تفسير سورة النجم
إبن كثير
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)
تفسير سورة النجم
وهي مكية.
قال البخاري : حدثنا نصر بن علي ، أخبرني أبو أحمد ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الأسود بن يزيد ، عن عبد الله قال : أولُ سورة أنزلت فيها سَجْدة : { والنَّجم } ، قال : فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد من خلفه ، إلا رجلا رأيته أخذ كفًّا من تُرَاب فسجد عليه ، فرأيته بعد ذلك قُتِل كافرًا ، وهو أمية بن خَلَف (1).
وقد رواه البخاري أيضا في مواضع ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، من طرق ، عن أبي إسحاق ، به (2). وقوله في الممتنع : إنه أمية بن خلف في هذه الرواية مشكل ، فإنه قد جاء من غير هذه الطريق أنه عتبة بن ربيعة.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى (4) }.
قال الشعبي وغيره : الخالق يُقسِم بما شاء من خَلْقه ، والمخلوق لا ينبغي له أن يقسم إلا بالخالق. رواه ابن أبي حاتم.
واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } فقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : يعني بالنجم : الثُّريَّا إذا سقطت مع الفجر. وكذا رُوي عن ابن عباس ، وسفيان الثوري. واختاره ابن جرير. وزعم السدي أنها الزهرة.
وقال الضحاك : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } إذا رُمي به الشياطين. وهذا القول له اتجاه.
وروى الأعمش ، عن مجاهد في قوله : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } يعني : القرآن إذا نزل. وهذه الآية كقوله تعالى : { فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ. تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الواقعة : 75 - 80 ].
وقوله : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } هذا هو المقسم عليه ، وهو الشهادة للرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، بأنه بار راشد تابع للحق ، ليس بضال ، وهو : الجاهل الذي يسلك على غير طريق
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4863).
(2) صحيح البخاري برقم (1070 ، 3853 ، 3972) وصحيح مسلم برقم (576) وسنن أبي داود برقم (1406) وسنن النسائي (2/160).
(7/442)
بغير علم ، والغاوي : هو العالم بالحق العادل عنه قصدًا إلى غيره ، فنزه الله [سبحانه وتعالى] (1) رسوله وشَرْعَه عن مشابهة أهل (2) الضلال كالنصارى وطرائق اليهود ، وعن (3) علم الشيء وكتمانه والعمل بخلافه ، بل هو صلوات الله وسلامه عليه ، وما بعثه الله به من الشرع العظيم في غاية الاستقامة والاعتدال والسداد ؛ ولهذا قال : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } أي : ما يقول قولا عن هوى وغرض ، { إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى } أي : إنما يقول ما أمر به ، يبلغه إلى الناس كاملا موفَّرًا من غير زيادة ولا نقصان ، كما رواه الإمام أحمد.
حدثنا يزيد ، حدثنا حَرِيز بن عثمان ، عن عبد الرحمن بن مَيْسَرَة ، عن أبي أمامة ؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ليدخلنّ الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثلُ الحيين - أو : مثل أحد الحيين - : رَبِيعة ومُضَر". فقال رجل : يا رسول الله ، أو ما ربيعة من مضر ؟ قال : "إنما أقول ما أقول" (4).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عُبَيد الله بن الأخنس ، أخبرنا الوليد بن عبد الله ، عن يوسف بن مَاهَك ، عن عبد الله بن عمرو قال : كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه ، فنهتني قريش فقالوا : إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر ، يتكلم في الغضب. فأمسكتُ عن الكتاب ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : "اكتب ، فوالذي نفسي بيده ، ما خرج مني إلا حق".
ورواه أبو داود عن مُسَدَّد وأبي بكر بن أبي شيبة ، كلاهما عن يحيى بن سعيد القَطَّان ، به (5).
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أحمد بن منصور ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا الليث ، عن ابن عَجْلان ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح ، عن أبي هُرَيرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما أخبرتكم أنه الذي من عند الله ، فهو الذي لا شَكّ فيه". ثم قال : لا نعلمه يُروَى إلا بهذا الإسناد (6).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يونس ، حدثنا ليث ، عن محمد ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا أقول إلا حقا". قال بعض أصحابه : فإنك تداعبنا يا رسول الله ؟ قال : "إني لا أقول إلا حقا" (7).
__________
(1) زيادة من م.
(2) في م : "أصحاب".
(3) في م : "وهي".
(4) المسند (5/257) وقال الهيثمي في المجمع (10/381) : "رجال أحمد رجال الصحيح غير عبد الرحمن بن ميسرة وهو ثقة".
