الوحدة السورية – المصرية: كيف نشأت؟ ولماذا انهارت ؟
عبد الحميد السرّاج حوّل سوريا سجناً كبيراً بدعم من عبد الناصر
وأنشأ مكتباً أمنياً خاصاً تدخّل عبره في الشؤون اللبنانيّة
صبحي منذر ياغي
الوحدة السورية – المصرية التي اعلنت في 22 شباط من العام 1958، احدثت جدلا كبيرا في الاوساط السياسية العربية، التي انقسمت بين مؤيد لها، واعتبارها بداية لتحقيق احلام الشعوب العربية في الوحدة، وآخر رافض، معتبرا ان هذه الوحدة كانت مجرد خطوة ارتجالية عاطفية لم ترتكز على اسس منطقية وواقعية، بل في اطار المصالح الامنية والسياسية التي كانت سائدة في تلك الظروف. وان انهيار هذه الوحدة بعد ثلاث سنوات من اعلانها يشكل دليلا على استحالة تحقيق الوحدة العربية، وعلى استحالة تجاهل خصوصيات الاوطان، وخصوصية كل شعب عربي، واستحالة تذويب الشعوب... فكيف نشأت هذه الوحدة؟ وكيف انهارت؟ ومن هو الضابط عبد الحميد السراج (الذي اتى على ذكره النائب وليد جنبلاط في مؤتمر البريستول)، الذي يتهمه كثيرون بلعب دور في حدوث الانفصال، بسبب مواقفه، وتصرفاته، وترسيخه الحكم البوليسي الاستخباراتي في سوريا؟
اعتبر البعض ان الوحدة المصرية – السورية التي اعلنت في 22 شباط من العام 1958، كانت نتيجة المطالبة الدائمة لمجموعة من الضباط السوريين، في وقت كان فيه قادة حزب البعث العربي الاشتراكي قد قاموا بحملة من اجل الاتحاد مع مصر. اذ يرى الصحافي باتريك سيل "... ان جمال عبد الناصر لم يكن متحمسا لوحدة عضوية مع سوريا، ولم يكن يطمح لادارة شؤون سوريا الداخلية ولأن يرث مشاكلها. كان بالاحرى ينادي بـ "التضامن العربي" الذي بموجبه يقف العرب وراءه ضد القوى العظمى، وكان يحتاج بصورة خاصة الى السيطرة على سياسة سوريا الخارجية بهدف حشر
اعدائه من الغربيين والعرب... وكانت هذه فكرة مختلفة تماما عن برنامج البعث الوحدوي الداعي الى تحطيم الحدود. ولكنه لم يستطع ان يأخذ شيئا ويدع شيئا، وهكذا دفعه السوريون دفعا الى الموافقة على قيام الجمهورية العربية المتحدة...".
ورأى الدكتور جورج جبور: "انه منذ منتصف عام 1954، ومنذ مطلع عام 1955 خصوصا، ابدت الجماهير في سوريا اهتماما خاصا بثورة مصر: اتفاقية القناة، مقاومة الاحلاف، بلورة الفكرة العربية لدى قادة ثورة مصر، الضغط الصهيوني على مصر متمثلا في الحملة على غزة في مطلع عام 1955، مؤتمر باندونغ، صفقة الاسلحة، توضح الاتجاه الاجتماعي للثورة ومحاربتها الجدية للاقطاع... كل ذلك اكسب الثورة وقائدها احتراما عظيما في الاوساط التقدمية والديموقراطية في القطر العربي السوري، فاذا اضفنا الى كل ذلك الوزن الذي تمثله مصر في الوطن العربي: بشريا وحضاريا وجغرافيا خصوصا، اتضح لدينا ان استقطاب الزعامة الناصرية للجماهير العربية في النصف الثاني من الخمسينات كان امرا محتما".
