كشف الكربة في وصف أهل الغربة
للإمام الحافظ
أبي الفرج بن رجب الحنبلي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً .
خرج مسلم في " صحيحه " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ ، فطوبى للغرباء ) .
وخرجه الإمام أحمد وابن ماجة من حديث ابن مسعود بزيادة في آخره وهي : ( قيل : يا رسول الله ! ومن الغرباء ؟ قال : النزاع من القبائل ) .
وخرجه أبو بكر الآجري وعنده : ( قيل : ومن هم يا رسول الله ؟ قال : الذين يصلحون إذا فسد الناس ) .
وخرجه غيره وعنده : ( قال : الذين يفرون بدينهم من الفتن ) .
وخرجه الترمذي من حديث كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الدين بدأ غريباً ، وسيرجع غريباً ، فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي ) .
وخرجه الطبراني من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي حديثه : ( قيل : ومن هم يا رسول الله ؟ قال : ( الذين يصلحون حين فساد الناس ) .
وخرجه أيضاً من حديث سهل بن سعد بنحوه .
وخرجه الإمام أحمد من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي حديثه : ( فطوبى يومئذ للغرباء إذا فسد الناس ) .
وخرج الإمام أحمد والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( طوبى للغرباء ، قلنا : ومن الغرباء ؟ قال : قوم قليل في الناس سوء كثير ، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ) .
وروي عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً وموقوفاً في هذا الحديث : ( قيل : ومن الغرباء ؟ قال : الفرارون بدينهم يبعثهم الله تعالى مع عيسى بن مريم عليه السلام ) .
قوله : ( بدأ الإسلام غريباً ) يريد به أن الناس كانوا قبل مبعثه على ضلالة عامة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عياض بن حمار الذي أخرجه مسلم : ( إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم ، عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ) .
فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ودعا إلى الإسلام لم يستجب له في أول الأمر إلا الواحد بعد الواحد من كل قبيلة ، وكان المستجيب له خائفاً من عشيرته وقبيلته ، يؤذى غاية الأذى ، وينال منه وهو صابر على ذلك في الله عز وجل ، وكان المسلون إذ ذاك مستضعفين يشردون كل مشرد ويهربون بدينهم إلى البلاد النائية كما هاجروا إلى الحبشة مرتين ثم هاجروا إلى المدينة ، وكان منهم من يعذب في الله ومنهم من يقتل ، فكان الداخلون في الإسلام حينئذ غرباء ، ثم ظهر الإسلام بعد الهجرة إلى المدينة وعز وصار أهله ظاهرين كل الظهور ، ودخل الناس بعد ذلك في دين الله أفواجاً ، وأكمل الله لهم الدين وأتم عليهم النعمة ، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك ، وأهل الإسلام على غاية من الاستقامة في دينهم ، وهم متعاضدون متناصرون ، وكانوا على ذلك في زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، ثم أعمل الشيطان مكائده على المسلمين وألقى بأسهم بينهم ، وأفشى بينهم فتنة الشبهات والشهوات ، ولم تزل هاتان الفتنتان تتزايدان شيئاً فشيئاً حتى استحكمت مكيدة الشيطان وأطاعه أكثر الخلق ، فمنهم من دخل في طاعته في فتنة الشبهات ، ومنهم من دخل في فتنة الشهوات ، ومنهم من جمع بينهما ، وكل ذلك مما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعه .
فأما فتنة الشبهات : فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أن أُمته ستفترق على أزيد من سبعين فرقة على اختلاف في الروايات في عدد الزيادات على السبعين ، وأن جميع تلك الفرق في النار إلا فرقة واحدة ، وهي ما كانت على ما هو عليه وأصحابه صلى الله عليه وسلم .
وأما فتنة الشهوات : ففي " صحيح مسلم " عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كيف أنتم إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم . أي قوم أنتم ؟ قال عبد الرحمن بن عوف : نقول كما أمرنا الله . قال : أو غير ذلك ؟ تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ) .
وفي " صحيح البخاري " عن عمرو بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم ) .
وفي " الصحيحين " من حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه أيضاً .