(5) المسند (2/162) وسنن أبي داود برقم (3646).
(6) مسند البزار برقم (203) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (1/179) : "فيه أحمد بن منصور الرمادي وهو ثقة ، وفيه كلام لا يضر وبقية رجاله رجال الصحيح ، وعبد الله بن صالح مختلف فيه".
(7) المسند (2/340) ورواه الترمذي في السنن برقم (1990) من طريق المقبري به وقال : "هذا حديث حسن صحيح".
(7/443)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
{ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) }.
يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنه عَلَّمه الذي جاء به إلى الناس { شَدِيدُ الْقُوَى } ، وهو جبريل ، عليه السلام ، كما قال : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } [ التكوير : 19 - 21 ].
وقال هاهنا : { ذُو مِرَّةٍ } أي : ذو قوة. قاله مجاهد ، والحسن ، وابن زيد. وقال ابن عباس : ذو منظر حسن.
وقال قتادة : ذو خَلْق طويل حسن.
ولا منافاة بين القولين ؛ فإنه ، عليه السلام ، ذو منظر حسن ، وقوة شديدة. وقد ورد في الحديث الصحيح من رواية أبي هريرة وابن عمرو (1) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا تحل الصدقة لغنيٍّ ، ولا لِذِي مرّة سَوِيّ" (2).
وقوله : { فَاسْتَوَى } يعني : جبريل ، عليه السلام. قاله مجاهد والحسن وقتادة ، والربيع بن أنس.
{ وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى } يعني : جبريل ، استوى في الأفق الأعلى. قاله عكرمة وغير واحد. قال عكرمة : والأفق الأعلى : الذي يأتي منه الصبح. وقال مجاهد : هو مطلع الشمس. وقال قتادة : هو الذي يأتي منه النهار. وكذا قال ابن زيد ، وغيرهم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا مُصَرِّف بن عمرو اليامي أبو القاسم ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن طلحة بن مصرف ، حدثني أبي ، عن الوليد - هو ابن قيس - عن إسحاق بن أبي الكَهْتَلَة أظنه ذكره عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل في صورته إلا مرتين ، أما واحدة فإنه سأله أن يراه في صورته فسد الأفق. وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد ، فذلك (3) قوله : { وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى }.
وقد قال ابن جرير هاهنا قولا لم أره لغيره ، ولا حكاه هو عن أحد ، وحاصله : أنه ذهب إلى أن المعنى : { فَاسْتَوَى } أي : هذا الشديد القوى ذو المرة هو ومحمد صلى الله عليهما وسلم { بِالأفُقِ الأعْلَى } أي : استويا جميعا بالأفق ، وذلك ليلة الإسراء كذا قال ، ولم يوافقه أحد على ذلك. ثم
__________
(1) في م : "ابن عمرو وأبي هريرة".
(2) حديث عبد الله بن عمرو : رواه أبو داود في السنن برقم (1634) والترمذي في السنن برقم (652) عن ريحان بن يزيد عنه وحديث أبي هريرة : رواه النسائي في السنن (5/99) وابن ماجه في السنن برقم (1839) عن سالم بن أبي الجعد عنه.
(3) في م : "فكذلك".
