الحساب أولاً، لا المراصد والأقمار
جبر بن صالح الدوسري
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى : "وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شئ فصلناه تفصيلا."
منذ خمسة عشر عاماً نشرت لي جريدة الرياض في شهر رمضان المبارك مقالا مفصلا على صفحة كاملة بشأن الدخول الخاطئ للشهر الكريم . وكان مصدر الخطأ تقويم أم القرى نظرا للطريقة الخاطئة المعمول بها سابقا حين أ دخل يوم من جمادى الآخرة إلى شهر رجب ويوم منه إلى شهر شعبان. وعند التماس الرؤية جاء من يشهد برؤية الهلال يوم التاسع والعشرين من شهر شعبان الذي كان في حقيقة الأمر اليوم الثامن والعشرين من شعبان مما تسبب في الدخول الخاطئ لشهر رمضان المبارك، غير أن شهر شوال دخل صحيحا والحمد لله بإكمال العدة. وقد طالبت آنذاك بالاستعانة بالحساب لدعم مبدأ تحري الرؤية للتأكد ما إذا كان القمر يغيب قبل الشمس أو بعدها تجنبا للأخطاء والحرج. وكان الرد هو الرفض الشديد لكنه لم يخل أيضا من إسداء النصح للمهتمين بالحساب بأنه من الأفضل أن يدعوا علم الفلك والحساب جانبا ويتجهوا إلى غيره من العلوم النافعة لأن الحساب لا يعتد به وأنه من عمل الكهنة والمنجمين وأننا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ولأن اؤلئك الذين يرون الهلال يرونه حقا وصدقا بفضل ما يملكون من قدرات خارقة تمكنهم من رؤية ما لا يستطيع غيرهم أن يراه بل إن من بينهم من يستطيع مشاهدة الهلال وهو محاق في رابعة النهار. وبالفعل كان هناك من يزعم هذا الزعم العجيب. وقد أجرت معه جريدة الرياض منذ سنوات لقاء لاستطلاع حقيقة الأمر فقال إنه تعرض في طفولته لحادث فقد على أثره قوة الإبصار فصار لا يستطيع رؤية أشعة الشمس بل كان يرى الشمس كالبدر بدون شعاع مما جعله يرى الهلال بسهولة في أواخر الشهر إلى الجانب الأيمن من الشمس دائما. وقال ذلك الشيخ رحمه الله إنه كان من أبرز من يتحرون رؤية الهلال وأكثرهم شهرة على مدى خمسين عاما! وقال إنه لم يتذكر أنه أخطأ سوى مرتين. وقد عقب على ذلك الأخ الأستاذ عبد العزيز الشمري متسائلا كيف يستطيع مشاهدة القمر وهو جسم معتم عاكس لأشعة الشمس من ليس باستطاعته مشاهدة أشعة الشمس نفسها؟ أضف إلى ذلك أن الهلال قد يكون إلى يمين الشمس أو إلى يسارها بدرجات يتفاوت عددها بين آونة وأخرى أو قد يكون الهلال أمام الشمس. هذا مثال واحد صارخ على الرؤية الوهمية الظنية المجانبة للمنطق والعلم والفهم والصواب التي طال بشأنها الحديث وكتبت حولها المقالات وبحت الأصوات وكثرت التساؤلات عبر سنوات وسنوات. إنه لأمر مبارك وجميل أن نلتزم بمبدأ الرؤية القائمة على أسس من اليقين والفهم والتثبت لا على الرؤية المتسرعة التي طالما عجلت بدخول الشهور ولا على المكانة التي يحتلها شاهد الرؤية بين قومه وعشيرته ولا على أقوال المزكين. إن متوهم الرؤية مخطئ ولو زكاه جميع من في الأرض ولو كان من أكثر الناس عدالة وثقة وصدقا وخلقا. ولا بد من القول بكل وضوح إنه لا أحد يشكك في نزاهة جميع الشهود قديما وحاضرا ولا نزاهة المزكين، فشاهد الرؤية إنسان مجتهد ربما يصيب وربما يخطئ أيضا وبخاصة إذا