الإعجاز العلمي في القرآن الكريم
تأملات في سورة الواقعة
أ.د. ســلامه عبد الهادي
أستاذ في علوم إدارة الطاقة وعميد سابق للمعهد العالي للطاقة بأسوان
القرآن الكريم هو كتاب الله الذي جـاء نـوراً و هداية بمـا يواكب عصـرا تتقدم فيه العلوم و تزدهر ... جـاء ليؤكـد مـا تكتـشـفه هذه العـلوم أن الكون إنمـا انتظـم بالحق لخـالـقه و مدبر أمـره...
جـاء بمنطق علمي فـريد ليقرر أن مـا نراه و تدركه أبصـارنـا و عـقولنــا وعلومنا هو الشاهد على أنه " لا إله إلا الله "... جـاء هذا في القرآن لكريم بمـا يعجز أن يأتي بمثله البشر و لو اجتمعوا له.
تعــالـوا نتـدبـر الآيـات من الآية 57 إلى الآية 75 في سورة الواقعة، وتـقدم هذه الآيــات أروع منهج بحثي يثبت لنـا أنــنـا مخلوقون و أن وجودنـا واسـتمرار حيـاتنــا يعتمـد على إرادة خـالق واحد أحـد وهب الحياة وأوجد مقومـاتهـا و عنـاصـر استمرارهـا، وكمـا أحكم الله صنعته فقد أحكم آيــاته التي أرسلهـا إلينـا لتدلنـا عليه وعلى وحدانيته ، كما ترشدنـا هذه الآيـات إلى أن حياتنا ورزقنـا و طعامنا و شرابنا وقوتنا من تدبيره ورحمته، و أن حرماننا من كل هذا في قـدرتـه ورهن مشـيئته ، وهذا بـإشـارات علميه تعرضهـا هذه الآيـات في سهولة و يسر ، و سنحاول أن نتدبر هذه الإشـارات بمـا يسره لنـا الخـالق من علم.
تبدأ الآيات الكريمة بـتحديد هدف البحث بقـوله سبحـانه و تعـالى "نـحن خلقناكم فلـولا تـصدقون ": إنه تعجب يعتمد على إثـارة الحقـائق فينـا بدلاً من أن يضعهـا في شكل تقريري، وهذا مـا تتـبعه المدارس التربوية الحديثة في شرح الحقـائق... فهو تعجب ممن لا يصدق أننــا مخـلوقون وأن لنـا خـالقـاً هـو منـزل هذا القرآن هداية منه و رحمة، ثم تأتى الآيــات التـالية لتضع من لا يصدق أمـام الحقـائق المؤكدة لهذا بكل بيان لنقر بأنفسنـا صدق هذا القول... ويأتي عرض هذه الحقائق بحسب ترتيبهـا المنطقي و أهميتهـا معتمدة على الرؤية العلمية والعملية التي تزداد وضوحـاً يومـاً بعد يوم .. و لهذا تـبدأ كل آيـة و كل برهـان أو استفـسـار بكلمة أفــرأيتم... استفـسـار من الخـالق يهدينا إلى صدق القول( نحن خلقنـاكم).
يأتي أول استفـسـار بـقول الحق ( أفرأيتم مـا تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخـالقون ).... استفـسـار يعقبه ســؤال... اســتـفـسـار تـتـأتى إجابته بالرؤيـة المتـفحصـة و المتدبـرة فيمـا نمنيه... وقد تحـقـقت هذه الرؤية في العصـر الحديث تحت مجـهـر يسمى المجهر الإلكتروني حيث اسـتـطعنا أن نرى تـركيب الحيوان المنوي و الخلية الحية عندـا يصل التكبير إلى مليارات المرات، إن هذا المنى يعد جزءاً من خلية حية تـؤدى دوراً هاماً في حياة البشر وحياة كل المخلوقات، فهي المسئولة عن حفظ و بقـاء النوع البشرى و كل الأنواع التي خلقهـا الله الواحد الأحد... فهي خلية تقوم بتوريث الصفات التي تنـتـقل من الآبـاء إلى الأبنــاء... إنهـا دليلا على عظمة الخالق و وحدانيته، و هي كخلية من خـلايـا الجسم تعد آية من آيـات الإعجاز في تركيبهـا و تكـوينهـا و وظائفها و تنفسهـا و غذائهـا وتكاثرهـا وانقسامهـا، يعجز الإنسان عن تخيل خلية واحدة بهذا الحجم تقوم بكل هذه الوظائف... فكيف بخلقهـا... و هذه الخلية التي يمنيهـا الرجل أو تمنيهـا المرأة لهـا أيضـاً دوراً متميزاً عن أي خلية أخرى... فهي تتكاثر و تنقسم بقوانين محددة بعد استكمـال جـزئيهـا عند اتحـاد ما يمنيه الذكر ( نصف خلية ) مع مـا تمنيه المرأة ( نصف الخلية الآخـر ) داخل رحم المرأة... وعند تدقيق الرؤية كما تنص الآية الكريمة في هذه الخلايا التي نمنيها، فسنجد أن هذا النصف من الخلية لـه نواة تحتوى على عدداً من الإنشاءات يصل عددهـا إلى 23 منـشـأ تسمى " كروموزومات " وتحتوى هذه الكروموزمات على جينات تعد سجلاً كاملاً للمواصفات البشرية و كذلك صفات السـلالة التي ينتمي إليها الإنسان بدءاً من آدم و حتى آخر الأجيال... و هناك شكلا خاصا للكروموزم الثالث و العشرون يكون على شكلين x و y ، كذلك فإن الـبـويضة التي تمنيهـا المرأة أيضا تحتوى على نفس هذا التكوين و لها نواة بنفس العدد من الكروموزمات و كروموزم يكون على شكل y ، و عند التخصيب يتحد منى الرجل مع مني المرأة ليكونا خلية كاملة تحتوى نواتها على 46 كروموزم مثل باقي خلايا الجسم البشرى و بها خواص وراثية جـاءت من الرجل والمرأة أو الزوج و الزوجة وفق قوانين الوراثة التي تمتلئ بهـا المجلدات ، و يكون المولود ذكراً إذا أخذ من منى الرجل الكروموزم x ويكون أنثى إذا أخذ من الرجل الكروموزم y ، فخلايا الأنثى بهـا الكرموزومين المتشابهين y + y و خلايا الذكر بهمـا الكروموزومين المختلفين x + y ثم تتكاثر و تتوالد هذه الخلية الأولى ،و يخرج منها ملايين و بلايين من الخلايا المتماثلة جميعا في تكوينها و كروموزوماتها و جيناتها ، و لكن كل خلية لهـا وظيفتهـا وعملهـا ،وكل نسيج يتكامل مع الأنسجة الأخرى لتكوين الأعضـاء و الأجهزة التي تتكامل لإعطاء الجسم البشرى قدراته على الحركة و الاستمتاع بالحياة ... كل هذا يتم من خلال برامج علمية متكاملة و وفقا لمعايير و قوانين ما زال العلماء يعكفون على دراستها... قواعد ثابتة يـسير علـيهـا ويخضع لهـا ما نمنيه في أداء معجز حتى تتكون الخلية الأولى الكاملة وبهـا النواة الأولى، ثم يتفرع منهــا هذه البلايين من الخلايـا في رحم الأم لتكون الوليد... قوانين و قواعد سنها الخالق بحكمته لينشأ منهـا كل إنسـان جديد... وكل إنسان و مخلوق على وجه الأرض قد نشأ هكذا بنفس القوانين و القواعد و الأسس و دون اختلاف... ألا يدل هذا على وحدانية الخـالق... و الآن بعد أن رأينـا هذا الذي نمنيه.... هل نستطيع أن نخلق منى مثل هذا أو نقول أنه قد جـاء بغير خـالق بحيث يؤدى كل هذه الأدوار و يحتفظ بكل هذه المواصفات و الصفات و يسير على هذه القواعد... إن الرجل في جماعه في كل مرة يقذف أكثر من بليون خلية حية.. أي يمكنه تخصيب عددا من البويضات يعادل عدد سكان الصين أو الهند... أي دقة في خلق هذا المني و في الإشارة إليه بهذا القول السديد و الكامل و المعجز... هل لدينا أي فضل في هذا الخلق و هذه القوانين التي يعمل بها حتى نـرد بالنفي على هذا السؤال الرباني ( أأنتم تخلقونه أم نحن الخالون )... إنـه الاحتكام إلي المنطق العلمي في كل أمور الدين و الدنيا و لا شيء ســواه... هل يمكن أن يكون لدينا رداً غير التسليم بأنه ليس لنـا أي فضل في خلق هذا المنى و أن لهذا المنى حالقا واحدا و لهذا جـاء تـشابه الخلق كلهم في منيهم و فيما يؤديه...و كيف لا نقر هذا و العلم ما زال يجهل كل أسرار هذه الخلايـا التي تستفـسر عنهـا هذه لآية وإن كنـا قد رأينـا بعض معالمـهـا.. و مـا زال كل يوم يأتي بجديد في هذه الرؤى.
إنـنــا أمـام صرح علمي أرسله الخالق منذ أربعة عشرة قرنـاً ليدحض مـا ادعـاه مأفـون في القرن الماضي أن خلية حية بهـا هذا الأعجاز الذي نراه تحت المجهر قد جاءت بالصدفة، و لجهله لم يكن قد اكتشف المجهر الذي يجعله يرى ما نراه الآن كما يـبصرنا الخالق في هذه الآية بما يمكن أن نراه من أعجاز داخل كل خلية من خـلايـا مخلوقات الله، فيدعى هذا الأعمى أن خلية واحدة جاءت صدفة في البداية و أنهـا قد تطورت من تلقاء نفسها لينـشـأ منهـا سـلالات الحشرات و الحيوانات و الطيور و الأسماك، فالزرافة جاءت من الحمار و النمر جاء من القط و الإنسان جاء في نهاية هذا التطور من القرد، أي هراء هذا، أولو استمع منشئ هذه النظرية إلى هذه الآية و تدبر في معانيهـا ثم رأى مني القط و الفأر و الإنسان و القرد، لكـان قد وجد أن لكل مخلوق من هذه المخلوقات مني خاص بهـا و سجل معنى بتـكوينهـا و صفاتها استقرت معالمه منذ البداية
كل مني به أعداداً مختلفة من الكروموزومات لكل نوع تحدد الصفات الوراثية والخصائص المحددة لكل مخلوق بحسب هذا النوع، كل حيوان أو حشرة أو طير قد جـاء وله تكوينه الخـاص بالمهمـة التي حددهـا الخـالق له و سخر القوانين الطبيعية التي تحقق له هذه المهمـة، فهل يستطيع هذا... أن يوضح لنـا كيف يمكن أن يتطور شكل هذه السجلات بحيث يكون عدد الكروموزومات في منى القط أقل من عددهـا في الفأر رغم أن سلم التطور حسب هذه النظرية يأتي بالفأر قبل القط و الإنسان بعد القط.. هل ينقص العدد مع التطور أو يزداد، و مـا الذي يمكن أن يغير عدد هذه السجلات و أنواعهـا في كل خلية أو منى.. كيف تـغير الخلية سجلاتهـا من تلقاء نفسها بحيث تتوافق مع ما يـنتجه كل مني مع الظروف المحيطة به حتى يستطيع الطير أن يسبح في الهواء و الأسمـاك أن تسبح في البحـار و تتنفس في المـاء و الجمـل أن يعيش في جفـاف الصحـراء و يخزن المـاء... إنهـا بكل منطق جـاءت بإرادة خالق هذا المنى بسجلاته.. خـالق يعلم ما يصنع و ينتج من كل منى خلقه بحيث يـتوافق ما ينتج منه مع أداء المهمة التي خلق من أجلهـا.. هل هي الأمطار أو الرمال أو العواصف و الحرارة و البرودة هي التي صنعت و حددت و سجلت وتـراصت و اختـارت و سنت القوانين التي تحدد كثافة الهواء بحيث يرفع الطير و كمية الهواء المذاب في الماء بحيث تكفى تنفس الأسماك و حاجة الجمل من الماء بحيث يختـزنه أثنـاء رحلته في الصحراء.. أو جنون صاحب هذه النظرية، هل يستطيع أن يدعى هذا لو كان قد استمع إلي هذه الآية و استطـاع أن يأتي في عصره بمجهـر ليرى إعجاز الخـالق في خلق كل منى كمـا نراه الآن.. الإجـابة معـروفة و التفسير الوحيد جـاء في أول هذه الآيات بهذا النص الحق الذي أرسله الله منذ أربعة عـشرة قـرنـا من الزمـان:(أفرأيـتـم مـا تمنون ) و ( نحن خلقناكم فلولا تصدقون ).