وتابع جبور: "بدأت ملامح هذا الاستقطاب في سوريا عام 1955 حين طرحت حكومة الثورة في مصر مواجهة حلف بغداد شعار انتهاج سياسة عربية خارجية مستقلة، ضمن نطاق الجامعة العربية، وتقوية ميثاق الضمان الجماعي العربي. لقي هذا الشعار ما يستحقه من تقدير لدى القوى الوطنية في سوريا فألفت حكومة جديدة ساهم فيها حزب البعث في الحكم، كذلك بدأت منذ تلك الفترة دعوة حزب البعث الى الاتحاد بين مصر وسوريا باعتبار انهما البلدان الاكثر تحررا من البلدان العربية الاخرى".
ويرى المؤرخون لتلك الفترة من تاريخ سوريا السياسي، انه مع انتخاب شكري القوتلي في العام 1955، حسم الموقف لمصلحة التيار المنادي بالتعاون والتحالف مع مصر، واتفقت مصر وسوريا على انشاء قيادة عسكرية موحدة يكون مركزها في دمشق، وكانت العوامل الخارجية قد لعبت دورها الاول في تعزيز هذا التقارب، حيث بدأ الاتحاد السوفياتي في بداية عام 1956، بحملة ديبلوماسية واسعة لاكتساب دول الشرق الاوسط، وقبلت سوريا ومصر في شهر شباط من نفس العام صفقات السلاح السوفياتي في الوقت الذي كان فيه حلف بغداد يهدد الاراضي السورية بدعم من بريطانيا. ورأى الدكتور احمد سرحال انه عند اندلاع معركة سيناء في تشرين الاول من العام 1956 ووقوع العدوان الثلاثي على مصر "اعلنت الحكومة السورية حالة الطوارئ في اراضيها واتجهت وحدات من قواتها للمرابطة في الاردن بعدما عطلت خط انابيب التابلين الناقلة للبترول العراقي الى الساحل اللبناني. وقد اضطرت هذه الوحدة للانسحاب من الاردن ابتداء من 24 نيسان 1957 بعد ان هددت القوات الاميركية بالتدخل ضدها".
وتابع سرحال: "لم يعد بوسع الحكومة السورية التراجع عن سياستها الجديدة اذ شعرت بقدر من العزلة امام السياسة العراقية بل والاسرائيلية. فعقدت في شهر تشرين الاول 1957 معاهدة للتعاون الاقتصادي مع الاتحاد السوفياتي. واجتمع في 18 تشرين الاول 1957 مجلس النواب السوري ومجلس النواب المصري في جلسة مشتركة واصدرا بالاجماع بياناًً فيه دعوة الى حكومتي البلدين للاجتماع وتقرير الاتحاد بين الدولتين. وفي هذا الاتجاه اجتمع رئيسا البلدين واركان حكومتيهما واصدروا بياناً في 22 شباط 1958 اعلنوا فيه توحيد القطرين في دولة واحدة في الجمهورية العربية المتحدة التي قرر ان يكون نظامها رئاسياً ديموقراطياً. وبالفعل جرى استفتاء شعبي على الوحدة وتم انتخاب جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية العربية المتحدة. ووضع في 5 آذار 1958 دستور جديد موقت للجمهورية العربية المتحدة... وقد اناط الدستور السلطة التنفيذية برئيس الجمهورية يمارسها فعلياً بمعاونة نواب الرئيس الوزراء الذين يعينهم ويقيلهم بنفسه، وهم مسؤولون امامه دون غيره. علماً بانه كان هناك الى جانب الحكومة المركزية في الجمهورية العربية المتحدة مجلسان تنفيذيان اقليميان: المجلس التنفيذي المصري، والمجلس التنفيذي السوري اللذان يرأس كل منهما وزير مركزي، اما السلطة التشريعية فقد تولاها مجلس الامة المكون من نواب يعين نصفهم رئيس الجمهورية والنصف الآخر يختاره من بين اعضاء مجلس النواب السابقين في سوريا ومصر، وقد منح مجلس الامة حق طرح الثقة بالوزراء، ولكن بصورة افرادية من دون المسؤولية الوزارية الجماعية التي بقيت قائمة امام رئيس الجمهورية فقط. وبذلك حافظ النظام على طبيعته الرئاسية المتشددة، ولا سيما وان بعض اعضاء المجلس كانوا يعينون من قبل الرئيس، وهذا يخالف ويتجاوز طبيعة النظام الرئاسي القائم مبدئياً على الفصل بين السلطات".