كانت الرؤية في غير وقتها فهو من الممكن أن يرى على امتداد بصره كوكبا مثل عطارد الذي كان موجودا في الأفق في أواخر شهر رمضان الماضي أو قد يرى نجما مثل قلب العقرب أو السماك الأعزل لأنهما قد يكونان هابطين في الأفق و في موقع مثل موقع القمر لأنهما من منازله، أو قد يرى الشاهد أي شئ آخر فيظن أنه رأى الهلال وهو خطأ إنساني لكنه لا يكتسب قوة اليقين بمجرد أن الشاهد يمتاز بصفات معينة مثل الثقة والأمانة والعدالة والصدق. المهم هو وجود الهلال حقيقة في الأفق عند تحري الرؤية لا تحت الأفق. كيف نعرف ذلك؟ نستطيع أن نعرف ذلك بكل دقة وثقة واطمئنان قبل يوم أو شهر أو عام أو حتى ألف عام أو فما فوق بالحساب ولا شئ غير الحساب على الإطلاق. لنأخذ أبسط صورة يعرفها عباد الله
جميعا على وجه البسيطة منذ بدء الخليقة وهي ظاهرة طلوع الأجرام السماوية وغروبها. ألم نأخذ بعد استخدام الحساب بأوقات مواقع الشمس خلال النهار لنستدل بها على مواقيت الصلاة؟ ألا نكتفي بالحساب بدلا من مراقبة ظهور الفجر الصادق بالنسبة لصلاة الصبح وبدلا من النظرإلى الشمس وهي على خط الزوال لمعرفة وقت أذان الظهر و بدلا من النظر إلى ظل العصا إذا كان مساويا لظلها وقت الظهر مضافا إليه ما يعادل طولها مرة واحدة، أو مرتين عند بعض المذاهب، بالنسبة لصلاة العصر؟ ثم صلاة المغرب وهي معروفة ويضاف إليها ساعة ونصف الساعة لتحديد صلاة العشاء أو عندما تكون الشمس بعد الغروب ثماني عشرة درجة تحت الأفق . ألم توضع هذه الأوقات جميعها في معادلات فلكية رياضية ولا سيما طلوع الفجر الصادق عندما تكون الشمس قبل الشروق ثماني عشرة درجة تحت الأفق وصلاة العصرالقائمة على مبدأ ظل العصا وذلك باستخدام حساب المثلثات الكروية والبرمجة؟ كيف يكون علم الفلك والحسابات الفلكية من الأمور المباحة المقبولة بالنسبة للشمس وتكون مثار ريبة وغير مقبولة، و ربما محرمة ولا يعتد بها إذا تعلق الأمر بالقمر، بل الأدهى والأمر أنها اعتبرت لدى البعض من عمل الكهنة والمنجمين؟! وأتساءل هنا ما الفرق بين حساب الشمس وحساب القمر و العلاقة بينهما وثيقة جدا وحسابهما متشابه جدا فالمولى جل جلاله يقول:"فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا." فبهما عرف الإنسان الوقت والزمن من أيام وشهور وأعوام وعرف عدد أيام الشهر وعدد الأشهر في السنة. كيف يسمح لنا أن نرفع رؤوسنا عاليا لتشق عنان السماء لتمس النجوم في غمرة الزهو والفخار إذا تعلق الأمر بأي تقدم أو رقي لكننا نصبح فجأة أمة أمية جاهلة لا بد أن تلزم الصمت وتتقوقع وتنكفئ على وجهها وتعطل كل قدراتها الخلاقة ليحل لديها العمى والجهل والظلام محل الفهم والعلم والنور إذا تعلق الأمر بالقمر وظهور الأهلة لأن كل ذلك ليس من اختصاص أصحاب البصائر بل من اختصاص ذوي الأبصار الحادة التي ترى القمر في وضح النهار وتنفذ إلى ما تحت الأفق إذا غابت الشمس وخيم الظلام لأن شهادة أحدهم مع تزكية المزكين تضعهم فوق العلم وفوق الفهم وفي منأى عن الخطأ فما أكثر ما فندت رؤيتهم للهلال مزاعم أهل الحساب! ويصدق على كل واحد منهم قول أبي الطيب المتنبي: (له خطرات تفضح الناس والكتبا).
