أخلاق العلماء
من كتاب :
أدب الدنيا والدين - تأليف علي بن محمد
بن حبيب الماوردي
فَأَمَّا
مَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ مِنْ الاخْلاَقِ الَّتِي بِهِمْ
أَلْيَقُ، وَلَهُمْ أَلْزَمُ، فَالتَّوَاضُعُ وَمُجَانَبَةُ الْعُجْبِ؛ لِأَنَّ
التَّوَاضُعَ عَطُوفٌ وَالْعُجْبَ مُنَفِّرٌ. وَهُوَ بِكُلِّ أَحَدٍ قَبِيحٌ
وَبِالْعُلَمَاءِ أَقْبَحُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ بِهِمْ يَقْتَدُونَ وَكَثِيرًا مَا
يُدَاخِلُهُمْ الاعْجَابُ لِتَوَحُّدِهِمْ بِفَضِيلَةِ الْعِلْمِ. وَلَوْ
أَنَّهُمْ نَظَرُوا حَقَّ النَّظَرِ وَعَمِلُوا بِمُوجِبِ الْعِلْمِ لَكَانَ
التَّوَاضُعُ بِهِمْ أَوْلَى، وَمُجَانَبَةُ الْعُجْبِ بِهِمْ أَحْرَى؛ لِأَنَّ
الْعُجْبَ نَقْصٌ يُنَافِي الْفَضْلَ لاَ سِيَّمَا مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم: {إنَّ الْعُجْبَ لَيَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ
الْحَطَبَ}. فَلاَ يَفِي مَا أَدْرَكُوهُ مِنْ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ بِمَا
لَحِقَهُمْ مِنْ نَقْصِ الْعُجْبِ.
وَقَدْ
رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: {قَلِيلُ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرِ الْعِبَادَةِ.
وَكَفَى بِالْمَرْءِ عِلْمًا إذَا عَبَدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَفَى
بِالْمَرْءِ جَهْلاً إذَا أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ}.
وَقَالَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَتَعَلَّمُوا
لِلْعِلْمِ السَّكِينَةَ وَالْحِلْمَ وَتَوَاضَعُوا لِمَنْ تُعَلِّمُونَ
وَلْيَتَوَاضَعْ لَكُمْ مَنْ تُعَلِّمُونَهُ، وَلاَ تَكُونُوا مِنْ جَبَابِرَةِ
الْعُلَمَاءِ فَلاَ يَقُومُ عِلْمُكُمْ بِجَهْلِكُمْ.
وَقَالَ
بَعْضُ السَّلَفِ: مَنْ تَكَبَّرَ بِعِلْمِهِ وَتَرَفَّعَ وَضَعَهُ اللَّهُ بِهِ،
وَمَنْ تَوَاضَعَ بِعِلْمِهِ رَفَعَهُ بِهِ. وَعِلَّةُ إعْجَابِهِمْ انْصِرَافُ
نَظَرِهِمْ إلَى كَثْرَةِ مَنْ دُونَهُمْ مِنْ الْجُهَّالِ، وَانْصِرَافُ
نَظَرِهِمْ عَمَّنْ فَوْقَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مُتَنَاهٍ فِي
الْعِلْمِ الا وَسَيَجِدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ إذْ الْعِلْمُ أَكْثَرُ مِنْ
أَنْ يُحِيطَ بِهِ بَشَرٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ
نَشَاءُ}. يَعْنِي فِي الْعِلْمِ: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} قَالَ
أَهْلُ التَّأْوِيلِ: فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ حَتَّى
يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى
وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ: مَنْ يَعْرِفُ
كُلَّ الْعِلْمِ ؟ قَالَ: كُلُّ النَّاسِ.
وَقَالَ
الشَّعْبِيُّ: مَا رَأَيْت مِثْلِي وَمَا أَشَاءُ أَنْ أَلْقَى رَجُلاً أَعْلَمَ
مِنِّي الا لَقِيتُهُ. لَمْ يَذْكُرْ الشَّعْبِيُّ هَذَا الْقَوْلَ تَفْضِيلاً
لِنَفْسِهِ فَيُسْتَقْبَحُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ تَعْظِيمًا لِلْعِلْمِ
عَنْ أَنْ يُحَاطَ بِهِ.
فَيَنْبَغِي لِمَنْ عَلِمَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى
نَفْسِهِ بِتَقْصِيرِ مَا قَصَّرَ فِيهِ لِيَسْلَمَ مِنْ عُجْبِ مَا أَدْرَكَ
مِنْهُ.
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: إذَا
عَلِمْت فَلاَ تُفَكِّرْ فِي كَثْرَةِ مَنْ دُونَك مِنْ الْجُهَّالِ، وَلَكِنْ
اُنْظُرْ إلَى مَنْ فَوْقَك مِنْ
الْعُلَمَاءِ
وَأَنْشَدْت
لِابْنِ الْعَمِيدِ:
مَنْ
شَاءَ عَيْشًا هَنِيئًا يَسْتَفِيدُ بِهِ *** فِي دِينِهِ ثُمَّ فِي دُنْيَاهُ
إقْبَالا
فَلْيَنْظُرَنَّ إلَى مَنْ فَوْقَهُ أَدَبًا ****وَلْيَنْظُرَنَّ
إلَى مَنْ دُونَهُ مَالا
وَقَلَّمَا
تَجِدُ بِالْعِلْمِ مُعْجَبًا وَبِمَا أَدْرَكَ مُفْتَخِرًا، الا مَنْ كَانَ فِيهِ
مُقِلاً وَمُقَصِّرًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَجْهَلُ قَدْرَهُ، وَيَحْسَبُ أَنَّهُ
نَالَ بِالدُّخُولِ فِيهِ أَكْثَرَهُ. فَأَمَّا مَنْ كَانَ فِيهِ مُتَوَجِّهًا
وَمِنْهُ مُسْتَكْثِرًا فَهُوَ يَعْلَمُ مِنْ بُعْدِ غَايَتِهِ، وَالْعَجْزِ عَنْ
إدْرَاكِ نِهَايَتِهِ، مَا يَصُدُّهُ عَنْ الْعُجْبِ بِهِ.
وَقَدْ قَالَ الشَّعْبِيُّ: الْعِلْمُ ثَلاَثَةُ
أَشْبَارٍ فَمَنْ نَالَ مِنْهُ شِبْرًا شَمَخَ بِأَنْفِهِ وَظَنَّ أَنَّهُ
نَالَهُ. وَمَنْ نَالَ الشِّبْرَ الثَّانِيَ صَغَرَتْ إلَيْهِ نَفْسُهُ وَعَلِمَ
أَنَّهُ لَمْ يَنَلْهُ، وَأَمَّا الشِّبْرُ الثَّالِثُ فَهَيْهَاتَ لاَ يَنَالُهُ
أَحَدٌ أَبَدًا.