(7/444)
شرع يوجه ما قال من حيث العربية فقال : وهذا كقوله تعالى : { أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا } [ النمل : 67 ] ، فعطف بالآباء على المكنّى في { كنا } من غير إظهار "نحن" ، فكذلك قوله : { فَاسْتَوَى. وَهُوَ } قال : وذكر الفراء عن بعض العرب أنه أنشده :
ألم تَرَ أنّ النبعَ يَصْلُبُ عُودُه... ولا يَسْتَوي والخرْوعُ المُتَقصِّفُ (1)
وهذا الذي قاله من جهة العربية متجه ، ولكن لا يساعده المعنى على ذلك ؛ فإن هذه الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الإسراء ، بل قبلها ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الأرض ، فهبط عليه جبريل ، عليه السلام ، وتدلى إليه ، فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله عليها ، له ستمائة جناح ، ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ، يعني ليلة الإسراء ، وكانت هذه الرؤية الأولى في أوائل البعثة بعد ما جاءه جبريل ، عليه السلام ، أول مرة ، فأوحى الله إليه صدر سورة "اقرأ" ، ثم فتر الوحي فترة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم فيها مرارا ليتردى من رؤوس الجبال ، فكلما هَمّ بذلك ناداه جبريل من الهواء : "يا محمد ، أنت رسول الله حقا ، وأنا جبريل". فيسكن لذلك جأشه ، وتقر عينه ، وكلما طال عليه الأمر عاد لمثلها ، حتى تَبَدّى له جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأبطح في صورته التي خلقه الله عليها ، له ستمائة جناح قد سد عُظْم خلقه الأفق ، فاقترب منه (2) وأوحى إليه عن الله ، عز وجل ، ما أمره به ، فعرف عند ذلك عظمة المَلَك الذي جاءه بالرسالة ، وجلالة قَدْره ، وعلوّ مكانته عند خالقه الذي بعثه إليه. فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده حيث قال :
حدثنا سلمة بن شَبِيب ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا الحارث بن عبيد ، عن أبي عمران الجَوْني ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بينا أنا قاعد إذ جاء جبريل ، عليه السلام ، فوَكَز بين كتفي ، فقمت إلى شجرة فيها كَوَكْرَي الطير ، فقعد في أحدهما وقعدت في الآخر. فَسَمَت وارتفعت حتى سَدّت الخافقين وأنا أقلب طرفي ، ولو شئت أن أمس السماء لمسست ، فالتفت إلي جبريل كأنه حلْس لاطٍ (3) ، فعرفتُ فضل علْمه بالله علي. وفُتِح لي بابٌ من أبواب السماء ورأيت النور الأعظم ، وإذا دون الحجاب رفرفة الدر والياقوت. وأوحى إلي ما شاء الله أن يوحي".
ثم قال البزار : لا يرويه إلا الحارث بن عبيد ، وكان رجلا مشهورا من أهل البصرة (4).
قلت : الحارث بن عُبَيد هذا هو أبو قدامة الإيادي ، أخرج له مسلم في صحيحه إلا أن ابن معين ضعَّفه ، وقال : ليس هو بشيء. وقال الإمام أحمد : مضطرب الحديث. وقال أبو حاتم الرازي : كتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن حبان : كَثُر وَهَمه فلا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد. فهذا الحديث من غرائب رواياته ، فإن فيه نكارة وغرابة ألفاظ وسياقًا عجيبا ، ولعله منام ، والله أعلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ، حدثنا شريك ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، عن عبد الله
__________
(1) البيت في تفسير الطبري (27/25) وهو لجرير بن عطية.
(2) في م : "وأقرب منه".
(3) في م : "لاطي".
(4) مسند البزار برقم (58).
(7/445)
قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح ، كل جناح منها قد سَدّ الأفق ، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم (1). انفرد به أحمد (2).
وقال أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن إدريس بن مُنَبِّه ، عن وهب بن منبه ، عن ابن عباس قال : سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل أن يراه في صورته ، فقال : ادع ربك. فدعا ربه ، عز وجل ، فطلع عليه سواد من قبل المشرق ، فجعل يرتفع وينتشر ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم صعِق ، فأتاه فَنَعَشَه ومسح البزاق عن شِدْقه.
انفرد به أحمد (3). وقد رواه ابن عساكر في ترجمة "عتبة بن أبي لهب" ، من طريق محمد بن إسحاق ، عن عثمان بن عروة بن الزبير ، عن أبيه ، عن هَبَّار بن الأسود قال : كان أبو لهب وابنه عتبة قد تجهزا إلى الشام ، فتجهزت معهما ، فقال ابنه عتبة : والله لأنطلقن إلى محمد ولأوذينه في ربه ، سبحانه ، فانطلق حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد ، هو يكفر بالذي دنى فتدلى ، فكان قاب قوسين أو أدنى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اللهم ابعث إليه كلبا من كلابك". ثم انصرف عنه فرجع إلى أبيه فقال : يا بني ، ما قلت له ؟ فذكر له ما قال له ، قال : فما قال لك ؟ قال : قال : "اللهم سلط عليه كلبا من كلابك" قال : يا بني ، والله ما آمنُ عليك دُعاءه. فسرنا حتى نزلنا الشراة ، وهي مأْسَدَة ، ونزلنا إلى صَوْمَعة راهب ، فقال الراهب : يا معشر العرب ، ما أنزلكم هذه البلاد فإنها تسرح الأسْدُ فيها كما تسرح الغنم ؟ فقال لنا أبو لهب : إنكم قد عرفتم كبر سني وحقي ، وإن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوةً - والله - ما آمنها عليه ، فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة ، وافرشوا لابني عليها ، ثم افرشوا حولها. ففعلنا ، فجاء الأسد فَشَمّ وجوهنا ، فلما لم يجد ما يريد تَقَبّض ، فوثب ، فإذا هو فوق المتاع ، فشم وجهه ثم هزمه هَزْمة فَفَضخ رأسه. فقال أبو لهب : قد عرفت أنه لا ينفلت عن دعوة محمد (4).
