حكاية الحمال مع البنات
فإنه كان إنسان من مدينة بغداد وكان حمالاً. فبينما هو في السوق يوماً
منا لأيام متكئاً على قفصه إذ وقفت عليه امرأة ملتفة بإزار موصلي من
حرير مزركش بالذهب وحاشيتاه من قصب فرفعت قناعها فبان من تحته عيون
سوجاء بأهداب وأجفان وهي ناعمة الأطراف كاملة الأوصاف، وبعد ذلك قالت
بحلاوة لفظها: هات قفصك واتبعني. فحمل الحمال القفص وتبعها إلى أن وقفت
على باب دار فطرقت الباب فنزل له رجل نصراني، فأعطته ديناراً وأخذت منه
مقداراً من الزيتون وضعته في القفص وقالت له: احمله واتبعني، فقال
الحمال: هذا والله نهار مبارك.
ثم حمل القفص وتبعها فوقفت عند دكان فاكهاني واشترت منه تفاحاً شامياً
وسفرجلاً عثمانياً وخوخاً عمانياً وياسميناً حلبياً وبنو فراده شقياً
وخياراً نيلياً وليموناً مصرياً وتمر حنا وشقائق النعمان وبنفسجاً
ووضعت الجميع في قفص الحمال وقالت له: احمل، فحمل وتبعها حتى وقفت على
جزار وقالت له: اقطع عشرة أرطال لحمة فقطع لها، ولفت اللحم في ورق موز
ووضعته في القفص وقالت له: احمل يا حمال فحمل وتبعها، ثم وقفت على
النقلي وأخذت من سائر النقل وقالت للحمال: احمل واتبعني فحمل القفص
وتبعها إلى أن وقفت على دكان الحلواني واشترت طبقاً وملأته جميع ما
عنده من مشبك وقطايف وميمونة وأمشاط وأصابع ولقيمات القاضي ووضعت جميع
أنواع الحلاوة في الطبق ووضعته في القفص. فقال الحمال: لو أعلمتني لجئت
معي ببغل تحمل عليه هذه الأشياء، فتبسمت.
ثم وقفت على العطار واشترت منه عشرة مياه ماء ورد وماء زهر وخلافه
وأخذت قدراً من السكر وأخذت ماء ورد ممسك وحصى لبان ذكر وعودا عنبر
ومسكاً وأخذت شمعاً اسكندرانياً ووضعت الجميع في القفص وقالت للحمال:
احمل قفصك واتبعني، فحمل القفص وتبعها إلى أن أتت داراً مليحة وقدامها
رحبة فسيحة وهي عالية البنيان مشيدة الأركان بابها صنع من الأبنوس مصفح
بصفائح الذهب الأحمر، فوقفت الصبية على الباب ودقت دقاً لطيفاً وإذا
بالباب انفتح بشقتيه.
فنظر الحمال إلى من فتح لها الباب فوجدها صبية رشيقة القد قاعدة النهد
ذات حسن وجمال وقد واعتدال وجبين كثغرة الهلال وعيون كعيون الغزلان
وحواجب كهلال رمضان وخدود مثل شقائق النعمان وفم كخاتم سليمان ووجه
كالبدر في الإشراق ونهدين كرمانتين وبطن مطوي تحت الثياب كطي السجل
للكتاب.
فلما نظر الحمال إليها سلبت عقله وكاد القفص أن يقع من فوق رأسه، ثم
قال: ما رأيت عمري أبرك من هذا النهار، فقالت الصبية البوابة للدلالة
والحمال مرحبا وهي من داخل الباب ومشوا حتى انتهوا إلى قاعة فسيحة
مزركشة مليحة ذات تراكيب وشاذر وأثاث ومصاطب وسدلات وخزائن عليها
الستور مرخيات، وفي وسط القاعة سرير من المرمر مرصع بالدر والجوهر
منصوب عليه ناموسية منا لأطلس الأحمر ومن داخله صبية بعيون بابلية
وقامة ألفية ووجه يخجل الشمس المضيئة، فكأنها بعض الكواكب الدرية أو
عقيلة عربية كما قال فيها الشاعر:
فنهضت الصبية الثالثة من فوق السرير وخطرت قليلاً إلى أن صارت في وسط
القاعة عند أختيها وقالت: ما وقوفهم، حطوا عن رأس هذا الحمال المسكين،
فجاءت الدلالة من قدامه والبوابة من خلفه، وساعدتهما الثالثة وحططن عن
الحمال وأفرغن ما في القفص وصفوا كل شيء في محله وأعطين الحمال دينارين
وقلن له: توجه يا حمال، فنظر إلى البنات وما هن فيه من الحسن والطبائع
الحسان فلم ير أحسن منهن ولكن ليس عندهن رجال.
ونظر ما عندهن من الشراب والفواكه والمشمومات وغير ذلك فتعجب غاية
العجب ووقف عن الخروج، فقالت له الصبية: ما بالك لا تروح? هل أنت
استقللت الأجرة، والتفتت إلى أختها وقالت لها: أعطيه ديناراً آخر فقال
الحمال: والله يا سيداتي إن أجرتي نصفان، وما استقللت الأجرة وإنما
اشتغل قلبي وسري بكن وكيف حالكن وأنتن وحدكن وما عندكن رجال ولا أحد
يؤانسكن وأنتن تعرفن أن المنارة لا تثبت إلا على أربعة وليس لكن رابع،
وما يكمل حظ النساء إلا بالرجال كما قال الشاعر:
أنتن ثلاثة فتفتقرن إلى رابع يكون رجلاً عاقلاً لبيباً حاذقاً وللأسرار
كاتماً فقلن له: نحن بنات ونخاف أن نودع السر عند من لا يحفظه، وقد
قرأنا في الأخبار شعراً:
فلما سمع الحمال كلامهن قال: وحياتكن أني رجل عاقل أمين قرأت الكتب
وطالعت التواريخ، أظهر الجميل وأخفي القبيح وأعمل بقول الشاعر:
فلما سمعت البنات الشعر والنظام وما أبداه من الكلام قلن له: أنت تعلم
أننا غرمنا على هذا المقام جملة من المال فهل معك شيء تجازينا به، فنحن
لا ندعك تجلس عندنا حتى تغرم مبلغنا من المال لأن خاطرك أن تجلس عندنا
وتصير نديمنا وتطلع على وجوهنا الصباح الملاح. فقالت صاحبة الدار: وإذا
كانت بغير المال محبة فلا تساوي وزن حبة، وقالت البوابة إن يكن معك شيء
رح بلا شيء فقالت الدلالة يا أختي نكف عنه فوالله ما قصر اليوم معنا
ولو كان غيره ما طول روحه علينا ومهما جاء عليه أغرمه عنه.
ففرح الحمال وقال والله ما استفتحت بالدراهم إلا منكن، فقلن له اجلس
على الرأس والعين وقامت الدلالة وشدت وسطها وصبت القناني وروقت المدام
وعملت الخضرة على جانب البحر وأحضرت ما يحتاجون إليه ثم قدمت وجلست هي
وأختها وجلس الحمال بينهن وهو يظن أنه في المنام. ولم يزل الحمال معهن
في عناق وتقبيل وهذه تكلمه وهذه تجذبه وهذه بالمشموم تضربه وهو معهن
حتى لعبت الخمرة بعقولهم.
فلما تحكم الشراب معهم قامت البوابة وتجردت من ثيابها وصارت عريانة ثم
رمت نفسها في تلك البحيرة ولعبت في الماء وأخذت الماء في فمها وبخت
الحمال ثم غسلت أعضاءها وما بين فخذيها ثم طلعت من الماء ورمت نفسها في
حجر الحمال وقالت له يا حبيبي ما اسم هذا وأشارت إلى فرجها.
فقال الحمال رحمك، فقالت يوه أما تستحي ومسكته من رقبته وصارت تصكه
فقال فرجك، فقالت غيره فقال: كسك، فقالت غيره فقال زنبورك، فلم تزل
تصكه حتى ذاب قفاه ورقبته من الصك، ثم قال لها وما اسمه فقالت له: حبق
الجسور، فقال الحمد لله على السلامة يا حبق الجسور. ثم أنهم أداروا
الكأس والطاس.
فقامت الثانية وخلعت ثيابها ورمت نفسها في تلك البحيرة وعملت مثل
الأولى وطلعت ورمت نفسها في حجر الحمال، وأشارت إلى فرجها وقالت له نور
عيني ما اسم هذا قال فرجك، فقالت له: ما يقبح عليك هذا الكلام وصكته
كفاطن له سائر ما في القاعة فقال حبك الجسور، فقالت له: لا، والضرب
والصك من قفاه فقال لها وما اسمه فقالت له السمسم المقشور.
