أَدَبُ الْعِلْمِ
من كتاب :
أدب الدنيا والدين - تأليف علي بن محمد بن حبيب الماوردي
اعْلَمْ أَنَّ
الْعِلْمَ أَشْرَفُ مَا رَغَّبَ فِيهِ الرَّاغِبُ، وَأَفْضَلُ مَا طَلَبَ وَجَدَّ
فِيهِ الطَّالِبُ، وَأَنْفَعُ مَا كَسَبَهُ وَاقْتَنَاهُ الْكَاسِبُ؛ لِأَنَّ
شَرَفَهُ يُثْمِرُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَفَضْلَهُ يُنْمِي عَلَى طَالِبِهِ. قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَاَلَّذِينَ لاَ
يَعْلَمُونَ} فَمَنَعَ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ لِمَا قَدْ
خُصَّ بِهِ الْعَالِمُ مِنْ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَعْقِلُهَا
الا الْعَالِمُونَ} فَنَفَى أَنْ يَكُونَ غَيْرُ الْعَالِمِ يَعْقِلُ عَنْهُ
أَمْرًا، أَوْ يَفْهَمُ مِنْهُ زَجْرًا. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم أَنَّهُ قَالَ: {أُوحِيَ إلَى إبْرَاهِيمَ عليه السلام أَنِّي عَلِيمٌ
أُحِبُّ كُلَّ عَلِيمٍ}. وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ قَالَ: {سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم عَنْ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا عَالِمٌ وَالاخَرُ عَابِدٌ
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى
أَدْنَاكُمْ رَجُلاً}. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: النَّاسُ
أَبْنَاءُ مَا يُحْسِنُونَ. وَقَالَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ: تَعَلَّمْ
الْعِلْمَ فَإِنْ يَكُنْ لَك مَالٌ كَانَ لَك جَمَالا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَك
مَالٌ كَانَ لَك مَالا. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ لِبَنِيهِ: يَا
بَنِيَّ تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ فَإِنْ كُنْتُمْ سَادَةً فُقْتُمْ، وَإِنْ كُنْتُمْ
وَسَطًا سُدْتُمْ، وَإِنْ كُنْتُمْ سُوقَةً عِشْتُمْ. وَقَالَ بَعْضُ
الْحُكَمَاءِ: الْعِلْمُ شَرَفٌ لاَ قَدْرَ لَهُ، وَالادَبُ مَالٌ لاَ خَوْفَ
عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُ الادَبَاءِ: الْعِلْمُ أَفْضَلُ خَلَفٍ، وَالْعَمَلُ
بِهِ أَكْمَلُ شَرَفٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: تَعَلَّمْ الْعِلْمَ
فَإِنَّهُ يُقَوِّمُك وَيُسَدِّدُك صَغِيرًا، وَيُقَدِّمُك وَيُسَوِّدُك كَبِيرًا،
وَيُصْلِحُ زَيْفَك وَفَاسِدَك، وَيُرْغِمُ عَدُوَّك وَحَاسِدَك، وَيُقَوِّمُ
عِوَجَك وَمَيْلَك، وَيُصَحِّحُ هِمَّتَك، وَأَمَلَك. وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله
تعالى عنه: قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُ. فَأَخَذَهُ الْخَلِيلُ
فَنَظَّمَهُ شَعْرًا فَقَالَ: لاَ يَكُونُ الْعَلِيُّ مِثْلَ الدَّنِيِّ لاَ وَلاَ
ذُو الذَّكَاءِ مِثْلَ الْغَبِيِّ قِيمَةُ الْمَرْءِ قَدْرُ مَا يُحْسِنُ
الْمَرْءُ قَضَاءٌ مِنْ الامَامِ عَلِيِّ وَلَيْسَ يَجْهَلُ فَضْلَ الْعِلْمِ الا
أَهْلُ الْجَهْلِ؛ لِأَنَّ فَضْلَ الْعِلْمِ إنَّمَا يُعْرَفُ
بِالْعِلْمِ.
وَهَذَا أَبْلَغُ فِي فَضْلِهِ؛ لِأَنَّ فَضْلَهُ لاَ يُعْلَمُ الا بِهِ. فَلَمَّا
عَدِمَ الْجُهَّالُ الْعِلْمَ الَّذِي بِهِ يَتَوَصَّلُونَ إلَى فَضْلِ الْعِلْمِ
جَهِلُوا فَضْلَهُ، وَاسْتَرْذَلُوا أَهْلَهُ، وَتَوَهَّمُوا أَنَّ مَا تَمِيلُ
إلَيْهِ نُفُوسُهُمْ مِنْ الامْوَالِ الْمُقْتَنَاةِ، وَالطُّرَفِ الْمُشْتَهَاةِ،
أَوْلَى أَنْ يَكُونَ إقْبَالُهُمْ عَلَيْهَا، وَأَحْرَى أَنْ يَكُونَ
اشْتِغَالُهُمْ بِهَا. وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ:
الْعَالِمُ يَعْرِفُ الْجَاهِلَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ جَاهِلاً، وَالْجَاهِلُ لاَ
يَعْرِفُ الْعَالِمَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا. وَهَذَا صَحِيحٌ،
وَلِأَجْلِهِ انْصَرَفُوا عَنْ الْعِلْمِ، وَأَهْلِهِ انْصِرَافَ الزَّاهِدِينَ،
وَانْحَرَفُوا عَنْهُ وَعَنْهُمْ انْحِرَافَ الْمُعَانِدِينَ؛ لِأَنَّ مَنْ جَهِلَ
شَيْئًا عَادَاهُ. وَأَنْشَدَنِي ابْنُ لَنْكَكَ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ دُرَيْدٍ: جَهِلْت
فَعَادَيْت الْعُلُومَ وَأَهْلَهَا كَذَاك يُعَادِي الْعِلْمَ مَنْ هُوَ جَاهِلُهْ
وَمَنْ كَانَ يَهْوَى أَنْ يُرَى مُتَصَدِّرًا وَيَكْرَهُ لاَ أَدْرِي أُصِيبَتْ
مَقَاتِلُهْ وَقِيلَ لِبَزَرْجَمْهَرَ: الْعِلْمُ أَفْضَلُ أَمْ الْمَالُ ؟
فَقَالَ: بَلْ الْعِلْمُ. قِيلَ: فَمَا بَالُنَا نَرَى الْعُلَمَاءَ عَلَى
أَبْوَابِ الاغْنِيَاءِ وَلاَ نَكَادُ نَرَى الاغْنِيَاءَ عَلَى أَبْوَابِ
الْعُلَمَاءِ ؟ فَقَالَ: ذَلِكَ لِمَعْرِفَةِ الْعُلَمَاءِ بِمَنْفَعَةِ الْمَالِ
وَجَهْلِ الاغْنِيَاءِ لِفَضْلِ الْعِلْمِ. وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ: لِمَ
لاَ يَجْتَمِعُ الْعِلْمُ وَالْمَالُ ؟ فَقَالَ: لِعِزِّ الْكَمَالِ. فَأَنْشَدْت
لِبَعْضِ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ: وَفِي الْجَهْلِ قَبْلَ الْمَوْتِ مَوْتٌ
لِأَهْلِهِ فَأَجْسَامُهُمْ قَبْلَ الْقُبُورِ قُبُورُ وَإِنْ امْرَأً لَمْ يَحْيَ
بِالْعِلْمِ مَيِّتٌ فَلَيْسَ لَهُ حَتَّى النُّشُورِ نُشُورُ وَوَقَفَ بَعْضُ
الْمُتَعَلِّمِينَ بِبَابِ عَالِمٍ ثُمَّ نَادَى: تَصَدَّقُوا عَلَيْنَا بِمَا لاَ يُتْعِبُ ضِرْسًا، وَلاَ
يُسْقِمُ نَفْسًا. فَأَخْرَجَ لَهُ طَعَامًا وَنَفَقَةً. فَقَالَ: فَاقَتِي إلَى
كَلاَمِكُمْ، أَشَدُّ مِنْ فَاقَتِي إلَى طَعَامِكُمْ، إنِّي طَالِبُ هُدًى لاَ
سَائِلُ نَدًى. فَأَذِنَ لَهُ الْعَالِمُ، وَأَفَادَهُ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلَ
عَنْهُ فَخَرَجَ جَذِلاً فَرِحًا، وَهُوَ يَقُولُ: عِلْمٌ أَوْضَحَ لَبْسًا،
خَيْرٌ مِنْ مَالٍ أَغْنَى نَفْسًا. وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ الْعُلُومِ شَرِيفَةٌ،
وَلِكُلِّ عِلْمٍ مِنْهَا فَضِيلَةٌ، وَالاحَاطَةُ بِجَمِيعِهَا مُحَالٌ. قِيلَ
لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ: مَنْ يَعْرِفُ كُلَّ الْعُلُومِ ؟ فَقَالَ: كُلُّ
النَّاسِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: مَنْ ظَنَّ
أَنَّ لِلْعِلْمِ غَايَةً فَقَدْ بَخَسَهُ
حَقَّهُ، وَوَضَعَهُ فِي غَيْرِ مَنْزِلَتِهِ الَّتِي وَصَفَهُ اللَّهُ بِهَا
حَيْثُ يَقُولُ: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ الا قَلِيلاً}. وَقَالَ بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ: لَوْ كُنَّا نَطْلُبُ الْعِلْمَ لِنَبْلُغَ غَايَتَهُ كُنَّا قَدْ
بَدَأْنَا الْعِلْمَ بِالنَّقِيصَةِ، وَلَكِنَّا نَطْلُبُهُ لِنَنْقُصَ فِي كُلِّ
يَوْمٍ مِنْ الْجَهْلِ وَنَزْدَادَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ الْعِلْمِ. وَقَالَ
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُتَعَمِّقُ فِي الْعِلْمِ كَالسَّابِحِ فِي الْبَحْرِ
لَيْسَ يَرَى أَرْضًا، وَلاَ يَعْرِف طُولاً وَلاَ عَرْضًا. وَقِيلَ لِحَمَّادٍ
الرَّاوِيَةِ: أَمَا تَشْبَعُ مِنْ هَذِهِ الْعُلُومِ ؟ فَقَالَ: اسْتَفْرَغْنَا
فِيهَا الْمَجْهُودَ، فَلَمْ نَبْلُغْ مِنْهَا الْمَحْدُودَ، فَنَحْنُ كَمَا قَالَ
الشَّاعِرُ: إذَا قَطَعْنَا عِلْمًا بَدَا عِلْمُ وَأَنْشَدَ الرَّشِيدُ عَنْ
الْمَهْدِيِّ بَيْتَيْنِ وَقَالَ أَظُنُّهُمَا لَهُ: يَا نَفْسُ خُوضِي
بِحَارَ الْعِلْمِ أَوْ غُوصِي فَالنَّاسُ مَا بَيْنَ مَعْمُومٍ وَمَخْصُوصِ لاَ
شَيْءَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا نُحِيطُ بِهِ الا إحَاطَةَ مَنْقُوصٍ بِمَنْقُوصِ>
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ
إلَى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ الْعُلُومِ سَبِيلٌ وَجَبَ صَرْفُ الاهْتِمَامِ إلَى
مَعْرِفَةِ أَهَمِّهَا وَالْعِنَايَةِ بِأَوْلاَهَا، وَأَفْضَلِهَا. وَأَوْلَى
الْعُلُومِ، وَأَفْضَلُهَا عِلْمُ الدِّينِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ بِمَعْرِفَتِهِ
يَرْشُدُونَ، وَبِجَهْلِهِ يَضِلُّونَ. إذْ لاَ يَصِحُّ أَدَاءُ عِبَادَةٍ جَهِلَ
فَاعِلُهَا صِفَاتِ أَدَائِهَا، وَلَمْ يَعْلَمْ شُرُوطَ إجْزَائِهَا. وَلِذَلِكَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ {فَضْلُ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَضْلِ
الْعِبَادَةِ}. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يَبْعَثُ عَلَى
فَضْلِ الْعِبَادَةِ وَالْعِبَادَةُ مَعَ خُلُوِّ فَاعِلِهَا مِنْ الْعِلْمِ بِهَا
قَدْ لاَ تَكُونُ عِبَادَةً، فَلَزِمَ عِلْمُ الدِّينِ كُلَّ مُكَلَّفٍ.
وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ: صلى الله عليه وسلم {طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ
عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ.} وَفِيهِ تَأْوِيلاَنِ: أَحَدُهُمَا: عِلْمُ مَا لاَ يَسَعُ
جَهْلُهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ. وَالثَّانِي: جُمْلَةُ الْعِلْمِ إذَا لَمْ يَقُمْ
بِطَلَبِهِ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ. وَإِذَا كَانَ عِلْمُ الدِّينِ قَدْ أَوْجَبَ
اللَّهُ تَعَالَى فَرْضَ بَعْضِهِ عَلَى الاعْيَانِ، وَفَرْضَ جَمِيعِهِ عَلَى
الْكَافَّةِ كَانَ أَوْلَى مِمَّا لَمْ يَجِبْ فَرْضُهُ عَلَى الاعْيَانِ وَلاَ
عَلَى الْكَافَّةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ
فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ
لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ {أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِمَجْلِسَيْنِ، أَحَدُهُمَا
يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى، وَالاخَرُ يَتَفَقَّهُونَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: كِلاَ الْمَجْلِسَيْنِ عَلَى خَيْرٍ، وَأَحَدُهُمَا أَحَبُّ
إلَيَّ مِنْ صَاحِبِهِ. أَمَّا هَؤُلاَءِ فَيَسْأَلُونَ اللَّهَ تَعَالَى
وَيَذْكُرُونَهُ فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ. وَأَمَّا
الْمَجْلِسُ الاخَرُ فَيَتَعَلَّمُونَ الْفِقْهَ وَيُعَلِّمُونَ الْجَاهِلَ.
وَإِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا وَجَلَسَ إلَى أَهْلِ الْفِقْهِ}. وَرَوَى
مَرْوَانُ بْنُ جَنَاحٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {الْخَيْرُ عَادَةٌ وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ وَمَنْ
يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ}. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {خِيَارُ أُمَّتِي عُلَمَاؤُهَا وَخِيَارُ
عُلَمَائِهَا فُقَهَاؤُهَا}. وَرَوَى مُعَاذُ بْنُ رِفَاعَةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُذْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: {لِيَحْمِل هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ
تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ}.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {عَلَيَّ
بِخُلَفَائِي. قَالُوا: وَمَنْ خُلَفَاؤُك ؟ قَالَ: الَّذِينَ يُحْيُونَ سُنَّتِي
وَيُعَلِّمُونَهَا عِبَادَ اللَّهِ}. وَرَوَى حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ حَقٌّ عَلَى
كُلِّ مُسْلِمٍ الا فَتَعَلَّمُوا وَعَلِّمُوا وَتَفَقَّهُوا وَلاَ تَمُوتُوا
جُهَّالا}. وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم قَالَ: {مَا عُبِدَ اللَّهُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ فِقْهٍ فِي
الدِّينِ، وَلَفَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ،
وَلِكُلِّ شَيْءٍ عِمَادٌ وَعِمَادُ الدِّينِ الْفِقْهُ}. وَرُبَّمَا مَالَ بَعْضُ
الْمُتَهَاوِنِينَ بِالدِّينِ إلَى الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَرَأَى أَنَّهَا
أَحَقُّ بِالْفَضِيلَةِ، وَأَوْلَى بِالتَّقْدِمَةِ اسْتِثْقَالا لِمَا
تَضَمَّنَهُ الدِّينُ مِنْ التَّكْلِيفِ، وَاسْتِرْذَالا لِمَا جَاءَ بِهِ
الشَّرْعُ مِنْ التَّعَبُّدِ وَالتَّوْقِيفِ. وَالْكَلاَمُ مَعَ مِثْلِ هَذَا فِي
أَصْلٍ، لاَ يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْفَصْلُ. وَلَنْ تَرَى ذَلِكَ فِيمَنْ
سَلِمَتْ فِطْنَتُهُ، وَصَحَّتْ رَوِيَّتُهُ
لِأَنَّ الْعَقْلَ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الانْسَانُ هَمَلاً أَوْ سُدًى.
يَعْتَمِدُونَ عَلَى آرَائِهِمْ الْمُخْتَلِفَةِ وَيَنْقَادُونَ لِأَهْوَائِهِمْ
الْمُتَشَعِّبَةِ لِمَا تُؤَوَّلُ إلَيْهِ أُمُورُهُمْ مِنْ الاخْتِلاَفِ
وَالتَّنَازُعِ، وَيُفْضِي إلَيْهِ أَحْوَالُهُمْ مِنْ التَّبَايُنِ
وَالتَّقَاطُعِ. فَلَمْ يَسْتَغْنُوا عَنْ دِينٍ يَتَأَلَّفُونَ بِهِ وَيَتَّفِقُونَ
عَلَيْهِ. ثُمَّ الْعَقْلُ مُوجِبٌ لَهُ أَوْ مَانِعٌ وَلَوْ تَصَوَّرَ هَذَا
الْمُخْتَلُّ التَّصَوُّرَ أَنَّ الدِّينَ ضَرُورَةٌ فِي الْعَقْلِ، وَأَنَّ
الْعَقْلَ فِي الدِّينِ أَصْلٌ، لَقَصَّرَ عَنْ التَّقْصِيرِ، وَأَذْعَنَ
لِلْحَقِّ وَلَكِنْ أَهْمَلَ نَفْسَهُ فَضَلَّ وَأَضَلَّ.
وَقَدْ يَتَعَلَّقُ
بِالدِّينِ عُلُومٌ قَدْ بَيَّنَ الشَّافِعِيُّ فَضِيلَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا
فَقَالَ: مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ عَظُمَتْ قِيمَتُهُ، وَمَنْ تَعَلَّمَ
الْفِقْهَ نَبُلَ مِقْدَارُهُ، وَمَنْ كَتَبَ الْحَدِيثَ قَوِيَتْ حُجَّتُهُ،
وَمَنْ تَعَلَّمَ الْحِسَابَ جَزَلَ رَأْيُهُ، وَمَنْ تَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ
رَقَّ طَبْعُهُ، وَمَنْ لَمْ يَصُنْ نَفْسَهُ لَمْ يَنْفَعْهُ عَمَلُهُ.
وَلَعَمْرِي إنَّ صِيَانَةَ النَّفْسِ أَصْلُ الْفَضَائِلِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَهْمَلَ
صِيَانَةَ نَفْسِهِ ثِقَةً بِمَا مَنَحَهُ الْعِلْمُ مِنْ فَضِيلَتِهِ،
وَتَوَكُّلاً عَلَى مَا يَلْزَمُ النَّاسَ مِنْ صِيَانَتِهِ، سَلَوْهُ فَضِيلَةَ
عِلْمِهِ وَوَسَمُوهُ بِقَبِيحِ تَبَذُّلِهِ، فَلَمْ يَفِ مَا أَعْطَاهُ الْعِلْمُ
بِمَا سَلَبَهُ التَّبَذُّلُ؛ لِأَنَّ الْقَبِيحَ أَنَمُّ مِنْ الْجَمِيلِ
وَالرَّذِيلَةُ أَشْهَرُ مِنْ الْفَضِيلَةِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لِمَا فِي
طَبَائِعِهِمْ مِنْ الْبِغْضَةِ وَالْحَسَدِ وَنِزَاعِ الْمُنَافَسَةِ تَنْصَرِفُ
عُيُونُهُمْ عَنْ الْمَحَاسِنِ إلَى الْمَسَاوِئِ، فَلاَ يُنْصِفُونَ مُحْسِنًا وَلاَ
يُحَابُونَ مُسِيئًا لاَ سِيَّمَا مَنْ كَانَ بِالْعِلْمِ مَوْسُومًا وَإِلَيْهِ
مَنْسُوبًا، فَإِنَّ زَلَّتَهُ لاَ تُقَالُ وَهَفْوَتَهُ لاَ تُعْذَرُ إمَّا
لِقُبْحِ أَثَرِهَا وَاغْتِرَارِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ بِهَا. وَقَدْ قِيلَ فِي
مَنْثُورِ الْحِكَمِ: إنَّ زَلَّةَ الْعَالِمِ كَالسَّفِينَةِ تَغْرَقُ وَيَغْرَقُ
مَعَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقِيلَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السلام مَنْ
أَشَدُّ النَّاسِ فِتْنَةً ؟ قَالَ: زَلَّةُ الْعَالِمِ إذَا زَلَّ زَلَّ
بِزَلَّتِهِ عَالَمٌ كَثِيرٌ. فَهَذَا وَجْهٌ. وَإِمَّا لِأَنَّ الْجُهَّالَ
بِذَمِّهِ أَغْرَى، وَعَلَى تَنَقُّصِهِ أَحْرَى؛ لِيَسْلُبُوهُ فَضِيلَةَ
التَّقَدُّمِ وَيَمْنَعُوهُ مُبَايِنَةَ التَّخْصِيصِ عِنَادًا لِمَا جَهِلُوهُ
وَمَقْتًا لِمَا بَايَنُوهُ؛ لِأَنَّ الْجَاهِلَ يَرَى الْعِلْمَ تَكَلُّفًا
وَلَوْمًا، كَمَا أَنَّ الْعَالِمَ يَرَى الْجَهْلَ تَخَلُّفًا وَذَمًّا.
وَأَنْشَدْت عَنْ الرَّبِيعِ لِلشَّافِعِيِّ رضي الله عنه: وَمَنْزِلَةُ
السَّفِيهِ مِنْ الْفَقِيهِ كَمَنْزِلَةِ الْفَقِيهِ مِنْ السَّفِيهِ فَهَذَا
زَاهِدٌ فِي قُرْبِ هَذَا وَهَذَا فِيهِ أَزْهَدُ مِنْهُ فِيهِ إذَا غَلَبَ
الشَّقَاءُ عَلَى سَفِيهٍ تَقَطَّعَ فِي مُخَالَفَةِ الْفَقِيهِ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ لِابْنِهِ:
عَلَيْك بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ الْعِلْمِ فَخُذْ مِنْهُ، فَإِنَّ الْمَرْءَ عَدُوُّ
مَا جَهِلَ، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَكُونَ عَدُوَّ شَيْءٍ مِنْ الْعِلْمِ،
وَأَنْشَدَ: تَفَنَّنْ وَخُذْ مِنْ كُلِّ عِلْمٍ فَإِنَّمَا يَفُوقُ امْرُؤٌ فِي
كُلِّ فَنٍّ لَهُ عِلْمُ فَأَنْتَ عَدُوٌّ لِلَّذِي أَنْتَ جَاهِلٌ بِهِ
وَلِعِلْمٍ أَنْتَ تُتْقِنُهُ سِلْمُ وَإِذَا صَانَ ذُو الْعِلْمِ نَفْسَهُ حَقَّ
صِيَانَتِهَا، وَلاَزَمَ فِعْلَ مَا يَلْزَمُهَا أَمِنَ تَعْيِيرَ الْمَوَالِي
وَتَنْقِيصَ الْمُعَادِي، وَجَمَعَ إلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ جَمِيلَ الصِّيَانَةِ
وَعِزَّ النَّزَاهَةِ فَصَارَ بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا
بِفَضَائِلِهِ. وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: {الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الانْبِيَاءِ لِأَنَّ الانْبِيَاءَ لَمْ
يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ}. وَرَوَى
أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {لِلْأَنْبِيَاءِ
عَلَى الْعُلَمَاءِ فَضْلُ دَرَجَتَيْنِ وَلِلْعُلَمَاءِ عَلَى الشُّهَدَاءِ
فَضْلُ دَرَجَةٍ}. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: إنَّ مِنْ الشَّرِيعَةِ أَنْ
تُجِلَّ أَهْلَ الشَّرِيعَةِ، وَمِنْ الصَّنِيعَةِ أَنْ تَرُبَّ حُسْنَ
الصَّنِيعَةِ. فَيَنْبَغِي لِمَنْ اسْتَدَلَّ بِفِطْرَتِهِ عَلَى اسْتِحْسَانِ
الْفَضَائِلِ، وَاسْتِقْبَاحِ الرَّذَائِلِ، أَنْ يَنْفِيَ عَنْ نَفْسِهِ
رَذَائِلَ الْجَهْلِ بِفَضَائِلِ الْعِلْمِ وَغَفْلَةَ الاهْمَالِ بِاسْتِيقَاظِ
الْمُعَانَاةِ، وَيَرْغَبَ فِي الْعِلْمِ رَغْبَةَ مُتَحَقِّقٍ لِفَضَائِلِهِ
وَاثِقٍ بِمَنَافِعِهِ، وَلاَ يُلْهِيهِ عَنْ طَلَبِهِ كَثْرَةُ مَالٍ وَجَدَهُ
وَلاَ نُفُوذُ أَمْرٍ وَعُلُوُّ مَنْزِلَةٍ. فَإِنَّ مَنْ نَفَذَ أَمْرُهُ فَهُوَ
إلَى الْعِلْمِ أَحْوَجُ، وَمَنْ عَلَتْ مَنْزِلَتُهُ فَهُوَ بِالْعِلْمِ أَحَقُّ.
وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:
{إنَّ الْحِكْمَةَ تَزِيدُ الشَّرِيفَ شَرَفًا، وَتَرْفَعُ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ
حَتَّى تُجْلِسَهُ مَجَالِسَ الْمُلُوكِ}. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الادَبَاءِ: كُلُّ
عِزٍّ لاَ يُوَطِّدُهُ عِلْمٌ مَذَلَّةٌ، وَكُلُّ عِلْمٍ لاَ يُؤَيِّدُهُ عَقْلٌ
مَضَلَّةٌ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ: إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِالنَّاسِ
خَيْرًا جَعَلَ الْعِلْمَ فِي مُلُوكِهِمْ، وَالْمُلْكَ فِي عُلَمَائِهِمْ.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: الْعِلْمُ عِصْمَةُ الْمُلُوكِ؛ لِأَنَّهُ
يَمْنَعُهُمْ مِنْ الظُّلْمِ، وَيَرُدُّهُمْ إلَى الْحِلْمِ، وَيَصُدُّهُمْ عَنْ
الاذِيَّةِ، وَيُعَطِّفُهُمْ عَلَى الرَّعِيَّةِ. فَمِنْ حَقِّهِمْ أَنْ
يَعْرِفُوا حَقَّهُ، وَيَسْتَبْطِنُوا أَهْلَهُ. فَأَمَّا الْمَالُ فَظِلٌّ
زَائِلٌ وَعَارِيَّةٌ مُسْتَرْجَعَةٌ وَلَيْسَ فِي كَثْرَتِهِ فَضِيلَةٌ،
وَلَوْ كَانَتْ فِيهِ فَضِيلَةٌ لَخَصَّ
اللَّهُ بِهِ مَنْ اصْطَفَاهُ لِرِسَالَتِهِ، وَاجْتَبَاهُ لِنُبُوَّتِهِ. وَقَدْ
كَانَ أَكْثَرُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ مَا خَصَّهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ
وَفَضَّلَهُمْ عَلَى سَائِرِ خَلْقِهِ، فُقَرَاءَ لاَ يَجِدُونَ بُلْغَةً وَلاَ
يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى صَارُوا فِي الْفَقْرِ مَثَلاً، فَقَالَ
الْبُحْتُرِيُّ: فَقْرٌ كَفَقْرِ الانْبِيَاءِ وَغُرْبَةٌ وَصَبَابَةٌ لَيْسَ
الْبَلاَءُ بِوَاحِدِ وَلِعَدَمِ الْفَضِيلَةِ فِي الْمَالِ مَنَحَهُ اللَّهُ
الْكَافِرَ وَحَرَمَهُ الْمُؤْمِنَ. قَالَ الشَّاعِرُ: كَمْ كَافِرٍ بِاَللَّهِ
أَمْوَالُهُ تَزْدَادُ أَضْعَافًا عَلَى كُفْرِهِ وَمُؤْمِنٍ لَيْسَ لَهُ دِرْهَمٌ
يَزْدَادُ إيمَانًا عَلَى فَقْرِهِ يَا لاَئِمَ الدَّهْرِ وَأَفْعَالِهِ
مُشْتَغِلاً يَزْرِي عَلَى دَهْرِهِ الدَّهْرُ مَأْمُورٌ لَهُ آمِرٌ يَنْصَرِفُ
الدَّهْرُ عَلَى أَمْرِهِ وَقَدْ بَيَّنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه
فَضْلَ مَا بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْمَالِ فَقَالَ: الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنْ الْمَالِ.
الْعِلْمُ يَحْرُسُك، وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالِ. الْعِلْمُ حَاكِمٌ وَالْمَالُ
مَحْكُومٌ عَلَيْهِ. مَاتَ خَزَّانُ الامْوَالِ وَبَقِيَ خَزَّانُ الْعِلْمِ
أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، وَأَشْخَاصُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ. وَسُئِلَ
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَيُّمَا أَفْضَلُ الْمَالُ أَمْ الْعِلْمُ ؟ فَقَالَ:
الْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَيُّمَا أَفْضَلُ الْمَالُ أَمْ الْعَقْلُ. وَقَالَ
صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ: لاَ خَيْرَ فِيمَنْ كَانَ خَيْرُ ثَنَائِهِ فِي
النَّاسِ قَوْلَهُمْ غَنِيٌّ وَاجِدُ>
وَرُبَّمَا امْتَنَعَ
الانْسَانُ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ لِكِبَرِ سِنِّهِ وَاسْتِحْيَائِهِ مِنْ
تَقْصِيرِهِ فِي صِغَرِهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ فِي كِبْرِهِ، فَرَضِيَ بِالْجَهْلِ
أَنْ يَكُونَ مَوْسُومًا بِهِ وَآثَرَهُ عَلَى الْعِلْمِ أَنْ يَصِيرَ مُبْتَدِئًا
بِهِ. وَهَذَا مِنْ خِدَعِ الْجَهْلِ وَغُرُورِ الْكَسَلِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ إذَا
كَانَ فَضِيلَةً فَرَغْبَةُ ذَوِي الاسْنَانِ فِيهِ أَوْلَى. وَالابْتِدَاءُ
بِالْفَضِيلَةِ فَضِيلَةٌ. وَلاَنْ يَكُونَ شَيْخًا مُتَعَلِّمًا أَوْلَى مِنْ
أَنْ يَكُونَ شَيْخًا جَاهِلاً. حُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْحُكَمَاءِ رَأَى شَيْخًا
كَبِيرًا يُحِبُّ النَّظَرَ فِي الْعِلْمِ وَيَسْتَحِي فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا
أَتَسْتَحِي أَنْ تَكُونَ فِي آخِرِ عُمُرِك أَفْضَلَ مِمَّا كُنْتَ فِي
أَوَّلِهِ، وَذُكِرَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ دَخَلَ عَلَى الْمَأْمُونِ
وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْفِقْهِ فَقَالَ: يَا عَمِّ مَا عِنْدَك فِيمَا يَقُولُ
هَؤُلاَءِ: فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ شَغَلُونَا فِي الصِّغَرِ
وَاشْتَغَلْنَا فِي الْكِبَرِ. فَقَالَ: لِمَ لاَ نَتَعَلَّمُهُ الْيَوْمَ ؟
قَالَ: أَوْ يَحْسُنُ بِمِثْلِي طَلَبُ الْعِلْمِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَاَللَّهِ
لاَنْ تَمُوتَ طَالِبًا لِلْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَعِيشَ قَانِعًا
بِالْجَهْلِ. قَالَ: وَإِلَى مَتَى يَحْسُنُ بِي طَلَبُ الْعِلْمِ ؟ قَالَ: مَا
حَسُنَتْ بِك الْحَيَاةُ؛ وَلِأَنَّ الصَّغِيرَ أَعَذْرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي
الْجَهْلِ عُذْرٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَطُلْ بِهِ مُدَّةُ التَّفْرِيطِ وَلاَ
اسْتَمَرَّتْ عَلَيْهِ أَيَّامُ الاهْمَالِ. وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ
الْحِكَمِ: جَهْلُ الصَّغِيرِ مَعْذُورٌ، وَعِلْمُهُ مَحْقُورٌ، فَأَمَّا الْكَبِيرُ
فَالْجَهْلُ بِهِ أَقْبَحُ، وَنَقْصُهُ عَلَيْهِ أَفْضَحُ؛ لِأَنَّ عُلُوَّ
السِّنِّ إذَا لَمْ يُكْسِبْهُ فَضْلاً وَلَمْ يُفِدْهُ عِلْمًا وَكَانَتْ
أَيَّامُهُ فِي الْجَهْلِ مَاضِيَةً، وَمِنْ الْفَضْلِ خَالِيَةً، كَانَ
الصَّغِيرُ أَفْضَلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الرَّجَاءَ لَهُ أَكْثَرُ، وَالامَلَ فِيهِ
أَظْهَرُ، وَحَسْبُك نَقْصًا فِي رَجُلٍ يَكُونُ الصَّغِيرُ الْمُسَاوِي لَهُ فِي
الْجَهْلِ أَفْضَلَ مِنْهُ. وَأَنْشَدْت لِبَعْضِ أَهْلِ الادَبِ: إذَا لَمْ
يَكُنْ مَرُّ السِّنِينَ مُتَرْجِمًا عَنْ الْفَضْلِ فِي الانْسَانِ سَمَّيْته
طِفْلاَ وَمَا تَنْفَعُ الايَّامُ حِينَ يَعُدُّهَا وَلَمْ يَسْتَفِدْ فِيهِنَّ
عِلْمًا وَلاَ فَضْلاَ أَرَى الدَّهْرَ مِنْ سُوءِ التَّصَرُّفِ مَائِلاً إلَى
كُلِّ ذِي جَهْلٍ كَأَنَّ بِهِ جَهْلاَ.
وَرُبَّمَا امْتَنَعَ
مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ لِتَعَذُّرِ الْمَادَّةِ وَشَغَلَهُ اكْتِسَابُهَا عَنْ
الْتِمَاسِ الْعِلْمِ. وَهَذَا، وَإِنْ كَانَ أَعْذَرَ مِنْ غَيْرِهِ مَعَ أَنَّهُ
قَلَّ مَا يَكُونُ ذَلِكَ الا عِنْدَ ذِي شَرَهٍ وَعَيْبٍ وَشَهْوَةٍ
مُسْتَعْبِدَةٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَصْرِفَ إلَى الْعِلْمِ حَظًّا مِنْ زَمَانِهِ.
فَلَيْسَ كُلُّ الزَّمَانِ زَمَانَ اكْتِسَابٍ. وَلاَ بُدَّ لِلْمُكْتَسِبِ مِنْ
أَوْقَاتِ اسْتِرَاحَةٍ، وَأَيَّامِ عُطْلَةٍ. وَمَنْ صَرَفَ كُلَّ نَفْسِهِ إلَى
الْكَسْبِ حَتَّى لَمْ يَتْرُكْ لَهَا فَرَاغًا إلَى غَيْرِهِ، فَهُوَ مِنْ
عَبِيدِ الدُّنْيَا، وَأُسَرَاءِ الْحِرْصِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لِكُلِّ شَيْءٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ
فَتْرَتُهُ إلَى الْعِلْمِ فَقَدْ نَجَا}. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {كُونُوا
عُلَمَاءَ صَالِحِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا عُلَمَاءَ صَالِحِينَ فَجَالِسُوا
الْعُلَمَاءَ وَاسْمَعُوا عِلْمًا يَدُلُّكُمْ عَلَى الْهُدَى، وَيَرُدُّكُمْ عَنْ
الرَّدَى}. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَنْ أَحَبَّ الْعِلْمَ أَحَاطَتْ بِهِ
فَضَائِلُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ صَاحَبَ الْعُلَمَاءِ وُقِّرَ،
وَمَنْ جَالَسَ السُّفَهَاءَ حُقِّرَ.
وَرُبَّمَا مَنَعَهُ
مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ مَا يَظُنُّهُ مِنْ
صُعُوبَتِهِ، وَبُعْدِ غَايَتِهِ، وَيَخْشَى مِنْ قِلَّةِ ذِهْنِهِ
وَبُعْدِ فِطْنَتِهِ. وَهَذَا الظَّنُّ اعْتِذَارُ ذَوِي النَّقْصِ وَخِيفَةُ
أَهْلِ الْعَجْزِ؛ لِأَنَّ الاخْبَارَ قَبْلَ الاخْتِبَارِ جَهْلٌ، وَالْخَشْيَةَ
قَبْلَ الابْتِلاَءِ عَجْزٌ. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: لاَ تَكُونَنَّ لِلْأُمُورِ
هَيُوبًا فَإِلَى خَيْبَةٍ يَصِيرُ الْهَيُوبُ وَقَالَ رَجُلٌ لِأَبِي هُرَيْرَةَ
رضي الله عنه: أُرِيدُ أَنْ أَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَأَخَافُ أَنْ أُضَيِّعَهُ.
فَقَالَ: كَفَى بِتَرْكِ الْعِلْمِ إضَاعَةٌ. وَلَيْسَ، وَإِنْ تَفَاضَلَتْ
الاذْهَانُ وَتَفَاوَتَتْ الْفَطِنُ، يَنْبَغِي لِمَنْ قَلَّ مِنْهَا حَظُّهُ أَنْ
يَيْأَسَ مِنْ نَيْلِ الْقَلِيلِ وَإِدْرَاكِ الْيَسِيرِ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ
مِنْ حَدِّ الْجَهَالَةِ إلَى أَدْنَى مَرَاتِبِ التَّخْصِيصِ. فَإِنَّ الْمَاءَ
مَعَ لِينِهِ يُؤَثِّرُ فِي صَمِّ الصُّخُورِ فَكَيْفَ لاَ يُؤَثِّرُ الْعِلْمُ
الزَّكِيُّ فِي نَفْسِ رَاغِبٍ شَهِيٍّ، وَطَالِبٍ خَلِيٍّ، لاَ سِيَّمَا
وَطَالِبُ الْعِلْمِ مُعَانٌ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {إنَّ الْمَلاَئِكَةَ
لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ}.