و بعد خلقنــا بهذه القدرة وضع الله لنـا أقدارنـا أيضـاً التي تحدد متى تنتهي حيـاة المخلوق الذي جـاء من هذا المني، و كمـا نعجز عن أن نأتي بخلية واحدة أو بنصف خلية كالتي نمنيهـا، فنحن نعجـز بالرغم من تـطـور عـلومنــا أن نمـد أعمـارنـا و لو لحظـة واحدة، فالمـوت هو لحظـة قدرهـا الله لكل منـا كمـا جـاء في استكمال هذه الآيـة بهذا النص الإلهي المعجز الدال عليه و على قدرته ( نحن قدرنـا بينكم الموت )، فالذي بيديه الخلق يكون بيديه نهاية مخلوقة و لا أحد سـواه يعلم منتهـاه، فقلوبنـا تعمل بأمره، و أرواحنا تستقر بأمره، و لا أحد له السيطرة على هذا أو ذاك أو إذا مـا تـوقف أي شيء بأمره، عند هذه اللحظة لن يستطيع أحد أن يمد عمره لحظة واحدة إذا جاء أجلهـا.
وتستكمل الآية بهذا القول الحق ( و ما نحن بمسبوقين، على أن نبدل أمثـالكم و ننـشأكم فيمـا لا تعلمون، و لقد علمتم النشأة الأولى فـلولا تـذكرون )، إنه المنطق العلمي الإلهي الدال على صدق الرسـالة، فقد اكتشفنا كيف جـاءت نشـأتنـا الأولى داخل الأرحـام من هذا الانقسام الهائل للخلية الأولى في نظـام دقيق فتتكون الأعضـاء و الأجهزة و الأطراف و العظام و العضلات و الحواس و الأعصاب من خلية واحدة تكاثرت بهذا النظام بأمـر خـالقهـا... هل يكون من الصعب على خـالق نـِشأتنـا الأولى بهذه القـدرة و الحكمـة و العلم أن يـنـشـأ مثلهـا مرة أخـرى أو يبدل في هذه النـشــأة كيف يشــاء .. هل من العسير على خـالق الأصـل أن ينـشـأ مثيـلاً أو بديلاً له مرة أخـرى كيف يشـاء... هذا مـا جـاء بـه قـول الحق نبدل أمثـالكم و ننـشأكم فيما لا تعلمون، إنه الاحتكام إلى المنطق العلمي مرة أخرى لتأكيد وقوفنـا في الآخرة بين يديه... ثم يأتي هذا الاستفـسـار المنطقي في نهـاية الآية بعد معرفتنـا بخلقنـا الأول و كيف جـاءت نشأتنـا بإعجـاز خالق واحد قـادر ( ولقد علمتم النـشأة الأولى فـلـولا تـذكرون ).. نعم سنـتذكرقي عمن لا يذكر الله دائما بعد رؤية إعجـازه في خلق نشأته الأولى بحيث لا يحتمل سـوى رد واحد... نعم سنـتذكر هذه الحقائق دائمـا يـا الله ... أنت حقـاً الإله الخـالق الذي خلقتنـا و القـادر على أن ببعثنا كمـا نحن و أن تبدلنـا كيف تـشـاء..فلا قـدرة سـوى قـدرتك و لا إلـه ســواك و مـا نحن إلا مخلوقون و لا خـالق إلا أنت تبعثنـا بأمرك ومشيئتك كيف تشـاء.
ثم نأتي إلى الدليل المادي التالي على أن لنـا خـالقـا ... بعد أن خلقنـا من منى يمنى فصـار نطفة، أوجد لهذه النطفة أو الطفل الذي يأتي من هذه النطفة الغذاء الذي يحـيــا بـه و يـنـمو، و هذا بما وفـره لنـا من غذاء يأتي خلقه من عنـاصـر الأرض و مكونـاتهـا... كلا.ل نستطيع أن نتنـاول هذه العنـاصـر مباشرة.. كلا .. و لكن خـالق الإنسان خلق مـا يعد له الطعام الذي يغذيه من هذه العنـاصر.. كمـا جـاء في قـول الحق ( أفـرأيتم مـا تحـرثـون، أأنتم تـزرعونه أم نحـن الزارعـون ) استفـسـار آخـر يعقبه سـؤال عمن أعد للإنسان مـا يغذيه... إن الإنـسانن الذي جعل هذه الحبوب التي يضعهـا أثنـاء الحرث تنبت زرعـا هكذا بهذه الطـريقة المرتبة و المعجزة بحيث تعد له حـاجته من الطعـام و الغذاء و وفر في الأرض العنـاصر التي تحتاجهـا هذه الحبوب لتنبت...
إن الإنـسان رغم عقله و تدبره و اعتقـاده بأنه سيد هذا الكون يعجـز أن يعد لنفسه طعـامـاً من الأرض بدون هذا الزرع ... فهل هو الذي علم البذور أن تـأخذ بعض العنـاصـر أو الأمـلاح من الأرض و يسر لهـا المـاء لتذيب هذه لأملاح لتعد له حـاجته للنمو... لا فضل للإنسان في كل هذا و دوره يقتصر على إلقـاء البذور أثناء حرث الأرض و تقليـبـهـا... و تظل البذور هكذا سـاكنة... ثم تنمو جميعهـا في توقيت واحد فتخترق بزرعها سطح الأرض مرتفعة في السمـاء و بجذورهـا باطن الأرض متغلغلة في أجواقها و كأنهـا جميعـا على موعد لتقدم للإنسان الخير و الغذاء... من أودع في هذه البذور أو الحبوب تلك القدرة العجيبة في تحديد الوقت و التعامل مع الزمـان.. من علمهـا جميعـا و جعلهـا تنسجم في نسق واحد لتنمو معـا في كل اتجاه و تخضر أوراقهـا في وقت واحد.. من أودع في كل حبة هذه الأسرار بحيث تؤدى كل هذه الأدوار... إننـا لو نظرنا كمـا تأمرنـا هذه الآية الكريمة إلى الحبوب التي نرميهـا أثناء الحرث تحت المجهـر لرأينـا كل العجب... نـرى مركزا ضخمـا للمعلومـات مليئـا بالشفرات و الأوامر المبرمجة داخل حمض نووي عملاق قـابع داخل كل حبة يحدد كل مـا يتصل بتلك الحبة.. إنـنـا عندمـا أي مدى تنمو و كم تعطى و مـا تعطى... إنـنـا عندمـا ننظر إلى ما يـخرج من هذه الحبة من زرع يستخرج من الأرض و الهواء العنـاصـر المختلفة وفقا لشفراتها المخزونة بحيث تحدد طعم ثمراته و لونها و عددها نقر أن هذا لا يتم إلا بإرادة أسمى و أعلى ... إرادة خـالق أودع في كل بـذرة هذه السجلات الكـاملة لمـا عليهـا أن تـــؤديه حتى يـخـرج كـل نبـات بالمحتوى الذي يعطى للإنـسان مـا يحتـاجه لكي ينـمـو و لكي يعيش... حقا إنزراعـة تـعد مصنعـا كـاملا يـؤدى أدوارا رائعـة رسمت بإتـقـان و بـتدبير خـالق الإنسان سبحانه و تعالى الذي يعلم مـا يحتـاجه لكي يحـيـا... حقا إن كل نبتـة تـعد سـرا من أسـرار الخالق تـرى فيهـا إعجـازه و معجـزاته ... ثم إن مـا نراه في هذا النبات من جذور يندفع المـاء إليها مذيبـا من الأرض بعض العنـاصر و الأملاح التي يحتاجها كل زرع ليعد مـا ينتجه ثم نرى كيف يتم دخول هذا المـاء إلى جذور النـبات بقـانون ألهى يسمى قـانون الضغط الاسم وزى نتيجة لاختـلاف نسبة تـركيز بعض العنـاصر داخل جذور النبات عن نسبتهـا في الأرض فتمتص ما رتبه الخالق لهـا من أملاح و عناصر.. ثم كيف تـصعد المـياه حـاملة أملاحهـا إلى سـيقـان النبـات التي تمتـد إلى الهـواء، و تـرتفع المياه في السيقان داخـل أنــابيب ضـيقـة شـقهـا الخـالق بحكمته داخل هذه السيقـان
كيف يصعد الماء في هذه الأنابيب الضيقة عكس اتجاه الجاذبية الأرضية بقـانون آخـر يسمى قـانون الأنـابيب الشعـرية... ثم كيف تـصـل المياه إلى فـروع النبات الذي يصنع مـا يقدمه لنـا من ثمـار فيهـا كل مـا نبتغيه من وجبات... من شـق هذه القنوات و سـن هذه القـوانين و ضبط هذا التـركيز و أعـد هذه الإنـشـاءات بحيث تمتد الجذور لتثبته في الأرض فتصعد بسيقانه في الهواء حاملة الفروع و الأوراق و الثمار، من أعد لكل نبات هذا الإعداد بحيث يصبح مصنعـاً يأخذ من الأرض التي نحرثهـا منتجـاً قادراً على غزو الأسواق بمحتوى متكامل من الفيتامينات و البروتينات و النشويات و الطعم المقبول و الرائحة الشهية لكل البشـر... يغذيهم و ينميهم و يقيم أودهم، هل نحن القائمون على أن تأتى زراعته بهذه الحكمة و القوانين و هذا الترتيب و التركيبي... إن دقة التوجيه إلى النظر إلى مـا نحرثه و هو الحب بأسراره و الأرض بعطائهـا و الذين يكونان معاً نظاماً متكاملاً يقوم بكل هذا العمل تحدد الإجابة على هذا السؤال المنطقي أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون... بحيث لا يكون له سـوى رد واحد.. لالا مشيئة في هذا الزرع إلا فـضلك يـا الله.. و لا مشيئة إلا مشيئتك .. و لا قـدرة إلا قـدرتك.. و لا حول و لا قـوة إلا بــك يـا واحد في سننك... في كل ما تخرجه الأرض من زرع يسير كله على نهج واحد و بقوانين واحدة و بماء واحد و من أرض واحدة تسبح جميعهـا بوحدانيتك.. ثم يأتي البرهـان الآخر على أنـه لا مشـيئة إلا مشـيئتـه إذا مـا سـلط الله على هذا الزرع مــرض أو فـطـر.. أو عاصفة أو حـر قـائظ.. فـلا راد لقضـائه و لا دافع لنقمته.. فيأتي قول القـادر لـو نـشاء لـجعلنـاه حـطـامـا فظلتم تفكهـون... كـلا.در على إحياء هذا الزرع لـو مـات أو تحطم بفعل الحشرات أو الآفـات أو الجفـاف أو أمـر الله.. كـلا .. وسيكون الندم و تـأتى الحـســرة و الاعتراف بالقهـر و يظـهـر العجـز البشـرى أمـام قـدرة الخـالق عندمـا نعترف و نقر بهذا القول إنــا لمغـرمـون.. بل نحن محـرومـون... إنه اعتراف بالعجز نقر به دائما عند نزول غضب الله... و هكذا نرى في هذه الآيات إقرار بقدرة الخـالق على الخلق و الفنـاء، على المنح و المنع، على العطـاء و السلب... تـأتى بهذا الإعجاز و هذا البيـان الذي لا يمكن أن يأتي من أحد سـواه في كلمـات محددة أوعت كل المفـاهيم بكل العلوم التي ندركها حتى يومنا هذا.
