القضاء التجاري في ظل النظام القضائي الجديد
(الجزء الأول)
الدكتور عدلي حماد
مبحث تمهيدي :
تعريف القضاء وأهميته
أولاً : تعريف القضاء :
القضاء كلمة مشتركة ذات معان مختلفة ، ولها استعمالات عدة ، منها : القضاء بمعنى إحكام الشيء وإمضائه ، وبمعنى الفراغ من الشيء ، وبمعنى الإلزام والأمر ، وبمعنى الأداء والإنهاء ، وبمعنى الحكم أي المنع ، وهذا هو المراد هنا ، ومنه قضيت على السفيه : أي حكمت عليه ، وأخذت على يديه ، ومنعته من التصرف ، وسمي القاضي حاكماً لمنعه الظالم عن ظلمه ، ومنه قولهم : قضى الحاكم ، أي وضع الحق في أهله ، ومـنع مـن ليس أهلاً ، كما سمي القضاء حكماً ، لما فيه من الحكمة التي توجب وضع الشيء في محله .[1]
كما أن للقضاء معان أخرى ، مثل : قضى الشيء : قدره وصنعه ، وقضى أجله ، أي :بلغهُ، وقضى نَحـْبه ،أي: مات ، وقضى بمعنى أوجب والمراد هنا أن القضاء هو الحكم لغة.
وعرف الفقهاء القضاء تعريفات كثيرة ، ولكنها متشابه ، وكلها ترجع إلى معنى واحد،
وتشترك هذه التعريفات ببيان الأمور الآتية : [2]
1- أن القضاء هو الإخبار عن حكم الله –تعالى– في القضية والدعوى ، وهو إظهار المدعى به بين الخصمين، فالقاضي مخبر عن الحكم الشرعي ، ومظهر له ، وليس منشئاً لحكم من عنده ، ومثله في ذلك المفتي .
2- أن حكم القاضي ملزم للطرفين ، وإخباره بالحكم يكون على سبيل الإلزام بالتنفيذ، وهذا ما يميز القاضي عن المفتي ، والمحكّم ، وهذا الإلزام مستمد من السلطة القضائية التي تعد جزءاً من سلطة الدولة .
3- أن الغاية والهدف من وجود القضاء هو الفصل بين الخصومات ، وقطع المنازعات ، وهذا لا يتم – ضمناً – إلا بالسلطة الملزمة ، وقوة القضاء المستمدة من الدولة .
4- أكـدت جميع التعريفات أن حكم القاضي حكم شرعي، مستمد من الكتاب والسنة، بالنص أو بالاجتهاد، وبقية المصادر الشرعية التي تسعى لإقامة شرع الله ودينه لإصلاح الفرد والمجتمع، تنفيذاً لقول الله تعالى: { وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} المائدة/44 ، وقوله تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} المائدة/45، { فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} المائدة/47 .
ثانياً : أهمية القضاء :
من الثابت أن أحكام القضاء احد أقسام الشريعة الإسلامية ، وينطبق عليه ما ينطبق على الشريعة عامة من الصفات والخصائص والميزات ، والقضاء باب من أبواب الفقه الإسلامي الذي يعرضه الفقهاء فـي كتب الفقه المختلفة في جميع المذاهب .
ويهدف القضاء إلى إقامة العدل ، وتحقيق القسط ، وحفظ الحقوق والأموال والأنفس والأعراض ، وحفظ الآداب العامة ، وتطبيق أحكام الشرع ، ويقيم حدود الله تعالى ، ويصون القيم والأخلاق ، ويمنع العدوان والظلم والبغي بمختلف أشكاله وأنواعه، ليعيش الناس في الدنيا بأمان وسعادة .
ولما كانت غاية الشريعة أن يمارس كل إنسان حقه ، ويحافظ على حقوق الآخرين ، ، فقد تكفلت في وضع الضوابط لاكتسابها واستعمالها والتصرف فيها ، ووضع الحدود، بحيث لا يطغى فرد على آخر ، ولا يسيء مسلم في حق أخيه ، ولا يتجاوز الحد في حقه ، ولا يتعسف فيه ، وبذلك يعرف كل إنسان ما له وما عليه ، وتتحقق السعادة والطمأنينة ، والأمن والأمان في الحياة .
ولكن الإنسان مفطور على الشر ، والنزوح عن الحق ، والتجاوز للحد ، والاعتداء على الغير، والطمع بما في يده ، والتهرب من أداء واجبه ، والتعسف في استعمال حقه ، ولذلك كانت الحاجة إلى القضاء ماسّة وضرورية وحتمية .
ومن هنا شرعت الأنظمة ، ووضعت الأحكام ، وأقيم القضاء ، وكانت الأحكام التشريعية– سماوية أو وضعية – تنقسم قسمين : الأول : أحكام تخول الأفراد الحقوق التي يتمتعون بها ، وترسم الأنظمة والحدود الفاصلة ، والثاني : أحكام تؤيد هذه الحقوق والحدود والأنظمة ، وتضمن لها التنفيذ ، وهذان القسمان متلازمان ، فإذا فقد أحدهما فُقد الآخر .
ثالثا : التمييز بين القضاء التجاري والمدني
من الثابت أن القانون التجاري فرع من فروع القانون الخاص شأنه في ذلك شأن القانون المدني إلى جوار الفروع الأخرى كقانون العمل والقانون البحري وإذا كان القانون المدني ينظم أساسا كافة العلاقات بين مختلف الأفراد دون تمييز بين نوع التصرف أو صفة القائم به أي قانونا عاما، فإن القانون التجاري ينظم فقط علاقات معينة هي العلاقات التجارية وقد أدى إلى ظهور هذا النوع من القواعد القانونية الظروف الاقتصادية والضرورات العملية التي استلزمت خضوع طائفة معينة من الأشخاص هم التجار، ونوع معين من المعاملات هي الأعمال التجارية، لتنظيم قانوني يتميز عن ذلك الذي يطبق على المعاملات المدنية حيث عجزت القواعد المدنية عن تنظيم المعاملات التجارية التي قوامها السرعة من جهة والثقة والائتمان من جهة أخرى.