وَرُبَّمَا مَنَعَ
ذَا السَّفَاهَةِ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ أَنْ يُصَوِّرَ فِي نَفْسِهِ حِرْفَةَ
أَهْلِهِ وَتَضَايُقَ الامُورِ مَعَ الاشْتِغَالِ بِهِ حَتَّى يَسِمَهُمْ
بِالادْبَارِ وَيَتَوَسَّمَهُمْ بِالْحِرْمَانِ، فَإِنْ رَأَى مَحْبَرَةً
تَطَيَّرَ مِنْهَا وَإِنْ رَأَى كِتَابًا أَعْرَضَ عَنْهُ، وَإِنْ رَأَى
مُتَحَلِّيًا بِالْعِلْمِ هَرَبَ مِنْهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَرَ عَالِمًا مُقْبِلاً
وَجَاهِلاً مُدْبِرًا. وَلَقَدْ رَأَيْت مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ جَمَاعَةً ذَوِي
مَنَازِلِ، وَأَحْوَالٍ كُنْت أُخْفِي عَنْهُمْ مَا يَصْحَبُنِي مِنْ مَحْبَرَةٍ
وَكِتَابٍ لِئَلاَ أَكُونَ عِنْدَهُمْ مُسْتَثْقَلاً، وَإِنْ كَانَ الْبُعْدُ
عَنْهُمْ مُؤْنِسًا وَمُصْلِحًا، وَالْقُرْبُ مِنْهُمْ مُوحِشًا وَمُفْسِدًا.
فَقَدْ قَالَ بَزَرْجَمْهَرَ: الْجَهْلُ فِي الْقَلْبِ كَالنَّزِّ فِي الارْضِ،
يُفْسِدُ مَا حَوْلَهُ. لَكِنْ اتَّبَعْتُ فِيهِمْ الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ عَنْ
أَبِي الاشْعَثِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ ثَوْبَانَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {خَالِطُوا النَّاسَ بِأَخْلاَقِهِمْ وَخَالِفُوهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ}.
وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: رُبَّ جَهْلٍ وُقِيَتْ بِهِ عُلَمَاءُ،
وَسَفَهٍ حُمِيَتْ بِهِ حُلَمَاءُ. وَهَذِهِ الطَّبَقَةُ مِمَّنْ لاَ يُرْجَى
لَهَا صَلاَحٌ، وَلاَ يُؤْمَلُ لَهَا فَلاَحٌ. لِأَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ
الْعِلْمَ شَيْنٌ، وَأَنَّ تَرْكَهُ زَيْنٌ، وَأَنَّ لِلْجَهْلِ إقْبَالا
مُجْدِيًا، وَلِلْعِلْمِ إدْبَارًا مُكْدِيًا، كَانَ ضَلاَلُهُ مُسْتَحْكِمًا
وَرَشَادُهُ مُسْتَعْبَدَا، وَكَانَ هُوَ الْخَامِسُ الْهَالِكُ الَّذِي قَالَ
فِيهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: {اُغْدُ عَالِمًا أَوْ
مُتَعَلِّمًا أَوْ مُسْتَمِعًا أَوْ مُحِبًّا وَلاَ تَكُنْ الْخَامِسَ فَتَهْلِكَ}.
وَقَدْ رَوَاهُ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ
عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسْنَدًا وَلَيْسَ لِمَنْ هَذِهِ حَالُهُ: فِي الْعَذْلِ نَفْعٌ وَلاَ فِي
الاصْلاَحِ مَطْمَعٌ. وَقَدْ قِيلَ لِبَزَرْجَمْهَرَ: مَا لَكُمْ لاَ تُعَاتِبُونَ
الْجُهَّالَ ؟ فَقَالَ: إنَّا لاَ نُكَلِّفُ الْعُمْيَ أَنْ يُبْصِرُوا، وَلاَ
الصُّمَّ أَنْ يَسْمَعُوا. وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ الَّتِي تَنْفِرُ مِنْ الْعِلْمِ
هَذَا النُّفُورَ، وَتُعَانِدُ أَهْلَهُ هَذَا الْعِنَادَ، تَرَى الْعَقْلَ بِهَذِهِ
الْمَثَابَةِ وَتَنْفِرُ مِنْ الْعُقَلاَءِ هَذَا النُّفُورَ، وَتَعْتَقِدُ أَنَّ
الْعَاقِلَ مُحَارَفٌ، وَأَنَّ الاحْمَقَ مَحْظُوظٌ. وَنَاهِيكَ بِضَلاَلِ مَنْ
هَذَا اعْتِقَادُهُ فِي الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ هَلْ يَكُونُ لِخَيْرٍ أَهْلاً،
أَوْ لِفَضِيلَةٍ مَوْضِعًا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: أَخْبَثُ النَّاسِ
الْمُسَاوِي بَيْنَ الْمَحَاسِنِ وَالْمَسَاوِئِ؛ وَعِلَّةُ هَذَا أَنَّهُمْ
رُبَّمَا رَأَوْا عَاقِلاً غَيْرَ مَحْظُوظٍ، وَعَالِمًا غَيْرَ مَرْزُوقٍ،
فَظَنُّوا أَنَّ الْعِلْمَ وَالْعَقْلَ هُمَا السَّبَبُ فِي قِلَّةِ حَظِّهِ
وَرِزْقِهِ. وَقَدْ انْصَرَفَتْ عُيُونُهُمْ عَنْ حِرْمَانِ أَكْثَرِ النَّوْكَى
وَإِدْبَارِ أَكْثَرِ الْجُهَّالِ؛ لِأَنَّ فِي الْعُقَلاَءِ وَالْعُلَمَاءِ
قِلَّةً وَعَلَيْهِمْ مِنْ فَضْلِهِمْ سِمَةٌ. وَلِذَلِكَ قِيلَ: الْعُلَمَاءُ غُرَبَاءُ
لِكَثْرَةِ الْجُهَّالِ. فَإِذَا ظَهَرَتْ سِمَةُ فَضْلِهِمْ وَصَادَفَ ذَلِكَ
قِلَّةَ حَظِّ بَعْضِهِمْ تَنَوَّهُوا بِالتَّمْيِيزِ وَاشْتُهِرُوا
بِالتَّعْيِينِ، فَصَارُوا مَقْصُودِينَ بِإِشَارَةِ الْمُتَعَنِّتِينَ،
مَلْحُوظِينَ بِإِيمَاءِ الشَّامِتِينَ. وَالْجُهَّالُ وَالْحَمْقَى لَمَّا
كَثُرُوا وَلَمْ يَتَخَصَّصُوا انْصَرَفَتْ عَنْهُمْ النُّفُوسُ فَلَمْ يَلْحَظْ
الْمَحْرُومُ مِنْهُمْ بِطَرَفِ شَامِتٍ، وَلاَ قَصَدَ الْمَجْدُودُ مِنْهُمْ
بِإِشَارَةِ عَائِبٍ. فَلِذَلِكَ ظَنَّ الْجَاهِلُ الْمَرْزُوقُ أَنَّ الْفَقْرَ
وَالضِّيقَ مُخْتَصٌّ بِالْعِلْمِ، وَالْعَقْلَ دُونَ الْجَهْلِ وَالْحُمْقِ
وَلَوْ فَتَّشَتْ أَحْوَالَ الْعُلَمَاءِ وَالْعُقَلاَءِ، مَعَ قِلَّتِهِمْ،
لَوَجَدْت الاقْبَالَ فِي أَكْثَرِهِمْ. وَلَوْ اخْتَبَرْت أُمُورَ الْجُهَّالِ
وَالْحَمْقَى، مَعَ كَثْرَتِهِمْ، لَوَجَدَتْ الْحِرْمَانَ فِي أَكْثَرِهِمْ.
وَإِنَّمَا يَصِيرُ ذُو الْحَالِ الْوَاسِعَةِ مِنْهُمْ مَلْحُوظًا مُشْتَهِرًا؛
لِأَنَّ حَظَّهُ عَجِيبٌ وَإِقْبَالَهُ مُسْتَغْرَبٌ. كَمَا أَنَّ حِرْمَانَ
الْعَاقِلِ الْعَالِمِ غَرِيبٌ وَإِقْلاَلَهُ عَجِيبٌ. وَلَمْ تَزَلْ النَّاسُ
عَلَى سَالِفِ الدُّهُورِ مِنْ ذَلِكَ مُتَعَجِّبِينَ وَبِهِ مُعْتَبِرِينَ حَتَّى قِيلَ
لِبَزَرْجَمْهَرَ: مَا أَعْجَبُ الاشْيَاءِ ؟ فَقَالَ: نُجْحُ الْجَاهِلِ
وَإِكْدَاءُ الْعَاقِلِ. لَكِنَّ الرِّزْقَ بِالْحَظِّ وَالْجَدِّ، لاَ بِالْعِلْمِ
وَالْعَقْلِ، حِكْمَةً مِنْهُ تَعَالَى يَدُلُّ بِهَا عَلَى قُدْرَتِهِ
وَإِجْرَاءِ الامُورِ عَلَى مَشِيئَتِهِ. وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ: لَوْ
جَرَتْ الاقْسَامُ عَلَى قَدْرِ الْعُقُولِ لَمْ تَعِشْ الْبَهَائِمُ. فَنَظَمَهُ
أَبُو تَمَّامٍ فَقَالَ: يَنَالُ الْفَتَى مِنْ عَيْشِهِ وَهُوَ جَاهِلُ وَيُكْدِي
الْفَتَى مِنْ دَهْرِهِ وَهُوَ عَالِمُ وَلَوْ كَانَتْ الارْزَاقُ تَجْرِي عَلَى
الْحِجَا هَلَكْنَ إذَنْ مِنْ جَهْلِهِنَّ الْبَهَائِمُ وَقَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرِ بْنُ أَبِي
سُلْمَى: لَوْ كُنْت أَعْجَبُ مِنْ شَيْءِ لاَعْجَبَنِي سَعْيُ الْفَتَى وَهُوَ
مَخْبُوءٌ لَهُ الْقَدَرُ يَسْعَى الْفَتَى لِأُمُورٍ لَيْسَ يُدْرِكُهَا
وَالنَّفْسُ وَاحِدَةٌ وَالْهَمُّ مُنْتَشِرُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ وَالْعَقْلَ
سَعَادَةٌ وَإِقْبَالٌ، وَإِنْ قَلَّ مَعَهُمَا الْمَالُ، وَضَاقَتْ مَعَهُمَا
الْحَالُ. وَالْجَهْلَ وَالْحُمْقَ حِرْمَانٌ وَإِدْبَارٌ وَإِنْ كَثُرَ مَعَهُمَا
الْمَالُ، وَاتَّسَعَتْ فِيهِمَا الْحَالُ؛ لِأَنَّ السَّعَادَةَ لَيْسَتْ
بِكَثْرَةِ الْمَالِ فَكَمْ مِنْ مُكْثِرٍ شَقِيٌّ وَمُقِلٍّ سَعِيدٌ. وَكَيْفَ
يَكُونُ الْجَاهِلُ الْغَنِيُّ سَعِيدًا وَالْجَهْلُ يَضَعُهُ. أَمْ كَيْفَ
يَكُونُ الْعَالِمُ الْفَقِيرُ شَقِيًّا وَالْعِلْمُ يَرْفَعُهُ ؟ وَقَدْ قِيلَ
فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: كَمْ مِنْ ذَلِيلٍ أَعَزَّهُ عِلْمُهُ، وَمِنْ عَزِيزٍ
أَذَلَّهُ جَهْلُهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ: الْجَاهِلُ
كَرَوْضَةٍ عَلَى مَزْبَلَةٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: كُلَّمَا حَسُنَتْ
نِعْمَةُ الْجَاهِلِ ازْدَادَ قُبْحًا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِبَنِيهِ:
يَا بَنِيَّ تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ فَإِنْ لَمْ تَنَالُوا بِهِ مِنْ الدُّنْيَا
حَظًّا فَلاَنْ يُذَمَّ الزَّمَانُ لَكُمْ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يُذَمَّ
الزَّمَانُ بِكُمْ. وَقَالَ بَعْضُ الادَبَاءِ: مَنْ لَمْ يَفِدْ بِالْعِلْمِ
مَالا كَسَبَ بِهِ جَمَالا، وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَهْلِ الادَبِ لِابْنِ طَبَاطَبَا:
حَسُودٌ مَرِيضُ الْقَلْبِ يُخْفِي أَنِينَهُ وَيَضْحَى كَئِيبَ الْبَالِ عِنْدِي حَزِينَهُ يَلُومُ
عَلَيَّ أَنْ رُحْت لِلْعِلْمِ طَالِبًا أَجْمَعُ مِنْ عِنْدِ الرُّوَاةِ
فَنُونَهُ فَأَعْرِفُ أَبْكَارَ الْكَلاَمِ وَعَوْنَهُ وَأَحْفَظُ مِمَّا
أَسْتَفِيدُ عُيُونَهُ وَيَزْعُمُ أَنَّ الْعِلْمَ لاَ يُكْسِبُ الْغِنَى
وَيُحْسِنُ بِالْجَهْلِ الذَّمِيمِ ظُنُونَهُ فَيَا لاَئِمِي دَعْنِي أُغَالِي
بِقِيمَتِي فَقِيمَةُ كُلِّ النَّاسِ مَا يُحْسِنُونَهُ وَأَنَا أَسْتَعِيذُ
بِاَللَّهِ مِنْ خِدَعِ الْجَهْلِ الْمُذِلَّةِ، وَبَوَادِرِ الْحُمْقِ الْمُضِلَّةِ.