وقوله : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } أي : فاقترب جبريل إلى محمد لما هبط عليه إلى الأرض ، حتى كان بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أي : بقدرهما إذا مُدّا. قاله (5) مجاهد ، وقتادة.
وقد قيل : إن المراد بذلك بُعدُ ما بين وتر القوس إلى كبدها.
وقوله : { أَوْ أَدْنَى } قد تقدم أن هذه الصيغة تستعمل في اللغة لإثبات المخبر عنه ونفي ما زاد عليه ، كقوله : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [ البقرة : 74 ] ، أي : ما هي بألين من الحجارة ، بل هي مثلها أو تزيد عليها في الشدة والقسوة. وكذا قوله : { يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [ النساء : 77 ] ، وقوله : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [الصافات : 147] ،
__________
(1) في أ : "أعلم".
(2) المسند (1/395).
(3) المسند (1/322).
(4) لم أجد ترجمة عتبة بن أبي لهب في تاريخ دمشق المخطوط ولا في مختصره لابن منظور.
(5) في م : "قال".
(7/446)
أي : ليسوا أقل منها بل هم مائة ألف حقيقة ، أو يزيدون عليها. فهذا تحقيق للمخبر به لا شك ولا تردد (1) ، فإن هذا ممتنع هاهنا ، وهكذا هذه الآية : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى }.
وهذا الذي قلناه من أن هذا المقترب الداني الذي صار بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم ، إنما هو جبريل ، عليه السلام ، هو قول أم المؤمنين عائشة ، وابن مسعود ، وأبي ذر ، وأبي هريرة ، كما سنورد أحاديثهم قريبا إن شاء الله. وروى مسلم في صحيحه ، عن ابن عباس أنه قال : "رأى محمد ربه بفؤاده مرتين" (2). فجعل هذه إحداهما. وجاء في حديث شريك بن أبي نمر ، عن أنس في حديث الإسراء : "ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى" ولهذا تكلم (3) كثير من الناس في متن هذه الرواية ، وذكروا أشياء فيها من الغرابة ، فإن صح فهو محمول على وقت آخر وقصة أخرى ، لا أنها تفسير لهذه الآية ؛ فإن هذه كانت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض لا ليلة الإسراء ؛ ولهذا قال بعده : { وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى } ، فهذه هي ليلة الإسراء والأولى كانت في الأرض.
وقد قال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا سليمان الشيباني ، حدثنا زر بن حبيش قال : قال عبد الله بن مسعود في هذه الآية : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "رأيت جبريل له ستمائة جناح" (4).
وقال ابن وهب : حدثنا ابن لَهِيعة ، عن أبي الأسود ، عن عُرْوَة ، عن عائشة قالت : كان أولَ شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى في منامه جبريل بأجياد ، ثم إنه خرج ليقضي حاجته فصرخ به جبريل : يا محمد ، يا محمد. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينا وشمالا فلم ير شيئًا (5) - ثلاثا - ثم رفع بصره فإذا هو ثان إحدى رجليه مع (6) الأخرى على أفق السماء فقال : يا محمد ، جبريل ، جبريلُ - يُسكّنه - فهرب النبي صلى الله عليه وسلم حتى دخل في الناس ، فنظر فلم ير شيئًا ، ثم خرج من الناس ، ثم نظر فرآه ، فدخل في الناس فلم ير شيئًا ، ثم خرج فنظر فرآه ، فذلك قول الله عز وجل : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. [مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (7) ] } إلى قوله : { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } يعني جبريل إلى محمد ، { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } : ويقولون : القاب نصف الأصبع. وقال بعضهم : ذراعين كان بينهما.
رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، من حديث ابن وهب (8). وفي حديث الزهري عن أبي سلمة ، عن جابر شاهد لهذا.
وروى البخاري عن طَلْق بن غنام ، عن زائدة ، عن الشيباني قال : سألت زرًّا عن قوله :
__________
(1) في م ، أ : "ولا ترديد".
(2) صحيح مسلم برقم (176).
(3) في م : "ولهذا قد تكلم".
(4) تفسير الطبري (27/27).
(5) في م : "أحدا".
(6) في م ، أ : "على".
(7) زيادة من م.
(8) تفسير الطبري (27/27).