ثم يأتي دليل مادي و مرئي آخـر على أننـا مخلوقون و أن لنـا خالق دبر لنـا بحكمته كل شيء... فدبـر لنـا هذا المـاء الذي يعد عمـاد الحـياة على الأرض... فيـقول الحق أفـرأيتم المـاء الذي تـشـربـون.. إنهـا إشـارة إلى المـاء و هو سر من أسرار الحياة، هكذا يـقـر العلم الحديث.. فبدون المـاء لن يكون هناك أثـراً للحياة على الأرض.. و الكواكب من حـولنـا خلت من كـل حـياة لأنهـا تخـلو من المـاء الذي أنعم بـه الخـالق على أرضنـا.. و المـاء هو المـاء في كل أنحـاء الأرض... إذا امتنع حياة النبات و الإنسان و الحيوان.. إذا امتنع جف النبات و نفق الإنسان و الحيوان .. من سـاوى بين كل المخلوقات فجعل المـاء عمـاد حيـاتهم جميعهم كمـا يكون أكثر من 70 % من أجسامهم... يشربه الإنسان فيرتوي و الحيوان فينـشـط و نروى به النبات فينمو و يعطى الثمـار، إنه خـالق واحد أحد وفـر لجميع مخلوقاته ماءا واحدا فأصبحت له كل هذه الأسرار.. إننـا حقـاً لو نظرنـا و تدبرنـا هذا المـاء و أسراره كمـا تنص هذه الآية القرآنية لأقررنـا بوحدانية الله دون دليل آخــر... ثم رأينـا كيف طوع الخالق هذه الأرض بجـوهـا و طوع السمـاء بـشمسهـا و حملهـا وطوع البحـار بمـلحهـا و مخزونهـا حتى تكون لنا في النهاية هذه النعمة التي لا نحيا يدونها.. إن البحـار تحتفظ بمخـزون هـائل من المـاء الأجاج أو المـالح و هذه الأملاح تمنع نمو أي بكتيريـا أو طفيل يفسد المياه الراكدة في البحار.. و يسلط الله على هذه البحـار التي تغطى أربعة أخمـاس مسـاحة سطح الكرة الأرضية قدرا منـاسبـا من أشعة الشمس... فيتحول جـزءا من ميـاهـهـا إلى بخـار المـاء العذب الذي يتصـاعد إلى طبقـات الجو العلـيـا لأن كـثافته أقل من كـثافة الهـواء المـلامس لسطح الأرض.. و كلمـا ارتفعنـا إلى أعلى كلمـا قلت كـثافة الهواء.. و يقف البخـار عند الارتفاع الذي تتـزن فيه كثافته مع كثافة الهـواء فتتجمع جزيئات البخـار مكونه هذا الحجم الهـائل من السحب التي تتحرك بفعل الريـاح في اتـزان متكامل.. و يحدث هذا الاتزان بتساوي قوى الجذب الأرض للسحاب إلي أسفل مع الدفع الهواء للسحاب إلى أعلى نتيجة أن كثافة الهواء أكبر من كثافة بخار المـاء... لهذا جـاء هذا الاسم القرآني المعجـز للسحـاب و هو الـمزن... إنه اسم يـعبر عمـا تمثله حـالة السحب و هي الاتـزان الكامل في سكونها وحركتها.. و كما نرى أن هذا الاسم قد استوعب كل هذه المعاني الخاصة بمـا يعيره عن اتزان السحب بإعجاز علمي و بلاغي.. و عند مقـابلة هذه السحب لـظـروف جوية و طـبيعية مغـايرة تفقد السحب هذا الاتزان فتنتقـل من حالة الاتزان إلى حالة لا أتـزان فتتحول إلى أمـطـار.. و في هذا يأتي القول الإلهي بهذا النص القرآني الكامل
أأنتم أنـزلتموه من المزن أم نحن المنزلون
إنه استفسار عمن يكون قد هيـأ لهذا السحـاب مصـادره و اتزانه في السمـاء ثم نـقله من الاتزان إلى لا اتزان عندمـا تـنزل أمطـارا عند مصبات الأنهار أو لأقوام أراد الله لهم هذا الرزق.. إنه إعجاز علمي و بلاغي آخر في اختيـار هاتين الكلمتين المتتاليتين: من المزن فيمـا تمثلانه من انتقـال السحـاب وخروجه من حـالة الاتزان إلى حـالة اللا اتزان عند نزول الأمطار، ثم اختيار الكلمتين المزن.. المنزلون و مـا احتوت عليه من تشـابه حروفهمـا و تتابع مهامهمـا ..
و لا نجد أيضـا رداً على السؤال الذي جـاء في هذه الآية إلا أن نقـول أنه لا فضل لنـا أيهـا الخالق العظيم في أية مرحلة من مراحل هذا المزن ســوى فضلك، فبرحمتك سلطت أشعة الشمس بقدر معلوم على المـاء الأجـاج في البحـار فجـاء السحـاب.. و بفضلك حملته الريـاح في اتزان..و بفضلك أفقدته هذا الاتزان عند كل مصب اخترته بحكمتك.. و بفضلك أنزلته إلينـا أمطـاراً من مـاء عذب تجرى في أنهـار شققتهـا برحمتك فتظل عذبة سـائغة للشـاربين من خلقك الذين خلـقتهم برحمتك و تعلم مـا يقيم حيـاتهم و أين يقيمون.
ثم يأتي برهـان آخـر.. فالقـادر على منح هذا المـاء العذب لنـا قـادر أيضـا على منعه.. إنهـا مشيئته و لا دخل لأحـد بهـا.. و لكن مـاذا يحدث إذا منع عنـا هذا المـاء العذب.. لن نجد سـوى مـاء البحـار الأجـاج.. هل نستطيع أن نحيـا به.. الرد معروف.. فملوحة مياه البحـارتحول دون استفادة البشر منهـا... فهـل لنـا إلا أن نـشـكر الله على هذا الفضل الذي تفضل به علينـا لنشرب ماءا عذبا ساقه إلينا حتى نرتوي و نروى النبات فنطعم به و تشرب الدواب فتخدمنـا و نأكل لحومهـا.. و في هذا يأتي هذا النص القرآني المعبر عن قدرة الخالق و مشيئته في العطـاء و المنع لو نـشـاء جعلـنـاه أجـاجـا فلولا تـشكرون.. من يتدبر كلمتي جعلنـاه في هذه الآية و في الآية السـابقة، لوجد الحرف ( ل ) قد سبق هذه الكلمة في الآية السـابقة و لم يأتي سـابقا لهـا في هذه الآية.. ففي الآية السـابقة إشـارة إلى أنه إذا أراد الله أن يصيب الزرع سلط عليه مـا يبيده فجـاء الحرف ( ل ) ليؤكد مشيئته في هذا الحرمان بفعل يغاير المألوف وهو المعطى دائماً... أمـا في هذه الآية فلا حـاجة للتـأكيد حيث أن مشيئته تحول المـاء الأجـاج إلى مـاء عذب بفعل الشمس و السحاب المسخـرين، فإذا أوقف الله هذه الأسباب، فلن نجد أمـامنـا سوى مـاء البحـار لنشرب منه، فلا حـاجة إذن في تـأكيد هذا لأن المـاء الأجـاج أمـامنـا دوامـا و عند حرماننا من الماء العذب فلا مفر لنـا من الذهـاب إليه... هل في قدرة بـشـر أن يأتي بكل هذه الحكم و البلاغة و العلم في كل كلمة بل و في كل حرف.
ثم تتوالى الأدلة على أننـا مخلوقون، فقد خـلق الله الإنـسان على الأرض ليتحرك و يسعى.. و سعيه و حركته في حـاجة إلى طـاقة... مثل محرك السيـارة الذي لن يتمكن من الحركة دون مصدر للطـاقة و هـو الوقود الذي يحترق داخل السيارة لتـسـيـر. وبـدون أن يكتشف البترول مـا كـان لأحد أن يخترع السيـارة... كيف تم إعـداد مصـدرا للطـاقة لهذا الإنسـان الذي جاء إلى الأرض، مصدرا يتنـاسب مع تكوينه و خلقه و أجهـزته المختلفـة... لم يكن هنـاك بترول على الأرض حين جـاء إليها أو كحـول أو شمع... إن التفسير الوحيد هو أن الخـالق الذي خلق الإنسـان لابد أنه دبـر له مصدرا يستمد منه طـاقته.. لقد سـخـر له الشمس لتحترق و تـرسـل أشعتهـا إلي النبـات ليختزنهـا ثم ليحـولهـا إلى طـاقة تنطلق في أجسـامنـا عندما نتغذى على ثمار هذا النبات باحتراق يتوارى عن أعيننـا و بالقدر الذي نحتـاجه للحركة و بـآلـيات تعجـز العقول عن فهمهـا ... و لولا الشمس و لولا النبات و لولا حكمة الخـالق مـا كـان للإنـسان من سبيل إلى الحركة و السعي و الاستمتـاع بقـوة عضـلاته في الجهـاد والسيطرة على الكون من حـولـه... أي لـولا الشجـرة التي تختزن طـاقة الشمس بعمليـة تـعد من أعقد العمـليـات تسمى عملية التمثيل الكـلوروفيللى حيث يقوم ورق الشجــر الأخـضـر أثناء هذه العملية بتكوين المـواد النـشوية أو الكربـوهيدراتيه التي تمثل وقودا هيدروكربونيـا مثل البترول، وهذا بأن يمتص الورق الأخضـر أشعة الشمس وثاني أكسيد الكربون من الجـو و المـاء من جذور النبـات... ومنهـا جميعـا تتوفر لنـا مصـادر طـاقتنـا... و حين نـأكل ثمـار هذه الأشجـار، تحـترق المـواد النشـوية التي تحوى طـاقة الشمس داخل خـلايـا أجسـامنـا البشـرية... فتنطلق هذه الطـاقة في احتراق متوار كما تشير الآية الكريمة بهذا الوصف الكامل النار التي تورون حيث يستخدم الجسم في هذا الاحتراق الأكسيجين الذي يحمله الدم من الرئة إلى الخـلايـا، و تعد عمليـة احتراق المواد الكربوهيدراتية داخل الخلايا من أعقد العمليـات التي يحـار العقـل البشرى في فهمهـا و التي تحتـاج إلى مجلدات لسـرد تفـاعلاتهـا.. و لكنه احتراق كآي احتراق يستخدم فيه أكسيجين الهواء و ينتج عنه الطـاقة و ثاني أكسيد الكربون وبخـار المـاء.. وبهذه الطـاقة تتمكن خـلايـا الجسم من أداء وظـائفهـا و يتمكن الإنسان من الحركـة والاستمتاع بحياته و عضلاته و قوته.. هل للإنـسان فضل في هذه الشجرة التي صنعت للإنـسان حـاجته من الطـاقة ليحـيـا.. وهل يعي الإنسان مـا بداخله من نيران تتواري عن العيون كتلك التي تنطلق داخل محرك السيارة
كل هذا جـاء في هذا الاستفسار الإلهي
أفـرأيتم النـار التي تـورون.. أأنتم أنـشـأتم شـجرتهـا أم نحن المـنـشـئون.. نحن جعلنـاهـا تذكرة و متــاعـا للمقوين.. هل لنـا رداً أيضـا على هذا الاستفـسـار ثم هذا السؤال إلا أن نقول أن لا يمكن أن يـكون هنـاك فضـلا لنـا في شيء من هذا سـوى أنه تدبيرك أيهـا الخـالق الواحد و أن هذا خلقك و صنـاعتك و تـرتـيـبك الشـاهد على وحدانيتك، فالكل يسير على نفس الناموس... و إذا نظرنـا إلي كل كلمـة سنجد فيهـا إشـارات إلى أشياء ندرك البعض منهـا بعلومنـا المحدودة و يـغيب عنـا الكثير.. ننظـر إلي كلمتي أفرأيتـم و تــورون و الأولى تدعونـا إلى أن نرى حكمة الخالق في النار التي هي مصدر الطاقة في أجسامنا والثانية تدلنا أن هذه النار قد واراها الخالق عن عيوننا و لكن نشعر بدفء نيرانها و القدرة على الحركة... وكلمة تـذكرة قـد تـرمز إلى وجـوب تذكر عظمة الخـالق في تسخير هذه الشجرة لتخزن لنا كل هذه الطـاقة و فيمـا دبـره بحيث تنطلق هذه الطاقة داخل أجســامنـا دون أن تراهـا عيونـنا... إن هذه متـاعـا للمقوين إشـارة إلى أنـنـا استطعنـا بهذه الطاقة أن نستمتع بقـوة عضـلاتنـا وأجسـامنـا ويدونها لن تكون لنا أي قدرة على شيء.. إن هذه الكلمـات المحددة قد أوعت كل مـا اكتـشـفنـاه و ستستـوعب أيضـا مـا لم نكـتـشفه من عـلوم الطـاقة والاحتراق و النبات و الطب و الإنسان و البيـان و البلاغة و الإعجاز إذا مـا تولى المتخـصص المدرك لكل جـانب من جوانب هذا الإعجـاز ... هل يمكن أن يتـأتى كل هذا البيان من غـير الخـالق الذي يعلم كل شيء ؟؟؟
تعـالوا نـنـظـر نظرة شـاملة إلى هذا المنهج الرباني الذي يخاطب البشر منذ أربعة عشر قرنـا بأرقي ما يمكن أن تصل إليه علومهم ليؤكد أنه خـالقهم و مدبر أمرهم ويحدد لهم بعض الآليـات التي أوجدهـا بعلمه ورحمته حتى نحيا على هذه الأرض بمشيئته... لقد بدأت هذه لآيات بالدعوة إلى رؤيـة هذا الحيوان المنوي الذي يبدأ به خلق كل إنسان و تكوينه... فلا تأتى الدعوةد بعد أن رأيناه في أن يدعى أنه جـاء بغير خـالق أو أن لنـا أي فضل في خلقه بهذا الإعجـاز... ثم تأتى الدعوة إلى رؤيـة مـا يتـغذى عليه الإنسان لكي ينمو و يـمارس شئون حياته ... و لا قدرة لأحـد أيضـا على ادعاء أن هذا الزرع قد جـاء بغير خـالق بحيث يوفـر مـا يتوافق مع تكوين و تصميم هذا اٌلإنسان... أو أن الذي خلق الإنسان ليس هو الذي خلق هذا الزرع لينمـو بـه و ليعتمد عليه بحيث لا تستمر الحياة إلا بـه...