ولما فتحت كنوز كسرى على عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكى فقال : إن هذا لم يفتح على قوم قط إلا جعل الله بأسهم بينهم . أو كما قال .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى على أمته هاتين الفتنتين كما في " مسند الإمام أحمد بن حنبل " عن أبي برزة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إنما أخشى عليكم الشهوات التي في بطونكم وفروجكم ومضلات الفتن ) . وفي رواية : ( ومضلات الفتن ) .
فلما دخل أكثر الناس في هاتين الفتنتين أو إحداهما أصبحوا متقاطعين متباغضين بعد أن كانوا إخواناً متحابين متواصلين ، فإن فتنة الشهوات عمت غالب الخلق ففتنوا بالدنيا وزهرتها وصارت غاية قصدهم ، لها يطلبون ، وبها يرضون ، ولها يغضبون ، ولها يوالون ، وعليها يعادون ، فتقطعوا لذلك أرحامهم وسفكوا دماءهم وارتكبوا معاصي الله بسبب ذلك .
وأما فتنة الشبهات والأهواء المضلة فبسببها تفرق أهل القبلة وصاروا شيعاً وكفر بعضهم بعضاً ، وأصبحوا أعداءً وفرقاً وأحزاباً بعد أن كانوا إخواناً قلوبهم على قلب رجل واحد ، فلم ينج من هذه الفرق إلا الفرقة الواحدة الناجية ، وهم المذكورون في قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تزال طائفة من أُمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ) .
وهم في آخر الزمان الغرباء المذكورون في هذه الأحاديث : الذين يُصلحون إذا فسد الناس ، وهم الذين يُصلحون ما أفسد الناس من السنة ، وهم الذين يفرون بدينهم من الفتن ، وهم النزاع من القبائل ، لأنهم قلوا ، فلا يوجد في كل قبيلة منهم إلا الواحد والاثنان ، وقد لا يوجد في بعض القبائل منهم أحدٌ كما كان الداخلون إلى الإسلام في أول الأمر كذلك ، وبهذا فسر الأئمة هذا الحديث .
قال الأوزاعي في قوله صلى الله عليه وسلم : ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ ) : أما إنه ما يذهب الإسلام ولكن يذهب أهل السنة حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد .
ولهذا المعنى يوجد في كلام السلف كثيراً مدح السنة ووصفها بالغربة ووصف أهلها بالقلة ، فكان الحسن - رحمه الله - يقول لأصحابه : يا أهل السنة ! ترفقوا - رحمكم الله - فإنكم من أقل الناس .
وقال يونس بن عبيد : ليس شيء أغرب من السنة وأغرب منها من يعرفها .
وروي عنه أنه قال : أصبح من إذا عرف السنة فعرفها غريباً وأغرب منه من يعرفها .
وعن سفيان الثوري قال : استوصوا بأهل السنة فإنهم غرباء .
ومراد هؤلاء الأئمة بالسنة : طريقة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان عليها هو وأصحابه السالمة من الشبهات والشهوات .
ولهذا كان الفضيل بن عياض يقول : أهل السنة من عرف ما يدخل في بطنه من حلال .
وذلك لأن أكل الحلال من أعظم خصائل السنة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم .
ثم صار في عرف كثير من العلماء المتأخرين من أهل الحديث وغيرهم السنة عبارة عما سَلِمَ من الشبهات في الاعتقادات خاصة في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وكذلك في مسائل القدر وفضائل الصحابة ، وصنفوا في هذا العلم باسم السنة لأن خطره عظيم والمخالف فيه على شفا هلكة .
وأما السنة الكاملة فهي الطريق السالمة من الشبهات والشهوات كما قال الحسن ويونس بن عبيد وسفيان والفضيل وغيرهم ، ولهذا وُصِفَ أهلُها بالغربة في آخر الزمان لقلتهم وغربتهم فيه ، ولهذا ورد في بعض الروايات كما سبق في تفسير الغرباء : ( قوم صالحون قليل في قوم سوء كثير ، من يعصهم أكثر ممن يطيعهم ) وفي هذا إشارة إلى قلة عددهم وقلة المستجيبين لهم والقابلين منهم وكثرة المخالفين لهم والعاصين لهم .