(7/447)
إبن كثير
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)
تفسير سورة النجم
وهي مكية.
قال البخاري : حدثنا نصر بن علي ، أخبرني أبو أحمد ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الأسود بن يزيد ، عن عبد الله قال : أولُ سورة أنزلت فيها سَجْدة : { والنَّجم } ، قال : فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد من خلفه ، إلا رجلا رأيته أخذ كفًّا من تُرَاب فسجد عليه ، فرأيته بعد ذلك قُتِل كافرًا ، وهو أمية بن خَلَف (1).
وقد رواه البخاري أيضا في مواضع ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، من طرق ، عن أبي إسحاق ، به (2). وقوله في الممتنع : إنه أمية بن خلف في هذه الرواية مشكل ، فإنه قد جاء من غير هذه الطريق أنه عتبة بن ربيعة.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى (4) }.
قال الشعبي وغيره : الخالق يُقسِم بما شاء من خَلْقه ، والمخلوق لا ينبغي له أن يقسم إلا بالخالق. رواه ابن أبي حاتم.
واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } فقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : يعني بالنجم : الثُّريَّا إذا سقطت مع الفجر. وكذا رُوي عن ابن عباس ، وسفيان الثوري. واختاره ابن جرير. وزعم السدي أنها الزهرة.
وقال الضحاك : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } إذا رُمي به الشياطين. وهذا القول له اتجاه.
وروى الأعمش ، عن مجاهد في قوله : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } يعني : القرآن إذا نزل. وهذه الآية كقوله تعالى : { فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ. تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الواقعة : 75 - 80 ].
وقوله : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } هذا هو المقسم عليه ، وهو الشهادة للرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، بأنه بار راشد تابع للحق ، ليس بضال ، وهو : الجاهل الذي يسلك على غير طريق
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4863).
(2) صحيح البخاري برقم (1070 ، 3853 ، 3972) وصحيح مسلم برقم (576) وسنن أبي داود برقم (1406) وسنن النسائي (2/160).
(7/442)
بغير علم ، والغاوي : هو العالم بالحق العادل عنه قصدًا إلى غيره ، فنزه الله [سبحانه وتعالى] (1) رسوله وشَرْعَه عن مشابهة أهل (2) الضلال كالنصارى وطرائق اليهود ، وعن (3) علم الشيء وكتمانه والعمل بخلافه ، بل هو صلوات الله وسلامه عليه ، وما بعثه الله به من الشرع العظيم في غاية الاستقامة والاعتدال والسداد ؛ ولهذا قال : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } أي : ما يقول قولا عن هوى وغرض ، { إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى } أي : إنما يقول ما أمر به ، يبلغه إلى الناس كاملا موفَّرًا من غير زيادة ولا نقصان ، كما رواه الإمام أحمد.
حدثنا يزيد ، حدثنا حَرِيز بن عثمان ، عن عبد الرحمن بن مَيْسَرَة ، عن أبي أمامة ؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ليدخلنّ الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثلُ الحيين - أو : مثل أحد الحيين - : رَبِيعة ومُضَر". فقال رجل : يا رسول الله ، أو ما ربيعة من مضر ؟ قال : "إنما أقول ما أقول" (4).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عُبَيد الله بن الأخنس ، أخبرنا الوليد بن عبد الله ، عن يوسف بن مَاهَك ، عن عبد الله بن عمرو قال : كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه ، فنهتني قريش فقالوا : إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر ، يتكلم في الغضب. فأمسكتُ عن الكتاب ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : "اكتب ، فوالذي نفسي بيده ، ما خرج مني إلا حق".
ورواه أبو داود عن مُسَدَّد وأبي بكر بن أبي شيبة ، كلاهما عن يحيى بن سعيد القَطَّان ، به (5).
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أحمد بن منصور ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا الليث ، عن ابن عَجْلان ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح ، عن أبي هُرَيرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما أخبرتكم أنه الذي من عند الله ، فهو الذي لا شَكّ فيه". ثم قال : لا نعلمه يُروَى إلا بهذا الإسناد (6).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يونس ، حدثنا ليث ، عن محمد ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا أقول إلا حقا". قال بعض أصحابه : فإنك تداعبنا يا رسول الله ؟ قال : "إني لا أقول إلا حقا" (7).
__________
(1) زيادة من م.
(2) في م : "أصحاب".
(3) في م : "وهي".
(4) المسند (5/257) وقال الهيثمي في المجمع (10/381) : "رجال أحمد رجال الصحيح غير عبد الرحمن بن ميسرة وهو ثقة".