ثم نأتي إلى الآيـة التـالية و فيهـا الدعوة إلى رؤية المـاء الذي يسقي النبـات والإنسان وفيه سـر الحياة و استمرارهـا.. لا قدرة لأحد أيضـا على ادعـاء أنه جـاء بغير خـالق أو أن الذي خلق الإنسان والنبـات ليس هو أيضـا الذي دبر لهمـا هذا المـاء بدورته المعقدة من مخـازن تحفظه إلى أنهـار يسـوقهـا الخالق إليه في أماكنه بحيث يكون بهذه الوفرة و هذا التكوين.. ثم نأتي إلى دعوة الخـالق إلى رؤية الطـاقة التي يحتـاجهـا الإنـسـان... و لا قدرة لأحـد أيضـاً على ادعـاء أنهـا دبـرت هكذا بدون خـالق أو أن الذي دبـرهـا ليس هـو الذي خلق الإنسان و دبر له هذا العطـاء و هذا المعين الذي لا ينضب من الطاقة و مصادرها الطبيعية من شمس و خصائص.. إذا نحن مخلوقون ومدبر لنـا كل شيء بيد خـالق واحد رتب لنا كل شيء..بدايتنـا و غذائنـا و مـائنـا و مـصدر طـاقتنـا في دورة وحد ذات أركان متصلة.. وأن ليس لنـا فضل في أي من هذه الأمور سـوى حـرث الأرض ببذورهـا، و لكن المنى و المـاء و النمـاء و الطاقة كلهـا من أمـور و شئون الخـالق وحـده في منحها و منعها كما تبينه هذه الآيات... هل هنـاك منطق يـحتكم إليه العقل البشرى أعلى من هذا المنطق حتى نقـر بخـالقنـا أو أن لنـا خـالق واحد أحد... و هل لنـا بعد هذا المنطق و هذه الرسـالة إلا أن نـقـر بآيـات القرآن و نسبح بعظمـة منزلهـا.. و هكذا تنتهي هذه الآيـات أو الإثبـاتـات و الدلالات أو الاستفسارات الأربع بوجوب هذا التسليم و التسبيح لرب العـالمين الخـالق العظيم
( فسبح باسـم ربـك العظيم )
... إنـه إعـلان رباني لا يتطـاول إليـه أحـــد، جـاء في خـاتم الرسـالات و لن تـراه في زبور أو تـوراة أو إنجيل أو أي كتـاب، إن المسلم حين ينحني أمـام الله في ركوعه أثناء صـلاته و يقول سبحان ربى العظيم، عليه أن يستشعر عظمة الله التي جـاءت بهـا هذه الآيـات، فهـو منشئه من مني معجز ومقدر حياته وموته، و هو الذي هيئ له طعامه من حبوب و ضع أسرارهـا و أرض سن لهـا قوانينهـا، و هو الذي وفر له هذا المـاء العذب بعد رحلة دبرهـا بقدرته و حكمته، و هو الذي و فر له الطاقة التي يحتاجهـا ليستمتع بقوته..هو الواجد لكل هذا و مـا لنـا في كل هذا التدبير من شيء.. ثم هو القادر على حرمانه من كل هذا... فلهذا يقول بكل الإيمان و العلم.. سبحان ربى العظيم.
و يلي هذه الآيــات قـسم من الخـالق بمـا نـراه في خلقـه أيضـاً على صـدق هذه الرسـالة و أن هذا الكتـاب قـد جـاء من عنده بقول الحق.
فـلا أقسم بمواقع النجوم، و إنـه لقـسم لـو تعلمـون عظيم، إنـه لـقـرآن كـريم، في كتـاب مكـنون، لا يمـسـه إلا المـطـهرون، تـنـزيـل من رب العـالمين.
نقف عنـد قـسم الخـالق بمواقع النـجوم، فالنجوم أجـسام غـازيه تـجـرى بهـا تفـاعلات شتى منذ نـشأتهـا من إشعـاع يتحول إلى مـادة أو مـادة تتحـول إلى طـاقة و إشعـاع بحسب مـراحل عمـرهـا و تكوينهـا... و تقف العلوم الطبيعية عـاجزة عن معرفة و تفسير نـشأة هذه النجوم إلا أنه من المفترض أن يكون لهذه النجوم عند نضجهـا نفس تكوين الشمس من غـاز الهيدروجين.. وفي مـرحلة نـشاط النجم تنطلق منه طـاقة هـائلة حيث يحدث اندمـاج ذرات الهيدروجين لتكون ذرات غاز الهليوم الخامل ذو الكتلة الأقل و يتـحول فرق الكتلة إلى تلك الطـاقة الهائلة التي تظهر النجم مضيئا رغم بعده السحيق عنا.. و تـأخذ كتلة النجم في التنـاقص حتى يتلاشى و ينتهي النجم بعد عمـر محدود.. و في الكون الآن بـلايين البلايين من هذه النجوم التي قد يصل حجم بعضهـا إلي مـلايين المـرات مثل حجم الشمس و هي نجم مجمـوعتنـا التي ندور حولهـا و تعطينـا دفئهـا.. و تعتمد رؤيـتـنــا ليـلاً لهـذه النـجوم على الطـاقة الصـادرة منهـا و التي تـصـل إلينا على هـيئة ضـوء يخترق السمـاء بـسرعته.. كمـا نـرى الشمس نهـارا بالضـوء الصـادر منهـا و الذي يستغرق وصـوله إلينا من الشمس عـشـر دقـائق... و لأن النجـوم من حـولنـا أبعد كثيـرا من الشمس، فنرى أن ضـوءهـا يستغرق زمنـاً أكثر من هذا ونجد أقـرب نجم إلينا يسـتـغرق وصـول ضـوءه إلينـا عدة سـنوات، و هنـاك نجـوم يستغرق وصـول ضـوءهـا إلينـا ملايين من السنوات، بل و آلاف المـلايين من السنوات، هذا لأنهـا على أبعـاد شـاسعة و أن الضـوء سـرعته محـدودة و تـقدر بحوالي 300 ألف كيلومتر في الثـانية الواحدة... والآن مـا معنى أن الضـوء الصـادر من نجم مـا يستغرق وصوله إلينا سنة.. معنى هذا أن هذا النجم يبعد عنـا مسـافة تسـاوى هذه السـرعة مضروبة في عدد الثواني في السنة أي: 300 ألف كيلومتر × 365 × 24 × 60 × 60 .. و يطلق العلمـاء على هذه المـسافة تعبير ( سـنة ضـوئية ) .. فمعنى أن يـبعد النجم عنـا مليون سنة ضـوئية هـو أن هذا النجم كان في هذا الموقع منذ مليون عام عندما أرسل إلينا ضـوءه و استغرق الضوء هذه الفترة ليصل إلى عيونـنـا... أمـا عن مـوقع النجم في اللحظة التي وصل ضوءه إلينا فـلن تصـل إليه علومنـا و قدراتنـا... و هناك نجوم يستغرق وصول ضوءهـا بلايين السنين.. فـلا قبل لنـا أن نعرف مواقع هذه النجوم بالنسبة لبعضهـا لأن رؤيتنـا لهـا تعتمد على مـا وصلنـا الآن كل بحسب بعده وتـوقيت إرسـال ضـوئه إلينا و إن تـزامن وصـول ضـيـائهـا جميـعـا إلينـا في اللحظة الراهنة.. و من الممكن أن تكون معظم هذه النجوم قد تلاشت أو تبدلت أو بعدت أو اقتربت.. و لكن قدرتنـا محدودة لاعتمادنا على مـا تراه أبصـارنـا على ضـوء يسير بسرعة محـددة
إن معرفة مـواقع نجـوم في أي لحظة وهى على هذه المـسـافـات الشـاسعة والمختلفة شيء بعيد عن قدرة البـشـر، و لهذا جـاء الحرف لـو للدلالة على قـصور قدرة البشر عـن العلم بمواقع النجوم و هذا في قـوله سبحـانه ( و إنه لقسم لو تعلمـون عـظيـم ).. فالحرف لـو هـو حرف يفيد التمني فقط و قد جـاء بعلم خـالق الإنسان الذي يعرف خـلقه... فهي تمثل بالنسبة للإنسان الغيب و الحـاضر في آن واحد.. و لكن الله يرى خلقه و لهذا يقسم بمـا يعلمه و هو أعلم بعظمته.. فهو عـالم الغيب و الشهـادة العزيز الرحيم..
إن التدبـر في هذا القسم و بحدود مـا وصلت إليه عـلومنـا في التعرف إلى بعض الأسـرار في هذا الكون... نجد في مواقع النجوم على تلك الأبعـاد الشـاسعة التي لا يمكن أن يعيهـا أو يستوعبهـا عقل البـشـر إعجـاز و إعجـاز... وكيف يستوعب العقل بلايين السنوات الضـوئية زمنـاً و أبعـاداً.. إن أعمـارنـا بل وعمـر الأرض التي نحيـا عليهـا ثم أبعـادنـا بل و أبعـاد الأرض التي نحيـا عليهـا ونتصـارع من أجل بضعـة أمتـار عليهـا لا تمثل إلا أتفـه الكسـور التي لا تذكر من تلك الأبعـاد و الأزمـان... ثم كيف تنتظم هذه النجوم في هذا الشكل البديع الذي نـراه في هذا الكون فيخيل لنـا أننـا نراهـا هـادئة مستقرة متراصة و حقيقتهـا لا يعلمهـا أحد إلا خـالقهـا.. من منهـا انتقل من أقصى الـشرق إلى الغرب و من منهـا انتهى عمره فتبدد و من منهـا اصطدم بغيره فتوالد عنهمـا نجوم أخرى وكواكب و مذنبات و أعـاصير كونيه لا نعلم عنهـا شيئـا ... لهذا جـاء هذا القسم الإلهي ليدلنـا على صـدق المقـسوم بـه كمـا يضعنـا أمـام حقيقة أنـنـا بعلومنـا قاصرين عن أن نعرف كل شيء.. ولهذا وجب علينـا التسليم فيمـا لا تستطيع أن تسـتوعبه أبصـارنـا و عقولنـا لقول الله الذي يأتي في الآيـات التـالية بأمـور غيبية عن الروح و الجنة و النـار... هذا القرآن جـاء تنـزيـل ممن سبق علمه و رؤيته كل العلوم و الأزمـان و الأكوان... لمن هم قـاصـرين في علومهم و رؤيتهم و محدودين بزمانهم و أبعـادهم و قدراتهم حتى يتيقنوا من هذا البيـان
و الآن، هل نستطيع بعد أن وصلت علومنـا إلى مـا وصلت إليه، أن نأتي بكلمـات مثل هذه الكلمـات الواضحة في إشاراتهـا و تعبيرهـا و علمهـا و شمولهـا و بساطتهـا و مغزاهـا و منطقهـا و بيانهـا و بلاغتها و قوتها و ترتيبهـا بحيث يفهمهـا الجميع ويؤمن بهـا الجميع... على تفاوت علومهم و مداركهم و تخصصاتهم و عصورهم.. الإجـابة معروفة
فبأي حـديث بـعده يـؤمـنون
تأملات في سورة الواقعة
أ.د. ســلامه عبد الهادي
أستاذ في علوم إدارة الطاقة وعميد سابق للمعهد العالي للطاقة بأسوان
القرآن الكريم هو كتاب الله الذي جـاء نـوراً و هداية بمـا يواكب عصـرا تتقدم فيه العلوم و تزدهر ... جـاء ليؤكـد مـا تكتـشـفه هذه العـلوم أن الكون إنمـا انتظـم بالحق لخـالـقه و مدبر أمـره...