ولهذا جاء في أحاديث متعددة مدح المتمسك بدينه في آخر الزمان وأنه كالقابض على الجمر ، وأن للعامل منهم أجر خمسين ممن قبلهم ، لأنهم لا يجدون أعواناً في الخير .
وهؤلاء الغرباء قسمان : أحدهما من يُصلح نفسه عند فساد الناس ، والثاني من يُصلح ما أفسد الناس وهو أعلى القسمين وهو أفضلهما .
وقد خرج الطبراني وغيره بإسناد فيه نظر من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن لكل شيء إقبالاً وإدباراً ، وإن من إقبال هذا الدين ما كنتم عليه من العمى والجهالة وما بعثني الله به ، وإن من إقبال هذا الدين أن تفقه القبيلة بأسرها حتى لا يوجد فيها إلا الفاسق والفاسقان فهما مقهوران ذليلان ، إن تكلما قُمِعَا وقُهِرَا واضطُهدا ، وإن من إدبار هذا الدين أن تجفو القبيلة بأسرها حتى لا يُرى فيها إلا الفقيه والفقيهان فهما مقهوران ذليلان ، إن تكلما فأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر قُمعا واضطُهدا ، فهما مقهوران ذليلان لا يجدان على ذلك أعواناً ولا أنصاراً ) .
فوصف في هذا الحديث المؤمن العالم بالسنة الفقيه في الدين بأنه سيكون في آخر الزمان عند فساده مقهوراً ذليلاً لا يجد أعواناً ولا أنصاراً .
وخرج الطبراني بإسناد فيه ضعف عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل في ذكر أشراط الساعة قال : ( وإن من أشراطها أن يكون المؤمن في القبيلة أذل من النقد ) . والنقد : هم الغنم الصغار .
وفي " مسند الإمام أحمد " عن عبادة بن الصامت أنه قال لرجلٍ من أصحابه : يُوشك إن طالت بك الحياة أن ترى الرجل قد قرأ القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فأعاده وأبداه وأحل حلاله وحرم حرامه ونزل عند منازله لا يحور فيكم إلا كم يحور رأس الحمار الميت .
ومثله قول ابن مسعود : يأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه أذل من الأمة .
وإنما ذل المؤمن آخر الزمان لغربته بين أهل الفساد من أهل الشبهات والشهوات ، فكلهم يكرهه ويؤذيه لمخالفة طريقته لطريقتهم ومقصوده لمقصودهم ومباينته لما هم عليه .
ولما مات داود الطائي قال ابن السماك : إن داود نظر بقلبه إلى ما بين يديه فأعشى بقلبه بصر العيون فكأنه لم ينظر إلى ما أنتم إليه تنظرون وكأنكم لا تنظرون إلى ما إليه ينظر ، فأنتم منه تعجبون ، وهو منكم يعجب ، استوحش منكم ، إنه كان حياًّ وسط موتى .
ومنهم من كان يكرهه أهله وولده لاستنكار حاله ، سمع عمر بن عبد العزيز امرأته مرة تقول : أراحنا الله منك . قال : آمين .
وقد كان السلف قديماً يصفون المؤمن بالغربة في زمانهم كما سبق مثله عن الحسن والأوزاعي وسفيان وغيرهم .
ومن كلام أحمد بن عاصم الأنطاكي - وكان من كبار العارفين في زمان أبي سليمان الداراني - يقول : إني أدركت من الأزمنة زماناً عاد فيه الإسلام غريباً كما بدأ ، وعاد وصفُ الحق فيه غريباً كما بدأ ، إن ترغب فيه إلى عالم وجدته مفتوناً بحب الدنيا ، يُحب التعظيم والرئاسة ، وإن ترغب فيه إلى عابد وجدته جاهلاً في عبادته مخدوعاً صريعاً غدره إبليس ، وقد صعد به إلى أعلى درجة من العبادة وهو جاهل بأدناها فكيف له بأعلاها ؟ وسائر ذلك من الرعاع ، همج عوج وذئاب مختلسة ، وسباع ضارية وثعالب ضوار ، هذا وصف عيون أهل زمانك من حملة العلم والقرآن ودعاة الحكمة . خرجه أبو نعيم في " الحلية " .
فهذا وصف أهل زمانه فكيف بما حدث بعده من العظائم والدواهي التي لم تخطر بباله ولم تدر في خياله ؟.