المحامي غالب ياغي (الذي تولى في تلك الحقبة امانة سر القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي في لبنان)، اعتبر ان الوحدة العربية كانت وما زالت حلماً بالنسبة الى العرب، وجاءت الوحدة المصرية السورية تلبية لرغبات الشعبين المصري والسوري، في اطار الجو الدولي الضاغط، والاحداث التي شهدها الوطن العربي من تأميم قناة السويس، والعدوان الثلاثي على مصر، والحشودات التركية على الحدود السورية وصولاً الى قيام حلف بغداد بالمؤامرات والدسائس... ومنذ ايام انشاء حكومة صبري العسلي في سوريا اصر ميشال عفلق ان يتضمن البيان الوزاري للحكومة الدعوة الى الوحدة السورية المصرية، وقد لاقت هذه الدعوة تأييد مجلس الشعب السوري. وقد قام عدد من قادة الألوية في الجيش السوري بمفاوضة الحكومة المصرية حول الوحدة، وكان من بين هؤلاء عبد الغني قنوت، وامين الحافظ، وصلاح جديد، ومصطفى حمدون... واعلنت الوحدة، ومنح الرئيس السوري شكري القوتلي لقب "المواطن العربي الاول".
امل وتحديات
ورأى سامي شرف (وزير الدولة وسكرتير الرئيس جمال عبد الناصر): "... ان الوحدة مع سوريا، نجحت في تحقيق الاستقرار الذي لم تنعم به من قبل منذ بدأ تاريخها الحديث بعد الحرب العالمية الاولى، ووفرت لها كل المقومات لتقوم بدورها العربي... واستطاعت سوريا في ظل الوحدة ان تحقق تغييرات اجتماعية عميقة كانت تتطلع اليها منذ الاستقلال، ووقف الاقطاع السوري ضدها فقد كانت قوانين تموز 1961 تحقيقاً لمطالب متراكمة منذ زمن طويل لم يستطع اي حزب سياسي ان يحققها... واثبتت هذه التجربة ان الوحدة العربية حقيقية، وان اسسها صحيحة، وجسدت حلم الامة العربية والثورة العربية...". وفي لقاء مع النائب سامي الخطيب الذي عايش تلك الفترة من موقعه كضابط امني في الشعبة الثانية (الاستخبارات اللبنانية)، اعتبر ان "الوحدة المصرية السورية كانت نتيجة لتطلعات الشعوب العربية وامانيها في التوحد، وكانت جزءاً من احلامنا وتطلعاتنا".
وفي رأي غالب ياغي ان الوحدة بين مصر وسوريا "اعطت الامل للمواطن العربي بامكان السعي الى الوحدة الشاملة، وكانت في تلك الفترة الرد الحاسم على المؤامرات التي كانت تستهدف سوريا ومصر ولبنان وبقية الدول العربية...".
في المقابل فان المعارضين لمشروع الوحدة والمتابعين لهذه الفترة التاريخية، اكدوا انه منذ قيام الجمهورية العربية المتحدة، بدأت الممارسات "الديكتاتورية" من جانب الرئيس عبد الناصر، الذي عمد الى اقتلاع احشاء السياسة السورية، وكان قد وضع شرطين لقيام هذه الوحدة، اولهما ان يمتنع الضباط عن ممارسة العمل السياسي، وحلّّ الاحزاب في سوريا ومن بينها حزب البعث، وهذا ما اثار نقمة عدد كبير من البعثيين الذين لم يتوقعوا استبعادهم من الوحدة وهم من صانعيها. وفي رأي بارتيك سيل، ان قادة حزب البعث كانوا يتوقعون ان يصبحوا المعلمين العقائديين للجمهورية العربية المتحدة، وان يزودوا عبد الناصر بعقيدة متكاملة، ويعلموا العروبة لمصر نفسها. ولكن كل ذلك لم يكن سوى احلام يقظة. فبدلاً من الحياة الحزبية الجاهزة التي كانت قائمة في سوريا انشأ عبد الناصر تركيباً كان في الوقت نفسه سلطوياً وكسيحاً مخلع الاوصال. فكل القرارات كانت تتخذ عنده في القاهرة، حيث كان يعمل بواسطة مجموعة صغيرة من الضباط ورجال الامن. اما في دمشق فكان اعتماده على رجل امن صموت هو العقيد عبد الحميد السراج الذي رفعه وجعله وزيراً للداخلية.
