النوع الحادي عشر : معرفة المعضل
وهو لقب لنوع خاص من المنقطع ، فكل معضل منقطع ، وليس كل منقطع معضلا .
وقوم يسمونه مرسلا كما سبق .
وهو عبارة عما سقط من إسناده اثنان فصاعدا .
وأصحاب الحديث يقولون : أعضله فهو معضل - بفتح الضاد - . وهو اصطلاح مشكل المأخذ من حيث اللغة ، وبحثت فوجدت له قولهم : ( أمر عضيل ) ، أي مستغلق شديد . ولا التفات في ذلك إلى معضل - بكسر الضاد - وإن كان مثل عضيل في المعنى .
ومثاله : ما يرويه تابعي التابعي قائلا فيه : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، وكذلك ما يرويه من دون تابعي التابعي " عن رسول الله [ ص: 60 ] صلى الله عليه وسلم ، أو عن أبي بكر وعمر وغيرهما " غير ذاكر للوسائط بينه وبينهم .
وذكر أبو نصر السجزي الحافظ قول الراوي : " بلغني " نحو قول مالك : " بلغني عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : للمملوك طعامه وكسوته . . " الحديث وقال : أصحاب الحديث يسمونه المعضل .
قلت : وقول المصنفين من الفقهاء وغيرهم : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا " ونحو ذلك ، كله من قبيل المعضل ، لما تقدم . وسماه الخطيب أبو بكر الحافظ في بعض كلامه مرسلا ، وذلك على مذهب من يسمي كل ما لا يتصل مرسلا كما سبق .
وإذا روى تابع عن التابع حديثا موقوفا عليه ، وهو حديث متصل مسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد جعله الحاكم أبو عبد الله نوعا من المعضل .
مثاله : " ما رويناه عن الأعمش ، عن الشعبي قال : يقال للرجل يوم القيامة : " عملت كذا وكذا ؟ فيقول : ما عملته ، فيختم على فيه . . " الحديث . فقد أعضله الأعمش ، وهو عند الشعبي عن أنس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، متصلا مسندا .
[ ص: 61 ] قلت : هذا جيد حسن ؛ لأن هذا الانقطاع بواحد مضموما إلى الوقف يشتمل على الانقطاع باثنين : الصحابي ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذلك باستحقاق اسم الإعضال أولى ، والله أعلم .
تفريعات :
أحدها : الإسناد المعنعن ، وهو الذي يقال فيه : " فلان عن فلان " عده بعض الناس من قبيل المرسل والمنقطع ، حتى يتبين اتصاله بغيره .
والصحيح - والذي عليه العمل - أنه من قبيل الإسناد المتصل ، وإلى هذا ذهب الجماهير من أئمة الحديث وغيرهم ، وأودعه المشترطون للصحيح في تصانيفهم فيه وقبلوه ، وكاد أبو عمر بن عبد البر الحافظ يدعي إجماع أئمة الحديث على ذلك . وادعى أبو عمرو الداني - المقرئ الحافظ - إجماع أهل النقل على ذلك .
وهذا بشرط أن يكون الذين أضيفت العنعنة إليهم قد ثبتت ملاقاة بعضهم بعضا ، مع براءتهم من وصمة التدليس . فحينئذ يحمل على ظاهر الاتصال ، إلا أن يظهر فيه خلاف ذلك .
[ ص: 62 ] وكثر في عصرنا وما قاربه بين المنتسبين إلى الحديث استعمال " عن " في الإجازة ، فإذا قال أحدهم : " قرأت على فلان عن فلان " ، أو نحو ذلك ، فظن به أنه رواه عنه بالإجازة ، ولا يخرجه ذلك من قبيل الاتصال على ما لا يخفى ، والله أعلم .
الثاني : اختلفوا في قول الراوي : " أن فلانا قال كذا وكذا " هل هو بمنزلة ( عن ) في الحمل على الاتصال ، إذا ثبت التلاقي بينهما ، حتى يتبين فيه الانقطاع .
مثاله : ( مالك ، عن الزهري : أن سعيد بن المسيب قال كذا ) .