جـاء بمنطق علمي فـريد ليقرر أن مـا نراه و تدركه أبصـارنـا و عـقولنــا وعلومنا هو الشاهد على أنه " لا إله إلا الله "... جـاء هذا في القرآن لكريم بمـا يعجز أن يأتي بمثله البشر و لو اجتمعوا له.
تعــالـوا نتـدبـر الآيـات من الآية 57 إلى الآية 75 في سورة الواقعة، وتـقدم هذه الآيــات أروع منهج بحثي يثبت لنـا أنــنـا مخلوقون و أن وجودنـا واسـتمرار حيـاتنــا يعتمـد على إرادة خـالق واحد أحـد وهب الحياة وأوجد مقومـاتهـا و عنـاصـر استمرارهـا، وكمـا أحكم الله صنعته فقد أحكم آيــاته التي أرسلهـا إلينـا لتدلنـا عليه وعلى وحدانيته ، كما ترشدنـا هذه الآيـات إلى أن حياتنا ورزقنـا و طعامنا و شرابنا وقوتنا من تدبيره ورحمته، و أن حرماننا من كل هذا في قـدرتـه ورهن مشـيئته ، وهذا بـإشـارات علميه تعرضهـا هذه الآيـات في سهولة و يسر ، و سنحاول أن نتدبر هذه الإشـارات بمـا يسره لنـا الخـالق من علم.
تبدأ الآيات الكريمة بـتحديد هدف البحث بقـوله سبحـانه و تعـالى "نـحن خلقناكم فلـولا تـصدقون ": إنه تعجب يعتمد على إثـارة الحقـائق فينـا بدلاً من أن يضعهـا في شكل تقريري، وهذا مـا تتـبعه المدارس التربوية الحديثة في شرح الحقـائق... فهو تعجب ممن لا يصدق أننــا مخـلوقون وأن لنـا خـالقـاً هـو منـزل هذا القرآن هداية منه و رحمة، ثم تأتى الآيــات التـالية لتضع من لا يصدق أمـام الحقـائق المؤكدة لهذا بكل بيان لنقر بأنفسنـا صدق هذا القول... ويأتي عرض هذه الحقائق بحسب ترتيبهـا المنطقي و أهميتهـا معتمدة على الرؤية العلمية والعملية التي تزداد وضوحـاً يومـاً بعد يوم .. و لهذا تـبدأ كل آيـة و كل برهـان أو استفـسـار بكلمة أفــرأيتم... استفـسـار من الخـالق يهدينا إلى صدق القول( نحن خلقنـاكم).
يأتي أول استفـسـار بـقول الحق ( أفرأيتم مـا تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخـالقون ).... استفـسـار يعقبه ســؤال... اســتـفـسـار تـتـأتى إجابته بالرؤيـة المتـفحصـة و المتدبـرة فيمـا نمنيه... وقد تحـقـقت هذه الرؤية في العصـر الحديث تحت مجـهـر يسمى المجهر الإلكتروني حيث اسـتـطعنا أن نرى تـركيب الحيوان المنوي و الخلية الحية عندـا يصل التكبير إلى مليارات المرات، إن هذا المنى يعد جزءاً من خلية حية تـؤدى دوراً هاماً في حياة البشر وحياة كل المخلوقات، فهي المسئولة عن حفظ و بقـاء النوع البشرى و كل الأنواع التي خلقهـا الله الواحد الأحد... فهي خلية تقوم بتوريث الصفات التي تنـتـقل من الآبـاء إلى الأبنــاء... إنهـا دليلا على عظمة الخالق و وحدانيته، و هي كخلية من خـلايـا الجسم تعد آية من آيـات الإعجاز في تركيبهـا و تكـوينهـا و وظائفها و تنفسهـا و غذائهـا وتكاثرهـا وانقسامهـا، يعجز الإنسان عن تخيل خلية واحدة بهذا الحجم تقوم بكل هذه الوظائف... فكيف بخلقهـا... و هذه الخلية التي يمنيهـا الرجل أو تمنيهـا المرأة لهـا أيضـاً دوراً متميزاً عن أي خلية أخرى... فهي تتكاثر و تنقسم بقوانين محددة بعد استكمـال جـزئيهـا عند اتحـاد ما يمنيه الذكر ( نصف خلية ) مع مـا تمنيه المرأة ( نصف الخلية الآخـر ) داخل رحم المرأة... وعند تدقيق الرؤية كما تنص الآية الكريمة في هذه الخلايا التي نمنيها، فسنجد أن هذا النصف من الخلية لـه نواة تحتوى على عدداً من الإنشاءات يصل عددهـا إلى 23 منـشـأ تسمى " كروموزومات " وتحتوى هذه الكروموزمات على جينات تعد سجلاً كاملاً للمواصفات البشرية و كذلك صفات السـلالة التي ينتمي إليها الإنسان بدءاً من آدم و حتى آخر الأجيال... و هناك شكلا خاصا للكروموزم الثالث و العشرون يكون على شكلين x و y ، كذلك فإن الـبـويضة التي تمنيهـا المرأة أيضا تحتوى على نفس هذا التكوين و لها نواة بنفس العدد من الكروموزمات و كروموزم يكون على شكل y ، و عند التخصيب يتحد منى الرجل مع مني المرأة ليكونا خلية كاملة تحتوى نواتها على 46 كروموزم مثل باقي خلايا الجسم البشرى و بها خواص وراثية جـاءت من الرجل والمرأة أو الزوج و الزوجة وفق قوانين الوراثة التي تمتلئ بهـا المجلدات ، و يكون المولود ذكراً إذا أخذ من منى الرجل الكروموزم x ويكون أنثى إذا أخذ من الرجل الكروموزم y ، فخلايا الأنثى بهـا الكرموزومين المتشابهين y + y و خلايا الذكر بهمـا الكروموزومين المختلفين x + y ثم تتكاثر و تتوالد هذه الخلية الأولى ،و يخرج منها ملايين و بلايين من الخلايا المتماثلة جميعا في تكوينها و كروموزوماتها و جيناتها ، و لكن كل خلية لهـا وظيفتهـا وعملهـا ،وكل نسيج يتكامل مع الأنسجة الأخرى لتكوين الأعضـاء و الأجهزة التي تتكامل لإعطاء الجسم البشرى قدراته على الحركة و الاستمتاع بالحياة ... كل هذا يتم من خلال برامج علمية متكاملة و وفقا لمعايير و قوانين ما زال العلماء يعكفون على دراستها... قواعد ثابتة يـسير علـيهـا ويخضع لهـا ما نمنيه في أداء معجز حتى تتكون الخلية الأولى الكاملة وبهـا النواة الأولى، ثم يتفرع منهــا هذه البلايين من الخلايـا في رحم الأم لتكون الوليد... قوانين و قواعد سنها الخالق بحكمته لينشأ منهـا كل إنسـان جديد... وكل إنسان و مخلوق على وجه الأرض قد نشأ هكذا بنفس القوانين و القواعد و الأسس و دون اختلاف... ألا يدل هذا على وحدانية الخـالق... و الآن بعد أن رأينـا هذا الذي نمنيه.... هل نستطيع أن نخلق منى مثل هذا أو نقول أنه قد جـاء بغير خـالق بحيث يؤدى كل هذه الأدوار و يحتفظ بكل هذه المواصفات و الصفات و يسير على هذه القواعد... إن الرجل في جماعه في كل مرة يقذف أكثر من بليون خلية حية.. أي يمكنه تخصيب عددا من البويضات يعادل عدد سكان الصين أو الهند... أي دقة في خلق هذا المني و في الإشارة إليه بهذا القول السديد و الكامل و المعجز... هل لدينا أي فضل في هذا الخلق و هذه القوانين التي يعمل بها حتى نـرد بالنفي على هذا السؤال الرباني ( أأنتم تخلقونه أم نحن الخالون )... إنـه الاحتكام إلي المنطق العلمي في كل أمور الدين و الدنيا و لا شيء ســواه... هل يمكن أن يكون لدينا رداً غير التسليم بأنه ليس لنـا أي فضل في خلق هذا المنى و أن لهذا المنى حالقا واحدا و لهذا جـاء تـشابه الخلق كلهم في منيهم و فيما يؤديه...و كيف لا نقر هذا و العلم ما زال يجهل كل أسرار هذه الخلايـا التي تستفـسر عنهـا هذه لآية وإن كنـا قد رأينـا بعض معالمـهـا.. و مـا زال كل يوم يأتي بجديد في هذه الرؤى.
إنـنــا أمـام صرح علمي أرسله الخالق منذ أربعة عشرة قرنـاً ليدحض مـا ادعـاه مأفـون في القرن الماضي أن خلية حية بهـا هذا الأعجاز الذي نراه تحت المجهر قد جاءت بالصدفة، و لجهله لم يكن قد اكتشف المجهر الذي يجعله يرى ما نراه الآن كما يـبصرنا الخالق في هذه الآية بما يمكن أن نراه من أعجاز داخل كل خلية من خـلايـا مخلوقات الله، فيدعى هذا الأعمى أن خلية واحدة جاءت صدفة في البداية و أنهـا قد تطورت من تلقاء نفسها لينـشـأ منهـا سـلالات الحشرات و الحيوانات و الطيور و الأسماك، فالزرافة جاءت من الحمار و النمر جاء من القط و الإنسان جاء في نهاية هذا التطور من القرد، أي هراء هذا، أولو استمع منشئ هذه النظرية إلى هذه الآية و تدبر في معانيهـا ثم رأى مني القط و الفأر و الإنسان و القرد، لكـان قد وجد أن لكل مخلوق من هذه المخلوقات مني خاص بهـا و سجل معنى بتـكوينهـا و صفاتها استقرت معالمه منذ البداية
كل مني به أعداداً مختلفة من الكروموزومات لكل نوع تحدد الصفات الوراثية والخصائص المحددة لكل مخلوق بحسب هذا النوع، كل حيوان أو حشرة أو طير قد جـاء وله تكوينه الخـاص بالمهمـة التي حددهـا الخـالق له و سخر القوانين الطبيعية التي تحقق له هذه المهمـة، فهل يستطيع هذا... أن يوضح لنـا كيف يمكن أن يتطور شكل هذه السجلات بحيث يكون عدد الكروموزومات في منى القط أقل من عددهـا في الفأر رغم أن سلم التطور حسب هذه النظرية يأتي بالفأر قبل القط و الإنسان بعد القط.. هل ينقص العدد مع التطور أو يزداد، و مـا الذي يمكن أن يغير عدد هذه السجلات و أنواعهـا في كل خلية أو منى.. كيف تـغير الخلية سجلاتهـا من تلقاء نفسها بحيث تتوافق مع ما يـنتجه كل مني مع الظروف المحيطة به حتى يستطيع الطير أن يسبح في الهواء و الأسمـاك أن تسبح في البحـار و تتنفس في المـاء و الجمـل أن يعيش في جفـاف الصحـراء و يخزن المـاء... إنهـا بكل منطق جـاءت بإرادة خالق هذا المنى بسجلاته.. خـالق يعلم ما يصنع و ينتج من كل منى خلقه بحيث يـتوافق ما ينتج منه مع أداء المهمة التي خلق من أجلهـا.. هل هي الأمطار أو الرمال أو العواصف و الحرارة و البرودة هي التي صنعت و حددت و سجلت وتـراصت و اختـارت و سنت القوانين التي تحدد كثافة الهواء بحيث يرفع الطير و كمية الهواء المذاب في الماء بحيث تكفى تنفس الأسماك و حاجة الجمل من الماء بحيث يختـزنه أثنـاء رحلته في الصحراء.. أو جنون صاحب هذه النظرية، هل يستطيع أن يدعى هذا لو كان قد استمع إلي هذه الآية و استطـاع أن يأتي في عصره بمجهـر ليرى إعجاز الخـالق في خلق كل منى كمـا نراه الآن.. الإجـابة معـروفة و التفسير الوحيد جـاء في أول هذه الآيات بهذا النص الحق الذي أرسله الله منذ أربعة عـشرة قـرنـا من الزمـان:(أفرأيـتـم مـا تمنون ) و ( نحن خلقناكم فلولا تصدقون ).