تحاشيا لما أشرت إليه من سلبيات فالحلول سهلة جدا وأبسط مما نتصور. لو أخذنا أيضا بطلوع القمر وغروبه كما هي الحال بالنسبة للشمس لتجنبنا الكثير من العناء والغلو ولكفينا أنفسنا ملاحقة أهلة ليس لها وجود. نعم يكفينا فقط الأخذ بأوقات طلوع القمر وغروبه، ولا شئ غير ذلك، كما نفعل بالنسبة للشمس ليكون باستطاعتنا أن نعرف أن القمر موجود في الأفق أو غير موجود. لو وضعنا التشدد والتوتر والتعنت جانبا ونبذنا الأنانية والأهواء الشخصية السلبية وقبلنا براحة بال وأناة وتسامح وبكل تجرد بهذا المبدأ البسيط لأصبحت مشاكل دخول الشهور في خبر كان.
قال جل وعلا : " فلا أقسم بمواقع النجوم . وإنه لقسم لو تعلمون عظيم." تقوم الحسابات الفلكية جميعها على مواقع النجوم ويتعلق الكثير من هذه الحسابات بجانب من علم الفلك هو (علم الفلك الموضعي) الذي يبحث في مواقع الأجرام السماوية ومواقيتها مثل الشمس والقمر والكواكب والنجوم وغيرها وعلاقتها ببعضها البعض وأبعادها وزواياها والخسوف والكسوف وظهور الأهلة وتحديد اتجاه القبلة وأوقات الصلاة وأوقات دخول الفصول ودخول الشمس في البروج وطول السنين وما أخذ يطرأ عليها منذ قرون من تناقص ضئيل مستمر ومعرفة أطوال ظلال الأشياء في أي زمان ومكان والاهتداء بالنجوم ويشمل ذلك علم الملاحة الفلكية برا وبحرا وجوا وغير ذلك أمور كثيرة لا حصر لها. وتأتي نتائج هذه الحسابات دقيقة وفي غاية الإتقان. هذه هي الحسابات الفلكية التي هي علم رائع شامل عظيم يقوم على الرياضيات المتقدمة البحتة
وقوانين الفيزياء لا على الخرافات والتخرص وا لتنجيم والكهانة، وهذا هو علم الفلك الذي هو حصيلة قيمة تضاعفت وتطورت على مدى الوف السنين من المراقبة والملاحظة والدرس والذي هو من أعظم العلوم التي تدعو إلى التأمل في ملكوت السماوات وتعمق الإيمان بالخالق البارئ العظيم، وقد علمه الله الإنسان مصداقا لقوله تعالى: "علم الإنسان مالم يعلم".
لو سلطنا الضوء على القمر الذي هو موضوع بحثنا لوجدنا الحسابات الفلكية محيطة إحاطة تامة وشاملة بكل ما نود أن نعرفه عن حركة القمر في مداره حول الأرض مثل سرعته وارتفاعه ودرجات ميلانه عن مدار الأرض وعن خط الاستواء وخط طوله وفترات ابتعاده أو ا قترابه من الأرض واقترانه بالشمس أو بالكواكب والنجوم وأوقات إهلاله واكتماله وجميع مراحل زمن دورته حول الأرض وما يتعلق بأوضاع الخسوف والكسوف وذلك لأي وقت من الأوقات على مدى يوم أو عام أو ألف عام فأكثر. وما ينطبق على القمر فإنه ينطبق أيضا على غيره من الأجرام السماوية. وتأتي نتائج هذه الحسابات المتنوعة دقيقة وصحيحة، وأصدق دليل على ذلك هو تحديد أوقات حدوث ظواهر الخسوف والكسوف واقتران القمر بالأجرام السماوية الأخرى . هل حدث ذات مرة أن جاءت الحسابات خاطئة بالنسبة للطلوع والغروب والخسوف والكسوف وأوقات اقتران القمر بالشمس وبالكواكب والنجوم وعبور كوكب عطارد أو كوكب الزهرة فوق قرص الشمس؟ أقول : كلا. هذه الظواهر الفلكية تنشر أخبارها من وقت لآخر قبل أيام أو أشهر أو أعوام قبل حدوثها وتأتي كما شاء المولى جل وعلا صحيحة ومؤكدة فالخسوف، مثلا، هو وجود القمر زمن اقترانه بالشمس في حيز من القبة السماوية لا يتعدى نصف درجة وهو ما يساوي قطر قرص الشمس وقرص القمر أيضا كما نراهما ظاهريا فهل بقي الآن من يشك بعد كل هذه الشواهد والأدلة القاطعة الدامغة بقدرة الحساب على تحديد موقع القمر آخر الشهر في مساحة واسعة من الأفق الغربي؟ ما زلت أتكلم هنا في مجال علم الفلك الموضعي وفي مجال الظواهر الفلكية المعروفة منذ القدم وما تخضع له هذه الظواهر من معادلات رياضية موضوعة بدقة ومجربة ومؤكدة كل التأكيد ولست أتطرق هنا إلى نظريات علم الفلك في الثقوب السوداء وانفجار النجوم و أصل الكون وشكله وسعته وأغواره السحيقة حيث يقف العقل حائرا والقلب خاشعا إزاء ملكوت الله الشاسع الأبعاد. ورب سائل يقول: من أين تستمد الحسابات الفلكية كل هذه الدقة ؟ وأجيب قائلا: من محاكاة النظام الكوني الإعجازي الدقيق الذي يحكم حركة الأجرام السماوية جميعا الذي أوجده الخلاق العظيم. لولا هذا النظام الرباني المذهل لكانت الحسابات الفلكية ضربا من الظن والتخمين فالعبرة ليست في الحساب بل في دقة هذا النظام الإلهي وعظمته، فمن الممكن بمشيئة الله تعالى حساب ظاهرتي الخسوف والكسوف لبضعة آلاف عام سابقة أو لاحقة لا بفضل الحساب بل بفضل هذا النظام المتناهي الدقة. وباستخدام الحاسوب أو حتى الآلات الصغيرة القابلة للبرمجة تعرف أوقات حدوث هذه الظواهر في ثوان معدودات.
منذ زمن ليس بالقصير والنداءات تتعالى و تتكرر بشأن ايجاد مراصد في مناطق متعددة من المملكة لإثبات ظهور الهلال في الافق او عدم ظهوره. والحقيقة أن الحساب وحده لا بد أن يكفينا هذه المشقة وبخاصة إذا علمنا أن المراصد تحتاج بكل تأكيد الى الحساب لتحديد موقع القمر او اي جرم سماوي آخر لتتجه نحوه تلقائيا وتقع عدساتها عليه. وينطبق هذا الكلام على الاقمار الصناعية التي يقال إنه سيتم استخدامها لإثبات وجود الأهلة. يؤسفني القول إن التفكير في إطلاق أقمار صناعية لتحري رؤية الأهلة وإثبات دخول الأشهر القمرية للعالم الإسلامي هو مضيعة للوقت والمال والجهد وضرب من العبث وأمر ينطوي على الكثير من التهويل والتضخيم ما دامت ثمة وسائل موثوق بها إلى حد بعيد قادرة على القيام بالمهمة على أكمل وجه، وإلا فستكون حالنا كمن يبحث عن بيته بالدوران خارج المدينة! الأقمار الصناعية مربوطة بزمن محدد، ولا بد من
اعتمادها ولا شك على الحساب ليحدد لها المواقع كما أشرنا. أما الحساب الفلكي فغير مقيد بلحظة معينة بل هو مفتوح بعون الله تعالي من جميع الجوانب على الزمان والمكان لكل ما فات وكل ما هو حاضر وكل ما سيأتي ونتائجه دقيقة إلى أقصى حدود الدقة إلا إذا كان المراد من الأقمار الصناعية هو محاولة إقناع من يصر دائما وأبدا على الرفض و الإنكار بأن القمر كان أو سيكون في يوم من الأيام تحت الأفق كما يشير الحساب!
وبناء على ما تقدم أرى أن الحساب الفلكي يأتي في المقام الأول ويعتبر الوسيلة المؤكدة التي هي الأسهل والأجدى والأمثل والأكثر يقينا لإثبات أوقات دخول الأهلة سواء أكان ذلك للماضي أم للحاضر أم للمستقبل. والله المستعان.