ثم قامت الثالثة وخلعت ثيابها ونزلت تلك البحيرة وفعلت مثل من قبلها ثم
لبست ثيابها وألقت نفسها في حجر الحمال وقالت له أيضاً ما اسم هذا
وأشارت إلى فرجها، فصار يقول لها كذا وكذا إلى أن قال لها وهي تضربه
وما اسمه فقالت خان أبي منصور.
ثم بعد ساعة قام الحمال ونزع ثيابه ونزل البحيرة وذكره يسبح في الماء
وغسل مثل ما غسلن. ثم طلع ورمى نفسه في حجر سيدتهن ورمى ذراعيه في حجر
البوابة ورمى رجليه في حجر الدلالة ثم أشار إلى أيره، وقال: يا سيدتي
ما اسم هذا فضحك الكل على كلامه حتى انقلبن على ظهورهن وقلن زبك قال لا
وأخذ من كل واحدة عضة قلن أيرك قال لا، وأخذ من كل واحدة حضناً. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
في الليلة العاشرة
قالت لها أختها دنيازاد: يا أختي أتمي لنا حديثك قالت حباً وكرامة: قد
بلغني أيها الملك السعيد أنهن لم يزلن يقلن زبك، أيرك وهو يقبل ويعانق
وهن يتضاحكن إلى أن قلن له وما اسمه قال: اسمه البغل الجسور الذي رعى
حبق الجسور ويلعق السمسم المقشور ويبيت في خان أبي منصور فضحكن حتى
استلقين على ظهورهن ثم عادوا إلى منادمتهم ولم يزالوا كذلك إلى أن أقبل
الليل عليهم فقلن للحمال توجه وأرنا عرض أكتافك.
فقال الحمال والله خروج الروح أهون من الخروج من عندكن، دعونا نصل
الليل بالنهار وكل منا يروح في حال سبيله فقالت الدلالة بحياتي عندكن
تدعنه ينام عندنا نضحك عليه فإنه خليع ظريف فقلن له: تبيت عندنا بشرط
أن تدخل تحت الحكم ومهما رأيته لا تسأل عنه ولا عن سببه، فقالت نعم،
فقلن قم واقرأ ما على الباب مكتوباً، فقام إلى الباب فوجد مكتوباً عليه
بماء الذهب: لا تتكلم فيما لا يعنيك تسمع ما لا يرضيك.
فقال الحمال اشهدوا أني لا أتكلم فيما لا يعنيني، ثم قامت الدلالة
وجهزت لهم مأكولاً ثم أوقدوا الشمع والعود وقعدوا في أكل وشرب وإذا هم
سمعوا دق الباب فلم يختل نظامهم فقامت واحدة منهن إلى الباب ثم عادت
وقالت كمل صفاؤنا في هذه الليلة لأني وجدت بالباب ثلاثة أعجام ذقونهم
محلوقة وهم عور بالعين الشمال وهذا من أعجب الاتفاق، وهم ناس غرباء قد
حضروا من أرض الروم ولكل واحد منهم شكل وصورة مضحكة، فإن دخلوا نضحك
عليهم. ولم تزل تتلطف بصاحبتيها حتى قالتا لها دعيهم يدخلون واشترطي
عليهم أن لا يتكلموا في ما لا يعنيهم فيسمعوا ما لا يرضيهم. ففرحت
وزاحت ثم عادت ومعها الثلاثة العور ذقونهم محلوقة وشواربهم مبرومة
ممشوقة وهم صعاليك فسلموا فقام لهم البنات وأقعدوهم فنظر الرجال
الثلاثة إلى الحمال فوجدوه سكران فلما عاينوه ظنوا أنه منهم وقالوا: هو
صعلوك مثلنا يؤانسنا.
فلما سمع الحمال هذا الكلام قام وقلب عينيه وقال لهم: اقعدوا بلا فضول
أما قرأتم ما على الباب فضحك البنات وقلن لبعضهن إننا نضحك على
الصعاليك والحمال، ثم وضعن الأكل للصعاليك فأكلوا ثم جلسوا يتنادمون
والبوابة تسقيهم.
ولما دار الكأس بينهم قال الحمال للصعاليك يا إخواننا هل معكم حكاية أو
نادرة تسلوننا بها فديت فيهم الحرارة وطلبوا آلات اللهو فأحضرت لهم
البوابة فلموصليا وعوداً عراقياً وجنكاً عجمياً فقام الصعاليك واقفين
وأخذ واحد منهم الدف، وأخذ واحد العود، وأخذ واحد الجنك وضربوا بها
وغنت البنات وصار لهم صوت عال. فبينما هم كذلك وإذا بطارق يطرق الباب،
فقامت البوابة لتنظر من بالباب وكان السبب في دق الباب أن في تلك
الليلة نزل هارون الرشيد لينظر ويسمع ما يتجدد من الأخبار هو وجعفر
وزيره وسياف نقمته، وكان من عادته أن يتنكر في صفة التجار، فلما نزل
تلك الليلة ومشى في المدينة جاءت طريقهم على تلك الدار فسمعوا آلات
الملاهي فقال الخليفة جعفر هؤلاء قوم قد دخل السكر فيهم ونخشى أن
يصيبنا منهم شر، فقال لا بد من دخولنا وأريد أن نتحيل حتى ندخل عليهم
فقال جعفر: سمعاً وطاعة.
ثم تقدم جعفر وطرق الباب فخرجت البوابة وفتحت الباب، فقال لها: يا
سيدتي نحن تجار من طبرية ولنا في بغداد عشرة أيام ومعنا تجارة ونحن
نازلون في خان التجار وعزم علينا تاجر في هذه الليلة فدخلنا عنده وقدم
لنا طعاماً فأكلنا ثم تنادمنا عنده ساعة، ثم أذن لنا بالانصراف فخرجنا
بالليل ونحن غرباء فتهنا عن الخان الذي نحن فيه فنرجو من مكارمكم أن
تدخلونا هذه الليلة نبيت عندكم ولكم الثواب فنظرت البوابة إليهم
فوجدتهم بهيئة التجار وعليهم الوقار فدخلت لصاحبتيها وشاورتهما فقالتا
لها أدخليهم.
فرجعت وفتحت لهم الباب فقالوا ندخل بإذنك، قالت ادخلوا فدخل الخليفة
وجعفر ومسرور فلما أتتهم البنات قمن لهم وخدمنهم وقلن مرحباً وأهلاً
وسهلاً بضيوفنا، ولنا عليكم شرط أن لا تتكلموا فيما لا يعنيكم فتسمعوا
ما لا يرضيكم قالوا نعم. وبعد ذلك جلسوا للشراب والمنادمة فنظر الخليفة
إلى الصعاليك الثلاثة فوجدهم عور العين الشمال فتعجب منهم ونظر إلى
البنات وما هم فيه من الحسن والجمال فتحير وتعجب، واستمر في المنادمة
والحديث وأتين الخليفة بشراب فقال أنا حاج وانعزل عنهم.
فقامت البوابة وقدمت له سفرة مزركشة ووضعت عليها بمطية من الصيني وسكبت
فيها ماء الخلاف وأرخت فيه قطعة من الثلج ومزجته بسكر فشكرها الخليفة
وقال في نفسه لا بد أن أجازيها في غد على فعلها من صنيع الخير، ثم
اشتغلوا بمنادمتهم، فلما تحكم الشراب قامت صاحبة البيت وخدمتهم، ثم
أخذت بيد الدلالة وقالت: يا أختي قومي بمقتضى ديننا فقالت لها نعم،
فعند ذلك قامت البوابة وأطلعت الصعاليك خلف الأبواب قدامهن وذلك بعد أن
أخلت وسط القاعة ونادين الحمال وقلن له: ما أقل مودتك ما أنت غريب بل
أنت من أهل الدار.
فقام الحمال وشد أوسطه وقال: ما تردن فلن تقف مكانك، ثم قامت الدلالة
وقالت للحمال ساعدني، فرأى كلبتين من الكلاب السود في رقبتيهما جنازير
فأخذهما الحمال ودخل بهما إلى وسط القاعة فقامت صاحبة المنزل وشمرت عن
معصميها وأخذت سوطاً وقالت للحمال قوم كلبة منهما فجرها في الجنزير
وقدمها والكلبة تبكي وتحرك رأسها إلى الصبية فنزلت عليها الصبية بالضرب
على رأسها والكلبة تصرخ وما زالت تضربها حتى كلت سواعدها فرمت السوط من
يدها ثم ضمت الكلبة إلى صدرها ومسحت دموعها وقبلت رأسها ثم قالت للحمال
ردها وهات التالية، فجاء بها وفعلت بها مثل ما فعلت بالأولى.