وَأَسْأَلُهُ السَّعَادَةَ بِعَقْلٍ رَادِعٍ يَسْتَقِيمُ بِهِ مَنْ زَلَّ،
وَعِلْمٍ نَافِعٍ يَسْتَهْدِي بِهِ مَنْ ضَلَّ. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: إذَا اسْتَرْذَلَ اللَّهُ عَبْدًا حَظَرَ عَلَيْهِ
الْعِلْمَ. فَيَنْبَغِي لِمَنْ زَهِدَ فِي الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ رَاغِبًا
وَلِمَنْ رَغِبَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ طَالِبًا، وَلِمَنْ طَلَبَهُ أَنْ
يَكُونَ مِنْهُ مُسْتَكْثَرًا، وَلِمَنْ اسْتَكْثَرَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ بِهِ
عَامِلاً، وَلاَ يَطْلُبُ لِتَرْكِهِ احْتِجَاجًا وَلاَ لِلتَّقْصِيرِ فِيهِ
عُذْرًا. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: فَلاَ
تَعْذِرَانِي فِي الاسَاءَةِ إنَّهُ شِرَارُ الرِّجَالِ مَنْ يُسِيءُ فَيُعْذَرُ
وَلاَ يُسَوِّفُ نَفْسَهُ بِالْمَوَاعِيدِ الْكَاذِبَةِ وَيُمَنِّيهَا
بِانْقِطَاعِ الاشْغَالِ الْمُتَّصِلَةِ، فَإِنَّ لِكُلِّ وَقْتٍ شُغْلاً
وَلِكُلِّ زَمَانٍ عُذْرًا. وَقَالَ الشَّاعِرُ: نَرُوحُ وَنَغْدُو لِحَاجَاتِنَا
وَحَاجَةُ مَنْ عَاشَ لاَ تَنْقَضِي تَمُوتُ مَعَ الْمَرْءِ حَاجَاتُهُ وَتَبْقَى
لَهُ حَاجَةٌ مَا بَقِيَ وَيَقْصِدُ طَلَبَ الْعِلْمِ وَاثِقًا بِتَيْسِيرِ
اللَّهِ قَاصِدًا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ وَعَزِيمَةٍ
صَادِقَةٍ. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:
{مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا لِغَيْرِ اللَّهِ وَأَرَادَ بِهِ غَيْرَ اللَّهِ
فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ}. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله
عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ قَبْلَ
أَنْ يُرْفَعَ، وَرَفْعُهُ ذَهَابُ أَهْلِهِ. فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَدْرِي
مَتَى يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَوْ مَتَى يَحْتَاجُ إلَى مَا عِنْدَهُ}.
وَلْيَحْذَرْ أَنْ
يَطْلُبَهُ لِمِرَاءٍ أَوْ رِيَاءٍ فَإِنَّ الْمُمَارِيَ بِهِ مَهْجُورٌ لاَ
يَنْتَفِعُ، وَالْمُرَائِيَ بِهِ مَحْقُورٌ لاَ يَرْتَفِعُ. وَرُوِيَ عَنْ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لاَ تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُمَارُوا
بِهِ السُّفَهَاءَ، وَلاَ
تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُجَادِلُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ
مِنْكُمْ فَالنَّارُ مَثْوَاهُ}. وَلَيْسَ الْمُمَارِي بِهِ هُوَ الْمُنَاظِرُ
فِيهِ طَلَبًا لِلصَّوَابِ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ الْقَاصِدُ لِدَفْعِ مَا يَرِدُ
عَلَيْهِ مِنْ فَاسِدٍ أَوْ صَحِيحٍ. وَفِيهِمْ جَاءَتْ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لاَ يُجَادِلُ الا مُنَافِقٌ أَوْ
مُرْتَابٌ}. وَقَالَ الاوْزَاعِيُّ: إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ شَرًّا
أَعْطَاهُمْ الْجَدَلَ، وَمَنَعَهُمْ
الْعَمَلَ. وَأَنْشَدَ الرِّيَاشِيُّ لِمُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أُجَادِلُ
كُلَّ مُعْتَرِضٍ ظَنِينِ وَأَجْعَلُ دِينَهُ غَرَضًا لِدِينِي وَأَتْرُكُ مَا
عَمِلْتُ لِرَأْيِ غَيْرِي وَلَيْسَ الرَّأْيُ كَالْعِلْمِ الْيَقِينِ وَمَا أَنَا
وَالْخُصُومَةُ وَهِيَ شَيْءٌ يُصْرَفُ فِي الشِّمَالِ وَفِي الْيَمِينِ فَأَمَّا
مَا عَلِمْت فَقَدْ كَفَانِي وَأَمَّا مَا جَهِلْت فَجَنِّبُونِي وَقَدْ بَيَّنَ
ذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ: لاَ يَمْنَعَنَّكَ حَذَرُ
الْمِرَاءِ مِنْ حُسْنِ الْمُنَاظَرَةِ، فَإِنَّ الْمُمَارِيَ هُوَ الَّذِي لاَ
يُرِيدُ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْهُ أَحَدٌ وَلاَ يَرْجُو أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ أَحَدٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ
لِكُلِّ مَطْلُوبٍ بَاعِثًا. وَالْبَاعِثُ عَلَى الْمَطْلُوبِ شَيْئَانِ: رَغْبَةٌ
أَوْ رَهْبَةٌ، فَلْيَكُنْ طَالِبُ الْعِلْمِ رَاغِبًا رَاهِبًا. أَمَّا
الرَّغْبَةُ فَفِي ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى لِطَالِبِي مَرْضَاتِهِ، وَحَافِظِي
مُفْتَرَضَاتِهِ. وَأَمَّا الرَّهْبَةُ فَمِنْ عِقَابِ اللَّهِ تَعَالَى
لِتَارِكِي أَوَامِرِهِ، وَمُهْمَلِي زَوَاجِرِهِ. فَإِذَا اجْتَمَعَتْ الرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ أَدَّيَا إلَى كُنْهِ
الْعِلْمِ وَحَقِيقَةِ الزُّهْدِ؛ لِأَنَّ الرَّغْبَةَ أَقْوَى الْبَاعِثَيْنِ
عَلَى الْعِلْمِ، وَالرَّهْبَةَ أَقْوَى السَّبَبَيْنِ فِي الزُّهْدِ. وَقَدْ
قَالَتْ الْحُكَمَاءُ: أَصْلُ الْعِلْمِ الرَّغْبَةُ وَثَمَرَتُهُ السَّعَادَةُ،
وَأَصْلُ الزُّهْدِ الرَّهْبَةُ وَثَمَرَتُهُ الْعِبَادَةُ فَإِذَا اقْتَرَنَ
الزُّهْدُ وَالْعِلْمُ فَقَدْ تَمَّتْ السَّعَادَةُ وَعَمَّتْ الْفَضِيلَةُ،
وَإِنْ افْتَرَقَا فَيَا وَيْحَ مُفْتَرَقَيْنِ مَا أَضَرَّ افْتِرَاقَهُمَا،
وَأَقْبَحَ انْفِرَادَهُمَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ ازْدَادَ فِي الْعِلْمِ رُشْدًا، فَلَمْ يَزْدَدْ فِي
الدُّنْيَا زُهْدًا، لَمْ يَزْدَدْ مِنْ اللَّهِ الا بُعْدًا}. وَقَالَ مَالِكُ
بْنُ دِينَارٍ: مَنْ لَمْ يُؤْتَ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَقْمَعُهُ، فَمَا أُوتِيَ
مِنْهُ لاَ يَنْفَعُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْفَقِيهُ بِغَيْرِ وَرَعٍ
كَالسِّرَاجِ يُضِيءُ الْبَيْتَ وَيُحْرِقُ نَفْسَهُ.
من كتاب :
أدب الدنيا والدين - تأليف علي بن محمد بن حبيب الماوردي
اعْلَمْ أَنَّ
الْعِلْمَ أَشْرَفُ مَا رَغَّبَ فِيهِ الرَّاغِبُ، وَأَفْضَلُ مَا طَلَبَ وَجَدَّ
فِيهِ الطَّالِبُ، وَأَنْفَعُ مَا كَسَبَهُ وَاقْتَنَاهُ الْكَاسِبُ؛ لِأَنَّ
شَرَفَهُ يُثْمِرُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَفَضْلَهُ يُنْمِي عَلَى طَالِبِهِ. قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَاَلَّذِينَ لاَ
يَعْلَمُونَ} فَمَنَعَ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ لِمَا قَدْ
خُصَّ بِهِ الْعَالِمُ مِنْ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَعْقِلُهَا
الا الْعَالِمُونَ} فَنَفَى أَنْ يَكُونَ غَيْرُ الْعَالِمِ يَعْقِلُ عَنْهُ
أَمْرًا، أَوْ يَفْهَمُ مِنْهُ زَجْرًا. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم أَنَّهُ قَالَ: {أُوحِيَ إلَى إبْرَاهِيمَ عليه السلام أَنِّي عَلِيمٌ
أُحِبُّ كُلَّ عَلِيمٍ}. وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ قَالَ: {سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم عَنْ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا عَالِمٌ وَالاخَرُ عَابِدٌ
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى
أَدْنَاكُمْ رَجُلاً}. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: النَّاسُ
أَبْنَاءُ مَا يُحْسِنُونَ. وَقَالَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ: تَعَلَّمْ
الْعِلْمَ فَإِنْ يَكُنْ لَك مَالٌ كَانَ لَك جَمَالا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَك
مَالٌ كَانَ لَك مَالا. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ لِبَنِيهِ: يَا
بَنِيَّ تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ فَإِنْ كُنْتُمْ سَادَةً فُقْتُمْ، وَإِنْ كُنْتُمْ
وَسَطًا سُدْتُمْ، وَإِنْ كُنْتُمْ سُوقَةً عِشْتُمْ. وَقَالَ بَعْضُ
الْحُكَمَاءِ: الْعِلْمُ شَرَفٌ لاَ قَدْرَ لَهُ، وَالادَبُ مَالٌ لاَ خَوْفَ
عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُ الادَبَاءِ: الْعِلْمُ أَفْضَلُ خَلَفٍ، وَالْعَمَلُ
بِهِ أَكْمَلُ شَرَفٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: تَعَلَّمْ الْعِلْمَ
فَإِنَّهُ يُقَوِّمُك وَيُسَدِّدُك صَغِيرًا، وَيُقَدِّمُك وَيُسَوِّدُك كَبِيرًا،
وَيُصْلِحُ زَيْفَك وَفَاسِدَك، وَيُرْغِمُ عَدُوَّك وَحَاسِدَك، وَيُقَوِّمُ
عِوَجَك وَمَيْلَك، وَيُصَحِّحُ هِمَّتَك، وَأَمَلَك. وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله
تعالى عنه: قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُ. فَأَخَذَهُ الْخَلِيلُ
فَنَظَّمَهُ شَعْرًا فَقَالَ: لاَ يَكُونُ الْعَلِيُّ مِثْلَ الدَّنِيِّ لاَ وَلاَ
ذُو الذَّكَاءِ مِثْلَ الْغَبِيِّ قِيمَةُ الْمَرْءِ قَدْرُ مَا يُحْسِنُ
الْمَرْءُ قَضَاءٌ مِنْ الامَامِ عَلِيِّ وَلَيْسَ يَجْهَلُ فَضْلَ الْعِلْمِ الا
أَهْلُ الْجَهْلِ؛ لِأَنَّ فَضْلَ الْعِلْمِ إنَّمَا يُعْرَفُ
بِالْعِلْمِ.