وَمِمَّا
أُنْذِرُك بِهِ مِنْ حَالِي أَنَّنِي صَنَّفْت فِي الْبُيُوعِ كِتَابًا جَمَعْت
فِيهِ مَا اسْتَطَعْت مِنْ كُتُبِ النَّاسِ، وَأَجْهَدْت فِيهِ نَفْسِي وَكَدَدْت
فِيهِ خَاطِرِي، حَتَّى إذَا تَهَذَّبَ وَاسْتَكْمَلَ وَكِدْت أَعْجَبُ بِهِ
وَتَصَوَّرْت أَنَّنِي أَشَدُّ النَّاسِ اضْطِلاَعًا بِعِلْمِهِ، حَضَرَنِي،
وَأَنَا فِي مَجْلِسِي أَعْرَابِيَّانِ فَسَالانِي عَنْ بَيْعٍ عَقَدَاهُ فِي
الْبَادِيَةِ عَلَى شُرُوطٍ تَضَمَّنَتْ أَرْبَعَ مَسَائِلِ لَمْ أَعْرِفْ
لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ جَوَابًا، فَأَطْرَقْت مُفَكِّرًا، وَبِحَالِي وَحَالِهِمَا
مُعْتَبَرًا فَقَالا: مَا عِنْدَك فِيمَا سَأَلْنَاك جَوَابٌ، وَأَنْتَ زَعِيمُ
هَذِهِ الْجَمَاعَةِ ؟ فَقُلْت: لاَ. فَقَالا: وَاهًا لَك، وَانْصَرَفَا. ثُمَّ
أَتَيَا مَنْ يَتَقَدَّمُهُ فِي الْعِلْمِ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِي فَسَالاهُ
فَأَجَابَهُمَا مُسْرِعًا بِمَا أَقْنَعَهُمَا وَانْصَرَفَا عَنْهُ رَاضِيَيْنِ
بِجَوَابِهِ حَامِدَيْنِ لِعِلْمِهِ، فَبَقِيت مُرْتَبِكًا، وَبِحَالِهِمَا
وَحَالِي مُعْتَبِرًا وَإِنِّي لَعَلَى مَا كُنْت عَلَيْهِ مِنْ الْمَسَائِلِ إلَى
وَقْتِي، فَكَانَ ذَلِكَ زَاجِرَ نَصِيحَةٍ وَنَذِيرَ عِظَةٍ تَذَلَّلَ بِهَا
قِيَادُ النَّفْسِ، وَانْخَفَضَ لَهَا جَنَاحُ الْعُجْبِ، تَوْفِيقًا مُنِحْتَهُ
وَرُشْدًا أُوتِيتَهُ. وَحَقٌّ عَلَى مَنْ تَرَكَ الْعُجْبَ بِمَا يُحْسِنُ أَنْ يَدَعَ
التَّكَلُّفَ لِمَا لاَ يُحْسِنُ. فَقَدِيمًا نَهَى النَّاسُ عَنْهُمَا،
وَاسْتَعَاذُوا بِاَللَّهِ مِنْهُمَا.
وَمِنْ
أَوْضَحِ ذَلِكَ بَيَانًا اسْتِعَاذَةُ الْجَاحِظِ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ حَيْثُ
يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْقَوْلِ
كَمَا نَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْعَمَلِ، وَنَعُوذُ بِك مِنْ التَّكَلُّفِ
لِمَا لاَ نُحْسِنُ، كَمَا نَعُوذُ بِك مِنْ الْعُجْبِ بِمَا نُحْسِنُ، وَنَعُوذُ
بِك مِنْ شَرِّ السَّلاَطَةِ وَالْهَذْرِ، كَمَا نَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ الْعِيِّ
وَالْحَصْرِ. وَنَحْنُ نَسْتَعِيذُ
بِاَللَّهِ تَعَالَى مِثْلَ مَا اسْتَعَاذَ فَلَيْسَ لِمَنْ تَكَلَّفَ مَا
لاَ يُحْسِنُ غَايَةٌ يَنْتَهِي إلَيْهَا وَلاَ حَدٌّ يَقِفُ عِنْدَهُ. وَمَنْ
كَانَ تَكَلُّفُهُ غَيْرَ مَحْدُودٍ فَأَخْلِقْ بِهِ أَنْ يَضِلَّ وَيُضِلَّ.
وَقَالَ
بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مِنْ الْعِلْمِ أَنْ لاَ تَتَكَلَّمَ فِيمَا لاَ تَعْلَمُ
بِكَلاَمِ مَنْ يَعْلَمُ فَحَسْبُك جَهْلاً مِنْ عَقْلِك أَنْ تَنْطِقَ بِمَا لاَ
تَفْهَمُ.
وَلَقَدْ
أَحْسَن زُرَارَةُ بْنُ زَيْدٍ حَيْثُ يَقُولُ: إذَا مَا انْتَهَى عِلْمِي
تَنَاهَيْتُ عِنْدَهُ أَطَالَ فَأَمْلَى أَوْ تَنَاهَى فَأَقْصَرَا وَيُخْبِرُنِي
عَنْ غَائِبِ الْمَرْءِ فِعْلُهُ كَفَى الْفِعْلُ عَمَّا غَيَّبَ الْمَرْءُ
مُخْبِرَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إلَى الاحَاطَةِ بِالْعِلْمِ سَبِيلٌ فَلاَ عَارٌ
أَنْ يَجْهَلَ بَعْضَهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي جَهْلِ بَعْضِهِ عَارٌ لَمْ
يَقْبُحْ بِهِ أَنْ يَقُولَ لاَ أَعْلَمُ فِيمَا لَيْسَ يَعْلَمُ. وَرُوِيَ {أَنَّ
رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْبِقَاعِ خَيْرٌ، وَأَيُّ الْبِقَاعِ
شَرٌّ ؟ فَقَالَ: لاَ أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ جِبْرِيلَ}.
وَقَالَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: وَمَا أَبْرَدَهَا عَلَى الْقَلْبِ إذَا
سُئِلَ أَحَدُكُمْ فِيمَا لاَ يَعْلَمُ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ أَعْلَمُ، وَإِنَّ
الْعَالِمَ مَنْ عَرَفَ أَنَّ مَا يَعْلَمُ فِيمَا لاَ يَعْلَمُ قَلِيلٌ. وَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: إذَا تَرَكَ الْعَالِمُ قَوْلَ لاَ
أَدْرِي أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ.
وَقَالَ
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هَلَكَ مَنْ تَرَكَ لاَ أَدْرِي.
وَقَالَ
بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: لَيْسَ لِي مِنْ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ الا عِلْمِي بِأَنِّي
لَسْت أَعْلَمُ.