فعند ذلك اشتعل قلب الخليفة وضاق صدره وغمز جعفر أن يسألها، فقال له
بالإشارة اسكت، ثم التفتت صاحبة البيت للبوابة وقالت لها: قومي لقضاء
ما عليك قالت نعم. ثم إن صاحبة البيت صعدت على سرير من المرمر مصفح
بالذهب والفضة وقالت البوابة والدلالة ائتيا بما عندكما، فأما البوابة
فإنها صعدت على سرير بجانبها وأما الدلالة فإنها دخلت مخدعاً وأخرجت
منه كيساً من الأطلس بأهداب خضر ووقفت قدام الصبية صاحبة المنزل ونفضت
الكيس وأخرجت منه عوداً وأصلحت أوتاره وأنشدت هذه الأبيات:
وأنشدت أيضاً:
فلما سمعت الصبية ذلك، قالت طيبك الله، ثم شقت ثيابها ووقعت على الأرض
مغشياً عليها، فلما نكشف جسدها رأى الخليفة أثر ضرب المقارع والسياط
فتعجب من ذلك غاية العجب فقامت البوابة ورشت الماء على وجهها وأتت
إليها بحلة وألبستها إياها، فقال الخليفة لجعفر أما تنظر إلى هذه
المرأة وما عليها من أثر الضرب، فأنا لا أقدر أن أسكت على هذا وما
أستريح إلا إن وقفت على حقيقة خبر هذه الصبية وحقيقة خبر هاتين
الكلبتين، فقال جعفر: يا مولانا قد شرطوا علينا شرطاً وهو أن لا نتكلم
فيما لا يعنينا فنسمع ما لا يرضينا، ثم قامت الدلالة فأخذت العود
وأسندته إلى نهدها، وغمزته بأناملها وأنشدت تقول:
فلما سمعت المرأة الثانية. شعر الدلالة شقت ثيابها. كما فعلت الأولى.
وصرخت ثم ألقت نفسها على الأرض مغشياً عليها، فقامت الدلالة وألبستها
حلة ثانية بعد أن رشت الماء على وجهها ثم قامت المرأة الثالثة وجلست
على سرير وقالت للدلالة غني لي لا في ديني فما بقي غير هذا الصوت
فأصلحت الدلالة العود وأنشدت هذه الأبيات:
فلما سمعت المرأة الثالثة قصيدتها صرخت وشقت ثيابها وألقت نفسها على
الأرض مغشياً عليها فلما انكشف جسدها ظهر فيه ضرب المقارع، مثل من
قبلها فقال الصعاليك ليتنا ما دخلنا هذه الدار وكنا بتنا على الكيمان،
فقد تكدر مبيتنا هنا بشيء يقطع الصلب فالتفت الخليفة إليهم وقال لهم لم
ذلك قالوا قد اشتغل سرنا بهذا الأمر فقال الخليفة أما أنتم من هذا
البيت، قالوا لا ولا ظننا هذا الموضع إلا للرجل الذي عندكم. فقال
الحمال والله ما رأيت هذا الموضع إلا هذه الليلة وليتني بت على الكيمان
ولم أبت فيه.
فقال الجميع نحن سبعة رجال وهن ثلاث نسوة وليس لهن رابعة فنسألهن عن
حالهن فإن لم يجبننا طوعاً أجبننا كرهاً واتفق الجميع على ذلك، فقال
جعفر ما هذا رأي سديد دعوهن فنحن ضيوف عندهن وقد شرطن علينا، شرطاً
فنوفي به ولم يبق من الليل إلا القليل وكل منا يمضي إلى حال سبيله، ثم
إنه غمز الخليفة وقال ما بقي غير ساعة، وفي غد تحضرهن بين يديك،
فتسألهن عن قصتهن فأبى الخليفة وقال لم يبق لي صبر عن خبرهن وقد كثر
بينهن القيل والقال، ثم قالوا ومن يسألهن فقال بعضهم الحمال ثم قال لهم
النساء يا جماعة في أي شيء تتكلمون.
فقال الحمال لصاحبة البيت وقال لها يا سيدتي سألتك بالله وأقسم عليك به
أن تخبرينا عن حال الكلبتين، وأي سبب تعاقبيهما ثم تعودين تبكين،
وتقبليهما وأن تخبرينا عن سبب ضرب أختك بالمقارع وهذا سؤالنا والسلام
فقالت صاحبة المكان للجماعة ما يقوله عنكم فقال الجميع نعم، إلا جعفر
فإنه سكت.
فلما سمعت الصبية كلامهم قالت والله لقد آذيتمونا يا ضيوفنا، الأذية
البالغة، وتقدم لنا أننا شرطنا عليكم أن من تكلم فيما لا يعنيه، سمع ما
لا يرضيه أما كفا أننا أدخلناكم منزلنا وأطعمناكم زادنا ولكن لا ذنب
لكم وإنما الذنب لمن أوصلكم إلينا ثم شمرت عن معصمها وضربت الأرض ثلاث
ضربات وقالت عجلوا.
وإذا بباب خزانة قد فتح وخرج منها سبعة عبيد بأيديهم سيوف مسلولة وقالت
كتفوا هؤلاء الذين كثر كلامهم واربطوا بعضهم ببعض ففعلوا وقالوا أيتها
المخدرة ائذني لنا في ضرب رقابهم، فقالت أمهلوهم ساعة حتى أسألهم عن
حالهم قبل ضرب رقابهم، فقال الحمال بالله يا سيدتي لا تقتليني بذنب
الغير فإن الجميع أخطأوا، ودخلوا في الذنب، إلا أنا والله لقد كانت
ليلتنا طيبة لو سلمنا من هؤلاء الصعاليك الذين لو دخلوا مدينة عامرة
لأخربوها، ثم أنشد يقول:
فلما فرغ الحمال من كلامه ضحكت الصبية، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن
الكلام المباح.
الليلة الحادية عشرة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصبية لما ضحكت بعد غيظها، أقبلت
على الجماعة وقالت أخبروني بخبركم فما بقي من عمركم إلا ساعة ولولا
أنتم أعزاء فقال الخليفة ويلك يا جعفر عرفها بنا وإلا تقتلنا فقال جعفر
من بعض ما نستحق، فقال له الخليفة لا ينبغي الهزل في وقت الجد كل منهم
له وقت ثم أن الصبية أقبلت على الصعاليك، وقالت لهم هل أنتم أخوة
فقالوا لا والله ما نحن إلا فقراء الحجام.
فقالت لواحد منهم هل أنت ولدت أعور فقال لا والله وإنما جرى لي أمر
غريب حيت تلفت عيني ولهذا الأمر حكاية لو كتبت بالإبر على أماق البصر
لكانت عبرة لمن اعتبر، فسألت الثاني والثالث فقالا لها مثل الأول ثم
قالوا أن كل منا من بلد وأن حديثنا عجيب وأمرنا غريب، فالتفتت الصبية
لهم، وقالت كل واحد منكم يحكي حكايته وما سبب مجيئه إلى مكاننا ثم يملس
على رأسه ويروح إلى حال سبيله فأول من تقدم الحمال، فقال يا سيدتي أنا
رجل حمال حملتني هذه الدلالة وأتت بي إلى هنا وجرى لي معكم ما جرى وهذا
حديثي والسلام، فقالت له ملس على رأسك وروح فقال والله ما أروح حتى
أسمع حديث رفقائي.
فتقدم الصعلوك الأول وقال لها يا سيدتي، إن سبب حلق ذقني وتلف عيني أن
والدي كان ملكاً وله أخ وكان أخوه ملكاً على مدينة أخرى واتفق أن أمي
ولدتني في اليوم الذي ولد فيه ابن عمي، ثم مضت سنون وأعوام، وأيام حتى
كبرنا وكنت أزور عمي في بعض السنين وأقعد عنده أشهر عديدة فزرته مرة
فأكرمني غاية الإكرام وذبح لي الأغنام وروق لي المدام وجلسنا للشراب
فلما تحكم الشراب فينا قال ابن عمي: يا ابن عمي إن لي عندك حاجة مهمة
فاستوثق مني بالإيمان العظام ونهض من وقته وساعته وغاب قليلاً، ثم عاد
وخلفه امرأة مزينة مطيبة وعليها من الحلل ما يساوي مبلغاً عظيماً.
فالتفت إلي والمرأة خلفه، وقال خذ هذه المرأة واسبقني على الجبانة
الفلانية ووصفها لي فعرفتها وقال ادخل بها التربة وانتظرني هناك فلم
يمكني المخالفة ولم أقدر على رد سؤاله لأجل الذي خلفته فأخذت المرأة
وسرت إلى أن دخلت التربة أنا وإياها فلما استقر بنا الجلوس جاء ابن عمي
ومعه طاسة فيها ماء وكيس فيه جبس وقدوم ثم إنه أخذ القدوم وجاء إلى قبر
في وسط التربة ففكه ونقض أحجاره إلى ناحية التربة، ثم حفر بالقدوم في
الأرض، حتى كشف عن طابق قدر الباب الصغير فبان من تحت الطابق سلم
معقود.