و بعد خلقنــا بهذه القدرة وضع الله لنـا أقدارنـا أيضـاً التي تحدد متى تنتهي حيـاة المخلوق الذي جـاء من هذا المني، و كمـا نعجز عن أن نأتي بخلية واحدة أو بنصف خلية كالتي نمنيهـا، فنحن نعجـز بالرغم من تـطـور عـلومنــا أن نمـد أعمـارنـا و لو لحظـة واحدة، فالمـوت هو لحظـة قدرهـا الله لكل منـا كمـا جـاء في استكمال هذه الآيـة بهذا النص الإلهي المعجز الدال عليه و على قدرته ( نحن قدرنـا بينكم الموت )، فالذي بيديه الخلق يكون بيديه نهاية مخلوقة و لا أحد سـواه يعلم منتهـاه، فقلوبنـا تعمل بأمره، و أرواحنا تستقر بأمره، و لا أحد له السيطرة على هذا أو ذاك أو إذا مـا تـوقف أي شيء بأمره، عند هذه اللحظة لن يستطيع أحد أن يمد عمره لحظة واحدة إذا جاء أجلهـا.
وتستكمل الآية بهذا القول الحق ( و ما نحن بمسبوقين، على أن نبدل أمثـالكم و ننـشأكم فيمـا لا تعلمون، و لقد علمتم النشأة الأولى فـلولا تـذكرون )، إنه المنطق العلمي الإلهي الدال على صدق الرسـالة، فقد اكتشفنا كيف جـاءت نشـأتنـا الأولى داخل الأرحـام من هذا الانقسام الهائل للخلية الأولى في نظـام دقيق فتتكون الأعضـاء و الأجهزة و الأطراف و العظام و العضلات و الحواس و الأعصاب من خلية واحدة تكاثرت بهذا النظام بأمـر خـالقهـا... هل يكون من الصعب على خـالق نـِشأتنـا الأولى بهذه القـدرة و الحكمـة و العلم أن يـنـشـأ مثلهـا مرة أخـرى أو يبدل في هذه النـشــأة كيف يشــاء .. هل من العسير على خـالق الأصـل أن ينـشـأ مثيـلاً أو بديلاً له مرة أخـرى كيف يشـاء... هذا مـا جـاء بـه قـول الحق نبدل أمثـالكم و ننـشأكم فيما لا تعلمون، إنه الاحتكام إلى المنطق العلمي مرة أخرى لتأكيد وقوفنـا في الآخرة بين يديه... ثم يأتي هذا الاستفـسـار المنطقي في نهـاية الآية بعد معرفتنـا بخلقنـا الأول و كيف جـاءت نشأتنـا بإعجـاز خالق واحد قـادر ( ولقد علمتم النـشأة الأولى فـلـولا تـذكرون ).. نعم سنـتذكرقي عمن لا يذكر الله دائما بعد رؤية إعجـازه في خلق نشأته الأولى بحيث لا يحتمل سـوى رد واحد... نعم سنـتذكر هذه الحقائق دائمـا يـا الله ... أنت حقـاً الإله الخـالق الذي خلقتنـا و القـادر على أن ببعثنا كمـا نحن و أن تبدلنـا كيف تـشـاء..فلا قـدرة سـوى قـدرتك و لا إلـه ســواك و مـا نحن إلا مخلوقون و لا خـالق إلا أنت تبعثنـا بأمرك ومشيئتك كيف تشـاء.
ثم نأتي إلى الدليل المادي التالي على أن لنـا خـالقـا ... بعد أن خلقنـا من منى يمنى فصـار نطفة، أوجد لهذه النطفة أو الطفل الذي يأتي من هذه النطفة الغذاء الذي يحـيــا بـه و يـنـمو، و هذا بما وفـره لنـا من غذاء يأتي خلقه من عنـاصـر الأرض و مكونـاتهـا... كلا.ل نستطيع أن نتنـاول هذه العنـاصـر مباشرة.. كلا .. و لكن خـالق الإنسان خلق مـا يعد له الطعام الذي يغذيه من هذه العنـاصر.. كمـا جـاء في قـول الحق ( أفـرأيتم مـا تحـرثـون، أأنتم تـزرعونه أم نحـن الزارعـون ) استفـسـار آخـر يعقبه سـؤال عمن أعد للإنسان مـا يغذيه... إن الإنـسانن الذي جعل هذه الحبوب التي يضعهـا أثنـاء الحرث تنبت زرعـا هكذا بهذه الطـريقة المرتبة و المعجزة بحيث تعد له حـاجته من الطعـام و الغذاء و وفر في الأرض العنـاصر التي تحتاجهـا هذه الحبوب لتنبت...
إن الإنـسان رغم عقله و تدبره و اعتقـاده بأنه سيد هذا الكون يعجـز أن يعد لنفسه طعـامـاً من الأرض بدون هذا الزرع ... فهل هو الذي علم البذور أن تـأخذ بعض العنـاصـر أو الأمـلاح من الأرض و يسر لهـا المـاء لتذيب هذه لأملاح لتعد له حـاجته للنمو... لا فضل للإنسان في كل هذا و دوره يقتصر على إلقـاء البذور أثناء حرث الأرض و تقليـبـهـا... و تظل البذور هكذا سـاكنة... ثم تنمو جميعهـا في توقيت واحد فتخترق بزرعها سطح الأرض مرتفعة في السمـاء و بجذورهـا باطن الأرض متغلغلة في أجواقها و كأنهـا جميعـا على موعد لتقدم للإنسان الخير و الغذاء... من أودع في هذه البذور أو الحبوب تلك القدرة العجيبة في تحديد الوقت و التعامل مع الزمـان.. من علمهـا جميعـا و جعلهـا تنسجم في نسق واحد لتنمو معـا في كل اتجاه و تخضر أوراقهـا في وقت واحد.. من أودع في كل حبة هذه الأسرار بحيث تؤدى كل هذه الأدوار... إننـا لو نظرنا كمـا تأمرنـا هذه الآية الكريمة إلى الحبوب التي نرميهـا أثناء الحرث تحت المجهـر لرأينـا كل العجب... نـرى مركزا ضخمـا للمعلومـات مليئـا بالشفرات و الأوامر المبرمجة داخل حمض نووي عملاق قـابع داخل كل حبة يحدد كل مـا يتصل بتلك الحبة.. إنـنـا عندمـا أي مدى تنمو و كم تعطى و مـا تعطى... إنـنـا عندمـا ننظر إلى ما يـخرج من هذه الحبة من زرع يستخرج من الأرض و الهواء العنـاصـر المختلفة وفقا لشفراتها المخزونة بحيث تحدد طعم ثمراته و لونها و عددها نقر أن هذا لا يتم إلا بإرادة أسمى و أعلى ... إرادة خـالق أودع في كل بـذرة هذه السجلات الكـاملة لمـا عليهـا أن تـــؤديه حتى يـخـرج كـل نبـات بالمحتوى الذي يعطى للإنـسان مـا يحتـاجه لكي ينـمـو و لكي يعيش... حقا إنزراعـة تـعد مصنعـا كـاملا يـؤدى أدوارا رائعـة رسمت بإتـقـان و بـتدبير خـالق الإنسان سبحانه و تعالى الذي يعلم مـا يحتـاجه لكي يحـيـا... حقا إن كل نبتـة تـعد سـرا من أسـرار الخالق تـرى فيهـا إعجـازه و معجـزاته ... ثم إن مـا نراه في هذا النبات من جذور يندفع المـاء إليها مذيبـا من الأرض بعض العنـاصر و الأملاح التي يحتاجها كل زرع ليعد مـا ينتجه ثم نرى كيف يتم دخول هذا المـاء إلى جذور النـبات بقـانون ألهى يسمى قـانون الضغط الاسم وزى نتيجة لاختـلاف نسبة تـركيز بعض العنـاصر داخل جذور النبات عن نسبتهـا في الأرض فتمتص ما رتبه الخالق لهـا من أملاح و عناصر.. ثم كيف تـصعد المـياه حـاملة أملاحهـا إلى سـيقـان النبـات التي تمتـد إلى الهـواء، و تـرتفع المياه في السيقان داخـل أنــابيب ضـيقـة شـقهـا الخـالق بحكمته داخل هذه السيقـان
كيف يصعد الماء في هذه الأنابيب الضيقة عكس اتجاه الجاذبية الأرضية بقـانون آخـر يسمى قـانون الأنـابيب الشعـرية... ثم كيف تـصـل المياه إلى فـروع النبات الذي يصنع مـا يقدمه لنـا من ثمـار فيهـا كل مـا نبتغيه من وجبات... من شـق هذه القنوات و سـن هذه القـوانين و ضبط هذا التـركيز و أعـد هذه الإنـشـاءات بحيث تمتد الجذور لتثبته في الأرض فتصعد بسيقانه في الهواء حاملة الفروع و الأوراق و الثمار، من أعد لكل نبات هذا الإعداد بحيث يصبح مصنعـاً يأخذ من الأرض التي نحرثهـا منتجـاً قادراً على غزو الأسواق بمحتوى متكامل من الفيتامينات و البروتينات و النشويات و الطعم المقبول و الرائحة الشهية لكل البشـر... يغذيهم و ينميهم و يقيم أودهم، هل نحن القائمون على أن تأتى زراعته بهذه الحكمة و القوانين و هذا الترتيب و التركيبي... إن دقة التوجيه إلى النظر إلى مـا نحرثه و هو الحب بأسراره و الأرض بعطائهـا و الذين يكونان معاً نظاماً متكاملاً يقوم بكل هذا العمل تحدد الإجابة على هذا السؤال المنطقي أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون... بحيث لا يكون له سـوى رد واحد.. لالا مشيئة في هذا الزرع إلا فـضلك يـا الله.. و لا مشيئة إلا مشيئتك .. و لا قـدرة إلا قـدرتك.. و لا حول و لا قـوة إلا بــك يـا واحد في سننك... في كل ما تخرجه الأرض من زرع يسير كله على نهج واحد و بقوانين واحدة و بماء واحد و من أرض واحدة تسبح جميعهـا بوحدانيتك.. ثم يأتي البرهـان الآخر على أنـه لا مشـيئة إلا مشـيئتـه إذا مـا سـلط الله على هذا الزرع مــرض أو فـطـر.. أو عاصفة أو حـر قـائظ.. فـلا راد لقضـائه و لا دافع لنقمته.. فيأتي قول القـادر لـو نـشاء لـجعلنـاه حـطـامـا فظلتم تفكهـون... كـلا.در على إحياء هذا الزرع لـو مـات أو تحطم بفعل الحشرات أو الآفـات أو الجفـاف أو أمـر الله.. كـلا .. وسيكون الندم و تـأتى الحـســرة و الاعتراف بالقهـر و يظـهـر العجـز البشـرى أمـام قـدرة الخـالق عندمـا نعترف و نقر بهذا القول إنــا لمغـرمـون.. بل نحن محـرومـون... إنه اعتراف بالعجز نقر به دائما عند نزول غضب الله... و هكذا نرى في هذه الآيات إقرار بقدرة الخـالق على الخلق و الفنـاء، على المنح و المنع، على العطـاء و السلب... تـأتى بهذا الإعجاز و هذا البيـان الذي لا يمكن أن يأتي من أحد سـواه في كلمـات محددة أوعت كل المفـاهيم بكل العلوم التي ندركها حتى يومنا هذا.