وَقَالَ
بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: مَنْ قَالَ لاَ أَدْرِي عَلِمَ فَدَرَى، وَمَنْ انْتَحَلَ
مِمَّا لاَ يَدْرِي أُهْمِلَ فَهَوَى، وَلاَ يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ وَإِنْ صَارَ
فِي طَبَقَةِ الْعُلَمَاءِ الافَاضِلِ أَنْ يَسْتَنْكِفَ مِنْ تَعَلُّمِ مَا
لَيْسَ عِنْدَهُ لِيَسْلَمَ مِنْ التَّكَلُّفِ. وَقَدْ قَالَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ -: يَا صَاحِبَ الْعِلْمِ
تَعَلَّمْ مِنْ الْعِلْمِ مَا جَهِلْت وَعَلِّمْ الْجُهَّالَ مَا عَلِمْت. وَقَالَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: خَمْسٌ خُذُوهُنَّ عَنِّي فَلَوْ
رَكِبْتُمْ الْفُلْكَ مَا وَجَدْتُمُوهُنَّ الا عِنْدِي: الا لاَ يَرْجُوَنَّ أَحَدٌ
الا رَبَّهُ، وَلاَ يَخَافَنَّ الا ذَنْبَهُ، وَلاَ يَسْتَنْكِفْ الْعَالِمُ أَنْ
يَتَعَلَّمَ لِمَا لَيْسَ عِنْدَهُ وَإِذَا سُئِلَ أَحَدُكُمْ عَمَّا لاَ يَعْلَمُ
فَلْيَقُلْ لاَ أَعْلَمُ، وَمَنْزِلَةُ الصَّبْرِ مِنْ الايمَانِ بِمَنْزِلَةِ
الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:
لَوْ كَانَ أَحَدُكُمْ يَكْتَفِي مِنْ الْعِلْمِ لاَكْتَفَى مِنْهُ مُوسَى - عَلَى
نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ - لَمَّا قَالَ: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ
تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}
وَقِيلَ لِلْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ: بِمَ أَدْرَكْت هَذَا الْعِلْمَ ؟ قَالَ:
كُنْت إذَا لَقِيتُ عَالِمًا أَخَذْت مِنْهُ، وَأَعْطَيْته. وَقَالَ
بَزَرْجَمْهَرَ: مِنْ الْعِلْمِ أَنْ لاَ تَحْتَقِرَ شَيْئًا مِنْ الْعِلْمِ،
وَمِنْ الْعِلْمِ تَفْضِيلُ جَمِيعِ الْعِلْمِ وَقَالَ الْمَنْصُورُ لِشَرِيكٍ:
أَنَّى لَك هَذَا الْعِلْمُ ؟ قَالَ: لَمْ أَرْغَبْ عَنْ قَلِيلٍ أَسْتَفِيدُهُ،
وَلَمْ أَبْخَلْ بِكَثِيرٍ أُفِيدُهُ. عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ يَقْتَضِي مَا بَقِيَ
مِنْهُ وَيَسْتَدْعِي مَا تَأَخَّرَ عَنْهُ، وَلَيْسَ لِلرَّاغِبِ فِيهِ قَنَاعَةٌ
بِبَعْضِهِ. وَرَوَى عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله
عنه أَنَّهُ قَالَ: مَنْهُومَانِ لاَ يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْمٍ وَطَالِبُ
دُنْيَا. أَمَّا طَالِبُ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ يَزْدَادُ لِلرَّحْمَنِ رِضًى، ثُمَّ
قَرَأَ {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}. وَأَمَّا طَالِبُ
الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَزْدَادُ طُغْيَانًا ثُمَّ قَرَأَ: {كَلاً إنَّ الانْسَانَ
لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}
وَلْيَكُنْ
مُسْتَقِلاً لِلْفَضِيلَةِ مِنْهُ لِيَزْدَادَ مِنْهَا، وَمُسْتَكْثِرًا
لِلنَّقِيصَةِ فِيهِ لِيَنْتَهِيَ عَنْهَا، وَلاَ يَقْنَعْ مِنْ الْعِلْمِ بِمَا
أَدْرَكَ؛ لِأَنَّ الْقَنَاعَةَ فِيهِ زُهْدٌ، وَلِلزُّهْدِ فِيهِ تَرْكٌ،
وَالتَّرْكُ لَهُ جَهْلٌ.
وَقَدْ
قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: عَلَيْك بِالْعِلْمِ وَالاكْثَارِ مِنْهُ فَإِنَّ
قَلِيلَهُ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِقَلِيلِ الْخَيْرِ، وَكَثِيرَهُ أَشْبَهُ شَيْءٍ
بِكَثِيرِهِ، وَلَنْ يَعِيبَ الْخَيْرَ الا الْقِلَّةُ، فَأَمَّا كَثْرَتُهُ
فَإِنَّهَا أُمْنِيَةٌ.
وَقَالَ
بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: مِنْ فَضْلِ عِلْمِك اسْتِقْلاَلُك لِعِلْمِك، وَمِنْ
كَمَالِ عَقْلِك اسْتِظْهَارُك عَلَى عَقْلِك.
وَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَجْهَلَ مِنْ نَفْسِهِ
مَبْلَغَ عِلْمِهَا، وَلاَ يَتَجَاوَزَ بِهَا قَدْرَ حَقِّهَا. وَلاَنْ يَكُونَ
بِهَا مُقَصِّرًا فَيُذْعِنُ بِالانْقِيَادِ، أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ بِهَا مُجَاوِزًا،
فَيَكُفُّ عَنْ الازْدِيَادِ؛ لِأَنَّ مَنْ جَهِلَ حَالَ نَفْسِهِ كَانَ
لِغَيْرِهَا أَجْهَلَ.
وَقَدْ
قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: {يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى يَعْرِفُ
الانْسَانُ رَبَّهُ ؟ قَالَ: إذَا عَرَفَ نَفْسَهُ}. وَقَدْ قَسَّمَ الْخَلِيلُ
بْنُ أَحْمَدَ أَحْوَالَ النَّاسِ فِيمَا عَلِمُوهُ أَوْ جَهِلُوهُ أَرْبَعَةَ
أَقْسَامٍ مُتَقَابِلَةٍ لاَ يَخْلُو الانْسَانُ مِنْهَا فَقَالَ: الرِّجَالُ أَرْبَعَةٌ:
رَجُلٌ يَدْرِي وَيَدْرِي أَنَّهُ يَدْرِي فَذَلِكَ عَالِمٌ فَاسْأَلُوهُ،
وَرَجُلٌ يَدْرِي وَلاَ يَدْرِي أَنَّهُ يَدْرِي فَذَلِكَ نَاسٍ فَذَكِّرُوهُ،
وَرَجُلٌ لاَ يَدْرِي وَيَدْرِي أَنَّهُ لاَ يَدْرِي فَذَلِكَ مُسْتَرْشِدٌ فَأَرْشِدُوهُ، وَرَجُلٌ لاَ يَدْرِي وَلاَ
يَدْرِي أَنَّهُ لاَ يَدْرِي فَذَلِكَ جَاهِلٌ فَارْفُضُوهُ.
وَأَنْشَدَ
أَبُو الْقَاسِمِ الامِدِيُّ:
إذَا
كُنْت لاَ تَدْرِي وَلَمْ تَكُنْ بِاَلَّذِي يُسَائِلُ مَنْ يَدْرِي فَكَيْفَ إذًا
تَدْرِي جَهِلْت وَلَمْ تَعْلَمْ بِأَنَّك جَاهِلٌ فَمَنْ لِي بِأَنْ تَدْرِي
بِأَنَّك لاَ تَدْرِي إذَا كُنْت مِنْ كُلِّ الامُورِ مُعَمِّيًا فَكُنْ هَكَذَا
أَرْضًا يَطَأْكَ الَّذِي يَدْرِي وَمِنْ أَعْجَبِ الاشْيَاءِ أَنَّك لاَ تَدْرِي
وَأَنَّك لاَ تَدْرِي بِأَنَّك لاَ تَدْرِي
وَلْيَكُنْ
مِنْ شِيمَتِهِ الْعَمَلُ بِعِلْمِهِ، وَحَثُّ النَّفْسِ عَلَى أَنْ تَأْتَمِرَ
بِمَا يَأْمُرُ بِهِ، وَلاَ يَكُنْ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ
{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ
الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}.