فروينا عن مالك رضي الله عنه أنه كان يرى ( عن فلان ) و ( أن فلانا ) سواء .
وعن أحمد بن حنبل رضي الله عنه : أنهما ليسا سواء .
وحكى ابن عبد البر عن جمهور أهل العلم : أن " عن " و " أن " سواء ، وأنه لا اعتبار بالحروف والألفاظ ، وإنما هو باللقاء والمجالسة ، والسماع والمشاهدة ، يعني مع السلامة من التدليس ، فإذا كان سماع بعضهم من بعض صحيحا كان حديث بعضهم عن بعض بأي لفظ ورد محمولا على الاتصال ، حتى يتبين فيه الانقطاع .
وحكى ابن عبد البر عن أبي بكر البرديجي أن حرف " أن " محمول على الانقطاع ، حتى يتبين السماع في ذلك الخبر بعينه من جهة أخرى . وقال : عندي لا معنى لهذا ، لإجماعهم على أن الإسناد [ ص: 63 ] المتصل بالصحابي سواء فيه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، أو " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ، أو " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " ، أو " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ، والله أعلم .
قلت : ووجدت مثلما حكاه عن البرديجي أبي بكر الحافظ للحافظ الفحل يعقوب بن شيبة في مسنده الفحل ، فإنه ذكر ما رواه أبو الزبير عن ابن الحنفية عن عمار قال : " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت عليه ، فرد علي السلام " . وجعله مسندا موصولا . وذكر رواية قيس بن سعد لذلك ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن الحنفية " أن عمارا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم
[ وهو يصلي ] " ، . فجعله مرسلا ، من حيث كونه قال : " إن عمارا فعل " ولم يقل : " عن عمار " ، والله أعلم .
[ ص: 64 ] ثم إن الخطيب مثل هذه المسألة بحديث نافع ، عن ابن عمر ، عن عمر : " أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم : أينام أحدنا وهو جنب ؟ " . . . الحديث . وفي رواية أخرى : عن نافع عن ابن عمر أن عمر قال : " يا رسول الله . . . " الحديث . ثم قال : " ظاهر الرواية الأولى يوجب أن يكون من مسند عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والثانية ظاهرها يوجب أن يكون من مسند ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم " .
قلت : ليس هذا المثال مماثلا لما نحن بصدده ؛ لأن الاعتماد فيه في الحكم بالاتصال على مذهب الجمهور إنما هو على اللقاء والإدراك ، وذلك في هذا الحديث مشترك متردد ، لتعلقه بالنبي صلى الله عليه وسلم وبعمر رضي الله عنه ، وبصحبة الراوي ابن عمر لهما ، فاقتضى ذلك من جهة : كونه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن جهة أخرى : كونه رواه عن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم .
[ ص: 65 ] الثالث : قد ذكرنا ما حكاه ابن عبد البر من تعميم الحكم بالاتصال فيما يذكره الراوي عمن لقيه بأي لفظ كان ، وهكذا أطلق أبو بكر الشافعي الصيرفي ذلك فقال : " كل من علم له سماع من إنسان ، فحدث عنه فهو على السماع حتى يعلم أنه لم يسمع منه ما حكاه ، وكل من علم له لقاء إنسان ، فحدث عنه فحكمه هذا الحكم " .
وإنما قال هذا فيمن لم يظهر تدليسه .
ومن الحجة في ذلك وفي سائر الباب أنه لو لم يكن قد سمعه منه لكان بإطلاقه الرواية عنه من غير ذكر الواسطة بينه وبينه مدلسا ، والظاهر السلامة من وصمة التدليس ، والكلام فيمن لم يعرف بالتدليس .
ومن أمثلة ذلك : قوله : " قال فلان كذا وكذا " مثل أن يقول نافع : " قال ابن عمر " . وكذلك لو قال عنه : " ذكر ، أو فعل ، أو حدث ، أو كان يقول كذا وكذا " ، وما جانس ذلك ، فكل ذلك محمول ظاهرا على الاتصال ، وأنه تلقى ذلك منه من غير واسطة بينهما ، مهما ثبت لقاؤه له على الجملة .