جبر بن صالح الدوسري
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى : "وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شئ فصلناه تفصيلا."
منذ خمسة عشر عاماً نشرت لي جريدة الرياض في شهر رمضان المبارك مقالا مفصلا على صفحة كاملة بشأن الدخول الخاطئ للشهر الكريم . وكان مصدر الخطأ تقويم أم القرى نظرا للطريقة الخاطئة المعمول بها سابقا حين أ دخل يوم من جمادى الآخرة إلى شهر رجب ويوم منه إلى شهر شعبان. وعند التماس الرؤية جاء من يشهد برؤية الهلال يوم التاسع والعشرين من شهر شعبان الذي كان في حقيقة الأمر اليوم الثامن والعشرين من شعبان مما تسبب في الدخول الخاطئ لشهر رمضان المبارك، غير أن شهر شوال دخل صحيحا والحمد لله بإكمال العدة. وقد طالبت آنذاك بالاستعانة بالحساب لدعم مبدأ تحري الرؤية للتأكد ما إذا كان القمر يغيب قبل الشمس أو بعدها تجنبا للأخطاء والحرج. وكان الرد هو الرفض الشديد لكنه لم يخل أيضا من إسداء النصح للمهتمين بالحساب بأنه من الأفضل أن يدعوا علم الفلك والحساب جانبا ويتجهوا إلى غيره من العلوم النافعة لأن الحساب لا يعتد به وأنه من عمل الكهنة والمنجمين وأننا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ولأن اؤلئك الذين يرون الهلال يرونه حقا وصدقا بفضل ما يملكون من قدرات خارقة تمكنهم من رؤية ما لا يستطيع غيرهم أن يراه بل إن من بينهم من يستطيع مشاهدة الهلال وهو محاق في رابعة النهار. وبالفعل كان هناك من يزعم هذا الزعم العجيب. وقد أجرت معه جريدة الرياض منذ سنوات لقاء لاستطلاع حقيقة الأمر فقال إنه تعرض في طفولته لحادث فقد على أثره قوة الإبصار فصار لا يستطيع رؤية أشعة الشمس بل كان يرى الشمس كالبدر بدون شعاع مما جعله يرى الهلال بسهولة في أواخر الشهر إلى الجانب الأيمن من الشمس دائما. وقال ذلك الشيخ رحمه الله إنه كان من أبرز من يتحرون رؤية الهلال وأكثرهم شهرة على مدى خمسين عاما! وقال إنه لم يتذكر أنه أخطأ سوى مرتين. وقد عقب على ذلك الأخ الأستاذ عبد العزيز الشمري متسائلا كيف يستطيع مشاهدة القمر وهو جسم معتم عاكس لأشعة الشمس من ليس باستطاعته مشاهدة أشعة الشمس نفسها؟ أضف إلى ذلك أن الهلال قد يكون إلى يمين الشمس أو إلى يسارها بدرجات يتفاوت عددها بين آونة وأخرى أو قد يكون الهلال أمام الشمس. هذا مثال واحد صارخ على الرؤية الوهمية الظنية المجانبة للمنطق والعلم والفهم والصواب التي طال بشأنها الحديث وكتبت حولها المقالات وبحت الأصوات وكثرت التساؤلات عبر سنوات وسنوات. إنه لأمر مبارك وجميل أن نلتزم بمبدأ الرؤية القائمة على أسس من اليقين والفهم والتثبت لا على الرؤية المتسرعة التي طالما عجلت بدخول الشهور ولا على المكانة التي يحتلها شاهد الرؤية بين قومه وعشيرته ولا على أقوال المزكين. إن متوهم الرؤية مخطئ ولو زكاه جميع من في الأرض ولو كان من أكثر الناس عدالة وثقة وصدقا وخلقا. ولا بد من القول بكل وضوح إنه لا أحد يشكك في نزاهة جميع الشهود قديما وحاضرا ولا نزاهة المزكين، فشاهد الرؤية إنسان مجتهد ربما يصيب وربما يخطئ أيضا وبخاصة إذا كانت الرؤية في غير