لم ألتفت إلى المرأة بالإشارة وقال لها دونك وما تختارين به فنزلت
المرأة على ذلك السلم، ثم التفت إلي وقال يا ابن عمي تمم المعروف إذا
نزلت أنا في ذلك الموضع فرد الطابق ورد عليه التراب كما كان وهذا تمام
المعروف وهذا الجبس الذي في الكيس وهذا الماء الذي في الطاسة أعجن منه
الجبس وجبس القبر في دائر الأحجار كما كان أول حتى لا يعرفه أحد ولا
يقول هذا فتح جديد وتطيينه عتق لأن لي سنة كاملة، وأنا أعمل فيه، وما
يعلم به إلا الله وهذه حاجتي عندك، ثم قال لي لا أوحش الله منك، يا ابن
عمي، ثم نزل على السلم.
فلما غاب عني قمت ورددت الطابق وفعلت ما أمرني به حتى صار القبر كما
كان ثم رجعت إلى قصر عمي، وكان عمي في الصيد والقنص فنمت تلك الليلة
فلما أصبح الصباح تذكرت الليلة الماضية وما جرى فيها بيني وبين ابن عمي
وندمت على ما فعلت معه حيث لا ينفع الندم، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت
عن الكلام المباح.
في الليلة الثانية عشرة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصعلوك قال للصبية ثم خرجت إلى
المقابر وفتشت على التربة فلم أعرفها ولم أزل أفتش حتى أقبل الليل ولم
أهتد إليها فرجعت إلى القصر لم آكل ولم أشرب وقد اشتغل خاطري بابن عمي
من حيث لا أعلم له حالاً فاغتممت غماً شديداً وبت ليلتي مغموماً، إلى
الصباح فجئت ثانياً إلى الجبانة وأنا أتفكر فيما فعله ابن عمي، وندمت
على سماعي منه وقد فتشت في الترب جميعاً فلم أعرف تلك التربة، ولا رمت
التفتيش سبعة أيام فلم أعرف له طريقاً.
فزاد بي الوسواس حتى كدت أن أجن فلم أجد فرجاً دون أن سافرت، ورجعت
غليه، فساعة وصولي إلى مدينة أبي نهض إلى جماعة من باب المدينة وكتفوني
فتعجبت كل العجب إني ابن سلطان المدينة وهم خدم أبي وغلماني، ولحقني
منهم خوف زائد، فقلت في نفسي يا ترى أجرى على والدي وصرت أسأل الذين
كنفوني عن سبب ذلك فلم يردوا علي جواباً.
ثم بعد حين قال لي بعضهم وكان خادماً عندي، إن أباك قد غدر به الزمان
وخانته العساكر وقتله الوزير ونحن نترقب وقوعك، فأخذوني وأنا غائب عن
الدنيا بسبب هذه الأخبار التي سمعتها عن أبي فلما تمثلت بين يدي الوزير
الذي قتل أبي وكان بيني وبينه عداوة قديمة وسبب تلك العداوة أني كنت
مولعاً بضر البندقية فاتفق أني كنت واقفاً يوماً من الأيام على سطح قصر
وإذا بطائر نزل على سطح قصر الوزير وكان واقفاً هناك، فأردت أن أضرب
الطير وغذا بالبندقية أخطأت عين الوزير، فأتلفتها بالقضاء والقدر كما
قال الشاعر:
وكما قال الآخر:
ثم قال ذلك الصعلوك: فلما أتلفت عين الوزير لم يقدر أن يتكلم لأن والدي
كان ملك المدينة فهذا سبب العداوة التي بيني وبينه فلما وقفت قدامه،
وأنا مكتف أمر فضرب عنقي فقلت أتقتلني بغير ذنب فقال أي ذنب أعظم من
هذا، وأشار إلى عينه المتلفة فقلت له: فعلت ذلك خطأ، فقال إن كنت فعلته
خطأ فأنا أفعله بك عمداً ثم قال قدموه بين يدي فقدموني بين يديه، فمد
إصبعه في عيني الشمال فأتلفها فصرت من ذلك الوقت أعور كما تروني، ثم
كتفني ووضعني في صندوق وقال للسياف: تسلم هذا وأشهر حسامك، وخذه واذهب
به إلى خارج المدينة واقتله ودعه للوحوش، تأكله فذهب بي السياف وصار
حتى خرج من المدينة، وأخرجني من الصندوق وأنا مكتوف اليدين مقيد
الرجلين وأراد أن يغمي عيني ويقتلني فبكيت وأنشدت هذه الأبيات:
وأنشدت أيضاً هذه الأبيات:
فلما سمع السياف شعري وكان سياف أبي ولي عليه إحسان، قال يا سيدي كيف
أفعل وأنا عبد مأمور ثم قال لي فر بعمرك ولا تعد إلى هذه المدينة فتهلك
وتهلكني معك كما قال الشاعر:
فلما قال ذلك قبلت يديه وما صدقت حتى فررت وهان علي تلف عيني بنجاتي من
القتل، وسافرت حتى وصلت إلى مدينة عمي فدخلت عليه وأعلمته بما جرى
لوالدي، وبما جرى لي من تلف عيني فبكى بكاء شديداً وقال لقد زدتني هماً
على همي وغماً على غمي، فإن ابن عمكقد فقد منذ أيام ولم أعلم بما جرى
له ولم يخبرني أحد بخبره وبكى حتى أغمي عليه فلما استفاق قال يا ولدي
قد حزنت على ابن عمك حزناً شديداً وأنت زدتني بما حصل لك ولابنك، غماً
على غمي، ولكن يا ولدي بعينك ولا بروحك ثم إنه لم يمكني السكوت عن ابن
عمي الذي هو ولده فأعلمته بالذي جرى له كله ففرح عمي بما قلته له فرحاً
شديداً عند سماع خبر ابنه، وقال أرني التربة فقلت والله يا عمي لم أعرف
مكانها لأني رجعت بعد ذلك مرات لأفتش عليها فلم أعرف مكانها، ثم ذهبت
أنا وعمي إلى الجبانة، ونظرت يميناً وشمالاً فعرفتها ففرحت أنا وعمي
فرحاً شديداً ودخلت أنا وإياه التربة وأزحنا التراب ورفعنا الطابق
ونزلت أنا وعمي مقدار خمسين درجة، فلما وصلنا إلى آخر السلم وإذا بدخان
طلع علينا فغشي أبصارنا، فقال عمي الكلمة التي لا يخاف قائلها وهي لا
حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم مشينا وإذا نحن بقاعة ممتلئة
دقيقاً وحبوباً ومأكولات وغير ذلك ورأينا في وسط القاعة ستارة مسبولة
على سرير فنظر عمي إلى السرير فوجد ابنه هو والمرأة التي قد نزلت معه
صار فحماً أسود وهما متعانقان كأنهما ألقيا في جب نار، فلما نظر عمي
بصق في وجهه وقال تستحق يا خبيث فهذا عذاب الدنيا وبقي عذاب الآخرة وهو
أشد وأبقى وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
فإنه كان إنسان من مدينة بغداد وكان حمالاً. فبينما هو في السوق يوماً
منا لأيام متكئاً على قفصه إذ وقفت عليه امرأة ملتفة بإزار موصلي من
حرير مزركش بالذهب وحاشيتاه من قصب فرفعت قناعها فبان من تحته عيون
سوجاء بأهداب وأجفان وهي ناعمة الأطراف كاملة الأوصاف، وبعد ذلك قالت
بحلاوة لفظها: هات قفصك واتبعني. فحمل الحمال القفص وتبعها إلى أن وقفت
على باب دار فطرقت الباب فنزل له رجل نصراني، فأعطته ديناراً وأخذت منه
مقداراً من الزيتون وضعته في القفص وقالت له: احمله واتبعني، فقال
الحمال: هذا والله نهار مبارك.
ثم حمل القفص وتبعها فوقفت عند دكان فاكهاني واشترت منه تفاحاً شامياً
وسفرجلاً عثمانياً وخوخاً عمانياً وياسميناً حلبياً وبنو فراده شقياً
وخياراً نيلياً وليموناً مصرياً وتمر حنا وشقائق النعمان وبنفسجاً
ووضعت الجميع في قفص الحمال وقالت له: احمل، فحمل وتبعها حتى وقفت على
جزار وقالت له: اقطع عشرة أرطال لحمة فقطع لها، ولفت اللحم في ورق موز
ووضعته في القفص وقالت له: احمل يا حمال فحمل وتبعها، ثم وقفت على
النقلي وأخذت من سائر النقل وقالت للحمال: احمل واتبعني فحمل القفص
وتبعها إلى أن وقفت على دكان الحلواني واشترت طبقاً وملأته جميع ما
عنده من مشبك وقطايف وميمونة وأمشاط وأصابع ولقيمات القاضي ووضعت جميع
أنواع الحلاوة في الطبق ووضعته في القفص. فقال الحمال: لو أعلمتني لجئت
معي ببغل تحمل عليه هذه الأشياء، فتبسمت.
