السائب، ودرس المغازي على محمد بن إسحاق، صاحب السيرة النبوية المعروفة باسمه، ثم تتلمذ على عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه الكوفي المعروف، ثم اتصل بالإمام أبي حنيفة، ولازم حلقته ودروسه، غير أنه أحيانا كان ينقطع عنها؛ لاضطراره أن يعمل حتى يواجه نفقات الحياة، فلما رأى أبو حنيفة ذلك وأحزنه أن تصرف ضرورات العيش تلميذه النجيب عن طلب العلم؛ تكفله بالعيش، وأمدّه بماله حتى يفرغ تماما للدراسة.
وصُنْع أبي حنيفة مع تلميذه خليق بالإعجاب والتقدير، فهو يتحمل أعباءه المالية كما يتحمل أعباء تعليمه وتهذيبه، ويسوّي بينه وبين ولده في الإنفاق والتهذيب، وإذا كان التاريخ لا يعتد بما خلّفه أبو حنيفة من أموال وعقار، فإنه يفخر بما أنجب من تلاميذ، ملئوا الدنيا علمًا وفقهًا، وحسبك من أستاذ يكون بين تلاميذه: أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن الشيباني، وزفر، والحسن بن زياد.
ولم يكتف أبو يوسف بما حصله من علم أبي حنيفة، فرحل إلى المدينة المنورة، واتصل بعالمها المبرز الإمام مالك، فأخذ عنه الحديث والفقه، ووجد منهجًا يختلف عن منهج إمامه أبي حنيفة، فوازن بينهما وقارن، وجادل شيخه وحاجّه، ثم رجع إلى العراق مزودًا بعلم أهل المدينة، فجمع بين المدرستين: مدرسة الأثر في المدينة، ومدرسة الرأي في العراق، وقرّب بينهما، وساعده على ذلك اشتغاله برواية الحديث.
أبو يوسف قاضيا
روي عن أبي حنيفة أنه قال عن تلاميذه: أصحابنا ستة وثلاثون رجلا ، ثمانية وعشرون يصلحون للقضاء، وفيهم ستة يصلحون للفتوى، وفيهم اثنان يصلحان لتأديب القضاة وأصحاب الفتوى، وأشار إلى أبي يوسف، وزفر.
وحين استشار الإمام أبو حنيفة تلميذه أبا يوسف في قبول وظيفة القضاء ونصحه أبو يوسف بالقبول، قال له شيخه: لكأني بك قاضيا، وهي النبوءة التي قال عنها هارون الرشيد فيما بعد: إن أبا حنيفة كان ينظر بعين عقله ما لا يراه بعين رأسه.
اشتغل أبو يوسف بالقضاء في سنة (166هـ = 782م) في عهد الخليفة العباسي "المهدي"، وبلغ الغاية في عهد الخليفة "هارون الرشيد" حيث تولى منصب قاضي القضاة، وهو منصب استُحدث لأول مرة في تاريخ القضاء، وشاءت الأقدار أن يكون أبو يوسف هو أول من يشغله في التاريخ الإسلامي.
وقد أتاح هذا المنصب الجليل لأبي يوسف أن ينشر مذهبه وفقه شيخه أبي حنيفة، وجعله الفقه الرسمي بالقضاء والإفتاء والتدوين، وأتاح له الذيوع والانتشار، وصقله عمليًا، فإن القضاء فيه مواجهة لمشاكل الناس، ووضْع طرق لمعالجتها، ووقوف على الشئون العامة، ومن ثم مكّن أبو يوسف للمذهب الحنفي بأن يسود ويعم بتعيين أتباعه في كراسي القضاء، حيث كان يناط به تعيينهم في الولايات؛ باعتباره القاضي الأول في الدولة العباسية.
أبو يوسف المفكر الاقتصادي
هو أحد أبرز الشخصيات الاقتصادية في الرعيل الأول بلغت شهرته من حيث انه صاحب أبي حنيفة من جهة ، ومن خلال كتابه الخراج من جهة أخرى .