فَقَدْ قَالَ قَتَادَةُ فِي قوله تعالى:
{وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ}: يَعْنِي أَنَّهُ عَامِلٌ بِمَا
عَلِمَ.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
أَنَّهُ قَالَ: {وَيْلٌ لِجَمَّاعِ الْقَوْلِ وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ}. يُرِيدُ
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ وَلاَ يَعْمَلُونَ بِهِ.
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ
سُفْيَانَ أَنَّ الْخَضِرَ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ - قَالَ
لِمُوسَى عليه السلام: يَا ابْنَ عِمْرَانَ تَعَلَّمْ الْعِلْمَ لِتَعْمَلَ بِهِ،
وَلاَ تَتَعَلَّمْهُ لِتُحَدِّثَ بِهِ فَيَكُونُ عَلَيْك بُورُهُ، وَلِغَيْرِك
نُورُهُ.
وَقَالَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: إنَّمَا زَهِدَ النَّاسُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ لِمَا
يَرَوْنَ مِنْ قِلَّةِ انْتِفَاعِ مَنْ عَلِمَ بِمَا عَلِمَ.
وَقَالَ
أَبُو الدَّرْدَاءِ: أَخْوَفُ مَا أَخَافُ إذَا وَقَفْت بَيْنَ يَدِي اللَّهِ أَنْ
يَقُولَ: قَدْ عَلِمْت فَمَاذَا عَمِلْت إذْ عَلِمْت ؟ وَكَانَ يُقَالُ: خَيْرٌ
مِنْ الْقَوْلِ فَاعِلُهُ، وَخَيْرٌ مِنْ الصَّوَابِ قَائِلُهُ، وَخَيْرٌ مِنْ
الْعِلْمِ حَامِلُهُ.
وَقِيلَ
فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: لَمْ يَنْتَفِعْ بِعِلْمِهِ مَنْ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ.
وَقَالَ
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: ثَمَرَةُ الْعِلْمِ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ، وَثَمَرَةُ
الْعَمَلِ أَنْ يُؤْجَرَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ
بَعْضُ الصُّلَحَاءِ: الْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ،
فَإِنْ أَجَابَهُ أَقَامَ وَالا ارْتَحَلَ.
وَقَالَ
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: خَيْرُ الْعِلْمِ مَا نَفَعَ، وَخَيْرُ الْقَوْلِ مَا
رَدَعَ.
وَقَالَ بَعْضُ الادَبَاءِ: ثَمَرَةُ الْعُلُومِ
الْعَمَلُ بِالْعُلُومِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: مِنْ
تَمَامِ الْعِلْمِ اسْتِعْمَالُهُ، وَمِنْ
تَمَامِ الْعَمَلِ اسْتِقْلاَلُهُ. فَمَنْ اسْتَعْمَلَ عِلْمَهُ لَمْ يَخْلُ مِنْ
رَشَادٍ، وَمَنْ اسْتَقَلَّ عَمَلَهُ لَمْ يَقْصُرْ عَنْ مُرَادٍ.
وَقَالَ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ: وَلَمْ يَحْمَدُوا
مِنْ عَالِمٍ غَيْرِ عَامِلٍ خِلاَفًا وَلاَ مِنْ عَامِلٍ
غَيْرِ عَالِمِ رَأَوْا طُرُقَاتِ الْمَجْدِ عِوَجًا قَطِيعَةً وَأَفْظَعُ عَجْزٍ
عِنْدَهُمْ عَجْزُ حَازِمِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عِلْمُهُ حُجَّةً عَلَى مَنْ
أَخَذَ عَنْهُ وَاقْتَبَسَهُ مِنْهُ حَتَّى يَلْزَمَهُ الْعَمَلُ بِهِ
وَالْمَصِيرُ إلَيْهِ كَانَ عَلَيْهِ أَحَجَّ وَلَهُ أَلْزَمَ؛ لِأَنَّ مَرْتَبَةَ
الْعِلْمِ قَبْلَ مَرْتَبَةِ الْقَوْلِ، كَمَا أَنَّ مَرْتَبَةَ الْعِلْمِ قَبْلَ
مَرْتَبَةِ الْعَمَلِ.
وَقَدْ
قَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ رحمه الله: اسْمَعْ إلَى الاحْكَامِ تَحْمِلُهَا
الرُّوَاةُ إلَيْك عَنْكَا وَاعْلَمْ هُدِيتَ بِأَنَّهَا حُجَجٌ تَكُونُ عَلَيْك
مِنْكَا ثُمَّ لِيَتَجَنَّب أَنْ يَقُولَ مَا لاَ يَفْعَلُ، وَأَنْ يَأْمُرَ بِمَا
لاَ يَأْتَمِرُ بِهِ، وَأَنْ يُسِرَّ غَيْرَ مَا يُظْهِرُ، وَلاَ يَجْعَلُ قَوْلَ
الشَّاعِرِ هَذَا: اعْمَلْ بِقَوْلِي وَإِنْ قَصَّرْت فِي عَمَلِي يَنْفَعْك
قَوْلِي وَلاَ يَضْرُرْك تَقْصِيرِي عُذْرًا لَهُ فِي تَقْصِيرٍ يُضْمِرُهُ وَإِنْ
لَمْ يَضُرَّ غَيْرَهُ. فَإِنَّ إعْذَارَ النَّفْسِ يُغْرِيهَا وَيُحَسِّنُ لَهَا
مَسَاوِئَهَا. فَإِنَّ مَنْ قَالَ مَا لاَ يَفْعَلُ فَقَدْ
مَكَرَ، وَمَنْ أَمَرَ بِمَا لاَ يَأْتَمِرُ فَقَدْ خَدَعَ، وَمَنْ أَسَرَّ غَيْرَ
مَا يُظْهِرُ فَقَدْ نَافَقَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم أَنَّهُ قَالَ: {الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ وَصَاحِبَاهُمَا فِي النَّارِ}.
عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ بِمَا لاَ يَأْتَمِرُ مُطْرَحٌ، وَإِنْكَارَهُ مَا لاَ
يُنْكِرُهُ مِنْ نَفْسِهِ مُسْتَقْبَحٌ. بَلْ رُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا
لِإِغْرَاءِ الْمَأْمُورِ بِتَرْكِ مَا أُمِرَ بِهِ عِنَادًا، وَارْتِكَابِ مَا
نَهَى عَنْهُ كِيَادًا. وَحُكِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى ابْنَ أَبِي ذِئْبٍ
فَسَأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةِ طَلاَقٍ فَأَفْتَاهُ بِطَلاَقِ امْرَأَتِهِ، فَقَالَ:
اُنْظُرْ حَسَنًا. قَالَ: نَظَرْتُ وَقَدْ بَانَتْ فَوَلَّى الاعْرَابِيُّ وَهُوَ
يَقُولُ: أَتَيْت ابْنَ ذِئْبٍ أَبْتَغِي الْفِقْهَ عِنْدَهُ فَطَلَّقَ حَتَّى
الْبَتِّ تَبَّتْ أَنَامِلُهُ أُطَلِّقُ
فِي فَتْوَى ابْنِ ذِئْبٍ حَلِيلَتِي وَعِنْدَ ابْنِ ذِئْبٍ أَهْلُهُ وَحَلاَئِلُهْ
فَظَنَّ بِجَهْلِهِ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ الطَّلاَقُ بِقَوْلِ مَنْ لَمْ
يَلْتَزِمْ الطَّلاَقَ.
فَمَا ظَنُّك بِقَوْلٍ يَجِبُ فِيهِ اشْتِرَاكُ
الامِرِ وَالْمَأْمُورِ كَيْفَ يَكُونُ مَقْبُولاً مِنْهُ وَهُوَ غَيْرُ عَامِلٍ
بِهِ وَلاَ قَابِلٍ لَهُ كَلاً.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ: وَعَامِلٌ بِالْفُجُورِ
يَأْمُرُ بِالْبِرِّ كَهَادٍ يَخُوضُ فِي الظُّلَمِ أَوْ كَطَبِيبٍ قَدْ شَفَّهُ
سَقَمٌ وَهُوَ يُدَاوِي مِنْ ذَلِكَ السَّقَمِ يَا وَاعِظَ النَّاسِ غَيْرَ
مُتَّعِظٍ ثَوْبَك طَهِّرْ أَوَّلاً فَلاَ تَلُمْ وَقَالَ آخَرُ: عَوِّدْ لِسَانَك
قِلَّةَ اللَّفْظِ وَاحْفَظْ كَلاَمَك أَيَّمَا حِفْظِ
إيَّاكَ أَنْ تَعِظَ الرِّجَالَ وَقَدْ أَصْبَحْتَ مُحْتَاجًا إلَى الْوَعْظِ
وَأَمَّا الانْقِطَاعُ عَنْ الْعِلْمِ إلَى الْعَمَلِ، وَالانْقِطَاعُ عَنْ
الْعَمَلِ إلَى الْعِلْمِ إذَا عَمِلَ بِمُوجِبِ الْعِلْمِ، فَقَدْ حُكِيَ عَنْ
الزُّهْرِيِّ فِيهِ مَا يُغْنِي عَنْ تَكَلُّفِ غَيْرِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ:
الْعِلْمُ أَفْضَلُ مِنْ الْعَمَلِ لِمَنْ جَهِلَ، وَالْعَمَلُ أَفْضَلُ مِنْ
الْعِلْمِ لِمَنْ عَلِمَ.
وَأَمَّا فَضْلُ مَا بَيْنَ الْعِلْمِ
وَالْعِبَادَةِ إذَا لَمْ يُخِلَّ بِوَاجِبٍ وَلَمْ يُقَصِّرْ فِي فَرْضٍ، فَقَدْ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: يُبْعَثُ الْعَالِمُ
وَالْعَابِدُ فَيُقَالُ لِلْعَابِدِ: اُدْخُلْ الْجَنَّةَ، وَيُقَالُ لِلْعَالِمِ:
اتَّئِدْ حَتَّى تَشْفَعَ لِلنَّاسِ.
وَمِنْ
آدَابِ الْعُلَمَاءِ أَنْ لاَ يَبْخَلُوا بِتَعْلِيمِ مَا يُحْسِنُونَ وَلاَ
يَمْتَنِعُوا مِنْ إفَادَةِ مَا يَعْلَمُونَ. فَإِنَّ الْبُخْلَ بِهِ لَوْمٌ
وَظُلْمٌ، وَالْمَنْعُ مِنْهُ حَسَدٌ وَإِثْمٌ. وَكَيْفَ يَسُوغُ لَهُمْ الْبُخْلُ
بِمَا مُنِحُوهُ جُودًا مِنْ غَيْرِ بُخْلٍ، وَأُوتُوهُ عَفْوًا مِنْ غَيْرِ
بَذْلٍ. أَمْ كَيْفَ يَجُوزُ لَهُمْ الشُّحُّ بِمَا إنْ بَذَلُوهُ زَادَ وَنَمَا،
وَإِنْ كَتَمُوهُ تَنَاقَصَ وَوَهِيَ. وَلَوْ اسْتَنَّ بِذَلِكَ مَنْ
تَقَدَّمَهُمْ لَمَا وَصَلَ الْعِلْمُ إلَيْهِمْ وَلاَنْقَرَضَ عَنْهُمْ بِانْقِرَاضِهِمْ،
وَلَصَارُوا عَلَى مُرُورِ الايَّامِ جُهَّالا، وَبِتَقَلُّبِ الاحْوَالِ
وَتَنَاقُصِهَا أَرْذَالا. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ
مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ}. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لاَ تَمْنَعُوا الْعِلْمَ أَهْلَهُ فَإِنَّ فِي
ذَلِكَ فَسَادَ دِينِكُمْ وَالْتِبَاسَ بَصَائِرِكُمْ، ثُمَّ قَرَأَ: {إنَّ
الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ
مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ
وَيَلْعَنُهُمْ اللاَعِنُونَ}}.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ كَتَمَ عِلْمًا يُحْسِنُهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ}. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَخَذَ اللَّهُ الْعَهْدَ عَلَى
أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا، حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ
الْعَهْدَ أَنْ يُعَلِّمُوا.
وَقَالَ
بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إذَا كَانَ مِنْ قَوَاعِدِ الْحِكْمَةِ بَذْلُ مَا
يَنْقُصُهُ الْبَذْلُ فَأَحْرَى أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوَاعِدِهَا بَذْلُ مَا
يَزِيدُهُ الْبَذْلُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَمَا أَنَّ الاسْتِفَادَةَ
نَافِلَةٌ لِلْمُتَعَلِّمِ، كَذَلِكَ الافَادَةُ فَرِيضَةٌ
عَلَى الْمُعَلِّمِ. وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: مَنْ كَتَمَ عِلْمًا
فَكَأَنَّهُ جَاهِلٌ.
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ: إنِّي
لاَفْرَحُ بِإِفَادَتِي الْمُتَعَلِّمَ أَكْثَرَ مِنْ فَرَحِي بِاسْتِفَادَتِي
مِنْ الْمُعَلِّمِ. ثُمَّ لَهُ بِالتَّعْلِيمِ نَفْعَانِ: أَحَدُهُمَا مَا
يَرْجُوهُ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى. فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه
وسلم التَّعْلِيمَ صَدَقَةً فَقَالَ: {تَصَدَّقُوا عَلَى أَخِيكُمْ بِعِلْمٍ
يُرْشِدُهُ، وَرَأْيٍ يُسَدِّدُهُ}.
وَرَوَى
ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {تَعَلَّمُوا
وَعَلِّمُوا فَإِنَّ أَجْرَ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ سَوَاءٌ}. قِيلَ: وَمَا
أَجْرُهُمَا ؟ قَالَ: مِائَةُ مَغْفِرَةٍ وَمِائَةُ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ.