ثم وقفت على العطار واشترت منه عشرة مياه ماء ورد وماء زهر وخلافه
وأخذت قدراً من السكر وأخذت ماء ورد ممسك وحصى لبان ذكر وعودا عنبر
ومسكاً وأخذت شمعاً اسكندرانياً ووضعت الجميع في القفص وقالت للحمال:
احمل قفصك واتبعني، فحمل القفص وتبعها إلى أن أتت داراً مليحة وقدامها
رحبة فسيحة وهي عالية البنيان مشيدة الأركان بابها صنع من الأبنوس مصفح
بصفائح الذهب الأحمر، فوقفت الصبية على الباب ودقت دقاً لطيفاً وإذا
بالباب انفتح بشقتيه.
فنظر الحمال إلى من فتح لها الباب فوجدها صبية رشيقة القد قاعدة النهد
ذات حسن وجمال وقد واعتدال وجبين كثغرة الهلال وعيون كعيون الغزلان
وحواجب كهلال رمضان وخدود مثل شقائق النعمان وفم كخاتم سليمان ووجه
كالبدر في الإشراق ونهدين كرمانتين وبطن مطوي تحت الثياب كطي السجل
للكتاب.
فلما نظر الحمال إليها سلبت عقله وكاد القفص أن يقع من فوق رأسه، ثم
قال: ما رأيت عمري أبرك من هذا النهار، فقالت الصبية البوابة للدلالة
والحمال مرحبا وهي من داخل الباب ومشوا حتى انتهوا إلى قاعة فسيحة
مزركشة مليحة ذات تراكيب وشاذر وأثاث ومصاطب وسدلات وخزائن عليها
الستور مرخيات، وفي وسط القاعة سرير من المرمر مرصع بالدر والجوهر
منصوب عليه ناموسية منا لأطلس الأحمر ومن داخله صبية بعيون بابلية
وقامة ألفية ووجه يخجل الشمس المضيئة، فكأنها بعض الكواكب الدرية أو
عقيلة عربية كما قال فيها الشاعر:
من قاس قدك بالغصن الرطيب فقد | أضحى القياس به زوراً وبهتانـا | |
الغصن أحسن ما تلقاه مكتـسـبـاً | وأنت أحسن ما تلقـاه عـريانـا |
القاعة عند أختيها وقالت: ما وقوفهم، حطوا عن رأس هذا الحمال المسكين،
فجاءت الدلالة من قدامه والبوابة من خلفه، وساعدتهما الثالثة وحططن عن
الحمال وأفرغن ما في القفص وصفوا كل شيء في محله وأعطين الحمال دينارين
وقلن له: توجه يا حمال، فنظر إلى البنات وما هن فيه من الحسن والطبائع
الحسان فلم ير أحسن منهن ولكن ليس عندهن رجال.
ونظر ما عندهن من الشراب والفواكه والمشمومات وغير ذلك فتعجب غاية
العجب ووقف عن الخروج، فقالت له الصبية: ما بالك لا تروح? هل أنت
استقللت الأجرة، والتفتت إلى أختها وقالت لها: أعطيه ديناراً آخر فقال
الحمال: والله يا سيداتي إن أجرتي نصفان، وما استقللت الأجرة وإنما
اشتغل قلبي وسري بكن وكيف حالكن وأنتن وحدكن وما عندكن رجال ولا أحد
يؤانسكن وأنتن تعرفن أن المنارة لا تثبت إلا على أربعة وليس لكن رابع،
وما يكمل حظ النساء إلا بالرجال كما قال الشاعر:
انظر إلى أربع عندي قد اجتمعت | جنك وعود وقانون ومـزمـار |
كاتماً فقلن له: نحن بنات ونخاف أن نودع السر عند من لا يحفظه، وقد
قرأنا في الأخبار شعراً:
صن عن سواك السر لا تودعنه | من أودع السر فقد ضـيعـه |
وطالعت التواريخ، أظهر الجميل وأخفي القبيح وأعمل بقول الشاعر:
لا يكتم السر إلا كل ذي ثـقة | والسر عند خيار الناس مكتوم | |
السر عندي في بيت له غلـق | ضاعت الفاتحة والباب مختوم |
أننا غرمنا على هذا المقام جملة من المال فهل معك شيء تجازينا به، فنحن
لا ندعك تجلس عندنا حتى تغرم مبلغنا من المال لأن خاطرك أن تجلس عندنا
وتصير نديمنا وتطلع على وجوهنا الصباح الملاح. فقالت صاحبة الدار: وإذا
كانت بغير المال محبة فلا تساوي وزن حبة، وقالت البوابة إن يكن معك شيء
رح بلا شيء فقالت الدلالة يا أختي نكف عنه فوالله ما قصر اليوم معنا
ولو كان غيره ما طول روحه علينا ومهما جاء عليه أغرمه عنه.
ففرح الحمال وقال والله ما استفتحت بالدراهم إلا منكن، فقلن له اجلس
على الرأس والعين وقامت الدلالة وشدت وسطها وصبت القناني وروقت المدام
وعملت الخضرة على جانب البحر وأحضرت ما يحتاجون إليه ثم قدمت وجلست هي
وأختها وجلس الحمال بينهن وهو يظن أنه في المنام. ولم يزل الحمال معهن
في عناق وتقبيل وهذه تكلمه وهذه تجذبه وهذه بالمشموم تضربه وهو معهن
حتى لعبت الخمرة بعقولهم.
فلما تحكم الشراب معهم قامت البوابة وتجردت من ثيابها وصارت عريانة ثم
رمت نفسها في تلك البحيرة ولعبت في الماء وأخذت الماء في فمها وبخت
الحمال ثم غسلت أعضاءها وما بين فخذيها ثم طلعت من الماء ورمت نفسها في
حجر الحمال وقالت له يا حبيبي ما اسم هذا وأشارت إلى فرجها.
فقال الحمال رحمك، فقالت يوه أما تستحي ومسكته من رقبته وصارت تصكه
فقال فرجك، فقالت غيره فقال: كسك، فقالت غيره فقال زنبورك، فلم تزل
تصكه حتى ذاب قفاه ورقبته من الصك، ثم قال لها وما اسمه فقالت له: حبق
الجسور، فقال الحمد لله على السلامة يا حبق الجسور. ثم أنهم أداروا
الكأس والطاس.
فقامت الثانية وخلعت ثيابها ورمت نفسها في تلك البحيرة وعملت مثل
الأولى وطلعت ورمت نفسها في حجر الحمال، وأشارت إلى فرجها وقالت له نور
عيني ما اسم هذا قال فرجك، فقالت له: ما يقبح عليك هذا الكلام وصكته
كفاطن له سائر ما في القاعة فقال حبك الجسور، فقالت له: لا، والضرب
والصك من قفاه فقال لها وما اسمه فقالت له السمسم المقشور.
ثم قامت الثالثة وخلعت ثيابها ونزلت تلك البحيرة وفعلت مثل من قبلها ثم
لبست ثيابها وألقت نفسها في حجر الحمال وقالت له أيضاً ما اسم هذا
وأشارت إلى فرجها، فصار يقول لها كذا وكذا إلى أن قال لها وهي تضربه
وما اسمه فقالت خان أبي منصور.
ثم بعد ساعة قام الحمال ونزع ثيابه ونزل البحيرة وذكره يسبح في الماء
وغسل مثل ما غسلن. ثم طلع ورمى نفسه في حجر سيدتهن ورمى ذراعيه في حجر
البوابة ورمى رجليه في حجر الدلالة ثم أشار إلى أيره، وقال: يا سيدتي
ما اسم هذا فضحك الكل على كلامه حتى انقلبن على ظهورهن وقلن زبك قال لا
وأخذ من كل واحدة عضة قلن أيرك قال لا، وأخذ من كل واحدة حضناً. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
في الليلة العاشرة
قالت لها أختها دنيازاد: يا أختي أتمي لنا حديثك قالت حباً وكرامة: قد
بلغني أيها الملك السعيد أنهن لم يزلن يقلن زبك، أيرك وهو يقبل ويعانق
وهن يتضاحكن إلى أن قلن له وما اسمه قال: اسمه البغل الجسور الذي رعى
حبق الجسور ويلعق السمسم المقشور ويبيت في خان أبي منصور فضحكن حتى
استلقين على ظهورهن ثم عادوا إلى منادمتهم ولم يزالوا كذلك إلى أن أقبل
الليل عليهم فقلن للحمال توجه وأرنا عرض أكتافك.