وقد انعكست طبيعة البيئة التجارية التي تتطلب السرعة والثقة في وقت واحد على طبيعة العقود التي تجرى في مجال التجارة فهي تختلف كل الاختلاف عن تلك التي تجرى في البيئة المدنية، ذلك أن الصفقات التي يبرمها التاجر لا تكون بقصد الاستعمال الشخصي أو بقصد الاحتفاظ بها وإنما لإعادة بيعها لتحقيق ربح من فروق الأسعار كما وأن مثل هذه الصفقات تعقد كل يوم مرات ومرات بالنسبة لكل تاجر وهو يبرمها بأسلوب سريع.
وقد ظهرت عبر السنين عادات وتقاليد معينة التزمت بها طائفة من التجار في معاملاتهم التجارية، تختلف عن تلك القواعد التي تنظم المعاملات المدنية واضطر واضع النظام إلى تقنين هذه العادات التجارية في مجموعات خاصة بالتجارة والتجار وظلت هذه القواعد الجديدة تزداد شيئا فشيئا حتى أصبح لها كيان مستقل.
على أننا نجد من جانب آخر أن القانون التجاري ترك أثره في القانون المدني ويتمثل في عدة حالات منها اعتبار الشركات التي تأخذ الشكل التجاري شركات تجارية تخضع للقانون التجاري أيا كان موضوع نشاطها كما قد يقرر واضع النظام اكتساب الشركة لصفة التاجر بصرف النظر عن طبيعة نشاطها سواء كان موضوع نشاطها تجاريا أو مدنيا .
رابعاًـ المناداة بوحدة القضاء
نظرا للصلة الوثيقة بين أحكام القانونين التجاري والمدني ظهر اتجاه في الفقه القانوني ينادي بإدماجهما معا في قانون واحد يطبق على جميع الأفراد وفي جميع المعاملات دون تفرقة بين عمل مدني أو تجاري أو بين تاجر وغير تاجر وذلك بفرض الوصول إلى ما يسمى بوحدة القانون الخاص.
ويطالب أنصار هذا الرأي بسريان قواعد القانون التجاري من سرعة وبساطة، في الإجراءات على قواعد القانون المدني كلما اقتضى الأمر ذلك حتى يفيد من ذلك التاجر وغير التاجر كما أنه إذا كانت إجراءات القانون المدني بها بعض القيود والشكليات في تصرفات معينة أو عقود خاصة نظرا لأهميتها فإنه يمكن فرض هذه القيود والشكليات في تصرفات التجارية الهامة حتى تستقر بشأنها المنازعات.
ويرى أنصار هذا الرأي أن القانون التجاري باعتباره قانون الأعمال في عصرنا هذا إنما يتضمن في الواقع النظرية العامة في الأموال والالتزامات التي تطبق على جميع التصرفات التي تجرى بين الأفراد العاديين وبين من يساهمون في الحياة الاقتصادية بصفة عامة.
ولقد أخذت بعض البلاد بهذا الاتجاه كما هو الحال في الولايات المتحدة وإنجلترا وسويسرا وإيطاليا حيث استطاعت معظم هذه البلاد إدخال العناصر والصفات التجارية للقانون المدني ومثال ذلك القانون المدني الإيطالي الصادر عام 1942 الذي رد القانون التجاري إلى حظيرة القانون المدني فألغى مجموعة القانون التجاري وأدمج موضوعاتها في مجموعة القانون المدني.
خامساً: استقلال القانون التجاري بقضاء مستقل:
إن فكرة المناداة بتوحيد أحكام القانون التجاري مع القانون المدني وإن كانت تعد منطقية في ظاهرها إلا أنها تخالف في جوهرها حقيقة الأوضاع والضرورات العملية فما من شك أن المعاملات التجارية لها لما يميزها عن المعاملات المدنية مما يستتبع وضع نظام خاص بها فطبيعة المعاملات التجارية تقتضي السرعة وسهولة الإجراءات.
وليس من المفيد أن تنتقل هذه التسهيلات إلى الحياة المدنية التي تتسم بطابع الاستقرار والتروي وذلك أن من شأن تعميم هذه السرعة في الإجراءات زيادة المنازعات وعدم استقرار التعامل بين المدنيين وصعوبة الإثبات أمام القضاء وخاصة أن مسك الدفاتر أمر لا يلتزم به سوى التجار، كما وأن المناداة بنقل بعض الإجراءات الرسمية والشكلية المدنية إلى العقود التجارية أمر يؤدي في الواقع إلى عرقلة التجارة مهما بلغت أهمية عقودها أو ضخامتها. كما أن تشجيع المدنيون على التعامل بالأوراق التجارية خاصة الكمبيالات منها من شأنه أن يدفع بهذه الطائفة من الأفراد في مجالات لا شأن لها بها.
ويلاحظ أن البلاد التي أخذت بتوحيد كلا القانونين لم تستطع إدماجها إدماجا كليا، حيث ظلت فيها بعض الأحكام والقواعد المستقلة التي تنفرد بها المعاملات التجارية وطائفة التجار كما هو الحال في بلاد الأنجلوسكونية ومن الأمثلة على ذلك إنجلترا حيث أصبحت النظم التجارية منفصلة عن مجموع القانون الخاص مثل قانون بيع البضائع وقانون الإفلاس وقانون الشركات، وكذلك الحال في القانون السويسري الذي وضع كل منها بعض النظم الخاصة بالتجارة والتجار مثل مسك الدفاتر التجارية والإفلاس.