وَالنَّفْعُ الثَّانِي: زِيَادَةُ الْعِلْمِ وَإِتْقَانُ الْحِفْظِ.
فَقَدْ
قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: اجْعَلْ تَعْلِيمَك دِرَاسَةً لِعِلْمِك،
وَاجْعَلْ مُنَاظَرَةَ الْمُتَعَلِّمِ تَنْبِيهًا عَلَى مَا لَيْسَ عِنْدَك.
وَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ فِي مَنْثُورِ
الْحِكَمِ: النَّارُ لاَ يَنْقُصُهَا مَا أُخِذَ مِنْهَا، وَلَكِنْ يُخْمِدُهَا
أَنْ لاَ تَجِدَ حَطَبًا. كَذَلِكَ
الْعِلْمُ لاَ يُفْنِيهِ الاقْتِبَاسُ، وَلَكِنَّ فَقْدَ الْحَامِلِينَ لَهُ
سَبَبُ عَدَمِهِ. فَإِيَّاكَ وَالْبُخْلَ بِمَا تَعْلَمُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: عَلِّمْ عِلْمَك
وَتَعَلَّمْ عِلْمَ غَيْرِك.
فَإِذَا
عَلِمْت مَا جَهِلْت، وَحَفِظْت مَا عَلِمْت، فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُتَعَلِّمِينَ
ضَرْبَانِ: مُسْتَدْعًى وَطَالِبٌ. فَأَمَّا الْمُسْتَدْعَى إلَى الْعِلْمِ فَهُوَ
مَنْ اسْتَدْعَاهُ الْعَالِمُ إلَى التَّعْلِيمِ لِمَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ جَوْدَةِ
ذَكَائِهِ، وَبَانَ لَهُ مِنْ قُوَّةِ خَاطِرِهِ. فَإِذَا وَافَقَ اسْتِدْعَاءُ
الْعَالِمِ شَهْوَةَ الْمُتَعَلِّمِ كَانَتْ نَتِيجَتُهَا دَرَكَ النُّجَبَاءِ،
وَظَفَرَ السُّعَدَاءِ؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ بِاسْتِدْعَائِهِ مُتَوَفِّرٌ،
وَالْمُتَعَلِّمُ بِشَهْوَتِهِ مُسْتَكْثِرٌ. وَأَمَّا طَالِبُ الْعِلْمِ لِدَاعٍ
يَدْعُوهُ، وَبَاعِثٍ يَحْدُوهُ، فَإِنْ كَانَ الدَّاعِي دِينِيًّا، وَكَانَ
الْمُتَعَلِّمُ فَطِنًا ذَكِيًّا، وَجَبَ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ
مُقْبِلاً وَعَلَى تَعْلِيمِهِ مُتَوَفِّرًا لاَ يُخْفِي عَلَيْهِ مَكْنُونًا،
وَلاَ يَطْوِي عَنْهُ مَخْزُونًا. وَإِنْ كَانَ بَلِيدًا بَعِيدَ الْفِطْنَةِ
فَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يُمْنَعَ مِنْ الْيَسِيرِ فَيَحْرُمُ، وَلاَ يُحْمَلَ
عَلَيْهِ بِالْكَثِيرِ فَيُظْلَمُ. وَلاَ يَجْعَلَ بَلاَدَتَهُ ذَرِيعَةً
لِحِرْمَانِهِ فَإِنَّ الشَّهْوَةَ بَاعِثَةٌ وَالصَّبْرَ مُؤَثِّرٌ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لاَ تَمْنَعُوا الْعِلْمَ أَهْلَهُ فَتَظْلِمُوا، وَلاَ
تَضَعُوهُ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ فَتَأْثَمُوا}.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: لاَ
تَمْنَعُوا الْعِلْمَ أَحَدًا فَإِنَّ الْعِلْمَ أَمْنَعُ لِجَانِبِهِ. فَأَمَّا
إنْ لَمْ يَكُنْ الدَّاعِي دِينِيًّا نَظَرَ فِيهِ فَإِنْ كَانَ مُبَاحًا،
كَرَجُلٍ دَعَاهُ إلَى طَلَبِ الْعِلْمِ حُبُّ النَّبَاهَةِ وَطَلَبُ الرِّئَاسَةِ
فَالْقَوْلُ فِيهِ يُقَارِبُ الْقَوْلَ الاوَّلَ فِي تَعْلِيمِ مَنْ
قَبِلَ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يُعَطِّفُهُ إلَى الدِّينِ فِي ثَانِي حَالٍ، وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ مُبْتَدِئًا بِهِ فِي أَوَّلِ حَالٍ.
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ
أَنَّهُ قَالَ: تَعَلَّمْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَبَى أَنْ
يَكُونَ الا لِلَّهِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ:
طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِلدُّنْيَا فَدَلَّنَا عَلَى تَرْكِ الدُّنْيَا. وَإِنْ
كَانَ الدَّاعِي مَحْظُورًا، كَرَجُلٍ دَعَاهُ إلَى طَلَبِ الْعِلْمِ شَرٌّ
كَامِنٌ، وَمَكَرٌ بَاطِنٌ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُمَا فِي شُبَهٍ دِينِيَّةٍ،
وَحِيَلٍ فِقْهِيَّةٍ، لاَ تَجِدُ أَهْلُ السَّلاَمَةِ مِنْهَا مُخَلِّصًا، وَلاَ
عَنْهَا مُدَافِعًا كَمَا قَالَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {أَهْلَكُ أُمَّتِي رَجُلاَنِ: عَالِمٌ فَاجِرٌ
وَجَاهِلٌ مُتَعَبِّدٌ.
وَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ
أَشَرُّ ؟ قَالَ: الْعُلَمَاءُ إذَا فَسَدُوا}. فَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ إذَا
رَأَى مَنْ هَذِهِ حَالُهُ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ طُلْبَتِهِ، وَيَصْرِفَهُ عَنْ
بُغْيَتِهِ. فَلاَ يُعِينُهُ عَلَى إمْضَاءِ مَكْرِهِ، وَإِعْمَالِ شَرِّهِ.
فَقَدْ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {وَاضِعُ الْعِلْمِ فِي غَيْرِ
أَهْلِهِ كَمُقَلِّدِ الْخَنَازِيرِ اللُّؤْلُؤَ وَالْجَوْهَرَ وَالذَّهَبَ}
. وَقَالَ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ -: لاَ تُلْقُوا
الْجَوْهَرَ لِلْخِنْزِيرِ فَالْعِلْمُ أَفْضَلُ مِنْ اللُّؤْلُؤِ، وَمَنْ لاَ
يَسْتَحِقُّهُ شَرٌّ مِنْ الْخِنْزِيرِ.
وَحُكِيَ أَنَّ تِلْمِيذًا سَأَلَ عَالِمًا عَنْ بَعْضِ
الْعُلُومِ فَلَمْ يُفِدْهُ، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ مَنَعْته ؟ فَقَالَ: لِكُلِّ
تُرْبَةٍ غَرْسٌ، وَلِكُلِّ بِنَاءٍ أُسٌّ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: لِكُلِّ
ثَوْبٍ لاَبِسٌ، وَلِكُلِّ عِلْمٍ قَابِسٌ.
