الصورة |
د. مبارك المصري النظيف
أستاذ أصول الفقه الإسلامي __ كلية الشريعة
مدير إدارة البرامج __ كلية المجتمع
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
الحمد لله ربّ العالمين ، وأصلي وأسلّم صلاةً وتسليماً يليقان بمقام أمير الأنبياء وإمام المرسلين ، سيّدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه والتابعين إلى يوم الدين. وبعد:
أحبتي القرّاء الفضلاء ما أسعد وأروع أن نلتقيكم عبر هذه الوقفات مع فقه النوازل ويتجدّد اللقاء بكم مع تجدّد الترحيب ، الله أسأل أن يوفّقنا ليكون العلمُ مقروناً بالعمل ، وفي هذا العدد نستعرض معكم خطوات وضوابط دراسة النازلة:
فهنالك آداب وضوابط ينبغي أن يراعيها مجتهد النوازل المعاصرة ، وهي قسمان:
الأول: ما يحتاجه قبل الحكم في النازلة ، والثاني: ما يحتاجه أثناء البحث والاجتهاد في حكم النازلة .
القسم الأول: أهم الضوابط التي يحتاجها المجتهد قبل الحكم في النازلة:
أولاً : التأكّد من وقوعها:
الأصل في النازلة أن تقع فعلاً، وعلى المجتهد أن يتأكّد من وقوعها ، ولا ينظر في المسائل الغريبة والنادرة المستبعدة في الواقع ؛ لأن النظر فيها لا ينفع ، ولكن إذا كانت المسألة متوقعاً ًحصولها عقلاً ؛ فيستحب البحث والاجتهاد فيها ؛ من أجل البيان ومعرفة حكمها إذا نزلت.
ثانياً : أن تكون النازلة من المسائل التي يسوغ النظر فيها:
للمجتهد أن يعرف ما يسوغ النظر فيه من المسائل وما لا يسوغ ؛ فالضابط الذي ينبغي أن يراعيه المجتهد ألا يشغل نفسه وغيره من أهل العلم إلا بما ينفع الناس ويحتاجون إليه في واقع دينهم ودنياهم .
ويمكن إبراز ما يسـوغ للمجتهد أن ينظر فيه من النوازل في النقاط الآتية:ـ
1/ أن تكون هذه المسألة المُجتهَد فيها غير منصوصٍ عليها بنصٍ قاطعٍ ، أو مُجمع عليها .
2/ أن يكون النص الوارد في هذه المسألة – إن ورد فيها نصٌ – محتملاً قابلاً للتأويل .
3/ أن تكون المسألة متردّدة بين طرفين وَضَحَ في كلِّ واحدٍ منهما مقصد الشارع في الإثبات في أحدهما والنفي في الآخر.
4/ أن لا تكون المسألة المُجتَهَد فيها من مسائل أصول العقيدة والتوحيد أو في المتشابه من القرآن والسنَّة .
5/ أن تكون المسألة المُجتَهَد فيها من النوازل ، أو مما يمكن وقوعها في الغالب والحاجة إليها ماسة.
ثالثاً : فهم النازلة فهماً دقيقا:ً
أعني تكييف النازلة تكييفاً فقهياً ؛ وهذا التكييف يفيد في تحديد مسار البحث بتعيين مصادره المُعِينة في معرفة الحكم ؛ كما أنه يضيِّق دائرة البحث في المصادر والمراجع الواسعة.
فلا بُدّ للمجتهد من فهم النازلة فهماً دقيقاً وتصوُّرها تصوٌّراً صحيحاً قبل البدء في بحث حكمها ؛ لأنّ الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوُّره ، ولأن فقه النوازل من أدق مسائل الفقه ، فلا بد حينئذ من تَفَهُّم المسألة من جميع جوانبها ، والتعرُّف على جميع أبعادها وظروفها وأصولها وفروعها ومصطلحاتها وغير ذلك .
ولأهمية هذا الضابط جاء في كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما ما يؤكد ضرورة الفهم الدقيق للواقعة حيث جاء فيه: ( … ثم الفهم الفهم فيما أُدْلِي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة ، ثم قايس الأمور عند ذلك ، واعرف الأمثال ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق ).
