من أجمل الأمثال والحكايات التي قيلت عن الدنيا
المرجع : كتاب كليلة ودمنة- وضعه بيدباء كبير حكماء الهند
وترجمه من الفهلوية إلى العربية
عبدالله بن المقفع
موسسة المعارف - بيروت
قال بزرجمهر بن البختكان على لسان برزويه رأس أطباء فارس (فلما فكرت في الدنيا وأمورها وأن الإنسان هو أشرف الخلق فيها وأفضله, ثم هو لا يتقلب إلا في الشرور والهموم عرفت أنه ليس إنسان ذو عقل يعلم ذلك ثم لا يحتال لنفسه في النجاة, فعجبت من ذلك كل العجب, ثم نظرت فإذا الإنسان لا يمنعه عن الاحتيال لنفسه إلا لذة صغيرة حقيرة غير كبيرة من الشم والذوق والنظر والسمع واللمس , فعله يصيب منها الطفيف أو يقتني منها اليسير فإذا ذلك يشغله ويذهب به عن الاهتمام لنفسه وطلب النجاة لها.
فالتمس للإنسان مثلاً, فإذا مثله مثل رجل نجا من خوف فيل هائج إلى بئر فتدلى فيها, وتعلق بغصنين كانا على سمائها, فوقعت رجلاه على شئ في طي البئر, فإذا حيات أربع قد أخرجن رؤوسهن من أحجارهن ثم نظر فإذا في قاع البئر تنين, فاتح فاه منتظر له ليقع فيأخذه , فرفع بصره إلى الغصنين فإذا في أصلهما جرذان أسود وأبيض وهما يقرضان الغصنين, دائبين لا يفتران, فبينما هو في النظر لأمره والأهتمام لنفسه, إذ أبصر قريباً منه كوارة (خلية نحل) فيها عسل نحل, فذاق العسل فشغلته حلاوته وألهته لذته عن الفكرة في شئ من أمره, وأن يلتمس الخلاص لنفسه, ولم يذكر أن رجليه على حيات أربع لا يدري متى يقع عليهن ولم يذكر أن الجرذين دائبان في قطع الغصنين ومتى النقطعا وقع على التنين, فلم يزل لا هياً غافلاً مشغولا بتلك الحلاوة حتى سقط في فم التنين فهلك.
فشبهت بالبئر الدنيا المملوءة آفات وشرورا ومخافات وعاهات, وشبهت بالحيات الأربع الأخلاط الأربعة التي في البدن فإنها متى هاجت أو أحدها كانت كحمة الأفاعي والسم المميت, وشبهت بالغصنين الأجل الذي لا بد من انقطاعه, وشبهت بالجرذين الأسود والأبيض, الليل والنهار اللذين هما دائبان في إفناء الأجل, وشبهت بالتنين المصير الذي لا بد منه , وشبهت بالعسل هذه الحلاوة القليلة التي ينال منها الإنسان فيطعم ويسمع ويشم ويلمس , ويتشاغل من نفسه ويلهو عن شأنه, ويصد عن سبيل قصده , فحينئذ صار أمري إلى الرضا بحالي وإصلاح ما استطعت أصلاحه من عملي لعلي أصادف باقي أيامي زماناً أصيب فيه دليلا على هدأي, وسلطانا على نفسي, وقواما لأمري فأقمت على هذا الحال.