إن للقانون التجاري أصالته في عدة موضوعات لا نجد لها سندا إلا بالمجموعة التجارية مثل تنظيم الإفلاس التجاري والأوراق التجارية وعمليات البنوك خاصة ما يتعلق منها بالحساب الجاري وخطابات الضمان والتحويل المصرفي التي نشأت نتيجة المقتضيات العملية واقرها القضاء التجاري .
والواقع أنه ما من شك في أن لكل من القانون المدني والتجاري مجاله وأن في إدماجهما في قانون واحد لا يتناسب مع طبيعة معاملات كل منهما، بل أن فيه إنكار للواقع على أن استقلال القانون التجاري لا يعني إنكار الصلة الوثيقة بينه وبين القانون المدني، إذ قد يعتمد القانون التجاري على بعض أحكام القانون المدني اعتمادا كليا ويكتفي بالإحالة عليها ويؤدي هذا إلى اعتبار القانون المدني الأصل العام الذي يرجع إليه كمصدر من مصادر القانون التجاري.
المبحث الأول :
تاريخ القضاء التجاري في المملكة
أولا : نبذة عن تاريخ القضاء في المملكة
لقد سار القضاء في الجزيرة العربية على بقـايا من الأعراف والأحكام الشرعية ، وذلك قبل تأسيس المملكة العربية السعودية ، وكان القضاء في الحجاز متطوراً نسبياً ، عن بقية أجزاء المملكة بسبب الحركة التجارية والتعاملات الاقتصادية مع الدول المجاورة ؛ حيث طبقت الشريعــــة الإسلاميــــة مـع الإصلاحات النظامية التي وضعتهـا الدولة الـعثمانية فـي الـقرن التاسع عشـر ، وخـاصة الإصلاحات التي وردت في خـــط كـولخانة ( 1255هـ/1838م ) ، وفي الخط الهمايوني ( 1274هـ/1856م ) ،وقانون أصول المحاكمات التجارية ( 1329هـ/1913م )، وقانون الإجراء
( 1330هـ/1914م )، وقانون أصول المحاكمات الشرعية ( 1333هـ/1917م ) .[3]
وبعد قيام المملكة العربية السعودية تم توحيد القضاء بشكل واحد في جميع أنحاء المملكة. وكانت الخطوة الأولى نحو تحقيق العدل وتنظيم المحاكم إصدار المرسوم الملكي في 4 صفر 1346هـ/1927م في 24 مادة باسم « نظام تشكيلات المحاكم الشرعية » الذي تم بموجبه تنظيم المحاكم ، وتصنيفها ، وتحديد اختصاصاتها القضائية ، وصنف هذا المرسوم المؤسسات القضائية ثلاث درجات ، وهي :
1- المحاكم المستعجلة .
2- المحاكم الشرعية .
3- هيئة المراقبة القضائية .
وتشكل هذه المحاكم في مكة وجدة والمدينة ، أما سائر المملكة فيقوم بالقضاء فيها قاض منفرد ، وحدد المرسوم اختصاص كل منها .
فالمحكمة المستعجلة تنظر في بعض الأمور المدنية والجنائية ، فتختص بالجانب الجنائي بالنظر في الجنح والقصاص والتعزيرات الشرعية والحدود التي لا قطع فيها ولا قتل ، وتنظر في الجانب المدني في الدعاوى المالية التي لا تزيد قيمتها عن ( 300 ) ريال، وأحكامها لا تقبل النقض إلا إذا خالفت النص في القرآن والسنة ، أو الإجماع .
أما المحاكم الشرعية فتنظر فيما عدا ذلك ، وتوزع القضايا على القضاة ، لينظر كل قاض على حدة ، وتصدر الأحكام بالإجـماع أو بالأغلبية بعد اجـتماع أعضاء المحكمـة، وفي القضايا التي فيها قطع أو قتل فإن الدعوى تنظر بحضور هيئة المحكمة مجتمعـة.
أما هيئة المراقبة الشرعية فكانت في مقر المحكمة في مكة المكرمة ،وتتألف من ثلاثة قضاة وتختص بنقض الأحكام الصادرة من المحاكم الدنيا أو إبرامها مع الإشراف الإداري ، والتفتيش عليها، كما تقوم بإصدار الفتاوى فيما يرجع إليها ، ثم أضيف إلى اختصاص هيئة المراقبة الشرعية الإشراف على المعارف ، ومراقبة التدريس والمناهج ، وصلاحية الإشراف على هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ثم عدل اسم الهيئة إلى هيئة التدقيقات الشرعية ثم هيئة التمييز .
ثم صـدر « نظام تركيز مسؤوليات القضاء الشرعي » بالأمر السامي بتاريخ 4 المحرم 1357هـ /1938م ، وقد تناول بالشرح أحكام رئـاسة القضاة واختصاصاتها وصلاحياتها وتفتيش المحاكم الشرعية ، ونظام قضاة المحاكم الشرعية واختصاصاتهم)، و كتّاب المحكمة الشرعية)، و رئيس المحاضرة في كتاب العدل ، ودوائر بيت المال .وصـدر بعد ذلك نظام « كتاب العدل » بتاريخ 19/1364هـ ، ويتكون من خمسة فصول ، تشتمل على ثمان وأربعين مـادة ، وحدد هذا النظام صلاحيات كتاب العدل وواجباتهم ووظائفهم .
وفي عام 1372هـ/1952م صدر « نظام تركيز مسؤوليات القضاء الشرعي » ، ويحتوي على ثمانية أبواب كالسابق ، ويشتمل على 258 مادة ، وبقي هذا النظام مطبقاً مدة طويلة ولا يزال كثير من أحكامه ومصطلحاته مطبقة وسارية المفعول .
وأخيراً صدر نظام القضاء الجديد عام 1395هـ/1975م ، كما صدر نظام السلطة القضائية بالمرسوم ذي الرقم 64 بتاريخ 14/7/1395هـ/ 1975 م .