وَهَذَا أَبْلَغُ فِي فَضْلِهِ؛ لِأَنَّ فَضْلَهُ لاَ يُعْلَمُ الا بِهِ. فَلَمَّا
عَدِمَ الْجُهَّالُ الْعِلْمَ الَّذِي بِهِ يَتَوَصَّلُونَ إلَى فَضْلِ الْعِلْمِ
جَهِلُوا فَضْلَهُ، وَاسْتَرْذَلُوا أَهْلَهُ، وَتَوَهَّمُوا أَنَّ مَا تَمِيلُ
إلَيْهِ نُفُوسُهُمْ مِنْ الامْوَالِ الْمُقْتَنَاةِ، وَالطُّرَفِ الْمُشْتَهَاةِ،
أَوْلَى أَنْ يَكُونَ إقْبَالُهُمْ عَلَيْهَا، وَأَحْرَى أَنْ يَكُونَ
اشْتِغَالُهُمْ بِهَا. وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ:
الْعَالِمُ يَعْرِفُ الْجَاهِلَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ جَاهِلاً، وَالْجَاهِلُ لاَ
يَعْرِفُ الْعَالِمَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا. وَهَذَا صَحِيحٌ،
وَلِأَجْلِهِ انْصَرَفُوا عَنْ الْعِلْمِ، وَأَهْلِهِ انْصِرَافَ الزَّاهِدِينَ،
وَانْحَرَفُوا عَنْهُ وَعَنْهُمْ انْحِرَافَ الْمُعَانِدِينَ؛ لِأَنَّ مَنْ جَهِلَ
شَيْئًا عَادَاهُ. وَأَنْشَدَنِي ابْنُ لَنْكَكَ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ دُرَيْدٍ: جَهِلْت
فَعَادَيْت الْعُلُومَ وَأَهْلَهَا كَذَاك يُعَادِي الْعِلْمَ مَنْ هُوَ جَاهِلُهْ
وَمَنْ كَانَ يَهْوَى أَنْ يُرَى مُتَصَدِّرًا وَيَكْرَهُ لاَ أَدْرِي أُصِيبَتْ
مَقَاتِلُهْ وَقِيلَ لِبَزَرْجَمْهَرَ: الْعِلْمُ أَفْضَلُ أَمْ الْمَالُ ؟
فَقَالَ: بَلْ الْعِلْمُ. قِيلَ: فَمَا بَالُنَا نَرَى الْعُلَمَاءَ عَلَى
أَبْوَابِ الاغْنِيَاءِ وَلاَ نَكَادُ نَرَى الاغْنِيَاءَ عَلَى أَبْوَابِ
الْعُلَمَاءِ ؟ فَقَالَ: ذَلِكَ لِمَعْرِفَةِ الْعُلَمَاءِ بِمَنْفَعَةِ الْمَالِ
وَجَهْلِ الاغْنِيَاءِ لِفَضْلِ الْعِلْمِ. وَقِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ: لِمَ
لاَ يَجْتَمِعُ الْعِلْمُ وَالْمَالُ ؟ فَقَالَ: لِعِزِّ الْكَمَالِ. فَأَنْشَدْت
لِبَعْضِ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ: وَفِي الْجَهْلِ قَبْلَ الْمَوْتِ مَوْتٌ
لِأَهْلِهِ فَأَجْسَامُهُمْ قَبْلَ الْقُبُورِ قُبُورُ وَإِنْ امْرَأً لَمْ يَحْيَ
بِالْعِلْمِ مَيِّتٌ فَلَيْسَ لَهُ حَتَّى النُّشُورِ نُشُورُ وَوَقَفَ بَعْضُ
الْمُتَعَلِّمِينَ بِبَابِ عَالِمٍ ثُمَّ نَادَى: تَصَدَّقُوا عَلَيْنَا بِمَا لاَ يُتْعِبُ ضِرْسًا، وَلاَ
يُسْقِمُ نَفْسًا. فَأَخْرَجَ لَهُ طَعَامًا وَنَفَقَةً. فَقَالَ: فَاقَتِي إلَى
كَلاَمِكُمْ، أَشَدُّ مِنْ فَاقَتِي إلَى طَعَامِكُمْ، إنِّي طَالِبُ هُدًى لاَ
سَائِلُ نَدًى. فَأَذِنَ لَهُ الْعَالِمُ، وَأَفَادَهُ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلَ
عَنْهُ فَخَرَجَ جَذِلاً فَرِحًا، وَهُوَ يَقُولُ: عِلْمٌ أَوْضَحَ لَبْسًا،
خَيْرٌ مِنْ مَالٍ أَغْنَى نَفْسًا. وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ الْعُلُومِ شَرِيفَةٌ،
وَلِكُلِّ عِلْمٍ مِنْهَا فَضِيلَةٌ، وَالاحَاطَةُ بِجَمِيعِهَا مُحَالٌ. قِيلَ
لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ: مَنْ يَعْرِفُ كُلَّ الْعُلُومِ ؟ فَقَالَ: كُلُّ
النَّاسِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: مَنْ ظَنَّ
أَنَّ لِلْعِلْمِ غَايَةً فَقَدْ بَخَسَهُ
حَقَّهُ، وَوَضَعَهُ فِي غَيْرِ مَنْزِلَتِهِ الَّتِي وَصَفَهُ اللَّهُ بِهَا
حَيْثُ يَقُولُ: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ الا قَلِيلاً}. وَقَالَ بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ: لَوْ كُنَّا نَطْلُبُ الْعِلْمَ لِنَبْلُغَ غَايَتَهُ كُنَّا قَدْ
بَدَأْنَا الْعِلْمَ بِالنَّقِيصَةِ، وَلَكِنَّا نَطْلُبُهُ لِنَنْقُصَ فِي كُلِّ
يَوْمٍ مِنْ الْجَهْلِ وَنَزْدَادَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ الْعِلْمِ. وَقَالَ
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُتَعَمِّقُ فِي الْعِلْمِ كَالسَّابِحِ فِي الْبَحْرِ
لَيْسَ يَرَى أَرْضًا، وَلاَ يَعْرِف طُولاً وَلاَ عَرْضًا. وَقِيلَ لِحَمَّادٍ
الرَّاوِيَةِ: أَمَا تَشْبَعُ مِنْ هَذِهِ الْعُلُومِ ؟ فَقَالَ: اسْتَفْرَغْنَا
فِيهَا الْمَجْهُودَ، فَلَمْ نَبْلُغْ مِنْهَا الْمَحْدُودَ، فَنَحْنُ كَمَا قَالَ
الشَّاعِرُ: إذَا قَطَعْنَا عِلْمًا بَدَا عِلْمُ وَأَنْشَدَ الرَّشِيدُ عَنْ
الْمَهْدِيِّ بَيْتَيْنِ وَقَالَ أَظُنُّهُمَا لَهُ: يَا نَفْسُ خُوضِي
بِحَارَ الْعِلْمِ أَوْ غُوصِي فَالنَّاسُ مَا بَيْنَ مَعْمُومٍ وَمَخْصُوصِ لاَ
شَيْءَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا نُحِيطُ بِهِ الا إحَاطَةَ مَنْقُوصٍ بِمَنْقُوصِ>
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ
إلَى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ الْعُلُومِ سَبِيلٌ وَجَبَ صَرْفُ الاهْتِمَامِ إلَى
مَعْرِفَةِ أَهَمِّهَا وَالْعِنَايَةِ بِأَوْلاَهَا، وَأَفْضَلِهَا. وَأَوْلَى
الْعُلُومِ، وَأَفْضَلُهَا عِلْمُ الدِّينِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ بِمَعْرِفَتِهِ
يَرْشُدُونَ، وَبِجَهْلِهِ يَضِلُّونَ. إذْ لاَ يَصِحُّ أَدَاءُ عِبَادَةٍ جَهِلَ
فَاعِلُهَا صِفَاتِ أَدَائِهَا، وَلَمْ يَعْلَمْ شُرُوطَ إجْزَائِهَا. وَلِذَلِكَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ {فَضْلُ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَضْلِ
الْعِبَادَةِ}. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يَبْعَثُ عَلَى
فَضْلِ الْعِبَادَةِ وَالْعِبَادَةُ مَعَ خُلُوِّ فَاعِلِهَا مِنْ الْعِلْمِ بِهَا
قَدْ لاَ تَكُونُ عِبَادَةً، فَلَزِمَ عِلْمُ الدِّينِ كُلَّ مُكَلَّفٍ.
وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ: صلى الله عليه وسلم {طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ
عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ.} وَفِيهِ تَأْوِيلاَنِ: أَحَدُهُمَا: عِلْمُ مَا لاَ يَسَعُ
جَهْلُهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ. وَالثَّانِي: جُمْلَةُ الْعِلْمِ إذَا لَمْ يَقُمْ
بِطَلَبِهِ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ. وَإِذَا كَانَ عِلْمُ الدِّينِ قَدْ أَوْجَبَ
اللَّهُ تَعَالَى فَرْضَ بَعْضِهِ عَلَى الاعْيَانِ، وَفَرْضَ جَمِيعِهِ عَلَى
الْكَافَّةِ كَانَ أَوْلَى مِمَّا لَمْ يَجِبْ فَرْضُهُ عَلَى الاعْيَانِ وَلاَ
عَلَى الْكَافَّةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ
فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ
لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ {أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِمَجْلِسَيْنِ، أَحَدُهُمَا
يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى، وَالاخَرُ يَتَفَقَّهُونَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: كِلاَ الْمَجْلِسَيْنِ عَلَى خَيْرٍ، وَأَحَدُهُمَا أَحَبُّ
إلَيَّ مِنْ صَاحِبِهِ. أَمَّا هَؤُلاَءِ فَيَسْأَلُونَ اللَّهَ تَعَالَى
وَيَذْكُرُونَهُ فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ. وَأَمَّا
الْمَجْلِسُ الاخَرُ فَيَتَعَلَّمُونَ الْفِقْهَ وَيُعَلِّمُونَ الْجَاهِلَ.
وَإِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا وَجَلَسَ إلَى أَهْلِ الْفِقْهِ}. وَرَوَى
مَرْوَانُ بْنُ جَنَاحٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {الْخَيْرُ عَادَةٌ وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ وَمَنْ
يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ}. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {خِيَارُ أُمَّتِي عُلَمَاؤُهَا وَخِيَارُ
عُلَمَائِهَا فُقَهَاؤُهَا}. وَرَوَى مُعَاذُ بْنُ رِفَاعَةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُذْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: {لِيَحْمِل هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ
تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ}.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {عَلَيَّ
بِخُلَفَائِي. قَالُوا: وَمَنْ خُلَفَاؤُك ؟ قَالَ: الَّذِينَ يُحْيُونَ سُنَّتِي
وَيُعَلِّمُونَهَا عِبَادَ اللَّهِ}. وَرَوَى حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ حَقٌّ عَلَى
كُلِّ مُسْلِمٍ الا فَتَعَلَّمُوا وَعَلِّمُوا وَتَفَقَّهُوا وَلاَ تَمُوتُوا
جُهَّالا}. وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم قَالَ: {مَا عُبِدَ اللَّهُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ فِقْهٍ فِي
الدِّينِ، وَلَفَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ،
وَلِكُلِّ شَيْءٍ عِمَادٌ وَعِمَادُ الدِّينِ الْفِقْهُ}. وَرُبَّمَا مَالَ بَعْضُ
الْمُتَهَاوِنِينَ بِالدِّينِ إلَى الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَرَأَى أَنَّهَا
أَحَقُّ بِالْفَضِيلَةِ، وَأَوْلَى بِالتَّقْدِمَةِ اسْتِثْقَالا لِمَا
تَضَمَّنَهُ الدِّينُ مِنْ التَّكْلِيفِ، وَاسْتِرْذَالا لِمَا جَاءَ بِهِ
الشَّرْعُ مِنْ التَّعَبُّدِ وَالتَّوْقِيفِ. وَالْكَلاَمُ مَعَ مِثْلِ هَذَا فِي
أَصْلٍ، لاَ يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْفَصْلُ. وَلَنْ تَرَى ذَلِكَ فِيمَنْ
سَلِمَتْ فِطْنَتُهُ، وَصَحَّتْ رَوِيَّتُهُ
لِأَنَّ الْعَقْلَ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الانْسَانُ هَمَلاً أَوْ سُدًى.
يَعْتَمِدُونَ عَلَى آرَائِهِمْ الْمُخْتَلِفَةِ وَيَنْقَادُونَ لِأَهْوَائِهِمْ
الْمُتَشَعِّبَةِ لِمَا تُؤَوَّلُ إلَيْهِ أُمُورُهُمْ مِنْ الاخْتِلاَفِ
وَالتَّنَازُعِ، وَيُفْضِي إلَيْهِ أَحْوَالُهُمْ مِنْ التَّبَايُنِ
وَالتَّقَاطُعِ. فَلَمْ يَسْتَغْنُوا عَنْ دِينٍ يَتَأَلَّفُونَ بِهِ وَيَتَّفِقُونَ
عَلَيْهِ. ثُمَّ الْعَقْلُ مُوجِبٌ لَهُ أَوْ مَانِعٌ وَلَوْ تَصَوَّرَ هَذَا
الْمُخْتَلُّ التَّصَوُّرَ أَنَّ الدِّينَ ضَرُورَةٌ فِي الْعَقْلِ، وَأَنَّ
الْعَقْلَ فِي الدِّينِ أَصْلٌ، لَقَصَّرَ عَنْ التَّقْصِيرِ، وَأَذْعَنَ
لِلْحَقِّ وَلَكِنْ أَهْمَلَ نَفْسَهُ فَضَلَّ وَأَضَلَّ.