وهو احد مصادر الإيرادات العامة في الدولة الإسلامية، فقد ضمنه كثيراً من الأفكار الاقتصادية سواء ما يتعلق بالاقتصاد العام أو الاقتصاد الخاص .
وكان رائداً للاقتصاد لم يسبقه احد من العلماء . منها تغيير القيمة الحقيقية للنقود وما ينبغي عمله في تلك الحالة . تجاه عقود الائتمان التجاري وغيره .
ومسألة الاحتكار ومدى شموله لمختلف السلع.
ويعتبر قد رسم خطة للسياسة الاقتصادية للدولة التي يجب ان تسير عليها . وتكلم عن النفقات الاستثمارية كحفر الترع وتعبيد الطرق وإقامة القناطر والسدود وكري لانهار.
وبحث دراسة جدية موضوعية للمشروعات على المستوى القومي وضرورة ان يكون هناك علماء متخصصون ذوي كفاءة وامانة .
ووضع قاعدة للنفقات العامة . وقد وضح صور الاستثمار المتاحة أمام الفرد خاصة في القطاع الزراعي في التسويق والتبادل وقد بحث في المزارعة والإجارة في الأرض .
أبو يوسف مجتهدا
يتفق المؤرخون في أن أبا يوسف يعد صاحب الفضل الأكبر في نشر المذهب الحنفي، وأنه كان من أفقه أهل عصره، فهو أول من وضع في أصول الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة، وأملى المسائل، وبث علم الإمام في أقطار الأرض.
ومع اتصاله بأبي حنيفة اتصال التلميذ بالأستاذ، وأخذه الفقه عنه.. فإنه خالف إمامه في مسائل متعددة، واستقل في تفكيره عنه؛ ولذا عدّه بعض العلماء من المجتهدين المستقلين الذين يستخرجون الأحكام من الكتاب والسنة وليسوا تابعين لأحد في اجتهادهم، كالأئمة الأربعة.
.. مؤلفًاته
ترك أبي يوسف رحمه الله لمن بعضه الكنوز العظيمة والكتب الكثيرة التي دوّن فيها آراءه وآراء شيخه، والتي خلدت أسمه وأحيت ذكره على مدى العصور والأزمان , أشهرها على الإطلاق كتاب الخراج والذي يعد من أعظم كتب الفقه الإسلامي ، كان تأليفه استجابة لرسالة من هارون الرشيد إلى قاضيه أبي يوسف في أن يضع له كتابا في مالية الدولة وفق أحكام الشرع الحنيف، وقد كتب له في كتاب "الخراج": "هذه الكلمات المضيئة (وقد كتبت لك ما أمرت وشرحته لك وبينته فتفقهه وتدبره، وردد قراءته حتى تحفظه، فإني قد اجتهدت لك في ذلك ولم آلك والمسلمين نصحا")..
تضمن الكتاب بيانا بموارد الدولة على اختلافها، حسبما جاءت به الشريعة، ومصارف تلك الأموال، وتطرّق إلى بيان الطريقة المثلى لجمع تلك الأموال، وتعرض لبعض الواجبات التي يلزم بيت المال القيام بها.. وهو ما أغفله بعض الولاة.والكتاب وثيقة تاريخية مهمة في تصوير بعض الأحوال المالية والاجتماعية في هذا العصر، فهو يندد ببعض ممارسات بعض الولاة مع أهل الخراج، حيث يطالبونهم بما ليس واجبا عليهم من أموال، ويشتطون في تحصليها
ويقترح أبو يوسف في "الخراج" على الخليفة أن يجلس للنظر في مظالم الرعية مجلسا واحدا في الشهر أو الشهرين، يسمع فيه من المظلوم، وينكر على الظالم؛ حتى ينتهي الولاة عن ظلم رعيتهم، كما حثّه على أن يجيب مطالب المزارعين وأهل الخراج في كل ما فيه مصلحة لهم، كحفر الأنهار. ويلتزم بيت المال بالإنفاق على تلك المشروعات.. وخلاصة القول إن أبا يوسف وضع نظاما شاملا للخراج يتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية.