ثانيا :السلطة القضائية في المملكة:
لقد كان القضاء سابقا يرتبط مباشرة بالملك ، فيشرف عليه ، وتحال القضايا المهمة إليه ، وترفع إليه الأحكام ، ثم بدأ يتنازل عنها تدريجياً للمختصين والمؤهلين ،مع إنشاء الهيئات والمؤسسات التي تتولى هذه الأعمال تحت إشراف الملك . قام بها الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ بعد مبايعته ملكاً؛ حيث قام بإجراءات تعد نواة تنظيم الجهاز القضائي، منها: ـ شكل أول إدارة للقضاء في 29/5/ 1343هـ الموافق لسنة 1925م بمكة المكرمة.
ـ وأصدر ـ رحمه الله ـ تشكيلات مؤقتة لرئاسة القضاء بمكة المكرمة في 18/8/1344هـ، ومعها تعليمات عرفت باسم (مواد إصلاحية مؤقتة للمحاكم الشرعية).
ـ أعقب ذلك: صدور مرسوم نظام (أوضاع المحاكم الشرعية وتشكيلاتها)، وذلك في 4/2/1346هـ، وقد تكوّن هذا النظام من (19) مادة، وهو أول نظام إداري للقضاء في الحجاز.
ـ عالج الملك عبد العزيز تعدد مرجعيات القضاء حين كان لكل مذهب من المذاهب الأربعة قاض فأحدث تطويرا نوعيا؛ فجعل للقضاء مرجعية واحدة، هي العمل بقول واحد هو الرأي الراجح بالدليل من مذاهب الفقهاء.
ـ وفي 24/3/1347هـ صدر أمر ملكي يلزم القضاء بالحكم بمقتضى الراجح من المذهب الحنبلي وفقا للمصادر التي حددها الأمر، واستثنى من ذلك ما جرى عليه العمل في المناطق في المسائل ذات الطابع المحلي، وفي هذه الفترة قام الشيخ أحمد علي القاري ـ وهو من كبار قضاة مكة المكرمة ـ بإعداد تقنين للمذهب الحنبلي وهو «مجلة الأحكام الشرعية»، لكنه لم يعتمد مرجعا رسميا للقضاء.
كانت تلك الخطوات التطويرية في الحجاز، أما في المنطقة الوسطى والشرقية كان أول إصلاح رئيسي للقضاء هو صدور نظام وطني يشمل كامل أرض المملكة الوليدة، بتاريخ 1357هـ الموافق لسنة 1938، وهو نظام تركيز مسؤوليات القضاء الشرعي، وكان أول تنظيم حديث للقضاء يشمل المملكة، وقد تحول به القضاء من الممارسة التقليدية إلى مؤسسة رسمية حديثة.
ـ وفي 14/1/1372هـ الموافق لسنة 1952: صدر نظام تركيز مسؤوليات القضاء الشرعي المعدل، والذي ألغيت بعض مواده بصدور نظام المرافعات الشرعية الأول (النظام 260)، ثم نظام المرافعات الشرعية الثاني الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/21) تاريخ 1421هـ. ـ وقد تطورت المؤسسة القضائية إلى سلطة تتمتع بضمانات استقلال وإدارة ذاتية نسبية بصدور نظام القضاء لسنة 1395هـ الموافق لسنة 1975، الذي أعاد تنظيم البناء الإداري للقضاء.
ـ أما في القضاء الإداري فقد بدأت نواته كجزء من ديوان الملك لإدارة التظلمات، ثم تحولت في بداية السبعينات الميلادية إلى مؤسسة مستقلة اسمها ديوان المظالم، لكنها تقوم بدور استشاري لم يكتسب القوة الإلزامية.
ـ وفي سنة 1402هـ الموافق لسنة 1982 تحول ديوان المظالم إلى محكمة إدارية، وكلفت بأعمال قضائية أخرى منها: بعض اختصاصات القضاء الجنائي، وكثير من اختصاصات القضاء التجاري، وتنفيذ الأحكام الأجنبية، وتوج تطوير القضاء الإداري بصدور النظام الجديد الذي استكمل هيكلة المحاكمة الإدارية.
ويتكون الجهاز القضائي في المملكة من نوعين :
النوع الأول : المؤسسات القضائية المستقلة :
وهي قضائية وإدارية ، وتقوم بأعمال قضائية واختصاصات قضائية ، ولكنها منفصلة عن وزارة العدل ، ومستقلة عن المحاكم القضائية ، وسماها بعض الباحثين بالمؤسسات شبه القضائية ، وأهمها :
1- ديوان المظالم .
2- هيئة محاكمة الوزراء .
3- هيئة تأديب الموظفين .
4- لجنة قضايا التامين .
5- اللجان الجمركية .
6- لجنة الفصل في منازعات الأوراق المالية
7- لجنة مكافحة الغش التجاري .
8- اللجان العمالية .
9- لجان قضايا الذهب والمجوهرات .
10- المجالس التأديبية للعسكريين .
11- المجالس التأديبية لقوات الأمن الداخلي .
12- لجنة
النوع الثاني : المحاكم العامة (الشرعية) :
وهي المقصودة بنظام القضاء ، وتشرف عليها وزارة العدل. ويبين مما سبق مدى تعدد جهات القضاء في المملكة ، وهذا يؤدي في كثير من الأحيان إلى التنازع في الاختصاص بين المحاكم والجهات المتعددة ، وتقع المشكلات نتيجة لهذا التعدد في الجهات القضائية .
ونظام القضاء الجديد في المملكة اعترف صراحة بوجود جهات أخرى تنافس القضاء الشرعي العام – المحاكم – ؛ ولذلك وضع القواعد التي تعالج مشكلات تنازع الاختصاص بين المحاكم والجهات القضائية الأخرى ، وعرض الحلول الكفيلة للقضاء على مشكلات تعدد جهات القضاء العام والمتخصص في الجهات واللجان شبه القضائية.