فقال الحمال والله خروج الروح أهون من الخروج من عندكن، دعونا نصل
الليل بالنهار وكل منا يروح في حال سبيله فقالت الدلالة بحياتي عندكن
تدعنه ينام عندنا نضحك عليه فإنه خليع ظريف فقلن له: تبيت عندنا بشرط
أن تدخل تحت الحكم ومهما رأيته لا تسأل عنه ولا عن سببه، فقالت نعم،
فقلن قم واقرأ ما على الباب مكتوباً، فقام إلى الباب فوجد مكتوباً عليه
بماء الذهب: لا تتكلم فيما لا يعنيك تسمع ما لا يرضيك.
فقال الحمال اشهدوا أني لا أتكلم فيما لا يعنيني، ثم قامت الدلالة
وجهزت لهم مأكولاً ثم أوقدوا الشمع والعود وقعدوا في أكل وشرب وإذا هم
سمعوا دق الباب فلم يختل نظامهم فقامت واحدة منهن إلى الباب ثم عادت
وقالت كمل صفاؤنا في هذه الليلة لأني وجدت بالباب ثلاثة أعجام ذقونهم
محلوقة وهم عور بالعين الشمال وهذا من أعجب الاتفاق، وهم ناس غرباء قد
حضروا من أرض الروم ولكل واحد منهم شكل وصورة مضحكة، فإن دخلوا نضحك
عليهم. ولم تزل تتلطف بصاحبتيها حتى قالتا لها دعيهم يدخلون واشترطي
عليهم أن لا يتكلموا في ما لا يعنيهم فيسمعوا ما لا يرضيهم. ففرحت
وزاحت ثم عادت ومعها الثلاثة العور ذقونهم محلوقة وشواربهم مبرومة
ممشوقة وهم صعاليك فسلموا فقام لهم البنات وأقعدوهم فنظر الرجال
الثلاثة إلى الحمال فوجدوه سكران فلما عاينوه ظنوا أنه منهم وقالوا: هو
صعلوك مثلنا يؤانسنا.
فلما سمع الحمال هذا الكلام قام وقلب عينيه وقال لهم: اقعدوا بلا فضول
أما قرأتم ما على الباب فضحك البنات وقلن لبعضهن إننا نضحك على
الصعاليك والحمال، ثم وضعن الأكل للصعاليك فأكلوا ثم جلسوا يتنادمون
والبوابة تسقيهم.
ولما دار الكأس بينهم قال الحمال للصعاليك يا إخواننا هل معكم حكاية أو
نادرة تسلوننا بها فديت فيهم الحرارة وطلبوا آلات اللهو فأحضرت لهم
البوابة فلموصليا وعوداً عراقياً وجنكاً عجمياً فقام الصعاليك واقفين
وأخذ واحد منهم الدف، وأخذ واحد العود، وأخذ واحد الجنك وضربوا بها
وغنت البنات وصار لهم صوت عال. فبينما هم كذلك وإذا بطارق يطرق الباب،
فقامت البوابة لتنظر من بالباب وكان السبب في دق الباب أن في تلك
الليلة نزل هارون الرشيد لينظر ويسمع ما يتجدد من الأخبار هو وجعفر
وزيره وسياف نقمته، وكان من عادته أن يتنكر في صفة التجار، فلما نزل
تلك الليلة ومشى في المدينة جاءت طريقهم على تلك الدار فسمعوا آلات
الملاهي فقال الخليفة جعفر هؤلاء قوم قد دخل السكر فيهم ونخشى أن
يصيبنا منهم شر، فقال لا بد من دخولنا وأريد أن نتحيل حتى ندخل عليهم
فقال جعفر: سمعاً وطاعة.
ثم تقدم جعفر وطرق الباب فخرجت البوابة وفتحت الباب، فقال لها: يا
سيدتي نحن تجار من طبرية ولنا في بغداد عشرة أيام ومعنا تجارة ونحن
نازلون في خان التجار وعزم علينا تاجر في هذه الليلة فدخلنا عنده وقدم
لنا طعاماً فأكلنا ثم تنادمنا عنده ساعة، ثم أذن لنا بالانصراف فخرجنا
بالليل ونحن غرباء فتهنا عن الخان الذي نحن فيه فنرجو من مكارمكم أن
تدخلونا هذه الليلة نبيت عندكم ولكم الثواب فنظرت البوابة إليهم
فوجدتهم بهيئة التجار وعليهم الوقار فدخلت لصاحبتيها وشاورتهما فقالتا
لها أدخليهم.
فرجعت وفتحت لهم الباب فقالوا ندخل بإذنك، قالت ادخلوا فدخل الخليفة
وجعفر ومسرور فلما أتتهم البنات قمن لهم وخدمنهم وقلن مرحباً وأهلاً
وسهلاً بضيوفنا، ولنا عليكم شرط أن لا تتكلموا فيما لا يعنيكم فتسمعوا
ما لا يرضيكم قالوا نعم. وبعد ذلك جلسوا للشراب والمنادمة فنظر الخليفة
إلى الصعاليك الثلاثة فوجدهم عور العين الشمال فتعجب منهم ونظر إلى
البنات وما هم فيه من الحسن والجمال فتحير وتعجب، واستمر في المنادمة
والحديث وأتين الخليفة بشراب فقال أنا حاج وانعزل عنهم.
فقامت البوابة وقدمت له سفرة مزركشة ووضعت عليها بمطية من الصيني وسكبت
فيها ماء الخلاف وأرخت فيه قطعة من الثلج ومزجته بسكر فشكرها الخليفة
وقال في نفسه لا بد أن أجازيها في غد على فعلها من صنيع الخير، ثم
اشتغلوا بمنادمتهم، فلما تحكم الشراب قامت صاحبة البيت وخدمتهم، ثم
أخذت بيد الدلالة وقالت: يا أختي قومي بمقتضى ديننا فقالت لها نعم،
فعند ذلك قامت البوابة وأطلعت الصعاليك خلف الأبواب قدامهن وذلك بعد أن
أخلت وسط القاعة ونادين الحمال وقلن له: ما أقل مودتك ما أنت غريب بل
أنت من أهل الدار.
فقام الحمال وشد أوسطه وقال: ما تردن فلن تقف مكانك، ثم قامت الدلالة
وقالت للحمال ساعدني، فرأى كلبتين من الكلاب السود في رقبتيهما جنازير
فأخذهما الحمال ودخل بهما إلى وسط القاعة فقامت صاحبة المنزل وشمرت عن
معصميها وأخذت سوطاً وقالت للحمال قوم كلبة منهما فجرها في الجنزير
وقدمها والكلبة تبكي وتحرك رأسها إلى الصبية فنزلت عليها الصبية بالضرب
على رأسها والكلبة تصرخ وما زالت تضربها حتى كلت سواعدها فرمت السوط من
يدها ثم ضمت الكلبة إلى صدرها ومسحت دموعها وقبلت رأسها ثم قالت للحمال
ردها وهات التالية، فجاء بها وفعلت بها مثل ما فعلت بالأولى.