للإمام الحافظ
أبي الفرج بن رجب الحنبلي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً .
خرج مسلم في " صحيحه " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ ، فطوبى للغرباء ) .
وخرجه الإمام أحمد وابن ماجة من حديث ابن مسعود بزيادة في آخره وهي : ( قيل : يا رسول الله ! ومن الغرباء ؟ قال : النزاع من القبائل ) .
وخرجه أبو بكر الآجري وعنده : ( قيل : ومن هم يا رسول الله ؟ قال : الذين يصلحون إذا فسد الناس ) .
وخرجه غيره وعنده : ( قال : الذين يفرون بدينهم من الفتن ) .
وخرجه الترمذي من حديث كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الدين بدأ غريباً ، وسيرجع غريباً ، فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي ) .
وخرجه الطبراني من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي حديثه : ( قيل : ومن هم يا رسول الله ؟ قال : ( الذين يصلحون حين فساد الناس ) .
وخرجه أيضاً من حديث سهل بن سعد بنحوه .
وخرجه الإمام أحمد من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي حديثه : ( فطوبى يومئذ للغرباء إذا فسد الناس ) .
وخرج الإمام أحمد والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( طوبى للغرباء ، قلنا : ومن الغرباء ؟ قال : قوم قليل في الناس سوء كثير ، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم ) .
وروي عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً وموقوفاً في هذا الحديث : ( قيل : ومن الغرباء ؟ قال : الفرارون بدينهم يبعثهم الله تعالى مع عيسى بن مريم عليه السلام ) .
قوله : ( بدأ الإسلام غريباً ) يريد به أن الناس كانوا قبل مبعثه على ضلالة عامة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عياض بن حمار الذي أخرجه مسلم : ( إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم ، عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ) .
فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ودعا إلى الإسلام لم يستجب له في أول الأمر إلا الواحد بعد الواحد من كل قبيلة ، وكان المستجيب له خائفاً من عشيرته وقبيلته ، يؤذى غاية الأذى ، وينال منه وهو صابر على ذلك في الله عز وجل ، وكان المسلون إذ ذاك مستضعفين يشردون كل مشرد ويهربون بدينهم إلى البلاد النائية كما هاجروا إلى الحبشة مرتين ثم هاجروا إلى المدينة ، وكان منهم من يعذب في الله ومنهم من يقتل ، فكان الداخلون في الإسلام حينئذ غرباء ، ثم ظهر الإسلام بعد الهجرة إلى المدينة وعز وصار أهله ظاهرين كل الظهور ، ودخل الناس بعد ذلك في دين الله أفواجاً ، وأكمل الله لهم الدين وأتم عليهم النعمة ، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك ، وأهل الإسلام على غاية من الاستقامة في دينهم ، وهم متعاضدون متناصرون ، وكانوا على ذلك في زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، ثم أعمل الشيطان مكائده على المسلمين وألقى بأسهم بينهم ، وأفشى بينهم فتنة الشبهات والشهوات ، ولم تزل هاتان الفتنتان تتزايدان شيئاً فشيئاً حتى استحكمت مكيدة الشيطان وأطاعه أكثر الخلق ، فمنهم من دخل في طاعته في فتنة الشبهات ، ومنهم من دخل في فتنة الشهوات ، ومنهم من جمع بينهما ، وكل ذلك مما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعه .
فأما فتنة الشبهات : فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أن أُمته ستفترق على أزيد من سبعين فرقة على اختلاف في الروايات في عدد الزيادات على السبعين ، وأن جميع تلك الفرق في النار إلا فرقة واحدة ، وهي ما كانت على ما هو عليه وأصحابه صلى الله عليه وسلم .
وأما فتنة الشهوات : ففي " صحيح مسلم " عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كيف أنتم إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم . أي قوم أنتم ؟ قال عبد الرحمن بن عوف : نقول كما أمرنا الله . قال : أو غير ذلك ؟ تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ) .
وفي " صحيح البخاري " عن عمرو بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم ) .
وفي " الصحيحين " من حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه أيضاً .