(الجزء الأول)
الدكتور عدلي حماد
مبحث تمهيدي :
تعريف القضاء وأهميته
أولاً : تعريف القضاء :
القضاء كلمة مشتركة ذات معان مختلفة ، ولها استعمالات عدة ، منها : القضاء بمعنى إحكام الشيء وإمضائه ، وبمعنى الفراغ من الشيء ، وبمعنى الإلزام والأمر ، وبمعنى الأداء والإنهاء ، وبمعنى الحكم أي المنع ، وهذا هو المراد هنا ، ومنه قضيت على السفيه : أي حكمت عليه ، وأخذت على يديه ، ومنعته من التصرف ، وسمي القاضي حاكماً لمنعه الظالم عن ظلمه ، ومنه قولهم : قضى الحاكم ، أي وضع الحق في أهله ، ومـنع مـن ليس أهلاً ، كما سمي القضاء حكماً ، لما فيه من الحكمة التي توجب وضع الشيء في محله .[1]
كما أن للقضاء معان أخرى ، مثل : قضى الشيء : قدره وصنعه ، وقضى أجله ، أي :بلغهُ، وقضى نَحـْبه ،أي: مات ، وقضى بمعنى أوجب والمراد هنا أن القضاء هو الحكم لغة.
وعرف الفقهاء القضاء تعريفات كثيرة ، ولكنها متشابه ، وكلها ترجع إلى معنى واحد،
وتشترك هذه التعريفات ببيان الأمور الآتية : [2]
1- أن القضاء هو الإخبار عن حكم الله –تعالى– في القضية والدعوى ، وهو إظهار المدعى به بين الخصمين، فالقاضي مخبر عن الحكم الشرعي ، ومظهر له ، وليس منشئاً لحكم من عنده ، ومثله في ذلك المفتي .
2- أن حكم القاضي ملزم للطرفين ، وإخباره بالحكم يكون على سبيل الإلزام بالتنفيذ، وهذا ما يميز القاضي عن المفتي ، والمحكّم ، وهذا الإلزام مستمد من السلطة القضائية التي تعد جزءاً من سلطة الدولة .
3- أن الغاية والهدف من وجود القضاء هو الفصل بين الخصومات ، وقطع المنازعات ، وهذا لا يتم – ضمناً – إلا بالسلطة الملزمة ، وقوة القضاء المستمدة من الدولة .
4- أكـدت جميع التعريفات أن حكم القاضي حكم شرعي، مستمد من الكتاب والسنة، بالنص أو بالاجتهاد، وبقية المصادر الشرعية التي تسعى لإقامة شرع الله ودينه لإصلاح الفرد والمجتمع، تنفيذاً لقول الله تعالى: { وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} المائدة/44 ، وقوله تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} المائدة/45، { فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} المائدة/47 .
ثانياً : أهمية القضاء :
من الثابت أن أحكام القضاء احد أقسام الشريعة الإسلامية ، وينطبق عليه ما ينطبق على الشريعة عامة من الصفات والخصائص والميزات ، والقضاء باب من أبواب الفقه الإسلامي الذي يعرضه الفقهاء فـي كتب الفقه المختلفة في جميع المذاهب .
ويهدف القضاء إلى إقامة العدل ، وتحقيق القسط ، وحفظ الحقوق والأموال والأنفس والأعراض ، وحفظ الآداب العامة ، وتطبيق أحكام الشرع ، ويقيم حدود الله تعالى ، ويصون القيم والأخلاق ، ويمنع العدوان والظلم والبغي بمختلف أشكاله وأنواعه، ليعيش الناس في الدنيا بأمان وسعادة .
ولما كانت غاية الشريعة أن يمارس كل إنسان حقه ، ويحافظ على حقوق الآخرين ، ، فقد تكفلت في وضع الضوابط لاكتسابها واستعمالها والتصرف فيها ، ووضع الحدود، بحيث لا يطغى فرد على آخر ، ولا يسيء مسلم في حق أخيه ، ولا يتجاوز الحد في حقه ، ولا يتعسف فيه ، وبذلك يعرف كل إنسان ما له وما عليه ، وتتحقق السعادة والطمأنينة ، والأمن والأمان في الحياة .
ولكن الإنسان مفطور على الشر ، والنزوح عن الحق ، والتجاوز للحد ، والاعتداء على الغير، والطمع بما في يده ، والتهرب من أداء واجبه ، والتعسف في استعمال حقه ، ولذلك كانت الحاجة إلى القضاء ماسّة وضرورية وحتمية .
ومن هنا شرعت الأنظمة ، ووضعت الأحكام ، وأقيم القضاء ، وكانت الأحكام التشريعية– سماوية أو وضعية – تنقسم قسمين : الأول : أحكام تخول الأفراد الحقوق التي يتمتعون بها ، وترسم الأنظمة والحدود الفاصلة ، والثاني : أحكام تؤيد هذه الحقوق والحدود والأنظمة ، وتضمن لها التنفيذ ، وهذان القسمان متلازمان ، فإذا فقد أحدهما فُقد الآخر .
ثالثا : التمييز بين القضاء التجاري والمدني
من الثابت أن القانون التجاري فرع من فروع القانون الخاص شأنه في ذلك شأن القانون المدني إلى جوار الفروع الأخرى كقانون العمل والقانون البحري وإذا كان القانون المدني ينظم أساسا كافة العلاقات بين مختلف الأفراد دون تمييز بين نوع التصرف أو صفة القائم به أي قانونا عاما، فإن القانون التجاري ينظم فقط علاقات معينة هي العلاقات التجارية وقد أدى إلى ظهور هذا النوع من القواعد القانونية الظروف الاقتصادية والضرورات العملية التي استلزمت خضوع طائفة معينة من الأشخاص هم التجار، ونوع معين من المعاملات هي الأعمال التجارية، لتنظيم قانوني يتميز عن ذلك الذي يطبق على المعاملات المدنية حيث عجزت القواعد المدنية عن تنظيم المعاملات التجارية التي قوامها السرعة من جهة والثقة والائتمان من جهة أخرى.