قسم الكتاب إلى عشرة أبواب كانت على التوالي:
1- في معنى الخراج.
2- فيما ورد في السنة في ذكر الخراج.
3- في أصل وضع الخراج.
4- فيما يوضع عليه الخراج من الأرضين.
5- في الخراج هل هو أجرة أو ثمن أو جزية.
6- فيما وضع عليه عمر الخراج من الأرض ثم عقد فصلاً في تقسيم أرض العنوة.
7- في مقدار الخراج.
8- في حكم تصرفات أرباب الأرض الخراجية فيها.
9- في حكم تصرفات الإمام في أرض العنوة.
10- في حكم حال الخراج ومصارفه
كما له أيضا العديد من الكتب والمؤلفات المتنوعة وقد ذكرها ابن النديم في "الفهرست"، فقال: ولأبي يوسف من الكتب في الأصول والأمالي: كتاب الصلاة، كتاب الزكاة ، كتاب الصيام، كتاب الفرائض، كتاب البيوع، كتاب الحدود… غير أن أشهر كتبه: كتاب الخراج، وقد تحدثنا عنه، وكتاب الآثار، وهو مسند لأبي حنيفة رواه أبو يوسف عنه، ويضم طائفة من الأحاديث التي اعتمد عليها أبو حنيفة في بعض ما استنبطه من أحكام وفتاوى، بالإضافة إلى مجموعة أخرى من فتاوى التابعين من فقهاء الكوفة والعراق.
"وكتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلي، وهو كتاب جمع فيه أبو يوسف مسائل اختلف فيها أبو حنيفة مع ابن أبي ليلى الفقيه الكوفي المعروف، وهو يصور ما كان يجري بين علماء ذلك العصر من دراسة عميقة للمسائل المختلفة، وعُنِي أبو يوسف فيه بذكر آراء المختلفين مدعومة بالدليل، وإن كان ينتصر كثيرا لآراء شيخه أبي حنيفة".
وكتاب الرد على سير الأوزاعي وفي هذا الكتاب يرد أبو يوسف على الأوزاعي فيما خالف فيه أبا حنيفة من أحكام الحروب، وما يتصل بها من الأمان والهدنة والأسلاب والغنائم، وينتصر لشيخه على الأوزاعي في هذه المسائل وما يتصل بها.
مكانته
قال الذهبي : الامام المجتهد قاضي القضاة بلغ من رئاسة العلم ما لا مزيد عليه .
قال محمد بن جرير الطبري : وتحامى حديثه قوم من أهل الحديث من أجل غلبة الرأي عليه وتفريعه الفروع و الأحكام مع صحبة السلطان وتقلده القضاء .
وعن هلال الرأي قال : كان ابو يوسف يحفظ التفسير ويحفظ المغازي وايام العرب ، وكان احد علومه الفقه.
قال عمار بن أبي مالك : ما كان في اصحاب ابي حنيفة مثل ابي يوسف .
قال ابن معين :ما رأيت في أصحاب الرأي أثبت في الحديث ولا أحفظ ولا أصح رواية من أبي يوسف .
وفاته:
توفي 5 من ربيع الأول 182 هـ= 21 من إبريل 798م توفي أبو يوسف وصلى عليه الخليفة هارون الرشيد، وأمر بدفنه في مقابر قريش، وسمعه السامع يوم مات يقول: اللهم إنك تعلم أنني لم أَجُر في حكم حكمت فيه بين اثنين من عبادك تعمدًا، وقد اجتهدت في الحكم بما وافق كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
مراجع الدراسة
• ابن خلكان – وفيات الأعيان – تحقيق إحسان عباس- دار الثقافة – بيروت – 1968.
• أبو الوفاء القرشي – الجواهر المضية في طبقات الحنفية – تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو – عيسي البابي الحلبي- القاهرة – 1399هـ – 1979.
• محمد أبو زهرة – أبو حنيفة حياته وعصره – دار الفكر العربي – القاهرة – 1977م.
• محمد ضياء الدين الريس- الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية – دار المعارف – القاهرة – 1969م.