الباب السادس عشر
في سعادة الإنسان ونزوعه إليها
في سعادة الإنسان ونزوعه إليها
من كتاب : تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين
الراغب الأصفهاني
الراغب الأصفهاني
قال بعض الحكماء: جعل الله لكل شيء كمالاً ينساق إليه طبعا، وقد هداه إلى التخصيص به تسخيراً، كما نبه الله عليه بقوله تعالى: )أعطى كل شيء خلقه ثم هدى(. وللإنسان سعادات أتيحت له وهي النعم المذكورة في قوله تعالى: )وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها( وجميع النعم والسعادات على القول المجمل ضربان ضرب دائم لا يبيد ولا يحول وهو النعم الأُخروية. وضرب يبيد ويحول وهو النعم الدنيوية. والنعم الدنيوية متى لم توصلنا إلى تلك السعادات فهي كسراب بقيعة وغرور وفتنة وعذاب كما وصفه الله تعالى في كتابه: )إنما مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناه من السماءِ.. الآية(. وما أصدق ما قال الشاعر:
إِنما الدنيا كرؤيا أفرحـت من رآها ساعةً ثم انقضت
فصل
أحد إلا وهو فازع إلى السعادة يطلبها بجهد ولكن كثيرا ما يخطيءُ فيظن ما ليس بسعادة في ذاته أنه سعادة فيغتر بها فيكون كالموصوف بقول الله تعالى: )والذين كفروا أعمالُهم كسراب بقيعة يحسبه الضمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً(. وبقوله تعالى: )أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يومٍ عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء( وقال الشاعر:
كلٌ يحاول حيلة يرجـو بـهـا دفع المضرة واجتلاب المنفعة
والمرء يغلط في تصرف حاله فلربما اختار العناء على الدعة
فصل
النعم الدنيوية إنما تكون نعمة وسعادة متى تُنُو ولت على ما يجب وكما يجب، ويجري بها على الوجه الذي لأجله خُلق، وذلك أن الله جعل الدنيا عارية ليتناول منها قدر ما يتوصل به إلأى النعم الدائمة والسعادة الحقيقية. وشرع لنا، في كل منها حكما بيَّن فيه كيف يجب أن يتناول ويتصرف فيها لكن صار الناس في تناولها فريقين: فريق يتناوله على الوجه الذي جعله الله لهم فانتفعوا به، فصار ذلك لهم نعمة وسعادة وهم الموصوفون بقوله تعالى: )الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور( وقوله عز وجل: )للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين( وقوله تعالى: )والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوأنهم في الدنيا حسنة(. فهؤلاء حيوا بها حياةً طيبة كما قال تعالى: )فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياةً طيبة( وفريق يتناولوها لا على الوجه الذي جعلها الله لهم، فركنوا إليها فصار ذلك لهم نقمة وشقاوة، فتعذبوا بها عاجلاً وآجلاً وهم الموصوفون بقوله تعالى: )إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون(.
فصل
والسعادات الأُخروية ليس لنا تصور كنهها ما دمنا في دار الدنيا ولذلك قال تعالى: )فلا تعلم نفسٌ ما أُخفي لهم من قرة أعين(. وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام عن ربه تعالى "أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت ولا أُذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر" والسبب في قصورنا عن تصورها شيئان: أحدهما أن الإنسان لا يمكن أن يعرف حقيقة الشيء وتصوره حتى يدركه بنفسه، وإذا لم يدركه ووصف له يجري مجرى صبيّ توصف له لذة الجماع فلا يمكن أن يتصور حقيقته حتى يبلغ فيباشره بنفسه. وكالأكمه توصف له المرآة. وحالنا في اللذة الأُخروية هكذا فإننا لا نتصورها على الحقيقة إلا إذا طالعناها فإذا طالعناها شغلنا الفرح والتلذذ بها عن كل ما دونها كما قال تعالى: )أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون(. والثاني أن لكل قوة من قوى النفس وجزءاً من أجزاءِ البدن لذة تختص بها لا يشاركها فيها غيرها، فلذة العين في النظر إلى ما تستحسنه، ولذة السمع في الإستماع إلأى ما يستطيبه، ولذة اللمس في لمس ما يستلذه، ولذة لوهم في تصور ما يؤمله، ولذة الخيال في تخيل ما يستحسن تصوره، ولذة الفكر في أمر مجهول عنده يتعرفه، وكل واحد من هذه القوى والأجزاءِ إذا عرض لها آفة تعوقها عن شهوتها وعن إدراك لذتهايكون كالمريض الذي لا يشتهي الماء وكان به ظمأ وإذا تناوله لم يجد له لذة كما قال الشاعر:
ومن يك ذا فم مر مريض يجد مرّا به الماء الزلالا
وإذا كان كذلك فاللذات الأُخروية هي لذات لا تدرك إلا بالعقل المحض وعقول أكثر من في هذه الدار مولهة معوقة عن إدراك حقائق اللذات الأخروية فلا تشعر بها كالخدر لآفة عرضت له فلا يحس بالسبب المؤلم. وكالمريض الذي لا يحس بالجوع وإن كان جوعه يؤذيه، ولا يشتهي الطعام إن كان فقد الطعام يضنيه، بل إنما يحس بالجوع إذا زال السبب المؤلم. وأيضاً فعقول أكثرنا ناقصة وجارية مجرى عقول الصبيان ما داموا صغاراً لا يحسون باللذات والآلام التي تعرض للرجال فيتعللون بالأباطيل والأضاليل، كذلك من كان في عقله صبياً لم يطلع على الحقائق وبالاعتبار بهم قال الله تعالى: )وما هذه الحياة الدنيا الاّ لهوٌ ولعب( وقال تعالى: )فلا تغرنَّكم الحياة الدنيا ولا يغرنَّكم بالله الغرور( ولما أراد الله تعالى أن يقرّب معرفة تلك اللذات من أفهام الكافة شبهَّها ومثَّلها لهم بأنواع ما تدركها حواسهم فقال تعالى: )مثَل الجنة التي وُعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهارٌ من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى(. ليبين للكافة طيبها بما عرفوه من طيب المطاعم وقال: )مثل الجنة التي وُعد المتقون(. ولم يقل الجنة لينبه الخاصة على أن ذلك تصوير وتمثيل، فالإنسان وإن اجتهد ما اجتهد أن يطلع على تلك السعادة فلا سبيل له إليها إلاّ على أحد وجهين:
أحدهما أن يفارق هذا الهيكل، ويخلّف وراءَه هذا المنزل فيطلع على ذلك كما قال الله تعالى: )يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً قل انتظروا وإنا منتظرون(.
والثاني أن يزيل قبل مفارقة الهيكل الأمراض النفسانية المشار إليها بوله تعالى: )في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً( وأرجاسها المشار إليها بقوله تعالى: )إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً( فيطلع من وراءِ ستر رقيق على بعض ما أعد له كما حكي عن حارثة حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم عزفت نفسي من الدنيا فكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً وأطلع على أهل الجنة يتزاورون وعلى أهل النار يتعاوَوْن فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "عرفت فالزم" وقال أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام: "لو كُشف الغِطاء ما ازددتُ يقيناً".
إِنما الدنيا كرؤيا أفرحـت من رآها ساعةً ثم انقضت
فصل
أحد إلا وهو فازع إلى السعادة يطلبها بجهد ولكن كثيرا ما يخطيءُ فيظن ما ليس بسعادة في ذاته أنه سعادة فيغتر بها فيكون كالموصوف بقول الله تعالى: )والذين كفروا أعمالُهم كسراب بقيعة يحسبه الضمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً(. وبقوله تعالى: )أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يومٍ عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء( وقال الشاعر:
كلٌ يحاول حيلة يرجـو بـهـا دفع المضرة واجتلاب المنفعة
والمرء يغلط في تصرف حاله فلربما اختار العناء على الدعة
فصل
النعم الدنيوية إنما تكون نعمة وسعادة متى تُنُو ولت على ما يجب وكما يجب، ويجري بها على الوجه الذي لأجله خُلق، وذلك أن الله جعل الدنيا عارية ليتناول منها قدر ما يتوصل به إلأى النعم الدائمة والسعادة الحقيقية. وشرع لنا، في كل منها حكما بيَّن فيه كيف يجب أن يتناول ويتصرف فيها لكن صار الناس في تناولها فريقين: فريق يتناوله على الوجه الذي جعله الله لهم فانتفعوا به، فصار ذلك لهم نعمة وسعادة وهم الموصوفون بقوله تعالى: )الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور( وقوله عز وجل: )للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين( وقوله تعالى: )والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوأنهم في الدنيا حسنة(. فهؤلاء حيوا بها حياةً طيبة كما قال تعالى: )فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياةً طيبة( وفريق يتناولوها لا على الوجه الذي جعلها الله لهم، فركنوا إليها فصار ذلك لهم نقمة وشقاوة، فتعذبوا بها عاجلاً وآجلاً وهم الموصوفون بقوله تعالى: )إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون(.