ثم يأتي دليل مادي و مرئي آخـر على أننـا مخلوقون و أن لنـا خالق دبر لنـا بحكمته كل شيء... فدبـر لنـا هذا المـاء الذي يعد عمـاد الحـياة على الأرض... فيـقول الحق أفـرأيتم المـاء الذي تـشـربـون.. إنهـا إشـارة إلى المـاء و هو سر من أسرار الحياة، هكذا يـقـر العلم الحديث.. فبدون المـاء لن يكون هناك أثـراً للحياة على الأرض.. و الكواكب من حـولنـا خلت من كـل حـياة لأنهـا تخـلو من المـاء الذي أنعم بـه الخـالق على أرضنـا.. و المـاء هو المـاء في كل أنحـاء الأرض... إذا امتنع حياة النبات و الإنسان و الحيوان.. إذا امتنع جف النبات و نفق الإنسان و الحيوان .. من سـاوى بين كل المخلوقات فجعل المـاء عمـاد حيـاتهم جميعهم كمـا يكون أكثر من 70 % من أجسامهم... يشربه الإنسان فيرتوي و الحيوان فينـشـط و نروى به النبات فينمو و يعطى الثمـار، إنه خـالق واحد أحد وفـر لجميع مخلوقاته ماءا واحدا فأصبحت له كل هذه الأسرار.. إننـا حقـاً لو نظرنـا و تدبرنـا هذا المـاء و أسراره كمـا تنص هذه الآية القرآنية لأقررنـا بوحدانية الله دون دليل آخــر... ثم رأينـا كيف طوع الخالق هذه الأرض بجـوهـا و طوع السمـاء بـشمسهـا و حملهـا وطوع البحـار بمـلحهـا و مخزونهـا حتى تكون لنا في النهاية هذه النعمة التي لا نحيا يدونها.. إن البحـار تحتفظ بمخـزون هـائل من المـاء الأجاج أو المـالح و هذه الأملاح تمنع نمو أي بكتيريـا أو طفيل يفسد المياه الراكدة في البحار.. و يسلط الله على هذه البحـار التي تغطى أربعة أخمـاس مسـاحة سطح الكرة الأرضية قدرا منـاسبـا من أشعة الشمس... فيتحول جـزءا من ميـاهـهـا إلى بخـار المـاء العذب الذي يتصـاعد إلى طبقـات الجو العلـيـا لأن كـثافته أقل من كـثافة الهـواء المـلامس لسطح الأرض.. و كلمـا ارتفعنـا إلى أعلى كلمـا قلت كـثافة الهواء.. و يقف البخـار عند الارتفاع الذي تتـزن فيه كثافته مع كثافة الهـواء فتتجمع جزيئات البخـار مكونه هذا الحجم الهـائل من السحب التي تتحرك بفعل الريـاح في اتـزان متكامل.. و يحدث هذا الاتزان بتساوي قوى الجذب الأرض للسحاب إلي أسفل مع الدفع الهواء للسحاب إلى أعلى نتيجة أن كثافة الهواء أكبر من كثافة بخار المـاء... لهذا جـاء هذا الاسم القرآني المعجـز للسحـاب و هو الـمزن... إنه اسم يـعبر عمـا تمثله حـالة السحب و هي الاتـزان الكامل في سكونها وحركتها.. و كما نرى أن هذا الاسم قد استوعب كل هذه المعاني الخاصة بمـا يعيره عن اتزان السحب بإعجاز علمي و بلاغي.. و عند مقـابلة هذه السحب لـظـروف جوية و طـبيعية مغـايرة تفقد السحب هذا الاتزان فتنتقـل من حالة الاتزان إلى حالة لا أتـزان فتتحول إلى أمـطـار.. و في هذا يأتي القول الإلهي بهذا النص القرآني الكامل
أأنتم أنـزلتموه من المزن أم نحن المنزلون
إنه استفسار عمن يكون قد هيـأ لهذا السحـاب مصـادره و اتزانه في السمـاء ثم نـقله من الاتزان إلى لا اتزان عندمـا تـنزل أمطـارا عند مصبات الأنهار أو لأقوام أراد الله لهم هذا الرزق.. إنه إعجاز علمي و بلاغي آخر في اختيـار هاتين الكلمتين المتتاليتين: من المزن فيمـا تمثلانه من انتقـال السحـاب وخروجه من حـالة الاتزان إلى حـالة اللا اتزان عند نزول الأمطار، ثم اختيار الكلمتين المزن.. المنزلون و مـا احتوت عليه من تشـابه حروفهمـا و تتابع مهامهمـا ..
و لا نجد أيضـا رداً على السؤال الذي جـاء في هذه الآية إلا أن نقـول أنه لا فضل لنـا أيهـا الخالق العظيم في أية مرحلة من مراحل هذا المزن ســوى فضلك، فبرحمتك سلطت أشعة الشمس بقدر معلوم على المـاء الأجـاج في البحـار فجـاء السحـاب.. و بفضلك حملته الريـاح في اتزان..و بفضلك أفقدته هذا الاتزان عند كل مصب اخترته بحكمتك.. و بفضلك أنزلته إلينـا أمطـاراً من مـاء عذب تجرى في أنهـار شققتهـا برحمتك فتظل عذبة سـائغة للشـاربين من خلقك الذين خلـقتهم برحمتك و تعلم مـا يقيم حيـاتهم و أين يقيمون.
ثم يأتي برهـان آخـر.. فالقـادر على منح هذا المـاء العذب لنـا قـادر أيضـا على منعه.. إنهـا مشيئته و لا دخل لأحـد بهـا.. و لكن مـاذا يحدث إذا منع عنـا هذا المـاء العذب.. لن نجد سـوى مـاء البحـار الأجـاج.. هل نستطيع أن نحيـا به.. الرد معروف.. فملوحة مياه البحـارتحول دون استفادة البشر منهـا... فهـل لنـا إلا أن نـشـكر الله على هذا الفضل الذي تفضل به علينـا لنشرب ماءا عذبا ساقه إلينا حتى نرتوي و نروى النبات فنطعم به و تشرب الدواب فتخدمنـا و نأكل لحومهـا.. و في هذا يأتي هذا النص القرآني المعبر عن قدرة الخالق و مشيئته في العطـاء و المنع لو نـشـاء جعلـنـاه أجـاجـا فلولا تـشكرون.. من يتدبر كلمتي جعلنـاه في هذه الآية و في الآية السـابقة، لوجد الحرف ( ل ) قد سبق هذه الكلمة في الآية السـابقة و لم يأتي سـابقا لهـا في هذه الآية.. ففي الآية السـابقة إشـارة إلى أنه إذا أراد الله أن يصيب الزرع سلط عليه مـا يبيده فجـاء الحرف ( ل ) ليؤكد مشيئته في هذا الحرمان بفعل يغاير المألوف وهو المعطى دائماً... أمـا في هذه الآية فلا حـاجة للتـأكيد حيث أن مشيئته تحول المـاء الأجـاج إلى مـاء عذب بفعل الشمس و السحاب المسخـرين، فإذا أوقف الله هذه الأسباب، فلن نجد أمـامنـا سوى مـاء البحـار لنشرب منه، فلا حـاجة إذن في تـأكيد هذا لأن المـاء الأجـاج أمـامنـا دوامـا و عند حرماننا من الماء العذب فلا مفر لنـا من الذهـاب إليه... هل في قدرة بـشـر أن يأتي بكل هذه الحكم و البلاغة و العلم في كل كلمة بل و في كل حرف.
ثم تتوالى الأدلة على أننـا مخلوقون، فقد خـلق الله الإنـسان على الأرض ليتحرك و يسعى.. و سعيه و حركته في حـاجة إلى طـاقة... مثل محرك السيـارة الذي لن يتمكن من الحركة دون مصدر للطـاقة و هـو الوقود الذي يحترق داخل السيارة لتـسـيـر. وبـدون أن يكتشف البترول مـا كـان لأحد أن يخترع السيـارة... كيف تم إعـداد مصـدرا للطـاقة لهذا الإنسـان الذي جاء إلى الأرض، مصدرا يتنـاسب مع تكوينه و خلقه و أجهـزته المختلفـة... لم يكن هنـاك بترول على الأرض حين جـاء إليها أو كحـول أو شمع... إن التفسير الوحيد هو أن الخـالق الذي خلق الإنسـان لابد أنه دبـر له مصدرا يستمد منه طـاقته.. لقد سـخـر له الشمس لتحترق و تـرسـل أشعتهـا إلي النبـات ليختزنهـا ثم ليحـولهـا إلى طـاقة تنطلق في أجسـامنـا عندما نتغذى على ثمار هذا النبات باحتراق يتوارى عن أعيننـا و بالقدر الذي نحتـاجه للحركة و بـآلـيات تعجـز العقول عن فهمهـا ... و لولا الشمس و لولا النبات و لولا حكمة الخـالق مـا كـان للإنـسان من سبيل إلى الحركة و السعي و الاستمتـاع بقـوة عضـلاته في الجهـاد والسيطرة على الكون من حـولـه... أي لـولا الشجـرة التي تختزن طـاقة الشمس بعمليـة تـعد من أعقد العمـليـات تسمى عملية التمثيل الكـلوروفيللى حيث يقوم ورق الشجــر الأخـضـر أثناء هذه العملية بتكوين المـواد النـشوية أو الكربـوهيدراتيه التي تمثل وقودا هيدروكربونيـا مثل البترول، وهذا بأن يمتص الورق الأخضـر أشعة الشمس وثاني أكسيد الكربون من الجـو و المـاء من جذور النبـات... ومنهـا جميعـا تتوفر لنـا مصـادر طـاقتنـا... و حين نـأكل ثمـار هذه الأشجـار، تحـترق المـواد النشـوية التي تحوى طـاقة الشمس داخل خـلايـا أجسـامنـا البشـرية... فتنطلق هذه الطـاقة في احتراق متوار كما تشير الآية الكريمة بهذا الوصف الكامل النار التي تورون حيث يستخدم الجسم في هذا الاحتراق الأكسيجين الذي يحمله الدم من الرئة إلى الخـلايـا، و تعد عمليـة احتراق المواد الكربوهيدراتية داخل الخلايا من أعقد العمليـات التي يحـار العقـل البشرى في فهمهـا و التي تحتـاج إلى مجلدات لسـرد تفـاعلاتهـا.. و لكنه احتراق كآي احتراق يستخدم فيه أكسيجين الهواء و ينتج عنه الطـاقة و ثاني أكسيد الكربون وبخـار المـاء.. وبهذه الطـاقة تتمكن خـلايـا الجسم من أداء وظـائفهـا و يتمكن الإنسان من الحركـة والاستمتاع بحياته و عضلاته و قوته.. هل للإنـسان فضل في هذه الشجرة التي صنعت للإنـسان حـاجته من الطـاقة ليحـيـا.. وهل يعي الإنسان مـا بداخله من نيران تتواري عن العيون كتلك التي تنطلق داخل محرك السيارة
كل هذا جـاء في هذا الاستفسار الإلهي
أفـرأيتم النـار التي تـورون.. أأنتم أنـشـأتم شـجرتهـا أم نحن المـنـشـئون.. نحن جعلنـاهـا تذكرة و متــاعـا للمقوين.. هل لنـا رداً أيضـا على هذا الاستفـسـار ثم هذا السؤال إلا أن نقول أن لا يمكن أن يـكون هنـاك فضـلا لنـا في شيء من هذا سـوى أنه تدبيرك أيهـا الخـالق الواحد و أن هذا خلقك و صنـاعتك و تـرتـيـبك الشـاهد على وحدانيتك، فالكل يسير على نفس الناموس... و إذا نظرنـا إلي كل كلمـة سنجد فيهـا إشـارات إلى أشياء ندرك البعض منهـا بعلومنـا المحدودة و يـغيب عنـا الكثير.. ننظـر إلي كلمتي أفرأيتـم و تــورون و الأولى تدعونـا إلى أن نرى حكمة الخالق في النار التي هي مصدر الطاقة في أجسامنا والثانية تدلنا أن هذه النار قد واراها الخالق عن عيوننا و لكن نشعر بدفء نيرانها و القدرة على الحركة... وكلمة تـذكرة قـد تـرمز إلى وجـوب تذكر عظمة الخـالق في تسخير هذه الشجرة لتخزن لنا كل هذه الطـاقة و فيمـا دبـره بحيث تنطلق هذه الطاقة داخل أجســامنـا دون أن تراهـا عيونـنا... إن هذه متـاعـا للمقوين إشـارة إلى أنـنـا استطعنـا بهذه الطاقة أن نستمتع بقـوة عضـلاتنـا وأجسـامنـا ويدونها لن تكون لنا أي قدرة على شيء.. إن هذه الكلمـات المحددة قد أوعت كل مـا اكتـشـفنـاه و ستستـوعب أيضـا مـا لم نكـتـشفه من عـلوم الطـاقة والاحتراق و النبات و الطب و الإنسان و البيـان و البلاغة و الإعجاز إذا مـا تولى المتخـصص المدرك لكل جـانب من جوانب هذا الإعجـاز ... هل يمكن أن يتـأتى كل هذا البيان من غـير الخـالق الذي يعلم كل شيء ؟؟؟
تعـالوا نـنـظـر نظرة شـاملة إلى هذا المنهج الرباني الذي يخاطب البشر منذ أربعة عشر قرنـا بأرقي ما يمكن أن تصل إليه علومهم ليؤكد أنه خـالقهم و مدبر أمرهم ويحدد لهم بعض الآليـات التي أوجدهـا بعلمه ورحمته حتى نحيا على هذه الأرض بمشيئته... لقد بدأت هذه لآيات بالدعوة إلى رؤيـة هذا الحيوان المنوي الذي يبدأ به خلق كل إنسان و تكوينه... فلا تأتى الدعوةد بعد أن رأيناه في أن يدعى أنه جـاء بغير خـالق أو أن لنـا أي فضل في خلقه بهذا الإعجـاز... ثم تأتى الدعوة إلى رؤيـة مـا يتـغذى عليه الإنسان لكي ينمو و يـمارس شئون حياته ... و لا قدرة لأحـد أيضـا على ادعاء أن هذا الزرع قد جـاء بغير خـالق بحيث يوفـر مـا يتوافق مع تكوين و تصميم هذا اٌلإنسان... أو أن الذي خلق الإنسان ليس هو الذي خلق هذا الزرع لينمـو بـه و ليعتمد عليه بحيث لا تستمر الحياة إلا بـه...