(5) المسند (2/162) وسنن أبي داود برقم (3646).
(6) مسند البزار برقم (203) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (1/179) : "فيه أحمد بن منصور الرمادي وهو ثقة ، وفيه كلام لا يضر وبقية رجاله رجال الصحيح ، وعبد الله بن صالح مختلف فيه".
(7) المسند (2/340) ورواه الترمذي في السنن برقم (1990) من طريق المقبري به وقال : "هذا حديث حسن صحيح".
(7/443)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
{ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) }.
يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنه عَلَّمه الذي جاء به إلى الناس { شَدِيدُ الْقُوَى } ، وهو جبريل ، عليه السلام ، كما قال : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } [ التكوير : 19 - 21 ].
وقال هاهنا : { ذُو مِرَّةٍ } أي : ذو قوة. قاله مجاهد ، والحسن ، وابن زيد. وقال ابن عباس : ذو منظر حسن.
وقال قتادة : ذو خَلْق طويل حسن.
ولا منافاة بين القولين ؛ فإنه ، عليه السلام ، ذو منظر حسن ، وقوة شديدة. وقد ورد في الحديث الصحيح من رواية أبي هريرة وابن عمرو (1) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا تحل الصدقة لغنيٍّ ، ولا لِذِي مرّة سَوِيّ" (2).
وقوله : { فَاسْتَوَى } يعني : جبريل ، عليه السلام. قاله مجاهد والحسن وقتادة ، والربيع بن أنس.
{ وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى } يعني : جبريل ، استوى في الأفق الأعلى. قاله عكرمة وغير واحد. قال عكرمة : والأفق الأعلى : الذي يأتي منه الصبح. وقال مجاهد : هو مطلع الشمس. وقال قتادة : هو الذي يأتي منه النهار. وكذا قال ابن زيد ، وغيرهم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا مُصَرِّف بن عمرو اليامي أبو القاسم ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن طلحة بن مصرف ، حدثني أبي ، عن الوليد - هو ابن قيس - عن إسحاق بن أبي الكَهْتَلَة أظنه ذكره عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل في صورته إلا مرتين ، أما واحدة فإنه سأله أن يراه في صورته فسد الأفق. وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد ، فذلك (3) قوله : { وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى }.
وقد قال ابن جرير هاهنا قولا لم أره لغيره ، ولا حكاه هو عن أحد ، وحاصله : أنه ذهب إلى أن المعنى : { فَاسْتَوَى } أي : هذا الشديد القوى ذو المرة هو ومحمد صلى الله عليهما وسلم { بِالأفُقِ الأعْلَى } أي : استويا جميعا بالأفق ، وذلك ليلة الإسراء كذا قال ، ولم يوافقه أحد على ذلك. ثم
__________
(1) في م : "ابن عمرو وأبي هريرة".
(2) حديث عبد الله بن عمرو : رواه أبو داود في السنن برقم (1634) والترمذي في السنن برقم (652) عن ريحان بن يزيد عنه وحديث أبي هريرة : رواه النسائي في السنن (5/99) وابن ماجه في السنن برقم (1839) عن سالم بن أبي الجعد عنه.
(3) في م : "فكذلك".