وقد انعكست طبيعة البيئة التجارية التي تتطلب السرعة والثقة في وقت واحد على طبيعة العقود التي تجرى في مجال التجارة فهي تختلف كل الاختلاف عن تلك التي تجرى في البيئة المدنية، ذلك أن الصفقات التي يبرمها التاجر لا تكون بقصد الاستعمال الشخصي أو بقصد الاحتفاظ بها وإنما لإعادة بيعها لتحقيق ربح من فروق الأسعار كما وأن مثل هذه الصفقات تعقد كل يوم مرات ومرات بالنسبة لكل تاجر وهو يبرمها بأسلوب سريع.
وقد ظهرت عبر السنين عادات وتقاليد معينة التزمت بها طائفة من التجار في معاملاتهم التجارية، تختلف عن تلك القواعد التي تنظم المعاملات المدنية واضطر واضع النظام إلى تقنين هذه العادات التجارية في مجموعات خاصة بالتجارة والتجار وظلت هذه القواعد الجديدة تزداد شيئا فشيئا حتى أصبح لها كيان مستقل.
على أننا نجد من جانب آخر أن القانون التجاري ترك أثره في القانون المدني ويتمثل في عدة حالات منها اعتبار الشركات التي تأخذ الشكل التجاري شركات تجارية تخضع للقانون التجاري أيا كان موضوع نشاطها كما قد يقرر واضع النظام اكتساب الشركة لصفة التاجر بصرف النظر عن طبيعة نشاطها سواء كان موضوع نشاطها تجاريا أو مدنيا .
رابعاًـ المناداة بوحدة القضاء
نظرا للصلة الوثيقة بين أحكام القانونين التجاري والمدني ظهر اتجاه في الفقه القانوني ينادي بإدماجهما معا في قانون واحد يطبق على جميع الأفراد وفي جميع المعاملات دون تفرقة بين عمل مدني أو تجاري أو بين تاجر وغير تاجر وذلك بفرض الوصول إلى ما يسمى بوحدة القانون الخاص.
ويطالب أنصار هذا الرأي بسريان قواعد القانون التجاري من سرعة وبساطة، في الإجراءات على قواعد القانون المدني كلما اقتضى الأمر ذلك حتى يفيد من ذلك التاجر وغير التاجر كما أنه إذا كانت إجراءات القانون المدني بها بعض القيود والشكليات في تصرفات معينة أو عقود خاصة نظرا لأهميتها فإنه يمكن فرض هذه القيود والشكليات في تصرفات التجارية الهامة حتى تستقر بشأنها المنازعات.
ويرى أنصار هذا الرأي أن القانون التجاري باعتباره قانون الأعمال في عصرنا هذا إنما يتضمن في الواقع النظرية العامة في الأموال والالتزامات التي تطبق على جميع التصرفات التي تجرى بين الأفراد العاديين وبين من يساهمون في الحياة الاقتصادية بصفة عامة.
ولقد أخذت بعض البلاد بهذا الاتجاه كما هو الحال في الولايات المتحدة وإنجلترا وسويسرا وإيطاليا حيث استطاعت معظم هذه البلاد إدخال العناصر والصفات التجارية للقانون المدني ومثال ذلك القانون المدني الإيطالي الصادر عام 1942 الذي رد القانون التجاري إلى حظيرة القانون المدني فألغى مجموعة القانون التجاري وأدمج موضوعاتها في مجموعة القانون المدني.
خامساً: استقلال القانون التجاري بقضاء مستقل:
إن فكرة المناداة بتوحيد أحكام القانون التجاري مع القانون المدني وإن كانت تعد منطقية في ظاهرها إلا أنها تخالف في جوهرها حقيقة الأوضاع والضرورات العملية فما من شك أن المعاملات التجارية لها لما يميزها عن المعاملات المدنية مما يستتبع وضع نظام خاص بها فطبيعة المعاملات التجارية تقتضي السرعة وسهولة الإجراءات.
وليس من المفيد أن تنتقل هذه التسهيلات إلى الحياة المدنية التي تتسم بطابع الاستقرار والتروي وذلك أن من شأن تعميم هذه السرعة في الإجراءات زيادة المنازعات وعدم استقرار التعامل بين المدنيين وصعوبة الإثبات أمام القضاء وخاصة أن مسك الدفاتر أمر لا يلتزم به سوى التجار، كما وأن المناداة بنقل بعض الإجراءات الرسمية والشكلية المدنية إلى العقود التجارية أمر يؤدي في الواقع إلى عرقلة التجارة مهما بلغت أهمية عقودها أو ضخامتها. كما أن تشجيع المدنيون على التعامل بالأوراق التجارية خاصة الكمبيالات منها من شأنه أن يدفع بهذه الطائفة من الأفراد في مجالات لا شأن لها بها.
ويلاحظ أن البلاد التي أخذت بتوحيد كلا القانونين لم تستطع إدماجها إدماجا كليا، حيث ظلت فيها بعض الأحكام والقواعد المستقلة التي تنفرد بها المعاملات التجارية وطائفة التجار كما هو الحال في بلاد الأنجلوسكونية ومن الأمثلة على ذلك إنجلترا حيث أصبحت النظم التجارية منفصلة عن مجموع القانون الخاص مثل قانون بيع البضائع وقانون الإفلاس وقانون الشركات، وكذلك الحال في القانون السويسري الذي وضع كل منها بعض النظم الخاصة بالتجارة والتجار مثل مسك الدفاتر التجارية والإفلاس.