ثم منهم من اقتصر في هذا الشرط المشروط في ذلك ونحوه على مطلق اللقاء ، أو السماع ، كما حكيناه آنفا . وقال فيه أبو عمرو [ ص: 66 ] المقرئ : " إذا كان معروفا بالرواية عنه " . وقال فيه أبو الحسن القابسي : " إذا أدرك المنقول عنه إدراكا بينا " .
وذكر أبو المظفر السمعاني في العنعنة أنه يشترط طول الصحبة بينهم .
وأنكر مسلم بن الحجاج في خطبة صحيحه على بعض أهل عصره ، حيث اشترط في العنعنة ثبوت اللقاء والاجتماع ، وادعى أنه قول مخترع لم يسبق قائله إليه ، وأن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار قديما وحديثا أنه يكفي في ذلك أن يثبت كونهما في عصر واحد ، وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا أو تشافها .
وفيما قاله مسلم نظر ، وقد قيل : إن القول الذي رده مسلم هو الذي عليه أئمة هذا العلم : علي بن المديني ، والبخاري ، وغيرهما ، والله أعلم .
قلت : وهذا الحكم لا أراه يستمر بعد المتقدمين ، فيما وجد من [ ص: 67 ] المصنفين في تصانيفهم ، مما ذكروه عن مشايخهم قائلين فيه : " ذكر فلان ، قال فلان " ونحو ذلك ، فافهم كل ذلك ، فإنه مهم عزيز ، والله أعلم .
الرابع : التعليق الذي يذكره أبو عبد الله الحميدي ، صاحب ( الجمع بين الصحيحين ) وغيره من المغاربة ، في أحاديث من صحيح البخاري قطع إسنادها - وقد استعمله الدارقطني من قبل - : صورته صورة الانقطاع ، وليس حكمه حكمه ، ولا خارجا ما وجد ذلك فيه منه من قبيل الصحيح إلى قبيل الضعيف ، وذلك لما عرف من شرطه وحكمه ، على ما نبهنا عليه في الفائدة السادسة من النوع الأول .
ولا التفات إلى أبي محمد بن حزم الظاهري الحافظ في رده ما أخرجه البخاري ، من حديث أبي عامر ، أو أبي مالك الأشعري عن [ ص: 68 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحرير والخمر والمعازف . . " الحديث . من جهة أن البخاري أورده قائلا فيه : قال هشام بن عمار وساقه بإسناده ، فزعم ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام ، وجعله جوابا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف . وأخطأ في ذلك من وجوه ، والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح .
والبخاري رحمه الله قد يفعل ذلك ، لكون ذلك الحديث معروفا من جهة الثقات عن ذلك الشخص الذي علقه عنه ، وقد يفعل ذلك لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسندا متصلا وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب التي لا يصحبها خلل الانقطاع ، والله أعلم .
[ ص: 69 ] وما ذكرناه من الحكم في التعليق المذكور فذلك فيما أورده منه أصلا ومقصودا لا فيما أورده في معرض الاستشهاد ، فإن الشواهد يحتمل فيها ما ليس من شرط الصحيح ، معلقا كان أو موصولا .
ثم إن لفظ التعليق وجدته مستعملا فيما حذف من مبتدأ إسناده واحد فأكثر ، حتى إن بعضهم استعمله في حذف كل الإسناد .
مثال ذلك : قوله " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا ، قال ابن عباس كذا وكذا . روى أبو هريرة كذا وكذا . قال سعيد بن المسيب عن أبي هريرة كذا وكذا ، قال الزهري عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا " . وهكذا إلى شيوخ شيوخه .
وأما ما أورده كذلك عن شيوخه فهو من قبيل ما ذكرناه قريبا في الثالث من هذه التفريعات .