فعند ذلك اشتعل قلب الخليفة وضاق صدره وغمز جعفر أن يسألها، فقال له
بالإشارة اسكت، ثم التفتت صاحبة البيت للبوابة وقالت لها: قومي لقضاء
ما عليك قالت نعم. ثم إن صاحبة البيت صعدت على سرير من المرمر مصفح
بالذهب والفضة وقالت البوابة والدلالة ائتيا بما عندكما، فأما البوابة
فإنها صعدت على سرير بجانبها وأما الدلالة فإنها دخلت مخدعاً وأخرجت
منه كيساً من الأطلس بأهداب خضر ووقفت قدام الصبية صاحبة المنزل ونفضت
الكيس وأخرجت منه عوداً وأصلحت أوتاره وأنشدت هذه الأبيات:
ردوا على جفني النوم الذي سلـبـا | وخبروني بعـقـلـي آية ذهـبـا | |
علمت لما رضيت الحب مـنـزلة | إن المنام على جفني قد غصـبـا | |
قالوا عهدناك من أهل الرشاد فمـا | أغواك قلت اطلبوا من لحظة السببا | |
إني له عن دمي المسفوك معتـذر | أقول حملته في سفكـه تـعـبـا |
ألقى بمرآة فكري شمس صورته | فعكسها شب في أحشائي اللهبـا | |
من صاغه الله من ماء الحياة وقد | أجرى بقيته في ثغـره شـنـبـا | |
ماذا ترى في محب ما ذكرت لـه | إلا شكى أو بكى أو حن أو أطربا | |
يرى خيالك في المـاء الـذلال إذا | رام الشراب فيروى وهو ما شربا |
سكرت من لحظه لا من مدامته | ومال بالنوم عن عيني تمايلـه | |
فما السلاف سلتني بل سوالفـه | وما الشمل شلتني بل شمائلـه |
مغشياً عليها، فلما نكشف جسدها رأى الخليفة أثر ضرب المقارع والسياط
فتعجب من ذلك غاية العجب فقامت البوابة ورشت الماء على وجهها وأتت
إليها بحلة وألبستها إياها، فقال الخليفة لجعفر أما تنظر إلى هذه
المرأة وما عليها من أثر الضرب، فأنا لا أقدر أن أسكت على هذا وما
أستريح إلا إن وقفت على حقيقة خبر هذه الصبية وحقيقة خبر هاتين
الكلبتين، فقال جعفر: يا مولانا قد شرطوا علينا شرطاً وهو أن لا نتكلم
فيما لا يعنينا فنسمع ما لا يرضينا، ثم قامت الدلالة فأخذت العود
وأسندته إلى نهدها، وغمزته بأناملها وأنشدت تقول:
إن شكونا الهوى فمـاذا تـقـول | أو تلفنا شوقاً فماذا الـسـبـيل | |
أو بعثنا رسلاً نتـرجـم عـنـا | ما يؤدي شكوى المحب رسـول | |
أو صبرنا فما لنـا مـن بـقـاء | بعد فقد الأحـبـاب إلا قـلـيل | |
ليس إلا تـأسـفـاً ثـم حـزنـاً | ودموعاً على الخـدود تـسـيل | |
أيها الغائبون عن لمـح عـينـي | وعم في الفؤاد منـي حـلـول | |
هل حفظتم لدى الهوى عهد صب | ليس عنه مدى الزمـان يحـول | |
أم نسيتم على التبـاعـد صـبـا | شفه فبكم الضنى والـنـحـول | |
وإذا الحشر ضمنـا أتـمـنـى | من لدن وبنا حسـابـاً يطـول |
وصرخت ثم ألقت نفسها على الأرض مغشياً عليها، فقامت الدلالة وألبستها
حلة ثانية بعد أن رشت الماء على وجهها ثم قامت المرأة الثالثة وجلست
على سرير وقالت للدلالة غني لي لا في ديني فما بقي غير هذا الصوت
فأصلحت الدلالة العود وأنشدت هذه الأبيات:
فإلى متى هذا الصدود وذا الجفـا | فلقد جوى من أدمعي ما قد كفى | |
كم قد أطلت الهجر لي معتـمـداً | إن كان قصدك حاسدي فقد اشتفى | |
لو أنصف الدهر الخؤون لعاشـق | ما كان يوم العواذل منـصـفـا | |
فلمن أبوح بصبوتي يا قـاتـلـي | يا خيبة الشاكي إذا فقـد الـوفـا | |
ويزيد وجدي في هواك تلـهـفـاً | فمتى وعدت ولا رأيتك مخلـفـا | |
يا مسلمون خذوا بـنـار مـتـيم | ألف الشهادة لديه طرف ما غفـا | |
أيحل في شرع الغرام تـذلـلـي | ويكون غيري بالوصال مشرفـا | |
ولقد كلفت بحبـكـم مـتـلـذذاً | وغدا عذولي في الهوى متكلفـا |
الأرض مغشياً عليها فلما انكشف جسدها ظهر فيه ضرب المقارع، مثل من
قبلها فقال الصعاليك ليتنا ما دخلنا هذه الدار وكنا بتنا على الكيمان،
فقد تكدر مبيتنا هنا بشيء يقطع الصلب فالتفت الخليفة إليهم وقال لهم لم
ذلك قالوا قد اشتغل سرنا بهذا الأمر فقال الخليفة أما أنتم من هذا
البيت، قالوا لا ولا ظننا هذا الموضع إلا للرجل الذي عندكم. فقال
الحمال والله ما رأيت هذا الموضع إلا هذه الليلة وليتني بت على الكيمان
ولم أبت فيه.
فقال الجميع نحن سبعة رجال وهن ثلاث نسوة وليس لهن رابعة فنسألهن عن
حالهن فإن لم يجبننا طوعاً أجبننا كرهاً واتفق الجميع على ذلك، فقال
جعفر ما هذا رأي سديد دعوهن فنحن ضيوف عندهن وقد شرطن علينا، شرطاً
فنوفي به ولم يبق من الليل إلا القليل وكل منا يمضي إلى حال سبيله، ثم
إنه غمز الخليفة وقال ما بقي غير ساعة، وفي غد تحضرهن بين يديك،
فتسألهن عن قصتهن فأبى الخليفة وقال لم يبق لي صبر عن خبرهن وقد كثر
بينهن القيل والقال، ثم قالوا ومن يسألهن فقال بعضهم الحمال ثم قال لهم
النساء يا جماعة في أي شيء تتكلمون.
فقال الحمال لصاحبة البيت وقال لها يا سيدتي سألتك بالله وأقسم عليك به
أن تخبرينا عن حال الكلبتين، وأي سبب تعاقبيهما ثم تعودين تبكين،
وتقبليهما وأن تخبرينا عن سبب ضرب أختك بالمقارع وهذا سؤالنا والسلام
فقالت صاحبة المكان للجماعة ما يقوله عنكم فقال الجميع نعم، إلا جعفر
فإنه سكت.
فلما سمعت الصبية كلامهم قالت والله لقد آذيتمونا يا ضيوفنا، الأذية
البالغة، وتقدم لنا أننا شرطنا عليكم أن من تكلم فيما لا يعنيه، سمع ما
لا يرضيه أما كفا أننا أدخلناكم منزلنا وأطعمناكم زادنا ولكن لا ذنب
لكم وإنما الذنب لمن أوصلكم إلينا ثم شمرت عن معصمها وضربت الأرض ثلاث
ضربات وقالت عجلوا.
وإذا بباب خزانة قد فتح وخرج منها سبعة عبيد بأيديهم سيوف مسلولة وقالت
كتفوا هؤلاء الذين كثر كلامهم واربطوا بعضهم ببعض ففعلوا وقالوا أيتها
المخدرة ائذني لنا في ضرب رقابهم، فقالت أمهلوهم ساعة حتى أسألهم عن
حالهم قبل ضرب رقابهم، فقال الحمال بالله يا سيدتي لا تقتليني بذنب
الغير فإن الجميع أخطأوا، ودخلوا في الذنب، إلا أنا والله لقد كانت
ليلتنا طيبة لو سلمنا من هؤلاء الصعاليك الذين لو دخلوا مدينة عامرة
لأخربوها، ثم أنشد يقول:
ما أحسن الغفران من قادر | لا سيما عن غير ذي ناصر | |
بحرمة الود الذي بـينـنـا | لا تقتلي الأول بـالآخـر |
الكلام المباح.
الليلة الحادية عشرة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصبية لما ضحكت بعد غيظها، أقبلت
على الجماعة وقالت أخبروني بخبركم فما بقي من عمركم إلا ساعة ولولا
أنتم أعزاء فقال الخليفة ويلك يا جعفر عرفها بنا وإلا تقتلنا فقال جعفر
من بعض ما نستحق، فقال له الخليفة لا ينبغي الهزل في وقت الجد كل منهم
له وقت ثم أن الصبية أقبلت على الصعاليك، وقالت لهم هل أنتم أخوة
فقالوا لا والله ما نحن إلا فقراء الحجام.
فقالت لواحد منهم هل أنت ولدت أعور فقال لا والله وإنما جرى لي أمر
غريب حيت تلفت عيني ولهذا الأمر حكاية لو كتبت بالإبر على أماق البصر
لكانت عبرة لمن اعتبر، فسألت الثاني والثالث فقالا لها مثل الأول ثم
قالوا أن كل منا من بلد وأن حديثنا عجيب وأمرنا غريب، فالتفتت الصبية
لهم، وقالت كل واحد منكم يحكي حكايته وما سبب مجيئه إلى مكاننا ثم يملس
على رأسه ويروح إلى حال سبيله فأول من تقدم الحمال، فقال يا سيدتي أنا
رجل حمال حملتني هذه الدلالة وأتت بي إلى هنا وجرى لي معكم ما جرى وهذا
حديثي والسلام، فقالت له ملس على رأسك وروح فقال والله ما أروح حتى
أسمع حديث رفقائي.
فتقدم الصعلوك الأول وقال لها يا سيدتي، إن سبب حلق ذقني وتلف عيني أن
والدي كان ملكاً وله أخ وكان أخوه ملكاً على مدينة أخرى واتفق أن أمي
ولدتني في اليوم الذي ولد فيه ابن عمي، ثم مضت سنون وأعوام، وأيام حتى
كبرنا وكنت أزور عمي في بعض السنين وأقعد عنده أشهر عديدة فزرته مرة
فأكرمني غاية الإكرام وذبح لي الأغنام وروق لي المدام وجلسنا للشراب
فلما تحكم الشراب فينا قال ابن عمي: يا ابن عمي إن لي عندك حاجة مهمة
فاستوثق مني بالإيمان العظام ونهض من وقته وساعته وغاب قليلاً، ثم عاد
وخلفه امرأة مزينة مطيبة وعليها من الحلل ما يساوي مبلغاً عظيماً.