إن للقانون التجاري أصالته في عدة موضوعات لا نجد لها سندا إلا بالمجموعة التجارية مثل تنظيم الإفلاس التجاري والأوراق التجارية وعمليات البنوك خاصة ما يتعلق منها بالحساب الجاري وخطابات الضمان والتحويل المصرفي التي نشأت نتيجة المقتضيات العملية واقرها القضاء التجاري .
والواقع أنه ما من شك في أن لكل من القانون المدني والتجاري مجاله وأن في إدماجهما في قانون واحد لا يتناسب مع طبيعة معاملات كل منهما، بل أن فيه إنكار للواقع على أن استقلال القانون التجاري لا يعني إنكار الصلة الوثيقة بينه وبين القانون المدني، إذ قد يعتمد القانون التجاري على بعض أحكام القانون المدني اعتمادا كليا ويكتفي بالإحالة عليها ويؤدي هذا إلى اعتبار القانون المدني الأصل العام الذي يرجع إليه كمصدر من مصادر القانون التجاري.
المبحث الأول :
تاريخ القضاء التجاري في المملكة
أولا : نبذة عن تاريخ القضاء في المملكة
لقد سار القضاء في الجزيرة العربية على بقـايا من الأعراف والأحكام الشرعية ، وذلك قبل تأسيس المملكة العربية السعودية ، وكان القضاء في الحجاز متطوراً نسبياً ، عن بقية أجزاء المملكة بسبب الحركة التجارية والتعاملات الاقتصادية مع الدول المجاورة ؛ حيث طبقت الشريعــــة الإسلاميــــة مـع الإصلاحات النظامية التي وضعتهـا الدولة الـعثمانية فـي الـقرن التاسع عشـر ، وخـاصة الإصلاحات التي وردت في خـــط كـولخانة ( 1255هـ/1838م ) ، وفي الخط الهمايوني ( 1274هـ/1856م ) ،وقانون أصول المحاكمات التجارية ( 1329هـ/1913م )، وقانون الإجراء
( 1330هـ/1914م )، وقانون أصول المحاكمات الشرعية ( 1333هـ/1917م ) .[3]
وبعد قيام المملكة العربية السعودية تم توحيد القضاء بشكل واحد في جميع أنحاء المملكة. وكانت الخطوة الأولى نحو تحقيق العدل وتنظيم المحاكم إصدار المرسوم الملكي في 4 صفر 1346هـ/1927م في 24 مادة باسم « نظام تشكيلات المحاكم الشرعية » الذي تم بموجبه تنظيم المحاكم ، وتصنيفها ، وتحديد اختصاصاتها القضائية ، وصنف هذا المرسوم المؤسسات القضائية ثلاث درجات ، وهي :
1- المحاكم المستعجلة .
2- المحاكم الشرعية .
3- هيئة المراقبة القضائية .
وتشكل هذه المحاكم في مكة وجدة والمدينة ، أما سائر المملكة فيقوم بالقضاء فيها قاض منفرد ، وحدد المرسوم اختصاص كل منها .
فالمحكمة المستعجلة تنظر في بعض الأمور المدنية والجنائية ، فتختص بالجانب الجنائي بالنظر في الجنح والقصاص والتعزيرات الشرعية والحدود التي لا قطع فيها ولا قتل ، وتنظر في الجانب المدني في الدعاوى المالية التي لا تزيد قيمتها عن ( 300 ) ريال، وأحكامها لا تقبل النقض إلا إذا خالفت النص في القرآن والسنة ، أو الإجماع .
أما المحاكم الشرعية فتنظر فيما عدا ذلك ، وتوزع القضايا على القضاة ، لينظر كل قاض على حدة ، وتصدر الأحكام بالإجـماع أو بالأغلبية بعد اجـتماع أعضاء المحكمـة، وفي القضايا التي فيها قطع أو قتل فإن الدعوى تنظر بحضور هيئة المحكمة مجتمعـة.
أما هيئة المراقبة الشرعية فكانت في مقر المحكمة في مكة المكرمة ،وتتألف من ثلاثة قضاة وتختص بنقض الأحكام الصادرة من المحاكم الدنيا أو إبرامها مع الإشراف الإداري ، والتفتيش عليها، كما تقوم بإصدار الفتاوى فيما يرجع إليها ، ثم أضيف إلى اختصاص هيئة المراقبة الشرعية الإشراف على المعارف ، ومراقبة التدريس والمناهج ، وصلاحية الإشراف على هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ثم عدل اسم الهيئة إلى هيئة التدقيقات الشرعية ثم هيئة التمييز .
ثم صـدر « نظام تركيز مسؤوليات القضاء الشرعي » بالأمر السامي بتاريخ 4 المحرم 1357هـ /1938م ، وقد تناول بالشرح أحكام رئـاسة القضاة واختصاصاتها وصلاحياتها وتفتيش المحاكم الشرعية ، ونظام قضاة المحاكم الشرعية واختصاصاتهم)، و كتّاب المحكمة الشرعية)، و رئيس المحاضرة في كتاب العدل ، ودوائر بيت المال .وصـدر بعد ذلك نظام « كتاب العدل » بتاريخ 19/1364هـ ، ويتكون من خمسة فصول ، تشتمل على ثمان وأربعين مـادة ، وحدد هذا النظام صلاحيات كتاب العدل وواجباتهم ووظائفهم .
وفي عام 1372هـ/1952م صدر « نظام تركيز مسؤوليات القضاء الشرعي » ، ويحتوي على ثمانية أبواب كالسابق ، ويشتمل على 258 مادة ، وبقي هذا النظام مطبقاً مدة طويلة ولا يزال كثير من أحكامه ومصطلحاته مطبقة وسارية المفعول .
وأخيراً صدر نظام القضاء الجديد عام 1395هـ/1975م ، كما صدر نظام السلطة القضائية بالمرسوم ذي الرقم 64 بتاريخ 14/7/1395هـ/ 1975 م .