والفهم هنا نوعان: فهم الواقع وإحاطته وهو ما يسمى بالمقتضى العصري ، وفهم الواجب في الواقع وهو الحكم الشرعي .
ومما ينبغي أن يتفطّن له المجتهد التبيّن من مقصود السائل أو المستفتي وطلب المزيد من الإيضاح والاستفصال منه ؛ وذلك حين لا يفهم المفتي صورة النازلة كما يجب ، من أجل التعرف السليم على الحكم الشرعي الذي تندرج تحته تلك النازلة . فالمقصود أن يتنبه المفتي على وجوب الفهم الكامل للنازلة والاستفصال وإلاّ هلك وأهلك.
رابعاً : التثبت والتحري واستشارة أهل الاختصاص:
يجب على المجتهد مراعاة زيادة التثبت والتحري للمسألة وعدم الاستعجال في الحكم عليها ، والتأنّي في نظره لها فقد يطرأ ما يغيّر واقع المسألة ، فإذا أفتى من خلال نظرٍ قاصرٍ أو قلة بحثٍ وتثبتٍ وتروٍ فقد يخطئ الصواب ويقع في محذور يزلّ فيه خلق كثير(.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤيد التثبت والتحري في الفُتيا والاجتهاد ؛ ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( من أفتى بفُتيا غير ثبت ، فإنما إثمه على من أفتاه ) رواه أحمد ، والحاكم وصححه. وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام : ( أجرأكم على الفُتيا أجرأكم على النار ) أخرجه الدارمي في سننه.
ومما ينبغي أن يراعيه مجتهد النوازل بعد التثبت والتحري استشارة أهل الاختصاص ، وخصوصاً في النوازل المعاصرة المتعلقة بأبواب الطب والاقتصاد والفلك وغير ذلك ، والرجوع إلى علمهم في مثل تلك التخصُّصات ، عملاً بقوله تعالى :﴿ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾.[ سورة النحل: 43]
فإن كانت النازلة متعلقة بالطب مثلاً ، وجب الرجوع إلى أهل الطب والاستيضاح منهم ، وإن كانت النازلة متعلقة بالاقتصاد والمال فيُرجَعُ لأصحاب الاختصاص ، لأنه لا يستطيع المجتهد أن يعطي فتوى صحيحة بالحِلِّ أو الحُرمة إلا بالرجوع إليهم. وإن الاجتهاد الجماعي في عصرنا هذا المتمثل في المجامع الفقهية وهيئات الإفتاء الشرعية ومراكز البحث العلمي لتُحقق الدور المنشود والهدف المقصود الذي ينبغي للمفتي أو المجتهد مراعاته والالتزام به لتتسع دائرة العلم وتزداد حلقة المشورة من أجل الحيطة والكفاية في البحث والنظر .
خامساً : الالتجاء إلى الله تعالى وسؤاله الإعانة والتوفيق:
أعني التجرد في دراسة النازلة والإخلاص لله في ذلك، والإلحاح بالدعاء وطلب الفتح من الله أن يلهمه رشده وصوابه وتوفيقه إلى السداد وإصابة الحق ، وهذا الضابط من أهم الآداب التي ينبغي أن يراعيها الناظر في النوازل ليُوفّق للصواب ويُفتَح عليه بالجواب ، وما ذلك إلا من عند الله العليم: ﴿ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [ سورة البقرة : 32 ]. وقد استحب بعض العلماء للمفتي أن يقرأ هذه الآية وكذلك قوله تعالى: ﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي*وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي ﴾ وغيرها من الأدعية والأوراد ؛ لأن من ثابر على تحقيق هذه الصلة بالله كان حرياً بالتوفيق في اجتهاده وفتواه ، وما أحوج الفقيه المفتي في عصرنا الحاضر إلى تقوية الصلة بالله والافتقار إليه حتى يكون في حمى الإيمان بالله مستعلياً ، وعن الخلق مستغنياً وبالحق والصواب موفقاً بإذن الله .