فالتفت إلي والمرأة خلفه، وقال خذ هذه المرأة واسبقني على الجبانة
الفلانية ووصفها لي فعرفتها وقال ادخل بها التربة وانتظرني هناك فلم
يمكني المخالفة ولم أقدر على رد سؤاله لأجل الذي خلفته فأخذت المرأة
وسرت إلى أن دخلت التربة أنا وإياها فلما استقر بنا الجلوس جاء ابن عمي
ومعه طاسة فيها ماء وكيس فيه جبس وقدوم ثم إنه أخذ القدوم وجاء إلى قبر
في وسط التربة ففكه ونقض أحجاره إلى ناحية التربة، ثم حفر بالقدوم في
الأرض، حتى كشف عن طابق قدر الباب الصغير فبان من تحت الطابق سلم
معقود.
لم ألتفت إلى المرأة بالإشارة وقال لها دونك وما تختارين به فنزلت
المرأة على ذلك السلم، ثم التفت إلي وقال يا ابن عمي تمم المعروف إذا
نزلت أنا في ذلك الموضع فرد الطابق ورد عليه التراب كما كان وهذا تمام
المعروف وهذا الجبس الذي في الكيس وهذا الماء الذي في الطاسة أعجن منه
الجبس وجبس القبر في دائر الأحجار كما كان أول حتى لا يعرفه أحد ولا
يقول هذا فتح جديد وتطيينه عتق لأن لي سنة كاملة، وأنا أعمل فيه، وما
يعلم به إلا الله وهذه حاجتي عندك، ثم قال لي لا أوحش الله منك، يا ابن
عمي، ثم نزل على السلم.
فلما غاب عني قمت ورددت الطابق وفعلت ما أمرني به حتى صار القبر كما
كان ثم رجعت إلى قصر عمي، وكان عمي في الصيد والقنص فنمت تلك الليلة
فلما أصبح الصباح تذكرت الليلة الماضية وما جرى فيها بيني وبين ابن عمي
وندمت على ما فعلت معه حيث لا ينفع الندم، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت
عن الكلام المباح.
في الليلة الثانية عشرة
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصعلوك قال للصبية ثم خرجت إلى
المقابر وفتشت على التربة فلم أعرفها ولم أزل أفتش حتى أقبل الليل ولم
أهتد إليها فرجعت إلى القصر لم آكل ولم أشرب وقد اشتغل خاطري بابن عمي
من حيث لا أعلم له حالاً فاغتممت غماً شديداً وبت ليلتي مغموماً، إلى
الصباح فجئت ثانياً إلى الجبانة وأنا أتفكر فيما فعله ابن عمي، وندمت
على سماعي منه وقد فتشت في الترب جميعاً فلم أعرف تلك التربة، ولا رمت
التفتيش سبعة أيام فلم أعرف له طريقاً.
فزاد بي الوسواس حتى كدت أن أجن فلم أجد فرجاً دون أن سافرت، ورجعت
غليه، فساعة وصولي إلى مدينة أبي نهض إلى جماعة من باب المدينة وكتفوني
فتعجبت كل العجب إني ابن سلطان المدينة وهم خدم أبي وغلماني، ولحقني
منهم خوف زائد، فقلت في نفسي يا ترى أجرى على والدي وصرت أسأل الذين
كنفوني عن سبب ذلك فلم يردوا علي جواباً.
ثم بعد حين قال لي بعضهم وكان خادماً عندي، إن أباك قد غدر به الزمان
وخانته العساكر وقتله الوزير ونحن نترقب وقوعك، فأخذوني وأنا غائب عن
الدنيا بسبب هذه الأخبار التي سمعتها عن أبي فلما تمثلت بين يدي الوزير
الذي قتل أبي وكان بيني وبينه عداوة قديمة وسبب تلك العداوة أني كنت
مولعاً بضر البندقية فاتفق أني كنت واقفاً يوماً من الأيام على سطح قصر
وإذا بطائر نزل على سطح قصر الوزير وكان واقفاً هناك، فأردت أن أضرب
الطير وغذا بالبندقية أخطأت عين الوزير، فأتلفتها بالقضاء والقدر كما
قال الشاعر:
دع الأقدار تفعل ما تـشـاء | وطب نفساً بما فعل القضاء | |
ولا تفرح ولا تحزن بشيء | فإن الشيء ليس له بـقـاء |
مشينا خطا كتبـت عـلـينـا | ومن كتب عليه خطاً مشاهـا | |
ومن كانت منـيتـه بـأرض | فليس يموت في أرض سواها |
كان ملك المدينة فهذا سبب العداوة التي بيني وبينه فلما وقفت قدامه،
وأنا مكتف أمر فضرب عنقي فقلت أتقتلني بغير ذنب فقال أي ذنب أعظم من
هذا، وأشار إلى عينه المتلفة فقلت له: فعلت ذلك خطأ، فقال إن كنت فعلته
خطأ فأنا أفعله بك عمداً ثم قال قدموه بين يدي فقدموني بين يديه، فمد
إصبعه في عيني الشمال فأتلفها فصرت من ذلك الوقت أعور كما تروني، ثم
كتفني ووضعني في صندوق وقال للسياف: تسلم هذا وأشهر حسامك، وخذه واذهب
به إلى خارج المدينة واقتله ودعه للوحوش، تأكله فذهب بي السياف وصار
حتى خرج من المدينة، وأخرجني من الصندوق وأنا مكتوف اليدين مقيد
الرجلين وأراد أن يغمي عيني ويقتلني فبكيت وأنشدت هذه الأبيات:
جعلتكموا درعاً حصيناً لتمنعوا | سهام العدا عني فكنتم نصالها | |
وكنت أرجي عند كل مـلـمة | تخص يميني أن تكون شمالها | |
دعوا قصة العذال عني بمعزل | وخلوا العدا ترمي إلي نبالهـا | |
إذا لم تقوا نفسي مكايدة العـدا | فكونوا سكوتاً لا عليها ولا لها |
وإخوان اتخذتـهـم دروعـاً | فكانوها ولكن لـلأعـادي | |
رحلتهم سهامـاً صـائبـات | فكانوا ولكن فـي فـؤادي | |
وقالوا قد سعينا كل سـعـي | لقد صدقوا ولكن في فسادي |
أفعل وأنا عبد مأمور ثم قال لي فر بعمرك ولا تعد إلى هذه المدينة فتهلك
وتهلكني معك كما قال الشاعر:
ونفسك فر بها إن خفت ضيماً | وخل الدار تنعي من بناهـا | |
فإنك واحد أرضـاً بـأرض | ونفسك لم تجد نفساً سواهـا | |
عجبت لمن يعيش بـدار ذل | وأرض الله واسعة فـلاهـا | |
وما غلظت رقاب الأسد حتى | بأنفسها تولت ما عـنـاهـا |
القتل، وسافرت حتى وصلت إلى مدينة عمي فدخلت عليه وأعلمته بما جرى
لوالدي، وبما جرى لي من تلف عيني فبكى بكاء شديداً وقال لقد زدتني هماً
على همي وغماً على غمي، فإن ابن عمكقد فقد منذ أيام ولم أعلم بما جرى
له ولم يخبرني أحد بخبره وبكى حتى أغمي عليه فلما استفاق قال يا ولدي
قد حزنت على ابن عمك حزناً شديداً وأنت زدتني بما حصل لك ولابنك، غماً
على غمي، ولكن يا ولدي بعينك ولا بروحك ثم إنه لم يمكني السكوت عن ابن
عمي الذي هو ولده فأعلمته بالذي جرى له كله ففرح عمي بما قلته له فرحاً
شديداً عند سماع خبر ابنه، وقال أرني التربة فقلت والله يا عمي لم أعرف
مكانها لأني رجعت بعد ذلك مرات لأفتش عليها فلم أعرف مكانها، ثم ذهبت
أنا وعمي إلى الجبانة، ونظرت يميناً وشمالاً فعرفتها ففرحت أنا وعمي
فرحاً شديداً ودخلت أنا وإياه التربة وأزحنا التراب ورفعنا الطابق
ونزلت أنا وعمي مقدار خمسين درجة، فلما وصلنا إلى آخر السلم وإذا بدخان
طلع علينا فغشي أبصارنا، فقال عمي الكلمة التي لا يخاف قائلها وهي لا
حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم مشينا وإذا نحن بقاعة ممتلئة
دقيقاً وحبوباً ومأكولات وغير ذلك ورأينا في وسط القاعة ستارة مسبولة
على سرير فنظر عمي إلى السرير فوجد ابنه هو والمرأة التي قد نزلت معه
صار فحماً أسود وهما متعانقان كأنهما ألقيا في جب نار، فلما نظر عمي
بصق في وجهه وقال تستحق يا خبيث فهذا عذاب الدنيا وبقي عذاب الآخرة وهو
أشد وأبقى وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.