ولما فتحت كنوز كسرى على عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكى فقال : إن هذا لم يفتح على قوم قط إلا جعل الله بأسهم بينهم . أو كما قال .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى على أمته هاتين الفتنتين كما في " مسند الإمام أحمد بن حنبل " عن أبي برزة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إنما أخشى عليكم الشهوات التي في بطونكم وفروجكم ومضلات الفتن ) . وفي رواية : ( ومضلات الفتن ) .
فلما دخل أكثر الناس في هاتين الفتنتين أو إحداهما أصبحوا متقاطعين متباغضين بعد أن كانوا إخواناً متحابين متواصلين ، فإن فتنة الشهوات عمت غالب الخلق ففتنوا بالدنيا وزهرتها وصارت غاية قصدهم ، لها يطلبون ، وبها يرضون ، ولها يغضبون ، ولها يوالون ، وعليها يعادون ، فتقطعوا لذلك أرحامهم وسفكوا دماءهم وارتكبوا معاصي الله بسبب ذلك .
وأما فتنة الشبهات والأهواء المضلة فبسببها تفرق أهل القبلة وصاروا شيعاً وكفر بعضهم بعضاً ، وأصبحوا أعداءً وفرقاً وأحزاباً بعد أن كانوا إخواناً قلوبهم على قلب رجل واحد ، فلم ينج من هذه الفرق إلا الفرقة الواحدة الناجية ، وهم المذكورون في قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تزال طائفة من أُمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ) .
وهم في آخر الزمان الغرباء المذكورون في هذه الأحاديث : الذين يُصلحون إذا فسد الناس ، وهم الذين يُصلحون ما أفسد الناس من السنة ، وهم الذين يفرون بدينهم من الفتن ، وهم النزاع من القبائل ، لأنهم قلوا ، فلا يوجد في كل قبيلة منهم إلا الواحد والاثنان ، وقد لا يوجد في بعض القبائل منهم أحدٌ كما كان الداخلون إلى الإسلام في أول الأمر كذلك ، وبهذا فسر الأئمة هذا الحديث .
قال الأوزاعي في قوله صلى الله عليه وسلم : ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ ) : أما إنه ما يذهب الإسلام ولكن يذهب أهل السنة حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد .
ولهذا المعنى يوجد في كلام السلف كثيراً مدح السنة ووصفها بالغربة ووصف أهلها بالقلة ، فكان الحسن - رحمه الله - يقول لأصحابه : يا أهل السنة ! ترفقوا - رحمكم الله - فإنكم من أقل الناس .
وقال يونس بن عبيد : ليس شيء أغرب من السنة وأغرب منها من يعرفها .
وروي عنه أنه قال : أصبح من إذا عرف السنة فعرفها غريباً وأغرب منه من يعرفها .
وعن سفيان الثوري قال : استوصوا بأهل السنة فإنهم غرباء .
ومراد هؤلاء الأئمة بالسنة : طريقة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان عليها هو وأصحابه السالمة من الشبهات والشهوات .
ولهذا كان الفضيل بن عياض يقول : أهل السنة من عرف ما يدخل في بطنه من حلال .
وذلك لأن أكل الحلال من أعظم خصائل السنة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم .
ثم صار في عرف كثير من العلماء المتأخرين من أهل الحديث وغيرهم السنة عبارة عما سَلِمَ من الشبهات في الاعتقادات خاصة في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وكذلك في مسائل القدر وفضائل الصحابة ، وصنفوا في هذا العلم باسم السنة لأن خطره عظيم والمخالف فيه على شفا هلكة .
وأما السنة الكاملة فهي الطريق السالمة من الشبهات والشهوات كما قال الحسن ويونس بن عبيد وسفيان والفضيل وغيرهم ، ولهذا وُصِفَ أهلُها بالغربة في آخر الزمان لقلتهم وغربتهم فيه ، ولهذا ورد في بعض الروايات كما سبق في تفسير الغرباء : ( قوم صالحون قليل في قوم سوء كثير ، من يعصهم أكثر ممن يطيعهم ) وفي هذا إشارة إلى قلة عددهم وقلة المستجيبين لهم والقابلين منهم وكثرة المخالفين لهم والعاصين لهم .
ولهذا جاء في أحاديث متعددة مدح المتمسك بدينه في آخر الزمان وأنه كالقابض على الجمر ، وأن للعامل منهم أجر خمسين ممن قبلهم ، لأنهم لا يجدون أعواناً في الخير .