وَقَالَ بَعْضُ الادَبَاءِ: إرْثِ لِرَوْضَةٍ
تَوَسَّطَهَا خِنْزِيرٌ، وَابْكِ لِعِلْمٍ حَوَاهُ شِرِّيرٌ. وَيَنْبَغِي أَنْ
يَكُونَ لِلْعَالِمِ فِرَاسَةٌ يَتَوَسَّمُ بِهَا الْمُتَعَلِّمَ لِيَعْرِفَ
مَبْلَغَ طَاقَتِهِ، وَقَدْرَ اسْتِحْقَاقِهِ لِيُعْطِيَهُ مَا يَتَحَمَّلُهُ
بِذَكَائِهِ، أَوْ يَضْعُفُ عَنْهُ بِبَلاَدَتِهِ فَإِنَّهُ أَرْوَحُ لِلْعَالِمِ،
وَأَنْجَحُ لِلْمُتَعَلِّمِ،
وَقَدْ
رَوَى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم: {إنَّ لِلَّهِ عِبَادًا يَعْرِفُونَ النَّاسَ بِالتَّوَسُّمِ}. وَقَالَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: إذَا أَنَا لَمْ أَعْلَمْ مَا لَمْ أَرَ
فَلاَ عَلِمْت مَا رَأَيْت.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: لاَ
عَاشَ بِخَيْرٍ مَنْ لَمْ يَرَ بِرَأْيِهِ مَا لَمْ يَرَ بِعَيْنَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ: أَلْمَعِيٌّ يَرَى
بِأَوَّلِ رَأْيٍ آخِرَ الامْرِ مِنْ وَرَاءِ الْمَغِيبِ لَوْذَعِيٌّ لَهُ فُؤَادٌ
ذَكِيٌّ مَا لَهُ فِي ذَكَائِهِ مِنْ ضَرِيبِ لاَ يَرْوِي وَلاَ يُقَلِّبُ طَرْفًا
وَأَكُفُّ الرِّجَالِ فِي تَقْلِيبِ وَإِذْ كَانَ الْعَالِمُ فِي تَوَسُّمِ
الْمُتَعَلِّمِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَكَانَ بِقَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ
خَبِيرًا، لَمْ يَضِعْ لَهُ عَنَاءٌ وَلَمْ يَخِبْ عَلَى يَدَيْهِ صَاحِبٌ. وَإِنْ
لَمْ يَتَوَسَّمُهُمْ وَخَفِيَتْ عَلَيْهِ
أَحْوَالُهُمْ وَمَبْلَغُ اسْتِحْقَاقِهِمْ كَانُوا وَإِيَّاهُ فِي عَنَاءٍ
مُكِدٍّ وَتَعَبٍ غَيْرِ مُجِدٍّ؛ لِأَنَّهُ لاَ يَعْدَمُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ
ذَكِيٌّ مُحْتَاجٌ إلَى الزِّيَادَةِ، وَبَلِيدٌ يَكْتَفِي بِالْقَلِيلِ
فَيَضْجَرُ الذَّكِيُّ مِنْهُ وَيَعْجِزُ الْبَلِيدُ عَنْهُ وَمَنْ يُرَدِّدُ
أَصْحَابَهُ بَيْنَ عَجْزٍ وَضَجَرٍ مَلُّوهُ وَمَلَّهُمْ.
وَقَدْ حَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَنَّ
سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى عليهما السلام:
يَا طَالِبَ الْعِلْمِ إنَّ الْقَائِلَ أَقَلُّ مَلاَلَةً مِنْ الْمُسْتَمِعِ
فَلاَ تُمِلَّ جُلَسَاءَك إذَا حَدَّثْتَهُمْ يَا مُوسَى، وَاعْلَمْ أَنَّ قَلْبَك
وِعَاءٌ فَانْظُرْ مَا تَحْشُو فِي وِعَائِك.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: خَيْرُ
الْعُلَمَاءِ مَنْ لاَ يُقِلُّ وَلاَ يُمِلُّ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كُلُّ
عِلْمٍ كَثُرَ عَلَى الْمُسْتَمِعِ وَلَمْ يُطَاوِعْهُ الْفَهْمُ ازْدَادَ
الْقَلْبُ بِهِ عَمًى. وَإِنَّمَا يَنْفَعُ سَمْعُ الاذَانِ، إذَا قَوِيَ فَهْمُ
الْقُلُوبِ فِي الابْدَانِ.
وَرُبَّمَا
كَانَ لِبَعْضِ السَّلاَطِينِ رَغْبَةٌ فِي الْعِلْمِ لِفَضِيلَةِ نَفْسِهِ،
وَكَرَمِ طَبْعِهِ فَلاَ يَجْعَلُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً فِي الانْبِسَاطِ عِنْدَهُ،
وَالادْلاَلِ عَلَيْهِ، بَلْ يُعْطَى مَا يَسْتَحِقُّهُ بِسُلْطَانِهِ وَعُلُوِّ
يَدِهِ. فَإِنَّ لِلسُّلْطَانِ حَقَّ الطَّاعَةِ وَالاعْظَامِ، وَلِلْعَالِمِ
حَقَّ الْقَبُولِ وَالاكْرَامِ. ثُمَّ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَبْتَدِئَهُ الا بَعْدَ
الاسْتِدْعَاءِ، وَلاَ يَزِيدَهُ عَلَى قَدْرِ الاكْتِفَاءِ، فَرُبَّمَا أَحَبَّ بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ إظْهَارَ عِلْمِهِ لِلسُّلْطَانِ فَأَكْثَرَهُ فَصَارَ ذَلِكَ
ذَرِيعَةً إلَى مَلَلٍ وَمُفْضِيًا إلَى بُعْدِهِ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ
مُتَقَسِّمُ الافْكَارِ مُسْتَوْعِبُ الزَّمَانِ، فَلَيْسَ لَهُ فِي الْعِلْمِ
فَرَاغُ الْمُنْقَطِعِينَ إلَيْهِ وَلاَ صَبْرُ الْمُنْفَرِدِينَ بِهِ.