ثم نأتي إلى الآيـة التـالية و فيهـا الدعوة إلى رؤية المـاء الذي يسقي النبـات والإنسان وفيه سـر الحياة و استمرارهـا.. لا قدرة لأحد أيضـا على ادعـاء أنه جـاء بغير خـالق أو أن الذي خلق الإنسان والنبـات ليس هو أيضـا الذي دبر لهمـا هذا المـاء بدورته المعقدة من مخـازن تحفظه إلى أنهـار يسـوقهـا الخالق إليه في أماكنه بحيث يكون بهذه الوفرة و هذا التكوين.. ثم نأتي إلى دعوة الخـالق إلى رؤية الطـاقة التي يحتـاجهـا الإنـسـان... و لا قدرة لأحـد أيضـاً على ادعـاء أنهـا دبـرت هكذا بدون خـالق أو أن الذي دبـرهـا ليس هـو الذي خلق الإنسان و دبر له هذا العطـاء و هذا المعين الذي لا ينضب من الطاقة و مصادرها الطبيعية من شمس و خصائص.. إذا نحن مخلوقون ومدبر لنـا كل شيء بيد خـالق واحد رتب لنا كل شيء..بدايتنـا و غذائنـا و مـائنـا و مـصدر طـاقتنـا في دورة وحد ذات أركان متصلة.. وأن ليس لنـا فضل في أي من هذه الأمور سـوى حـرث الأرض ببذورهـا، و لكن المنى و المـاء و النمـاء و الطاقة كلهـا من أمـور و شئون الخـالق وحـده في منحها و منعها كما تبينه هذه الآيات... هل هنـاك منطق يـحتكم إليه العقل البشرى أعلى من هذا المنطق حتى نقـر بخـالقنـا أو أن لنـا خـالق واحد أحد... و هل لنـا بعد هذا المنطق و هذه الرسـالة إلا أن نـقـر بآيـات القرآن و نسبح بعظمـة منزلهـا.. و هكذا تنتهي هذه الآيـات أو الإثبـاتـات و الدلالات أو الاستفسارات الأربع بوجوب هذا التسليم و التسبيح لرب العـالمين الخـالق العظيم
( فسبح باسـم ربـك العظيم )
... إنـه إعـلان رباني لا يتطـاول إليـه أحـــد، جـاء في خـاتم الرسـالات و لن تـراه في زبور أو تـوراة أو إنجيل أو أي كتـاب، إن المسلم حين ينحني أمـام الله في ركوعه أثناء صـلاته و يقول سبحان ربى العظيم، عليه أن يستشعر عظمة الله التي جـاءت بهـا هذه الآيـات، فهـو منشئه من مني معجز ومقدر حياته وموته، و هو الذي هيئ له طعامه من حبوب و ضع أسرارهـا و أرض سن لهـا قوانينهـا، و هو الذي وفر له هذا المـاء العذب بعد رحلة دبرهـا بقدرته و حكمته، و هو الذي و فر له الطاقة التي يحتاجهـا ليستمتع بقوته..هو الواجد لكل هذا و مـا لنـا في كل هذا التدبير من شيء.. ثم هو القادر على حرمانه من كل هذا... فلهذا يقول بكل الإيمان و العلم.. سبحان ربى العظيم.
و يلي هذه الآيــات قـسم من الخـالق بمـا نـراه في خلقـه أيضـاً على صـدق هذه الرسـالة و أن هذا الكتـاب قـد جـاء من عنده بقول الحق.
فـلا أقسم بمواقع النجوم، و إنـه لقـسم لـو تعلمـون عظيم، إنـه لـقـرآن كـريم، في كتـاب مكـنون، لا يمـسـه إلا المـطـهرون، تـنـزيـل من رب العـالمين.
نقف عنـد قـسم الخـالق بمواقع النـجوم، فالنجوم أجـسام غـازيه تـجـرى بهـا تفـاعلات شتى منذ نـشأتهـا من إشعـاع يتحول إلى مـادة أو مـادة تتحـول إلى طـاقة و إشعـاع بحسب مـراحل عمـرهـا و تكوينهـا... و تقف العلوم الطبيعية عـاجزة عن معرفة و تفسير نـشأة هذه النجوم إلا أنه من المفترض أن يكون لهذه النجوم عند نضجهـا نفس تكوين الشمس من غـاز الهيدروجين.. وفي مـرحلة نـشاط النجم تنطلق منه طـاقة هـائلة حيث يحدث اندمـاج ذرات الهيدروجين لتكون ذرات غاز الهليوم الخامل ذو الكتلة الأقل و يتـحول فرق الكتلة إلى تلك الطـاقة الهائلة التي تظهر النجم مضيئا رغم بعده السحيق عنا.. و تـأخذ كتلة النجم في التنـاقص حتى يتلاشى و ينتهي النجم بعد عمـر محدود.. و في الكون الآن بـلايين البلايين من هذه النجوم التي قد يصل حجم بعضهـا إلي مـلايين المـرات مثل حجم الشمس و هي نجم مجمـوعتنـا التي ندور حولهـا و تعطينـا دفئهـا.. و تعتمد رؤيـتـنــا ليـلاً لهـذه النـجوم على الطـاقة الصـادرة منهـا و التي تـصـل إلينا على هـيئة ضـوء يخترق السمـاء بـسرعته.. كمـا نـرى الشمس نهـارا بالضـوء الصـادر منهـا و الذي يستغرق وصـوله إلينا من الشمس عـشـر دقـائق... و لأن النجـوم من حـولنـا أبعد كثيـرا من الشمس، فنرى أن ضـوءهـا يستغرق زمنـاً أكثر من هذا ونجد أقـرب نجم إلينا يسـتـغرق وصـول ضـوءه إلينـا عدة سـنوات، و هنـاك نجـوم يستغرق وصـول ضـوءهـا إلينـا ملايين من السنوات، بل و آلاف المـلايين من السنوات، هذا لأنهـا على أبعـاد شـاسعة و أن الضـوء سـرعته محـدودة و تـقدر بحوالي 300 ألف كيلومتر في الثـانية الواحدة... والآن مـا معنى أن الضـوء الصـادر من نجم مـا يستغرق وصوله إلينا سنة.. معنى هذا أن هذا النجم يبعد عنـا مسـافة تسـاوى هذه السـرعة مضروبة في عدد الثواني في السنة أي: 300 ألف كيلومتر × 365 × 24 × 60 × 60 .. و يطلق العلمـاء على هذه المـسافة تعبير ( سـنة ضـوئية ) .. فمعنى أن يـبعد النجم عنـا مليون سنة ضـوئية هـو أن هذا النجم كان في هذا الموقع منذ مليون عام عندما أرسل إلينا ضـوءه و استغرق الضوء هذه الفترة ليصل إلى عيونـنـا... أمـا عن مـوقع النجم في اللحظة التي وصل ضوءه إلينا فـلن تصـل إليه علومنـا و قدراتنـا... و هناك نجوم يستغرق وصول ضوءهـا بلايين السنين.. فـلا قبل لنـا أن نعرف مواقع هذه النجوم بالنسبة لبعضهـا لأن رؤيتنـا لهـا تعتمد على مـا وصلنـا الآن كل بحسب بعده وتـوقيت إرسـال ضـوئه إلينا و إن تـزامن وصـول ضـيـائهـا جميـعـا إلينـا في اللحظة الراهنة.. و من الممكن أن تكون معظم هذه النجوم قد تلاشت أو تبدلت أو بعدت أو اقتربت.. و لكن قدرتنـا محدودة لاعتمادنا على مـا تراه أبصـارنـا على ضـوء يسير بسرعة محـددة
إن معرفة مـواقع نجـوم في أي لحظة وهى على هذه المـسـافـات الشـاسعة والمختلفة شيء بعيد عن قدرة البـشـر، و لهذا جـاء الحرف لـو للدلالة على قـصور قدرة البشر عـن العلم بمواقع النجوم و هذا في قـوله سبحـانه ( و إنه لقسم لو تعلمـون عـظيـم ).. فالحرف لـو هـو حرف يفيد التمني فقط و قد جـاء بعلم خـالق الإنسان الذي يعرف خـلقه... فهي تمثل بالنسبة للإنسان الغيب و الحـاضر في آن واحد.. و لكن الله يرى خلقه و لهذا يقسم بمـا يعلمه و هو أعلم بعظمته.. فهو عـالم الغيب و الشهـادة العزيز الرحيم..
إن التدبـر في هذا القسم و بحدود مـا وصلت إليه عـلومنـا في التعرف إلى بعض الأسـرار في هذا الكون... نجد في مواقع النجوم على تلك الأبعـاد الشـاسعة التي لا يمكن أن يعيهـا أو يستوعبهـا عقل البـشـر إعجـاز و إعجـاز... وكيف يستوعب العقل بلايين السنوات الضـوئية زمنـاً و أبعـاداً.. إن أعمـارنـا بل وعمـر الأرض التي نحيـا عليهـا ثم أبعـادنـا بل و أبعـاد الأرض التي نحيـا عليهـا ونتصـارع من أجل بضعـة أمتـار عليهـا لا تمثل إلا أتفـه الكسـور التي لا تذكر من تلك الأبعـاد و الأزمـان... ثم كيف تنتظم هذه النجوم في هذا الشكل البديع الذي نـراه في هذا الكون فيخيل لنـا أننـا نراهـا هـادئة مستقرة متراصة و حقيقتهـا لا يعلمهـا أحد إلا خـالقهـا.. من منهـا انتقل من أقصى الـشرق إلى الغرب و من منهـا انتهى عمره فتبدد و من منهـا اصطدم بغيره فتوالد عنهمـا نجوم أخرى وكواكب و مذنبات و أعـاصير كونيه لا نعلم عنهـا شيئـا ... لهذا جـاء هذا القسم الإلهي ليدلنـا على صـدق المقـسوم بـه كمـا يضعنـا أمـام حقيقة أنـنـا بعلومنـا قاصرين عن أن نعرف كل شيء.. ولهذا وجب علينـا التسليم فيمـا لا تستطيع أن تسـتوعبه أبصـارنـا و عقولنـا لقول الله الذي يأتي في الآيـات التـالية بأمـور غيبية عن الروح و الجنة و النـار... هذا القرآن جـاء تنـزيـل ممن سبق علمه و رؤيته كل العلوم و الأزمـان و الأكوان... لمن هم قـاصـرين في علومهم و رؤيتهم و محدودين بزمانهم و أبعـادهم و قدراتهم حتى يتيقنوا من هذا البيـان
و الآن، هل نستطيع بعد أن وصلت علومنـا إلى مـا وصلت إليه، أن نأتي بكلمـات مثل هذه الكلمـات الواضحة في إشاراتهـا و تعبيرهـا و علمهـا و شمولهـا و بساطتهـا و مغزاهـا و منطقهـا و بيانهـا و بلاغتها و قوتها و ترتيبهـا بحيث يفهمهـا الجميع ويؤمن بهـا الجميع... على تفاوت علومهم و مداركهم و تخصصاتهم و عصورهم.. الإجـابة معروفة
فبأي حـديث بـعده يـؤمـنون