وقتها فهو من الممكن أن يرى على امتداد بصره كوكبا مثل عطارد الذي كان موجودا في الأفق في أواخر شهر رمضان الماضي أو قد يرى نجما مثل قلب العقرب أو السماك الأعزل لأنهما قد يكونان هابطين في الأفق و في موقع مثل موقع القمر لأنهما من منازله، أو قد يرى الشاهد أي شئ آخر فيظن أنه رأى الهلال وهو خطأ إنساني لكنه لا يكتسب قوة اليقين بمجرد أن الشاهد يمتاز بصفات معينة مثل الثقة والأمانة والعدالة والصدق. المهم هو وجود الهلال حقيقة في الأفق عند تحري الرؤية لا تحت الأفق. كيف نعرف ذلك؟ نستطيع أن نعرف ذلك بكل دقة وثقة واطمئنان قبل يوم أو شهر أو عام أو حتى ألف عام أو فما فوق بالحساب ولا شئ غير الحساب على الإطلاق. لنأخذ أبسط صورة يعرفها عباد الله
جميعا على وجه البسيطة منذ بدء الخليقة وهي ظاهرة طلوع الأجرام السماوية وغروبها. ألم نأخذ بعد استخدام الحساب بأوقات مواقع الشمس خلال النهار لنستدل بها على مواقيت الصلاة؟ ألا نكتفي بالحساب بدلا من مراقبة ظهور الفجر الصادق بالنسبة لصلاة الصبح وبدلا من النظرإلى الشمس وهي على خط الزوال لمعرفة وقت أذان الظهر و بدلا من النظر إلى ظل العصا إذا كان مساويا لظلها وقت الظهر مضافا إليه ما يعادل طولها مرة واحدة، أو مرتين عند بعض المذاهب، بالنسبة لصلاة العصر؟ ثم صلاة المغرب وهي معروفة ويضاف إليها ساعة ونصف الساعة لتحديد صلاة العشاء أو عندما تكون الشمس بعد الغروب ثماني عشرة درجة تحت الأفق . ألم توضع هذه الأوقات جميعها في معادلات فلكية رياضية ولا سيما طلوع الفجر الصادق عندما تكون الشمس قبل الشروق ثماني عشرة درجة تحت الأفق وصلاة العصرالقائمة على مبدأ ظل العصا وذلك باستخدام حساب المثلثات الكروية والبرمجة؟ كيف يكون علم الفلك والحسابات الفلكية من الأمور المباحة المقبولة بالنسبة للشمس وتكون مثار ريبة وغير مقبولة، و ربما محرمة ولا يعتد بها إذا تعلق الأمر بالقمر، بل الأدهى والأمر أنها اعتبرت لدى البعض من عمل الكهنة والمنجمين؟! وأتساءل هنا ما الفرق بين حساب الشمس وحساب القمر و العلاقة بينهما وثيقة جدا وحسابهما متشابه جدا فالمولى جل جلاله يقول:"فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا." فبهما عرف الإنسان الوقت والزمن من أيام وشهور وأعوام وعرف عدد أيام الشهر وعدد الأشهر في السنة. كيف يسمح لنا أن نرفع رؤوسنا عاليا لتشق عنان السماء لتمس النجوم في غمرة الزهو والفخار إذا تعلق الأمر بأي تقدم أو رقي لكننا نصبح فجأة أمة أمية جاهلة لا بد أن تلزم الصمت وتتقوقع وتنكفئ على وجهها وتعطل كل قدراتها الخلاقة ليحل لديها العمى والجهل والظلام محل الفهم والعلم والنور إذا تعلق الأمر بالقمر وظهور الأهلة لأن كل ذلك ليس من اختصاص أصحاب البصائر بل من اختصاص ذوي الأبصار الحادة التي ترى القمر في وضح النهار وتنفذ إلى ما تحت الأفق إذا غابت الشمس وخيم الظلام لأن شهادة أحدهم مع تزكية المزكين تضعهم فوق العلم وفوق الفهم وفي منأى عن الخطأ فما أكثر ما فندت رؤيتهم للهلال مزاعم أهل الحساب! ويصدق على كل واحد منهم قول أبي الطيب المتنبي: (له خطرات تفضح الناس والكتبا).