وَقَدْ يَتَعَلَّقُ
بِالدِّينِ عُلُومٌ قَدْ بَيَّنَ الشَّافِعِيُّ فَضِيلَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا
فَقَالَ: مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ عَظُمَتْ قِيمَتُهُ، وَمَنْ تَعَلَّمَ
الْفِقْهَ نَبُلَ مِقْدَارُهُ، وَمَنْ كَتَبَ الْحَدِيثَ قَوِيَتْ حُجَّتُهُ،
وَمَنْ تَعَلَّمَ الْحِسَابَ جَزَلَ رَأْيُهُ، وَمَنْ تَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ
رَقَّ طَبْعُهُ، وَمَنْ لَمْ يَصُنْ نَفْسَهُ لَمْ يَنْفَعْهُ عَمَلُهُ.
وَلَعَمْرِي إنَّ صِيَانَةَ النَّفْسِ أَصْلُ الْفَضَائِلِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَهْمَلَ
صِيَانَةَ نَفْسِهِ ثِقَةً بِمَا مَنَحَهُ الْعِلْمُ مِنْ فَضِيلَتِهِ،
وَتَوَكُّلاً عَلَى مَا يَلْزَمُ النَّاسَ مِنْ صِيَانَتِهِ، سَلَوْهُ فَضِيلَةَ
عِلْمِهِ وَوَسَمُوهُ بِقَبِيحِ تَبَذُّلِهِ، فَلَمْ يَفِ مَا أَعْطَاهُ الْعِلْمُ
بِمَا سَلَبَهُ التَّبَذُّلُ؛ لِأَنَّ الْقَبِيحَ أَنَمُّ مِنْ الْجَمِيلِ
وَالرَّذِيلَةُ أَشْهَرُ مِنْ الْفَضِيلَةِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لِمَا فِي
طَبَائِعِهِمْ مِنْ الْبِغْضَةِ وَالْحَسَدِ وَنِزَاعِ الْمُنَافَسَةِ تَنْصَرِفُ
عُيُونُهُمْ عَنْ الْمَحَاسِنِ إلَى الْمَسَاوِئِ، فَلاَ يُنْصِفُونَ مُحْسِنًا وَلاَ
يُحَابُونَ مُسِيئًا لاَ سِيَّمَا مَنْ كَانَ بِالْعِلْمِ مَوْسُومًا وَإِلَيْهِ
مَنْسُوبًا، فَإِنَّ زَلَّتَهُ لاَ تُقَالُ وَهَفْوَتَهُ لاَ تُعْذَرُ إمَّا
لِقُبْحِ أَثَرِهَا وَاغْتِرَارِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ بِهَا. وَقَدْ قِيلَ فِي
مَنْثُورِ الْحِكَمِ: إنَّ زَلَّةَ الْعَالِمِ كَالسَّفِينَةِ تَغْرَقُ وَيَغْرَقُ
مَعَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقِيلَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السلام مَنْ
أَشَدُّ النَّاسِ فِتْنَةً ؟ قَالَ: زَلَّةُ الْعَالِمِ إذَا زَلَّ زَلَّ
بِزَلَّتِهِ عَالَمٌ كَثِيرٌ. فَهَذَا وَجْهٌ. وَإِمَّا لِأَنَّ الْجُهَّالَ
بِذَمِّهِ أَغْرَى، وَعَلَى تَنَقُّصِهِ أَحْرَى؛ لِيَسْلُبُوهُ فَضِيلَةَ
التَّقَدُّمِ وَيَمْنَعُوهُ مُبَايِنَةَ التَّخْصِيصِ عِنَادًا لِمَا جَهِلُوهُ
وَمَقْتًا لِمَا بَايَنُوهُ؛ لِأَنَّ الْجَاهِلَ يَرَى الْعِلْمَ تَكَلُّفًا
وَلَوْمًا، كَمَا أَنَّ الْعَالِمَ يَرَى الْجَهْلَ تَخَلُّفًا وَذَمًّا.
وَأَنْشَدْت عَنْ الرَّبِيعِ لِلشَّافِعِيِّ رضي الله عنه: وَمَنْزِلَةُ
السَّفِيهِ مِنْ الْفَقِيهِ كَمَنْزِلَةِ الْفَقِيهِ مِنْ السَّفِيهِ فَهَذَا
زَاهِدٌ فِي قُرْبِ هَذَا وَهَذَا فِيهِ أَزْهَدُ مِنْهُ فِيهِ إذَا غَلَبَ
الشَّقَاءُ عَلَى سَفِيهٍ تَقَطَّعَ فِي مُخَالَفَةِ الْفَقِيهِ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ لِابْنِهِ:
عَلَيْك بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ الْعِلْمِ فَخُذْ مِنْهُ، فَإِنَّ الْمَرْءَ عَدُوُّ
مَا جَهِلَ، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَكُونَ عَدُوَّ شَيْءٍ مِنْ الْعِلْمِ،
وَأَنْشَدَ: تَفَنَّنْ وَخُذْ مِنْ كُلِّ عِلْمٍ فَإِنَّمَا يَفُوقُ امْرُؤٌ فِي
كُلِّ فَنٍّ لَهُ عِلْمُ فَأَنْتَ عَدُوٌّ لِلَّذِي أَنْتَ جَاهِلٌ بِهِ
وَلِعِلْمٍ أَنْتَ تُتْقِنُهُ سِلْمُ وَإِذَا صَانَ ذُو الْعِلْمِ نَفْسَهُ حَقَّ
صِيَانَتِهَا، وَلاَزَمَ فِعْلَ مَا يَلْزَمُهَا أَمِنَ تَعْيِيرَ الْمَوَالِي
وَتَنْقِيصَ الْمُعَادِي، وَجَمَعَ إلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ جَمِيلَ الصِّيَانَةِ
وَعِزَّ النَّزَاهَةِ فَصَارَ بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا
بِفَضَائِلِهِ. وَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: {الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الانْبِيَاءِ لِأَنَّ الانْبِيَاءَ لَمْ
يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ}. وَرَوَى
أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {لِلْأَنْبِيَاءِ
عَلَى الْعُلَمَاءِ فَضْلُ دَرَجَتَيْنِ وَلِلْعُلَمَاءِ عَلَى الشُّهَدَاءِ
فَضْلُ دَرَجَةٍ}. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: إنَّ مِنْ الشَّرِيعَةِ أَنْ
تُجِلَّ أَهْلَ الشَّرِيعَةِ، وَمِنْ الصَّنِيعَةِ أَنْ تَرُبَّ حُسْنَ
الصَّنِيعَةِ. فَيَنْبَغِي لِمَنْ اسْتَدَلَّ بِفِطْرَتِهِ عَلَى اسْتِحْسَانِ
الْفَضَائِلِ، وَاسْتِقْبَاحِ الرَّذَائِلِ، أَنْ يَنْفِيَ عَنْ نَفْسِهِ
رَذَائِلَ الْجَهْلِ بِفَضَائِلِ الْعِلْمِ وَغَفْلَةَ الاهْمَالِ بِاسْتِيقَاظِ
الْمُعَانَاةِ، وَيَرْغَبَ فِي الْعِلْمِ رَغْبَةَ مُتَحَقِّقٍ لِفَضَائِلِهِ
وَاثِقٍ بِمَنَافِعِهِ، وَلاَ يُلْهِيهِ عَنْ طَلَبِهِ كَثْرَةُ مَالٍ وَجَدَهُ
وَلاَ نُفُوذُ أَمْرٍ وَعُلُوُّ مَنْزِلَةٍ. فَإِنَّ مَنْ نَفَذَ أَمْرُهُ فَهُوَ
إلَى الْعِلْمِ أَحْوَجُ، وَمَنْ عَلَتْ مَنْزِلَتُهُ فَهُوَ بِالْعِلْمِ أَحَقُّ.
وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:
{إنَّ الْحِكْمَةَ تَزِيدُ الشَّرِيفَ شَرَفًا، وَتَرْفَعُ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ
حَتَّى تُجْلِسَهُ مَجَالِسَ الْمُلُوكِ}. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الادَبَاءِ: كُلُّ
عِزٍّ لاَ يُوَطِّدُهُ عِلْمٌ مَذَلَّةٌ، وَكُلُّ عِلْمٍ لاَ يُؤَيِّدُهُ عَقْلٌ
مَضَلَّةٌ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ: إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِالنَّاسِ
خَيْرًا جَعَلَ الْعِلْمَ فِي مُلُوكِهِمْ، وَالْمُلْكَ فِي عُلَمَائِهِمْ.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: الْعِلْمُ عِصْمَةُ الْمُلُوكِ؛ لِأَنَّهُ
يَمْنَعُهُمْ مِنْ الظُّلْمِ، وَيَرُدُّهُمْ إلَى الْحِلْمِ، وَيَصُدُّهُمْ عَنْ
الاذِيَّةِ، وَيُعَطِّفُهُمْ عَلَى الرَّعِيَّةِ. فَمِنْ حَقِّهِمْ أَنْ
يَعْرِفُوا حَقَّهُ، وَيَسْتَبْطِنُوا أَهْلَهُ. فَأَمَّا الْمَالُ فَظِلٌّ
زَائِلٌ وَعَارِيَّةٌ مُسْتَرْجَعَةٌ وَلَيْسَ فِي كَثْرَتِهِ فَضِيلَةٌ،
وَلَوْ كَانَتْ فِيهِ فَضِيلَةٌ لَخَصَّ
اللَّهُ بِهِ مَنْ اصْطَفَاهُ لِرِسَالَتِهِ، وَاجْتَبَاهُ لِنُبُوَّتِهِ. وَقَدْ
كَانَ أَكْثَرُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ مَا خَصَّهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ
وَفَضَّلَهُمْ عَلَى سَائِرِ خَلْقِهِ، فُقَرَاءَ لاَ يَجِدُونَ بُلْغَةً وَلاَ
يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى صَارُوا فِي الْفَقْرِ مَثَلاً، فَقَالَ
الْبُحْتُرِيُّ: فَقْرٌ كَفَقْرِ الانْبِيَاءِ وَغُرْبَةٌ وَصَبَابَةٌ لَيْسَ
الْبَلاَءُ بِوَاحِدِ وَلِعَدَمِ الْفَضِيلَةِ فِي الْمَالِ مَنَحَهُ اللَّهُ
الْكَافِرَ وَحَرَمَهُ الْمُؤْمِنَ. قَالَ الشَّاعِرُ: كَمْ كَافِرٍ بِاَللَّهِ
أَمْوَالُهُ تَزْدَادُ أَضْعَافًا عَلَى كُفْرِهِ وَمُؤْمِنٍ لَيْسَ لَهُ دِرْهَمٌ
يَزْدَادُ إيمَانًا عَلَى فَقْرِهِ يَا لاَئِمَ الدَّهْرِ وَأَفْعَالِهِ
مُشْتَغِلاً يَزْرِي عَلَى دَهْرِهِ الدَّهْرُ مَأْمُورٌ لَهُ آمِرٌ يَنْصَرِفُ
الدَّهْرُ عَلَى أَمْرِهِ وَقَدْ بَيَّنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه
فَضْلَ مَا بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْمَالِ فَقَالَ: الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنْ الْمَالِ.