فهذه بعض الضوابط التي ينبغي للناظر والمجتهد في النوازل مراعاتها قبل البحث في حكم النازلة .
والحقيقة أن هناك ضوابط وآداب أخرى كثيرة ذكرها العلماء ـ ربما يندرج بعضها فيما ذكرنا ـ وأذكر هنا ما قاله الإمام أحمد رحمه الله: ( لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال :
1/ أن تكون له نية ، وإلا لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور .
2/ أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة .
3/ أن يكون قوياً على ما هو فيه وعلى معرفته .
5/ الكفاية وإلا مضغه الناس .
ومما سبق ، عندي أهم شيء أن يعرف المجتهد فقه حقيقة النازلة: وذلك بتصورها تصوراً واضحاً، وتصويرها تصويراً دقيقاً يدور على الإحاطة بها من جميع الجوانب، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وتحقق ذلك من ثلاثة أمور:
أ-جمع المعلومات المتعلقة بموضوع النازلة، فيعرف حقيقتها وأقسامها ونشأتها والظروف التي أحاطت بها وأسباب ظهورها وغير ذلك.
ب-الاتصال بأهل الاختصاص في موضوع النازلة.
ج-تحليل القضية المركبة إلى عناصرها الأساسية.
القسم الثاني: أهم الضوابط التي يحتاجها المجتهد أثناء البحث والاجتهاد في حكم النازلة:
أولاً: عرض النازلة على المصادر الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع ؛ كما فعل الصحابة والتابعون. وقد لا يجد الباحث نصاً صريحاً في المسألة لأنها نازلة ، ولكنه يجد دلالة النصوص عليها بالالتزام أو التضمن ، فقد يدل النص على النازلة بدلالة المفهوم.
ثانياً: عرض النازلة على أقوال الصحابة واجتهاداتهم ، فقد كان عمر رضي الله عنه ينظر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن لم يجد ، نظر في قضاء أبي بكر رضي الله عنه.
ثالثاً: البحث عن حكم النازلة في اجتهادات أئمة المذاهب الفقهية، وحينئذ؛ فللباحث حالان:
الأول: أن يجد نصاً في النازلة ذاتها، وذلك مثل: بنوك الحليب ؛ فقد تكلم ابن قدامة في المغني في كتاب الرضاع عن مسألة مشابهة جداً لهذه النازلة. وكذلك نازلة عقد التأمين؛ فقد تكلم عليها ابن عابدين الحنفي ، وهكذا .
الثاني: أن لا يجد الباحث نصاً في النازلة بذاتها لكنه يجد نصاً قريباً منها؛ فحينئذ يتمكن بواسطته من فهم النازلة ويسهل الحكم عليها.
رابعاً: البحث في قرارات المجامع الفقهية والندوات الفقهية المتخصصة، وذلك مما يسمى بالاجتهاد الجماعي، فلا بد من النظر في مثل هذه المجامع العلمية.
خامساً: البحث في الرسائل العلمية المتخصصة كرسائل الدكتوراه والماجستير في علوم الشريعة الإسلامية وخاصة فيما يتعلق بالنوازل المعاصرة.
سادساً: إذا لم يجد الباحث حكماً للنازلة فيما سبق من خطوات فإنه يعيد النظر في النازلة ثم يفترض فيها أقسام الحكم التكليفي من وجوب أو ندب أو إباحة أو كراهة أو تحريم. ويبحث في كل افتراض ما يترتب عليه من مصالح ومفاسد ويوازن بينهما مراعياً عند إجراء تلك الموازنة النظرات التالية:
أ-عدم مصادمة النصوص الشرعية.
ب-اعتبار مقاصد الشريعة الإسلامية.
ج- اعتبار أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح عند التعارض.
د-اعتبار موافقة القواعد الشرعية الكبرى.
سابعاً: إذا لم يتوصل الباحث إلى حكم شرعي في النازلة توقّف فيها، لعل الله يهيئ مِن العلماء مَن يتصدى للإفتاء فيها ، والله أعلم.
ولنا لقاء في العدد القادم