وَقَدْ
حَكَى الاصْمَعِيُّ رحمه الله قَالَ: قَالَ لِي الرَّشِيدُ: يَا عَبْدَ الْمَلِكِ
أَنْتَ أَعْلَمُ مِنَّا وَنَحْنُ أَعْقَلُ مِنْك لاَ تُعَلِّمْنَا فِي مَلاَءٍ،
وَلاَ تُسْرِعْ إلَى تَذْكِيرِنَا فِي خَلاَءٍ، وَاتْرُكْنَا حَتَّى نَبْتَدِئَك
بِالسُّؤَالِ فَإِذَا بَلَغْت مِنْ الْجَوَابِ حَدَّ الاسْتِحْقَاقِ فَلاَ تَزِدْ
الا أَنْ يُسْتَدْعَى ذَلِكَ مِنْك، وَانْظُرْ إلَى مَا هُوَ أَلْطَفُ فِي
التَّأْدِيبِ، وَأَنْصَفُ فِي التَّعْلِيمِ، وَبَلِّغْ بِأَوْجَزِ لَفْظٍ غَايَةَ
التَّقْوِيمِ. وَلْيَخْرُجْ تَعْلِيمُهُ مَخْرَجَ الْمُذَاكَرَةِ وَالْمُحَاضَرَةِ
لاَ مَخْرَجَ التَّعْلِيمِ وَالافَادَةِ؛ لِأَنَّ لِتَأْخِيرِ التَّعَلُّمِ
خَجْلَةَ تَقْصِيرٍ يُجَلُّ السُّلْطَانُ عَنْهَا، فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ خَطَأٌ
أَوْ زَلَلٌ فِي قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ لَمْ يُجَاهِرْهُ بِالرَّدِّ وَعَرَّضَ
بِاسْتِدْرَاكِ زَلَلِهِ، وَإِصْلاَحِ خَلَلِهِ. وَحُكِيَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ
بْنَ مَرْوَانَ قَالَ لِلشَّعْبِيِّ: كَمْ عَطَاؤُك ؟ قَالَ: أَلْفَيْنِ. قَالَ:
لَحَنْتَ. قَالَ لَمَّا تَرَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الاعْرَابَ كَرِهْت أَنْ
أُعْرِبَ كَلاَمِي عَلَيْهِ. ثُمَّ
لِيَحْذَرْ اتِّبَاعَهُ فِيمَا يُجَانِبُ الدِّينَ وَيُضَادُّ الْحَقَّ
مُوَافَقَةً لِرَأْيِهِ وَمُتَابَعَةً لِهَوَاهُ، فَرُبَّمَا زَلَّتْ أَقْدَامُ
الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ رَغْبَةً أَوْ رَهْبَةً فَضَلُّوا، وَأَضَلُّوا مَعَ
سُوءِ الْعَاقِبَةِ وَقُبْحِ الاثَارِ.
وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رحمه الله
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: {لاَ تَزَالُ هَذِهِ الامَّةُ
تَحْتَ يَدِ اللَّهِ وَفِي كَنَفِهِ مَا لَمْ يُمَارِ قُرَّاؤُهَا أُمَرَاءَهَا،
وَلَمْ يُزْكِ صُلَحَاؤُهَا فُجَّارَهَا، وَلَمْ يُمَارِ أَخْيَارُهَا
أَشْرَارَهَا. فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ رَفَعَ عَنْهُمْ يَدَهُ ثُمَّ سَلَّطَ
عَلَيْهِمْ جَبَابِرَتَهُمْ فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، وَضَرَبَهُمْ
بِالْفَاقَةِ وَالْفَقْرِ وَمَلاَ قُلُوبَهُمْ رُعْبًا}.
وَمِنْ
آدَابِهِمْ: نَزَاهَةُ النَّفْسِ عَنْ شُبَهِ الْمَكَاسِبِ، وَالْقَنَاعَةُ
بِالْمَيْسُورِ عَنْ كَدِّ الْمَطَالِبِ. فَإِنَّ شُبْهَةَ الْمَكْسَبِ إثْمٌ
وَكَدَّ الطَّلَبِ ذُلٌّ، وَالاجْرُ أَجْدَرُ بِهِ مِنْ الاثْمِ وَالْعِزُّ
أَلْيَقُ بِهِ مِنْ الذُّلِّ.
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الادَبِ لِعَلِيِّ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْقَاضِي رحمه الله تعالى: يَقُولُونَ لِي فِيك
انْقِبَاضٌ وَإِنَّمَا رَأَوْا رَجُلاً عَنْ مَوْقِفِ الذُّلِّ أَحْجَمَا
أَرَى النَّاسَ مَنْ دَانَاهُمْ هَانَ
عِنْدَهُمْ **** وَمَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِمَا
وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ الْعِلْمِ إنْ كَانَ **** كُلَّمَا
بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِي سُلَّمَا
وَمَا
كُلُّ بَرْقٍ لاَحَ لِي يَسْتَفِزُّنِي **** وَلاَ كُلُّ مَنْ لاَقَيْت أَرْضَاهُ
مُنْعِمَا
إذَا
قِيلَ هَذَا مَنْهَلٌ قُلْت قَدْ أَرَى**** وَلَكِنَّ نَفْسَ الْحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَا
انْهَهَا
عَنْ بَعْضِ مَا لاَ يَشِينُهَا**** مَخَافَةَ أَقْوَالِ الْعِدَا فِيمَ أَوْ لِمَا
وَلَمْ أَبْتَذِلْ فِي خِدْمَةِ الْعِلْمِ
مُهْجَتِي**** لِأَخْدُمَ مَنْ لاَقَيْت
لَكِنْ لِأُخْدَمَا
أَأَشْقَى
بِهِ غَرْسًا وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً**** إذًا فَاتِّبَاعُ الْجَهْلِ قَدْ كَانَ
أَحْزَمَا
وَلَوْ
أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ**** وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا
وَلَكِنْ
أَهَانُوهُ فَهَانَ وَدَنَّسُوا **** مُحَيَّاهُ بِالاطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا
عَلَى
أَنَّ الْعِلْمَ عِوَضٌ مِنْ كُلِّ لَذَّةٍ، وَمُغْنٍ عَنْ كُلِّ شَهْوَةٍ. وَمَنْ
كَانَ صَادِقَ النِّيَّةِ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ هِمَّةٌ فِيمَا يَجِدُ بُدًّا
مِنْهُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: مَنْ تَفَرَّدَ
بِالْعِلْمِ لَمْ تُوحِشْهُ خَلْوَةٌ، وَمَنْ تَسَلَّى بِالْكُتُبِ لَمْ تَفُتْهُ
سَلْوَةٌ. وَمَنْ آنَسَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، لَمْ تُوحِشْهُ مُفَارَقَةُ
الاخْوَانِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لاَ سَمِيرَ كَالْعِلْمِ، وَلاَ ظَهِيرَ
كَالْحِلْمِ.
وَمِنْ
آدَابِهِمْ: أَنْ يَقْصِدُوا وَجْهَ اللَّهِ بِتَعْلِيمِ مَنْ عَلَّمُوا
وَيَطْلُبُوا ثَوَابَهُ بِإِرْشَادِ مَنْ
أَرْشَدُوا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَاضُوا عَلَيْهِ عِوَضًا، وَلاَ يَلْتَمِسُوا
عَلَيْهِ رِزْقًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا
قَلِيلاً} قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لاَ تَأْخُذُوا عَلَيْهِ أَجْرًا وَهُوَ
مَكْتُوبٌ عِنْدَهُمْ فِي الْكِتَابِ الاوَّلِ يَا ابْنَ آدَمَ عَلِّمْ مَجَّانًا
كَمَا عُلِّمْت مَجَّانًا. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ
قَالَ: {أَجْرُ الْمُعَلِّمِ كَأَجْرِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ}. وَحَسْبُ مَنْ
هَذَا أَجْرُهُ أَنْ يَلْتَمِسَ عَلَيْهِ أَجْرًا.