السياسة المتبعة تجاه سوريا افقدتها سيطرتها على شؤونها الداخلية والخارجية، وانعدمت الحياة السياسية فيها، لتنحصر في ايدي المسؤولين المصريين، ولم تعد دمشق سوى مركز محافظة، وانشأ عبد الناصر حكومة مركزية ضمت: اكرم الحوراني، وصلاح الدين البيطار، وكانت الشؤون المصرية والسورية، من اختصاص مجلسين تنفيذيين محليين. وفي تشرين الثاني عام 1959 ارسل الرئيس جمال عبد الناصر ابرز مساعديه المشير عبد الحكيم عامر ليتولى حكم سوريا التي اطلق عليها اسم الاقليم الشمالي، اما مصر فكانت الاقليم الجنوبي.
ولأن الوحدة لم تأت وفق ما تمناه السوريون، بدأ عدد منهم التعبير عن رفضه ومشاعره وخصوصاً بسبب التدخلات المصرية في الشاردة والواردة، وبسبب تهميش دور الزعماء والقادة السوريين، حتى اولئك الذين كانوا في المناصب الحكومية، ومنهم اكرم الحوراني الذي اعرب عن خيبة امله "... وغادر الحوراني القاهرة بعدما نفض يديه منها عائداً الى بلدة حماه وسط خيبة امل كاملة من تجربة الوحدة مع مصر...".
وكما ذكر باتريك سيل انه "كانت لدى الحوراني اسباب شخصية وراء مرارته، نظراً الى أن وضعه السياسي قد تضرر تحت حكم عبد الناصر، فقبل الوحدة كان هو صانع الحكام في سوريا، كان قوياً في اوساط الجيش، محبوباً من الفلاحين... ثم جاء عبد الناصر وانتزع منه كل ذلك واعطاه في المقابل منصباً شكلياً فارغاً في حكومة الجمهورية العربية المتحدة، الى ان رمى بهذا المنصب باشمئزاز...".
واشار المحامي غالب ياغي الى ان اكرم الحوراني ابلغه في بيروت ان الاختلاف بينه وبين عبد الناصر كان سببه الرئيسي، موضوع تحويل الاسرائيليين لنهر الاردن، وهذا ما دفعه الى تقديم استقالته من منصب نيابة الرئاسة ومن وزارة العدل في الحكومة المركزية، وأصدر الحوراني بياناً في 13 حزيران 1963 بعد انفصال سوريا عن مصر تحدث فيه عما جرى في جلسة الوزارة المركزية في القاهرة بتاريخ 29 تشرني الثاني 1959 (وقد ذكر الحوراني ذلك في مذكراته الصادرة عن مكتبة مدبولي في القاهرة عام 2000).
ويذكر الذين عايشوا تلك الفترة كيف بدأت عملية ضرب المعارضين من الشيوعيين بالدرجة الاولى لتطول بعدها البعثيين، ولعب المقدم عبد الحميد السراج دور الجلاد، فزجّ عدداً من المعارضين في غياهب السجون وفي الاقبية السود، وتعرض الكثير من هؤلاء لابشع انواع التعذيب الجسدي والنفسي وبأساليب وحشية.
ورأى غسان زكريا (عديل عبد الحميد السراج): "... ان السراج حوّل سوريا في زمانه الى سجن كبير، اختفت فيه كل مظاهر الديموقراطية وشكلياتها، وضرب فيه وعذب وزراء ونواباً واطباء ومحامين وصحافيين ورجال اعمال ومهندسين ونساء ورجال دين، وهو ما لم يجرؤ
الاستعمار الفرنسي على مدى ربع قرن على فعله وهو يحتل الشام ولبنان بمئة الف جندي...".
الاستعمار الفرنسي على مدى ربع قرن على فعله وهو يحتل الشام ولبنان بمئة الف جندي...".