السابقون إلى الخيرات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات،أَمَرنا بالتسابق إلى الخيرات، رفعة في الدرجات، ومضاعفة في الحسنات، ومغفرة للسيئات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق جميع المخلوقات، واختار منهم أهل الطاعات وأصلحهم بالصالحات، وحفظهم من المهلكات، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله رفيع الدرجات، والسابق إلى الخيرات، صلى الله عليه كلما فاز السابقون وخسر المبطلون..
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله الذي بيده }مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{ [الشورى: 12]، }وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ{ [الزمر: 54، 55]. واغتنموا الحياة قبل الموت، والعمل قبل الفوت، والشباب قبل الهرم، والصحة قبل السقم، والغنى قبل الفقر، والفراغ قبل الشغل، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل، والكيِّس مَن دان نفسه وعَمِلَ لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني. واشتغلوا بالطاعة قبل أن تُشْغَلوا بالجزاء، وأصلحوا الأخطاء قبل أن ينقطع العمل، وحاسبوا النفس قبل أن يحاسبها غيركم، واستبقوا الخيرات قبل أن ينقطع السبق بالممات، واشكروا الله الذي جعلكم من الأمة السابقة إلى الخيرات، جَعَلَ الله لها الأجر مرتين ولغيرها من الأمم مرة واحدة. فاليهود كعامل عمل من الصباح إلى الظهر على قيراط واحد، والنصارى كعامل عمل من الظهر إلى العصر على قيراط واحد، وهذه الأمة كعامل عمل من العصر إلى المغرب على قيراطين، فلها الأجر مرتين، وضاعف الله ثوابها أضعافًا كثيرة.
من سبق هذه الأمة
فصلاة واحدة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة في غيره، وهذه المضاعفة تزيد على عبادة ست وخمسين سنة، وليلة القدر خير من ألف شهر، فالعمل الصالح فيها خير من العمل في ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر، غفر الله وزرها، إذ التائب من الذنب كمن لا ذنب له، ويفرح بتوبة التائب وهو غني عنه، ويبدِّل سيئاته حسنات. يقول تعالى: }إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا{ [الفرقان: 70]، ويقول r: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له».
ورفع لها القدر على سائر الأمم، إذ هي خير أمة أُخْرِجَت للناس. قال تعالى: }كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ{ [آل عمران: 110]، وهي أكرم الأُمم على الله تعالى، إذ توفي سبعين أمة هي أكرمها على الله تعالى. يقول r: «إنكم تتمون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله».
* وهي السابقة يوم القيامة، يقول r: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة».
* وهي السابقة إلى الجنة، فلا تدخل الجنة أُمَّة قبلها. يقول r: «نحن أول الناس دخولاً الجنة».
* وهي السابقة إلى الطاعة، إذ قالوا سمعنا وأطعنا، وقال غيرهم سمعنا وعصينا. قال تعالى: }آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ{ [البقرة: 285].
* وهي السابقة إلي تصديق الرُّسل عليهم السلام ،المؤمنة بهم، بينما كفرت الأمم الأخرى برسالة الرُّسل. قال تعالى: }وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا{ [البقرة: 143]. ويقول r: «أنتم شهداء الله في الأرض، والملائكة شهداء الله في السماء»، وفي الحديث القدسي يقول تعالى لنوح u: «هل بلغت؟ فيقول نعم. فيُقال لأمَّته: هل بَلَّغَكُم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير. فيقول: مَن يشهد لك؟ فيقول: محمد وأُمَّته. فيشهدون أنه قد بلَّغ».
* وهي السابقة إلى سفينة النجاة، وصمام أمان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يقول تعالى: }كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ{ [آل عمران: 110].
* وهي السابقة إلى الجهاد، إذ كان الصحابة يتنافسون في الجهاد، ويقترعون فيه، وكلٌّ يريد أن يخرج إليه.
يقول المقداد بن عمرو يوم بدر: «يا رسول الله، امض لِمَا أَرَاكَ الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون. ولكن: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق، لو سِرْتَ بنا إلى بِرَك الغماد لجَالَدْنَا معك».
فضل المسابقة إلى الخيرات
السابقون إلى الخيرات هم أقرب الخلق إلى الله تعالى، وفي هذا القرب شرف لهم وحفظ ورفعة عالية ومحبَّة. يقول تعالى: }وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ{ [الواقعة: 10، 11].
والسابقون إلى الخيرات هم أهل الجنة، ذلك الفضل الكبير. يقول تعالى: }وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ{ [آل عمران: 133].
ويقول تعالى: }ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ{ [فاطر: 32، 33].
والسابقون إلى الخيرات هم أولياء الله الذين }لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ{ [يونس: 62]، وهم }وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ{ [المؤمنون: 60، 61]. والسابقون هم الأقلون الأكثرون الأقلون في العدد. يقول تعالى: }ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ{ [الواقعة: 13، 14]. والأكثرون في الأجر إذ عمَّروا حياتهم بالطاعات، وتضاعفت لهم الحسنات، ورضي عنهم رب الأرض والسموات.
وقد أمرنا تعالى باستباق الخيرات. يقول تعالى: }فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ{ [البقرة: 148]، ووصف الملائكة بذلك فقال: }فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا{ [النازعات: 4]، ومن سبقهم أنهم لا يضيعون من حياتهم شيئًا، فهم يسبحون الليل والنهار لا يسأمون.
ووصف الأنبياء بالسبق إلى الخيرات، قال تعالى عن زكريا وذريَّته: }إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ{ [الأنبياء: 90].
ووصف الصحابة بالسبق إلى الخيرات فقال: }وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ{ [التوبة: 100].
وحثَّ رسول الله r على استباق الخيرات، فقال: «اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وشبابك قبل هرمك، وصحَّتـك قبل سقمك، وغِنَاك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك»، ويقول: «بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا». وقد كان r يعلِّم أصحابه السبق إلى الخيرات، ويختبرهم ليُظْهِر التنافس والتسابق في الأعمال الصالحة.
ففي ذات يوم بعد أن صلى الفجر قال لأصحابه: «مَن أصبح اليوم صائمًا؟» قال أبو بكر: أنا، قال: «من تبع اليوم منكم جنازة؟» قال أبو بكر: أنا. قال: «مَن عاد اليوم مريضًا؟» قال أبو بكر: أنا. قال: «ما اجتمعن في امرئ إلا دَخَلَ الجنة».
وقد سبق أبو بكر إلى التصديق بالرسالة، فسُمِّي الصدِّيق، وسَبَقَ إلى النفقة، إذ أنفق ماله كله في سبيل الله عند الهجرة، ولم يبق لأهله شيئا، وأنفق ماله كله في غزوة العسرة حتى قال عمر: اليوم أسبق أبا بكر، فأنفق نصف ماله، ثم قال: اليوم أسبقك يا أبا بكر. قال: كم أنفقت؟ قال: نصف مالي. قال أبو بكر: أما أنا فأنفقت مالي كله. قال: والله لا أسبقك بعد اليوم.