وبلغني عن بعض المتأخرين من أهل المغرب أنه جعله قسما من التعليق ثانيا ، وأضاف إليه قول البخاري - في غير موضع من كتابه - : " وقال لي فلان ، وزادنا فلان " فوسم كل ذلك بالتعليق المتصل من حيث الظاهر ، المنفصل من حيث المعنى ، وقال : متى رأيت البخاري يقول : " وقال لي ، وقال لنا " فاعلم أنه إسناد لم يذكره للاحتجاج به ، وإنما ذكره للاستشهاد به .
وكثيرا ما يعبر المحدثون بهذا اللفظ عما جرى بينهم في المذاكرات والمناظرات ، [ ص: 70 ] وأحاديث المذاكرة قلما يحتجون بها .
قلت : وما ادعاه على البخاري مخالف لما قاله من هو أقدم منه وأعرف بالبخاري ، وهو العبد الصالح أبو جعفر بن حمدان النيسابوري ، فقد روينا عنه أنه قال : كل ما قال البخاري : " قال لي فلان " فهو عرض ومناولة .
قلت : ولم أجد لفظ التعليق مستعملا فيما سقط فيه بعض رجال الإسناد من وسطه أو من آخره ، ولا في مثل قوله : " يروى عن فلان ، ويذكر عن فلان " وما أشبهه مما ليس فيه جزم على من ذكر ذلك بأنه قاله وذكره .
وكأن هذا التعليق مأخوذ من تعليق الجدار ، وتعليق الطلاق ونحوه ، لما يشترك الجميع فيه من قطع الاتصال ، والله أعلم .
[ ص: 71 ] الخامس : الحديث الذي رواه بعض الثقات مرسلا وبعضهم متصلا اختلف أهل الحديث في أنه ملحق بقبيل الموصول أو بقبيل المرسل .
مثاله : حديث : " لا نكاح إلا بولي " ، رواه إسرائيل بن يونس في آخرين عن جده أبي إسحاق السبيعي ، عن أبي بردة ، عن أبيه ، أبي موسى الأشعري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسندا هكذا متصلا .
ورواه سفيان الثوري ، وشعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي بردة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا هكذا .
فحكى الخطيب الحافظ أن أكثر أصحاب الحديث يرون الحكم في هذا وأشباهه للمرسل .
وعن بعضهم : أن الحكم للأكثر .
وعن بعضهم : أن الحكم للأحفظ ، فإذا كان من أرسله أحفظ ممن وصله فالحكم لمن أرسله ، ثم لا يقدح ذلك في عدالة من وصله وأهليته .
ومنهم من قال : " من أسند حديثا قد أرسله الحفاظ فإرسالهم له يقدح في مسنده وفي عدالته وأهليته " .
ومنهم من قال : " الحكم لمن أسنده إذا كان عدلا ضابطا ، فيقبل خبره وإن خالفه غيره ، سواء كان المخالف له واحدا أو جماعة " .
قال الخطيب : " هذا القول هو [ ص: 72 ] الصحيح " .
قلت : وما صححه هو الصحيح في الفقه وأصوله ، وسئل البخاري عن حديث : " لا نكاح إلا بولي " المذكور ، فحكم لمن وصله ، وقال : " الزيادة من الثقة مقبولة " ، فقال البخاري هذا ، مع أن من أرسله شعبة وسفيان ، وهما جبلان لهما من الحفظ والإتقان الدرجة العالية .
ويلتحق بهذا ما إذا كان الذي وصله هو الذي أرسله ، وصله في وقت وأرسله في وقت . وهكذا إذا رفع بعضهم الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووقفه بعضهم على الصحابي ، أو رفعه واحد في وقت ووقفه هو أيضا في وقت آخر ، فالحكم على الأصح في كل ذلك لما زاده الثقة من الوصل والرفع ؛ لأنه مثبت وغيره ساكت ، ولو كان نافيا فالمثبت مقدم عليه ؛ لأنه علم ما خفي عليه . ولهذا الفصل تعلق بفصل زيادة الثقة في الحديث ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ، وهو أعلم .
-----------------------------------
من كتاب علوم الحديث لابن الصلاح
أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري
دار الفكر- دار الفكر المعاصر
سنة النشر: 1425هـ / 2004م