(7/444)
شرع يوجه ما قال من حيث العربية فقال : وهذا كقوله تعالى : { أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا } [ النمل : 67 ] ، فعطف بالآباء على المكنّى في { كنا } من غير إظهار "نحن" ، فكذلك قوله : { فَاسْتَوَى. وَهُوَ } قال : وذكر الفراء عن بعض العرب أنه أنشده :
ألم تَرَ أنّ النبعَ يَصْلُبُ عُودُه... ولا يَسْتَوي والخرْوعُ المُتَقصِّفُ (1)
وهذا الذي قاله من جهة العربية متجه ، ولكن لا يساعده المعنى على ذلك ؛ فإن هذه الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الإسراء ، بل قبلها ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الأرض ، فهبط عليه جبريل ، عليه السلام ، وتدلى إليه ، فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله عليها ، له ستمائة جناح ، ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ، يعني ليلة الإسراء ، وكانت هذه الرؤية الأولى في أوائل البعثة بعد ما جاءه جبريل ، عليه السلام ، أول مرة ، فأوحى الله إليه صدر سورة "اقرأ" ، ثم فتر الوحي فترة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم فيها مرارا ليتردى من رؤوس الجبال ، فكلما هَمّ بذلك ناداه جبريل من الهواء : "يا محمد ، أنت رسول الله حقا ، وأنا جبريل". فيسكن لذلك جأشه ، وتقر عينه ، وكلما طال عليه الأمر عاد لمثلها ، حتى تَبَدّى له جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأبطح في صورته التي خلقه الله عليها ، له ستمائة جناح قد سد عُظْم خلقه الأفق ، فاقترب منه (2) وأوحى إليه عن الله ، عز وجل ، ما أمره به ، فعرف عند ذلك عظمة المَلَك الذي جاءه بالرسالة ، وجلالة قَدْره ، وعلوّ مكانته عند خالقه الذي بعثه إليه. فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده حيث قال :
حدثنا سلمة بن شَبِيب ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا الحارث بن عبيد ، عن أبي عمران الجَوْني ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بينا أنا قاعد إذ جاء جبريل ، عليه السلام ، فوَكَز بين كتفي ، فقمت إلى شجرة فيها كَوَكْرَي الطير ، فقعد في أحدهما وقعدت في الآخر. فَسَمَت وارتفعت حتى سَدّت الخافقين وأنا أقلب طرفي ، ولو شئت أن أمس السماء لمسست ، فالتفت إلي جبريل كأنه حلْس لاطٍ (3) ، فعرفتُ فضل علْمه بالله علي. وفُتِح لي بابٌ من أبواب السماء ورأيت النور الأعظم ، وإذا دون الحجاب رفرفة الدر والياقوت. وأوحى إلي ما شاء الله أن يوحي".
ثم قال البزار : لا يرويه إلا الحارث بن عبيد ، وكان رجلا مشهورا من أهل البصرة (4).
قلت : الحارث بن عُبَيد هذا هو أبو قدامة الإيادي ، أخرج له مسلم في صحيحه إلا أن ابن معين ضعَّفه ، وقال : ليس هو بشيء. وقال الإمام أحمد : مضطرب الحديث. وقال أبو حاتم الرازي : كتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن حبان : كَثُر وَهَمه فلا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد. فهذا الحديث من غرائب رواياته ، فإن فيه نكارة وغرابة ألفاظ وسياقًا عجيبا ، ولعله منام ، والله أعلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ، حدثنا شريك ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، عن عبد الله
__________
(1) البيت في تفسير الطبري (27/25) وهو لجرير بن عطية.
(2) في م : "وأقرب منه".
(3) في م : "لاطي".
(4) مسند البزار برقم (58).
(7/445)
قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح ، كل جناح منها قد سَدّ الأفق ، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم (1). انفرد به أحمد (2).
وقال أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن إدريس بن مُنَبِّه ، عن وهب بن منبه ، عن ابن عباس قال : سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل أن يراه في صورته ، فقال : ادع ربك. فدعا ربه ، عز وجل ، فطلع عليه سواد من قبل المشرق ، فجعل يرتفع وينتشر ، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم صعِق ، فأتاه فَنَعَشَه ومسح البزاق عن شِدْقه.
انفرد به أحمد (3). وقد رواه ابن عساكر في ترجمة "عتبة بن أبي لهب" ، من طريق محمد بن إسحاق ، عن عثمان بن عروة بن الزبير ، عن أبيه ، عن هَبَّار بن الأسود قال : كان أبو لهب وابنه عتبة قد تجهزا إلى الشام ، فتجهزت معهما ، فقال ابنه عتبة : والله لأنطلقن إلى محمد ولأوذينه في ربه ، سبحانه ، فانطلق حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد ، هو يكفر بالذي دنى فتدلى ، فكان قاب قوسين أو أدنى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اللهم ابعث إليه كلبا من كلابك". ثم انصرف عنه فرجع إلى أبيه فقال : يا بني ، ما قلت له ؟ فذكر له ما قال له ، قال : فما قال لك ؟ قال : قال : "اللهم سلط عليه كلبا من كلابك" قال : يا بني ، والله ما آمنُ عليك دُعاءه. فسرنا حتى نزلنا الشراة ، وهي مأْسَدَة ، ونزلنا إلى صَوْمَعة راهب ، فقال الراهب : يا معشر العرب ، ما أنزلكم هذه البلاد فإنها تسرح الأسْدُ فيها كما تسرح الغنم ؟ فقال لنا أبو لهب : إنكم قد عرفتم كبر سني وحقي ، وإن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوةً - والله - ما آمنها عليه ، فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة ، وافرشوا لابني عليها ، ثم افرشوا حولها. ففعلنا ، فجاء الأسد فَشَمّ وجوهنا ، فلما لم يجد ما يريد تَقَبّض ، فوثب ، فإذا هو فوق المتاع ، فشم وجهه ثم هزمه هَزْمة فَفَضخ رأسه. فقال أبو لهب : قد عرفت أنه لا ينفلت عن دعوة محمد (4).