فصل
والسعادات الأُخروية ليس لنا تصور كنهها ما دمنا في دار الدنيا ولذلك قال تعالى: )فلا تعلم نفسٌ ما أُخفي لهم من قرة أعين(. وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام عن ربه تعالى "أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت ولا أُذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر" والسبب في قصورنا عن تصورها شيئان: أحدهما أن الإنسان لا يمكن أن يعرف حقيقة الشيء وتصوره حتى يدركه بنفسه، وإذا لم يدركه ووصف له يجري مجرى صبيّ توصف له لذة الجماع فلا يمكن أن يتصور حقيقته حتى يبلغ فيباشره بنفسه. وكالأكمه توصف له المرآة. وحالنا في اللذة الأُخروية هكذا فإننا لا نتصورها على الحقيقة إلا إذا طالعناها فإذا طالعناها شغلنا الفرح والتلذذ بها عن كل ما دونها كما قال تعالى: )أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون(. والثاني أن لكل قوة من قوى النفس وجزءاً من أجزاءِ البدن لذة تختص بها لا يشاركها فيها غيرها، فلذة العين في النظر إلى ما تستحسنه، ولذة السمع في الإستماع إلأى ما يستطيبه، ولذة اللمس في لمس ما يستلذه، ولذة لوهم في تصور ما يؤمله، ولذة الخيال في تخيل ما يستحسن تصوره، ولذة الفكر في أمر مجهول عنده يتعرفه، وكل واحد من هذه القوى والأجزاءِ إذا عرض لها آفة تعوقها عن شهوتها وعن إدراك لذتهايكون كالمريض الذي لا يشتهي الماء وكان به ظمأ وإذا تناوله لم يجد له لذة كما قال الشاعر:
ومن يك ذا فم مر مريض يجد مرّا به الماء الزلالا
وإذا كان كذلك فاللذات الأُخروية هي لذات لا تدرك إلا بالعقل المحض وعقول أكثر من في هذه الدار مولهة معوقة عن إدراك حقائق اللذات الأخروية فلا تشعر بها كالخدر لآفة عرضت له فلا يحس بالسبب المؤلم. وكالمريض الذي لا يحس بالجوع وإن كان جوعه يؤذيه، ولا يشتهي الطعام إن كان فقد الطعام يضنيه، بل إنما يحس بالجوع إذا زال السبب المؤلم. وأيضاً فعقول أكثرنا ناقصة وجارية مجرى عقول الصبيان ما داموا صغاراً لا يحسون باللذات والآلام التي تعرض للرجال فيتعللون بالأباطيل والأضاليل، كذلك من كان في عقله صبياً لم يطلع على الحقائق وبالاعتبار بهم قال الله تعالى: )وما هذه الحياة الدنيا الاّ لهوٌ ولعب( وقال تعالى: )فلا تغرنَّكم الحياة الدنيا ولا يغرنَّكم بالله الغرور( ولما أراد الله تعالى أن يقرّب معرفة تلك اللذات من أفهام الكافة شبهَّها ومثَّلها لهم بأنواع ما تدركها حواسهم فقال تعالى: )مثَل الجنة التي وُعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهارٌ من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى(. ليبين للكافة طيبها بما عرفوه من طيب المطاعم وقال: )مثل الجنة التي وُعد المتقون(. ولم يقل الجنة لينبه الخاصة على أن ذلك تصوير وتمثيل، فالإنسان وإن اجتهد ما اجتهد أن يطلع على تلك السعادة فلا سبيل له إليها إلاّ على أحد وجهين:
أحدهما أن يفارق هذا الهيكل، ويخلّف وراءَه هذا المنزل فيطلع على ذلك كما قال الله تعالى: )يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً قل انتظروا وإنا منتظرون(.
والثاني أن يزيل قبل مفارقة الهيكل الأمراض النفسانية المشار إليها بوله تعالى: )في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً( وأرجاسها المشار إليها بقوله تعالى: )إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً( فيطلع من وراءِ ستر رقيق على بعض ما أعد له كما حكي عن حارثة حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم عزفت نفسي من الدنيا فكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً وأطلع على أهل الجنة يتزاورون وعلى أهل النار يتعاوَوْن فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "عرفت فالزم" وقال أمير المؤمنين عليٌّ عليه السلام: "لو كُشف الغِطاء ما ازددتُ يقيناً".