وهؤلاء الغرباء قسمان : أحدهما من يُصلح نفسه عند فساد الناس ، والثاني من يُصلح ما أفسد الناس وهو أعلى القسمين وهو أفضلهما .
وقد خرج الطبراني وغيره بإسناد فيه نظر من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن لكل شيء إقبالاً وإدباراً ، وإن من إقبال هذا الدين ما كنتم عليه من العمى والجهالة وما بعثني الله به ، وإن من إقبال هذا الدين أن تفقه القبيلة بأسرها حتى لا يوجد فيها إلا الفاسق والفاسقان فهما مقهوران ذليلان ، إن تكلما قُمِعَا وقُهِرَا واضطُهدا ، وإن من إدبار هذا الدين أن تجفو القبيلة بأسرها حتى لا يُرى فيها إلا الفقيه والفقيهان فهما مقهوران ذليلان ، إن تكلما فأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر قُمعا واضطُهدا ، فهما مقهوران ذليلان لا يجدان على ذلك أعواناً ولا أنصاراً ) .
فوصف في هذا الحديث المؤمن العالم بالسنة الفقيه في الدين بأنه سيكون في آخر الزمان عند فساده مقهوراً ذليلاً لا يجد أعواناً ولا أنصاراً .
وخرج الطبراني بإسناد فيه ضعف عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل في ذكر أشراط الساعة قال : ( وإن من أشراطها أن يكون المؤمن في القبيلة أذل من النقد ) . والنقد : هم الغنم الصغار .
وفي " مسند الإمام أحمد " عن عبادة بن الصامت أنه قال لرجلٍ من أصحابه : يُوشك إن طالت بك الحياة أن ترى الرجل قد قرأ القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فأعاده وأبداه وأحل حلاله وحرم حرامه ونزل عند منازله لا يحور فيكم إلا كم يحور رأس الحمار الميت .
ومثله قول ابن مسعود : يأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه أذل من الأمة .
وإنما ذل المؤمن آخر الزمان لغربته بين أهل الفساد من أهل الشبهات والشهوات ، فكلهم يكرهه ويؤذيه لمخالفة طريقته لطريقتهم ومقصوده لمقصودهم ومباينته لما هم عليه .
ولما مات داود الطائي قال ابن السماك : إن داود نظر بقلبه إلى ما بين يديه فأعشى بقلبه بصر العيون فكأنه لم ينظر إلى ما أنتم إليه تنظرون وكأنكم لا تنظرون إلى ما إليه ينظر ، فأنتم منه تعجبون ، وهو منكم يعجب ، استوحش منكم ، إنه كان حياًّ وسط موتى .
ومنهم من كان يكرهه أهله وولده لاستنكار حاله ، سمع عمر بن عبد العزيز امرأته مرة تقول : أراحنا الله منك . قال : آمين .
وقد كان السلف قديماً يصفون المؤمن بالغربة في زمانهم كما سبق مثله عن الحسن والأوزاعي وسفيان وغيرهم .
ومن كلام أحمد بن عاصم الأنطاكي - وكان من كبار العارفين في زمان أبي سليمان الداراني - يقول : إني أدركت من الأزمنة زماناً عاد فيه الإسلام غريباً كما بدأ ، وعاد وصفُ الحق فيه غريباً كما بدأ ، إن ترغب فيه إلى عالم وجدته مفتوناً بحب الدنيا ، يُحب التعظيم والرئاسة ، وإن ترغب فيه إلى عابد وجدته جاهلاً في عبادته مخدوعاً صريعاً غدره إبليس ، وقد صعد به إلى أعلى درجة من العبادة وهو جاهل بأدناها فكيف له بأعلاها ؟ وسائر ذلك من الرعاع ، همج عوج وذئاب مختلسة ، وسباع ضارية وثعالب ضوار ، هذا وصف عيون أهل زمانك من حملة العلم والقرآن ودعاة الحكمة . خرجه أبو نعيم في " الحلية " .
فهذا وصف أهل زمانه فكيف بما حدث بعده من العظائم والدواهي التي لم تخطر بباله ولم تدر في خياله ؟.