تحاشيا لما أشرت إليه من سلبيات فالحلول سهلة جدا وأبسط مما نتصور. لو أخذنا أيضا بطلوع القمر وغروبه كما هي الحال بالنسبة للشمس لتجنبنا الكثير من العناء والغلو ولكفينا أنفسنا ملاحقة أهلة ليس لها وجود. نعم يكفينا فقط الأخذ بأوقات طلوع القمر وغروبه، ولا شئ غير ذلك، كما نفعل بالنسبة للشمس ليكون باستطاعتنا أن نعرف أن القمر موجود في الأفق أو غير موجود. لو وضعنا التشدد والتوتر والتعنت جانبا ونبذنا الأنانية والأهواء الشخصية السلبية وقبلنا براحة بال وأناة وتسامح وبكل تجرد بهذا المبدأ البسيط لأصبحت مشاكل دخول الشهور في خبر كان.
قال جل وعلا : " فلا أقسم بمواقع النجوم . وإنه لقسم لو تعلمون عظيم." تقوم الحسابات الفلكية جميعها على مواقع النجوم ويتعلق الكثير من هذه الحسابات بجانب من علم الفلك هو (علم الفلك الموضعي) الذي يبحث في مواقع الأجرام السماوية ومواقيتها مثل الشمس والقمر والكواكب والنجوم وغيرها وعلاقتها ببعضها البعض وأبعادها وزواياها والخسوف والكسوف وظهور الأهلة وتحديد اتجاه القبلة وأوقات الصلاة وأوقات دخول الفصول ودخول الشمس في البروج وطول السنين وما أخذ يطرأ عليها منذ قرون من تناقص ضئيل مستمر ومعرفة أطوال ظلال الأشياء في أي زمان ومكان والاهتداء بالنجوم ويشمل ذلك علم الملاحة الفلكية برا وبحرا وجوا وغير ذلك أمور كثيرة لا حصر لها. وتأتي نتائج هذه الحسابات دقيقة وفي غاية الإتقان. هذه هي الحسابات الفلكية التي هي علم رائع شامل عظيم يقوم على الرياضيات المتقدمة البحتة
وقوانين الفيزياء لا على الخرافات والتخرص وا لتنجيم والكهانة، وهذا هو علم الفلك الذي هو حصيلة قيمة تضاعفت وتطورت على مدى الوف السنين من المراقبة والملاحظة والدرس والذي هو من أعظم العلوم التي تدعو إلى التأمل في ملكوت السماوات وتعمق الإيمان بالخالق البارئ العظيم، وقد علمه الله الإنسان مصداقا لقوله تعالى: "علم الإنسان مالم يعلم".
لو سلطنا الضوء على القمر الذي هو موضوع بحثنا لوجدنا الحسابات الفلكية محيطة إحاطة تامة وشاملة بكل ما نود أن نعرفه عن حركة القمر في مداره حول الأرض مثل سرعته وارتفاعه ودرجات ميلانه عن مدار الأرض وعن خط الاستواء وخط طوله وفترات ابتعاده أو ا قترابه من الأرض واقترانه بالشمس أو بالكواكب والنجوم وأوقات إهلاله واكتماله وجميع مراحل زمن دورته حول الأرض وما يتعلق بأوضاع الخسوف والكسوف وذلك لأي وقت من الأوقات على مدى يوم أو عام أو ألف عام فأكثر. وما ينطبق على القمر فإنه ينطبق أيضا على غيره من الأجرام السماوية. وتأتي نتائج هذه الحسابات المتنوعة دقيقة وصحيحة، وأصدق دليل على ذلك هو تحديد أوقات حدوث ظواهر الخسوف والكسوف واقتران القمر بالأجرام السماوية الأخرى . هل حدث ذات مرة أن جاءت الحسابات خاطئة بالنسبة للطلوع والغروب والخسوف والكسوف وأوقات اقتران القمر بالشمس وبالكواكب والنجوم وعبور كوكب عطارد أو كوكب الزهرة فوق قرص الشمس؟ أقول : كلا. هذه الظواهر الفلكية تنشر أخبارها من وقت لآخر قبل أيام أو أشهر أو أعوام قبل حدوثها وتأتي كما شاء المولى جل وعلا صحيحة ومؤكدة فالخسوف، مثلا، هو وجود القمر زمن اقترانه بالشمس في حيز من القبة السماوية لا يتعدى نصف درجة وهو ما يساوي قطر قرص الشمس وقرص القمر أيضا كما نراهما ظاهريا فهل بقي الآن من يشك بعد كل هذه الشواهد والأدلة القاطعة الدامغة بقدرة الحساب على تحديد موقع القمر آخر الشهر في مساحة واسعة من الأفق الغربي؟ ما زلت أتكلم هنا في مجال علم الفلك الموضعي وفي مجال الظواهر الفلكية المعروفة منذ القدم وما تخضع له هذه الظواهر من معادلات رياضية موضوعة بدقة ومجربة ومؤكدة كل التأكيد ولست أتطرق هنا إلى نظريات علم الفلك في الثقوب السوداء وانفجار النجوم و أصل الكون وشكله وسعته وأغواره السحيقة حيث يقف العقل حائرا والقلب خاشعا إزاء ملكوت الله الشاسع الأبعاد. ورب سائل يقول: من أين تستمد الحسابات الفلكية كل هذه الدقة ؟ وأجيب قائلا: من محاكاة النظام الكوني الإعجازي الدقيق الذي يحكم حركة الأجرام السماوية جميعا الذي أوجده الخلاق العظيم. لولا هذا النظام الرباني المذهل لكانت الحسابات الفلكية ضربا من الظن والتخمين فالعبرة ليست في الحساب بل في دقة هذا النظام الإلهي وعظمته، فمن الممكن بمشيئة الله تعالى حساب ظاهرتي الخسوف والكسوف لبضعة آلاف عام سابقة أو لاحقة لا بفضل الحساب بل بفضل هذا النظام المتناهي الدقة. وباستخدام الحاسوب أو حتى الآلات الصغيرة القابلة للبرمجة تعرف أوقات حدوث هذه الظواهر في ثوان معدودات.
منذ زمن ليس بالقصير والنداءات تتعالى و تتكرر بشأن ايجاد مراصد في مناطق متعددة من المملكة لإثبات ظهور الهلال في الافق او عدم ظهوره. والحقيقة أن الحساب وحده لا بد أن يكفينا هذه المشقة وبخاصة إذا علمنا أن المراصد تحتاج بكل تأكيد الى الحساب لتحديد موقع القمر او اي جرم سماوي آخر لتتجه نحوه تلقائيا وتقع عدساتها عليه. وينطبق هذا الكلام على الاقمار الصناعية التي يقال إنه سيتم استخدامها لإثبات وجود الأهلة. يؤسفني القول إن التفكير في إطلاق أقمار صناعية لتحري رؤية الأهلة وإثبات دخول الأشهر القمرية للعالم الإسلامي هو مضيعة للوقت والمال والجهد وضرب من العبث وأمر ينطوي على الكثير من التهويل والتضخيم ما دامت ثمة وسائل موثوق بها إلى حد بعيد قادرة على القيام بالمهمة على أكمل وجه، وإلا فستكون حالنا كمن يبحث عن بيته بالدوران خارج المدينة! الأقمار الصناعية مربوطة بزمن محدد، ولا بد من
اعتمادها ولا شك على الحساب ليحدد لها المواقع كما أشرنا. أما الحساب الفلكي فغير مقيد بلحظة معينة بل هو مفتوح بعون الله تعالي من جميع الجوانب على الزمان والمكان لكل ما فات وكل ما هو حاضر وكل ما سيأتي ونتائجه دقيقة إلى أقصى حدود الدقة إلا إذا كان المراد من الأقمار الصناعية هو محاولة إقناع من يصر دائما وأبدا على الرفض و الإنكار بأن القمر كان أو سيكون في يوم من الأيام تحت الأفق كما يشير الحساب!
وبناء على ما تقدم أرى أن الحساب الفلكي يأتي في المقام الأول ويعتبر الوسيلة المؤكدة التي هي الأسهل والأجدى والأمثل والأكثر يقينا لإثبات أوقات دخول الأهلة سواء أكان ذلك للماضي أم للحاضر أم للمستقبل. والله المستعان.