ثانيا :السلطة القضائية في المملكة:
لقد كان القضاء سابقا يرتبط مباشرة بالملك ، فيشرف عليه ، وتحال القضايا المهمة إليه ، وترفع إليه الأحكام ، ثم بدأ يتنازل عنها تدريجياً للمختصين والمؤهلين ،مع إنشاء الهيئات والمؤسسات التي تتولى هذه الأعمال تحت إشراف الملك . قام بها الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ بعد مبايعته ملكاً؛ حيث قام بإجراءات تعد نواة تنظيم الجهاز القضائي، منها: ـ شكل أول إدارة للقضاء في 29/5/ 1343هـ الموافق لسنة 1925م بمكة المكرمة.
ـ وأصدر ـ رحمه الله ـ تشكيلات مؤقتة لرئاسة القضاء بمكة المكرمة في 18/8/1344هـ، ومعها تعليمات عرفت باسم (مواد إصلاحية مؤقتة للمحاكم الشرعية).
ـ أعقب ذلك: صدور مرسوم نظام (أوضاع المحاكم الشرعية وتشكيلاتها)، وذلك في 4/2/1346هـ، وقد تكوّن هذا النظام من (19) مادة، وهو أول نظام إداري للقضاء في الحجاز.
ـ عالج الملك عبد العزيز تعدد مرجعيات القضاء حين كان لكل مذهب من المذاهب الأربعة قاض فأحدث تطويرا نوعيا؛ فجعل للقضاء مرجعية واحدة، هي العمل بقول واحد هو الرأي الراجح بالدليل من مذاهب الفقهاء.
ـ وفي 24/3/1347هـ صدر أمر ملكي يلزم القضاء بالحكم بمقتضى الراجح من المذهب الحنبلي وفقا للمصادر التي حددها الأمر، واستثنى من ذلك ما جرى عليه العمل في المناطق في المسائل ذات الطابع المحلي، وفي هذه الفترة قام الشيخ أحمد علي القاري ـ وهو من كبار قضاة مكة المكرمة ـ بإعداد تقنين للمذهب الحنبلي وهو «مجلة الأحكام الشرعية»، لكنه لم يعتمد مرجعا رسميا للقضاء.
كانت تلك الخطوات التطويرية في الحجاز، أما في المنطقة الوسطى والشرقية كان أول إصلاح رئيسي للقضاء هو صدور نظام وطني يشمل كامل أرض المملكة الوليدة، بتاريخ 1357هـ الموافق لسنة 1938، وهو نظام تركيز مسؤوليات القضاء الشرعي، وكان أول تنظيم حديث للقضاء يشمل المملكة، وقد تحول به القضاء من الممارسة التقليدية إلى مؤسسة رسمية حديثة.
ـ وفي 14/1/1372هـ الموافق لسنة 1952: صدر نظام تركيز مسؤوليات القضاء الشرعي المعدل، والذي ألغيت بعض مواده بصدور نظام المرافعات الشرعية الأول (النظام 260)، ثم نظام المرافعات الشرعية الثاني الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/21) تاريخ 1421هـ. ـ وقد تطورت المؤسسة القضائية إلى سلطة تتمتع بضمانات استقلال وإدارة ذاتية نسبية بصدور نظام القضاء لسنة 1395هـ الموافق لسنة 1975، الذي أعاد تنظيم البناء الإداري للقضاء.
ـ أما في القضاء الإداري فقد بدأت نواته كجزء من ديوان الملك لإدارة التظلمات، ثم تحولت في بداية السبعينات الميلادية إلى مؤسسة مستقلة اسمها ديوان المظالم، لكنها تقوم بدور استشاري لم يكتسب القوة الإلزامية.
ـ وفي سنة 1402هـ الموافق لسنة 1982 تحول ديوان المظالم إلى محكمة إدارية، وكلفت بأعمال قضائية أخرى منها: بعض اختصاصات القضاء الجنائي، وكثير من اختصاصات القضاء التجاري، وتنفيذ الأحكام الأجنبية، وتوج تطوير القضاء الإداري بصدور النظام الجديد الذي استكمل هيكلة المحاكمة الإدارية.
ويتكون الجهاز القضائي في المملكة من نوعين :
النوع الأول : المؤسسات القضائية المستقلة :
وهي قضائية وإدارية ، وتقوم بأعمال قضائية واختصاصات قضائية ، ولكنها منفصلة عن وزارة العدل ، ومستقلة عن المحاكم القضائية ، وسماها بعض الباحثين بالمؤسسات شبه القضائية ، وأهمها :
1- ديوان المظالم .
2- هيئة محاكمة الوزراء .
3- هيئة تأديب الموظفين .
4- لجنة قضايا التامين .
5- اللجان الجمركية .
6- لجنة الفصل في منازعات الأوراق المالية
7- لجنة مكافحة الغش التجاري .
8- اللجان العمالية .
9- لجان قضايا الذهب والمجوهرات .
10- المجالس التأديبية للعسكريين .
11- المجالس التأديبية لقوات الأمن الداخلي .
12- لجنة
النوع الثاني : المحاكم العامة (الشرعية) :
وهي المقصودة بنظام القضاء ، وتشرف عليها وزارة العدل. ويبين مما سبق مدى تعدد جهات القضاء في المملكة ، وهذا يؤدي في كثير من الأحيان إلى التنازع في الاختصاص بين المحاكم والجهات المتعددة ، وتقع المشكلات نتيجة لهذا التعدد في الجهات القضائية .
ونظام القضاء الجديد في المملكة اعترف صراحة بوجود جهات أخرى تنافس القضاء الشرعي العام – المحاكم – ؛ ولذلك وضع القواعد التي تعالج مشكلات تنازع الاختصاص بين المحاكم والجهات القضائية الأخرى ، وعرض الحلول الكفيلة للقضاء على مشكلات تعدد جهات القضاء العام والمتخصص في الجهات واللجان شبه القضائية.