وقوله : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } أي : فاقترب جبريل إلى محمد لما هبط عليه إلى الأرض ، حتى كان بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أي : بقدرهما إذا مُدّا. قاله (5) مجاهد ، وقتادة.
وقد قيل : إن المراد بذلك بُعدُ ما بين وتر القوس إلى كبدها.
وقوله : { أَوْ أَدْنَى } قد تقدم أن هذه الصيغة تستعمل في اللغة لإثبات المخبر عنه ونفي ما زاد عليه ، كقوله : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [ البقرة : 74 ] ، أي : ما هي بألين من الحجارة ، بل هي مثلها أو تزيد عليها في الشدة والقسوة. وكذا قوله : { يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [ النساء : 77 ] ، وقوله : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [الصافات : 147] ،
__________
(1) في أ : "أعلم".
(2) المسند (1/395).
(3) المسند (1/322).
(4) لم أجد ترجمة عتبة بن أبي لهب في تاريخ دمشق المخطوط ولا في مختصره لابن منظور.
(5) في م : "قال".
(7/446)
أي : ليسوا أقل منها بل هم مائة ألف حقيقة ، أو يزيدون عليها. فهذا تحقيق للمخبر به لا شك ولا تردد (1) ، فإن هذا ممتنع هاهنا ، وهكذا هذه الآية : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى }.
وهذا الذي قلناه من أن هذا المقترب الداني الذي صار بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم ، إنما هو جبريل ، عليه السلام ، هو قول أم المؤمنين عائشة ، وابن مسعود ، وأبي ذر ، وأبي هريرة ، كما سنورد أحاديثهم قريبا إن شاء الله. وروى مسلم في صحيحه ، عن ابن عباس أنه قال : "رأى محمد ربه بفؤاده مرتين" (2). فجعل هذه إحداهما. وجاء في حديث شريك بن أبي نمر ، عن أنس في حديث الإسراء : "ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى" ولهذا تكلم (3) كثير من الناس في متن هذه الرواية ، وذكروا أشياء فيها من الغرابة ، فإن صح فهو محمول على وقت آخر وقصة أخرى ، لا أنها تفسير لهذه الآية ؛ فإن هذه كانت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض لا ليلة الإسراء ؛ ولهذا قال بعده : { وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى } ، فهذه هي ليلة الإسراء والأولى كانت في الأرض.
وقد قال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا سليمان الشيباني ، حدثنا زر بن حبيش قال : قال عبد الله بن مسعود في هذه الآية : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "رأيت جبريل له ستمائة جناح" (4).
وقال ابن وهب : حدثنا ابن لَهِيعة ، عن أبي الأسود ، عن عُرْوَة ، عن عائشة قالت : كان أولَ شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى في منامه جبريل بأجياد ، ثم إنه خرج ليقضي حاجته فصرخ به جبريل : يا محمد ، يا محمد. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينا وشمالا فلم ير شيئًا (5) - ثلاثا - ثم رفع بصره فإذا هو ثان إحدى رجليه مع (6) الأخرى على أفق السماء فقال : يا محمد ، جبريل ، جبريلُ - يُسكّنه - فهرب النبي صلى الله عليه وسلم حتى دخل في الناس ، فنظر فلم ير شيئًا ، ثم خرج من الناس ، ثم نظر فرآه ، فدخل في الناس فلم ير شيئًا ، ثم خرج فنظر فرآه ، فذلك قول الله عز وجل : { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. [مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (7) ] } إلى قوله : { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } يعني جبريل إلى محمد ، { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } : ويقولون : القاب نصف الأصبع. وقال بعضهم : ذراعين كان بينهما.
رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، من حديث ابن وهب (8). وفي حديث الزهري عن أبي سلمة ، عن جابر شاهد لهذا.
وروى البخاري عن طَلْق بن غنام ، عن زائدة ، عن الشيباني قال : سألت زرًّا عن قوله :
__________
(1) في م ، أ : "ولا ترديد".
(2) صحيح مسلم برقم (176).
(3) في م : "ولهذا قد تكلم".
(4) تفسير الطبري (27/27).
(5) في م : "أحدا".
(6) في م ، أ : "على".
(7) زيادة من م.
(8) تفسير الطبري (27/27).
(7/447)