الْعِلْمُ يَحْرُسُك، وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالِ. الْعِلْمُ حَاكِمٌ وَالْمَالُ
مَحْكُومٌ عَلَيْهِ. مَاتَ خَزَّانُ الامْوَالِ وَبَقِيَ خَزَّانُ الْعِلْمِ
أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، وَأَشْخَاصُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ. وَسُئِلَ
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَيُّمَا أَفْضَلُ الْمَالُ أَمْ الْعِلْمُ ؟ فَقَالَ:
الْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَيُّمَا أَفْضَلُ الْمَالُ أَمْ الْعَقْلُ. وَقَالَ
صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ: لاَ خَيْرَ فِيمَنْ كَانَ خَيْرُ ثَنَائِهِ فِي
النَّاسِ قَوْلَهُمْ غَنِيٌّ وَاجِدُ>
وَرُبَّمَا امْتَنَعَ
الانْسَانُ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ لِكِبَرِ سِنِّهِ وَاسْتِحْيَائِهِ مِنْ
تَقْصِيرِهِ فِي صِغَرِهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ فِي كِبْرِهِ، فَرَضِيَ بِالْجَهْلِ
أَنْ يَكُونَ مَوْسُومًا بِهِ وَآثَرَهُ عَلَى الْعِلْمِ أَنْ يَصِيرَ مُبْتَدِئًا
بِهِ. وَهَذَا مِنْ خِدَعِ الْجَهْلِ وَغُرُورِ الْكَسَلِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ إذَا
كَانَ فَضِيلَةً فَرَغْبَةُ ذَوِي الاسْنَانِ فِيهِ أَوْلَى. وَالابْتِدَاءُ
بِالْفَضِيلَةِ فَضِيلَةٌ. وَلاَنْ يَكُونَ شَيْخًا مُتَعَلِّمًا أَوْلَى مِنْ
أَنْ يَكُونَ شَيْخًا جَاهِلاً. حُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْحُكَمَاءِ رَأَى شَيْخًا
كَبِيرًا يُحِبُّ النَّظَرَ فِي الْعِلْمِ وَيَسْتَحِي فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا
أَتَسْتَحِي أَنْ تَكُونَ فِي آخِرِ عُمُرِك أَفْضَلَ مِمَّا كُنْتَ فِي
أَوَّلِهِ، وَذُكِرَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ دَخَلَ عَلَى الْمَأْمُونِ
وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْفِقْهِ فَقَالَ: يَا عَمِّ مَا عِنْدَك فِيمَا يَقُولُ
هَؤُلاَءِ: فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ شَغَلُونَا فِي الصِّغَرِ
وَاشْتَغَلْنَا فِي الْكِبَرِ. فَقَالَ: لِمَ لاَ نَتَعَلَّمُهُ الْيَوْمَ ؟
قَالَ: أَوْ يَحْسُنُ بِمِثْلِي طَلَبُ الْعِلْمِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَاَللَّهِ
لاَنْ تَمُوتَ طَالِبًا لِلْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَعِيشَ قَانِعًا
بِالْجَهْلِ. قَالَ: وَإِلَى مَتَى يَحْسُنُ بِي طَلَبُ الْعِلْمِ ؟ قَالَ: مَا
حَسُنَتْ بِك الْحَيَاةُ؛ وَلِأَنَّ الصَّغِيرَ أَعَذْرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي
الْجَهْلِ عُذْرٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَطُلْ بِهِ مُدَّةُ التَّفْرِيطِ وَلاَ
اسْتَمَرَّتْ عَلَيْهِ أَيَّامُ الاهْمَالِ. وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ
الْحِكَمِ: جَهْلُ الصَّغِيرِ مَعْذُورٌ، وَعِلْمُهُ مَحْقُورٌ، فَأَمَّا الْكَبِيرُ
فَالْجَهْلُ بِهِ أَقْبَحُ، وَنَقْصُهُ عَلَيْهِ أَفْضَحُ؛ لِأَنَّ عُلُوَّ
السِّنِّ إذَا لَمْ يُكْسِبْهُ فَضْلاً وَلَمْ يُفِدْهُ عِلْمًا وَكَانَتْ
أَيَّامُهُ فِي الْجَهْلِ مَاضِيَةً، وَمِنْ الْفَضْلِ خَالِيَةً، كَانَ
الصَّغِيرُ أَفْضَلَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الرَّجَاءَ لَهُ أَكْثَرُ، وَالامَلَ فِيهِ
أَظْهَرُ، وَحَسْبُك نَقْصًا فِي رَجُلٍ يَكُونُ الصَّغِيرُ الْمُسَاوِي لَهُ فِي
الْجَهْلِ أَفْضَلَ مِنْهُ. وَأَنْشَدْت لِبَعْضِ أَهْلِ الادَبِ: إذَا لَمْ
يَكُنْ مَرُّ السِّنِينَ مُتَرْجِمًا عَنْ الْفَضْلِ فِي الانْسَانِ سَمَّيْته
طِفْلاَ وَمَا تَنْفَعُ الايَّامُ حِينَ يَعُدُّهَا وَلَمْ يَسْتَفِدْ فِيهِنَّ
عِلْمًا وَلاَ فَضْلاَ أَرَى الدَّهْرَ مِنْ سُوءِ التَّصَرُّفِ مَائِلاً إلَى
كُلِّ ذِي جَهْلٍ كَأَنَّ بِهِ جَهْلاَ.
وَرُبَّمَا امْتَنَعَ
مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ لِتَعَذُّرِ الْمَادَّةِ وَشَغَلَهُ اكْتِسَابُهَا عَنْ
الْتِمَاسِ الْعِلْمِ. وَهَذَا، وَإِنْ كَانَ أَعْذَرَ مِنْ غَيْرِهِ مَعَ أَنَّهُ
قَلَّ مَا يَكُونُ ذَلِكَ الا عِنْدَ ذِي شَرَهٍ وَعَيْبٍ وَشَهْوَةٍ
مُسْتَعْبِدَةٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَصْرِفَ إلَى الْعِلْمِ حَظًّا مِنْ زَمَانِهِ.
فَلَيْسَ كُلُّ الزَّمَانِ زَمَانَ اكْتِسَابٍ. وَلاَ بُدَّ لِلْمُكْتَسِبِ مِنْ
أَوْقَاتِ اسْتِرَاحَةٍ، وَأَيَّامِ عُطْلَةٍ. وَمَنْ صَرَفَ كُلَّ نَفْسِهِ إلَى
الْكَسْبِ حَتَّى لَمْ يَتْرُكْ لَهَا فَرَاغًا إلَى غَيْرِهِ، فَهُوَ مِنْ
عَبِيدِ الدُّنْيَا، وَأُسَرَاءِ الْحِرْصِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لِكُلِّ شَيْءٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ
فَتْرَتُهُ إلَى الْعِلْمِ فَقَدْ نَجَا}. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {كُونُوا
عُلَمَاءَ صَالِحِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا عُلَمَاءَ صَالِحِينَ فَجَالِسُوا
الْعُلَمَاءَ وَاسْمَعُوا عِلْمًا يَدُلُّكُمْ عَلَى الْهُدَى، وَيَرُدُّكُمْ عَنْ
الرَّدَى}. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَنْ أَحَبَّ الْعِلْمَ أَحَاطَتْ بِهِ
فَضَائِلُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ صَاحَبَ الْعُلَمَاءِ وُقِّرَ،
وَمَنْ جَالَسَ السُّفَهَاءَ حُقِّرَ.
وَرُبَّمَا مَنَعَهُ
مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ مَا يَظُنُّهُ مِنْ
صُعُوبَتِهِ، وَبُعْدِ غَايَتِهِ، وَيَخْشَى مِنْ قِلَّةِ ذِهْنِهِ
وَبُعْدِ فِطْنَتِهِ. وَهَذَا الظَّنُّ اعْتِذَارُ ذَوِي النَّقْصِ وَخِيفَةُ
أَهْلِ الْعَجْزِ؛ لِأَنَّ الاخْبَارَ قَبْلَ الاخْتِبَارِ جَهْلٌ، وَالْخَشْيَةَ
قَبْلَ الابْتِلاَءِ عَجْزٌ. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: لاَ تَكُونَنَّ لِلْأُمُورِ
هَيُوبًا فَإِلَى خَيْبَةٍ يَصِيرُ الْهَيُوبُ وَقَالَ رَجُلٌ لِأَبِي هُرَيْرَةَ
رضي الله عنه: أُرِيدُ أَنْ أَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَأَخَافُ أَنْ أُضَيِّعَهُ.
فَقَالَ: كَفَى بِتَرْكِ الْعِلْمِ إضَاعَةٌ. وَلَيْسَ، وَإِنْ تَفَاضَلَتْ
الاذْهَانُ وَتَفَاوَتَتْ الْفَطِنُ، يَنْبَغِي لِمَنْ قَلَّ مِنْهَا حَظُّهُ أَنْ
يَيْأَسَ مِنْ نَيْلِ الْقَلِيلِ وَإِدْرَاكِ الْيَسِيرِ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ
مِنْ حَدِّ الْجَهَالَةِ إلَى أَدْنَى مَرَاتِبِ التَّخْصِيصِ. فَإِنَّ الْمَاءَ
مَعَ لِينِهِ يُؤَثِّرُ فِي صَمِّ الصُّخُورِ فَكَيْفَ لاَ يُؤَثِّرُ الْعِلْمُ
الزَّكِيُّ فِي نَفْسِ رَاغِبٍ شَهِيٍّ، وَطَالِبٍ خَلِيٍّ، لاَ سِيَّمَا
وَطَالِبُ الْعِلْمِ مُعَانٌ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: {إنَّ الْمَلاَئِكَةَ
لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ}.
وَرُبَّمَا مَنَعَ
ذَا السَّفَاهَةِ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ أَنْ يُصَوِّرَ فِي نَفْسِهِ حِرْفَةَ
أَهْلِهِ وَتَضَايُقَ الامُورِ مَعَ الاشْتِغَالِ بِهِ حَتَّى يَسِمَهُمْ
بِالادْبَارِ وَيَتَوَسَّمَهُمْ بِالْحِرْمَانِ، فَإِنْ رَأَى مَحْبَرَةً
تَطَيَّرَ مِنْهَا وَإِنْ رَأَى كِتَابًا أَعْرَضَ عَنْهُ، وَإِنْ رَأَى
مُتَحَلِّيًا بِالْعِلْمِ هَرَبَ مِنْهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَرَ عَالِمًا مُقْبِلاً
وَجَاهِلاً مُدْبِرًا. وَلَقَدْ رَأَيْت مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ جَمَاعَةً ذَوِي
مَنَازِلِ، وَأَحْوَالٍ كُنْت أُخْفِي عَنْهُمْ مَا يَصْحَبُنِي مِنْ مَحْبَرَةٍ
وَكِتَابٍ لِئَلاَ أَكُونَ عِنْدَهُمْ مُسْتَثْقَلاً، وَإِنْ كَانَ الْبُعْدُ
عَنْهُمْ مُؤْنِسًا وَمُصْلِحًا، وَالْقُرْبُ مِنْهُمْ مُوحِشًا وَمُفْسِدًا.
فَقَدْ قَالَ بَزَرْجَمْهَرَ: الْجَهْلُ فِي الْقَلْبِ كَالنَّزِّ فِي الارْضِ،
يُفْسِدُ مَا حَوْلَهُ. لَكِنْ اتَّبَعْتُ فِيهِمْ الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ عَنْ
أَبِي الاشْعَثِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ ثَوْبَانَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {خَالِطُوا النَّاسَ بِأَخْلاَقِهِمْ وَخَالِفُوهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ}.
وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: رُبَّ جَهْلٍ وُقِيَتْ بِهِ عُلَمَاءُ،
وَسَفَهٍ حُمِيَتْ بِهِ حُلَمَاءُ. وَهَذِهِ الطَّبَقَةُ مِمَّنْ لاَ يُرْجَى
لَهَا صَلاَحٌ، وَلاَ يُؤْمَلُ لَهَا فَلاَحٌ. لِأَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ
الْعِلْمَ شَيْنٌ، وَأَنَّ تَرْكَهُ زَيْنٌ، وَأَنَّ لِلْجَهْلِ إقْبَالا
مُجْدِيًا، وَلِلْعِلْمِ إدْبَارًا مُكْدِيًا، كَانَ ضَلاَلُهُ مُسْتَحْكِمًا
وَرَشَادُهُ مُسْتَعْبَدَا، وَكَانَ هُوَ الْخَامِسُ الْهَالِكُ الَّذِي قَالَ
فِيهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: {اُغْدُ عَالِمًا أَوْ
مُتَعَلِّمًا أَوْ مُسْتَمِعًا أَوْ مُحِبًّا وَلاَ تَكُنْ الْخَامِسَ فَتَهْلِكَ}.
وَقَدْ رَوَاهُ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ
عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُسْنَدًا وَلَيْسَ لِمَنْ هَذِهِ حَالُهُ: فِي الْعَذْلِ نَفْعٌ وَلاَ فِي
الاصْلاَحِ مَطْمَعٌ. وَقَدْ قِيلَ لِبَزَرْجَمْهَرَ: مَا لَكُمْ لاَ تُعَاتِبُونَ
الْجُهَّالَ ؟ فَقَالَ: إنَّا لاَ نُكَلِّفُ الْعُمْيَ أَنْ يُبْصِرُوا، وَلاَ
الصُّمَّ أَنْ يَسْمَعُوا. وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ الَّتِي تَنْفِرُ مِنْ الْعِلْمِ
هَذَا النُّفُورَ، وَتُعَانِدُ أَهْلَهُ هَذَا الْعِنَادَ، تَرَى الْعَقْلَ بِهَذِهِ
الْمَثَابَةِ وَتَنْفِرُ مِنْ الْعُقَلاَءِ هَذَا النُّفُورَ، وَتَعْتَقِدُ أَنَّ
الْعَاقِلَ مُحَارَفٌ، وَأَنَّ الاحْمَقَ مَحْظُوظٌ. وَنَاهِيكَ بِضَلاَلِ مَنْ
هَذَا اعْتِقَادُهُ فِي الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ هَلْ يَكُونُ لِخَيْرٍ أَهْلاً،
أَوْ لِفَضِيلَةٍ مَوْضِعًا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: أَخْبَثُ النَّاسِ
الْمُسَاوِي بَيْنَ الْمَحَاسِنِ وَالْمَسَاوِئِ؛ وَعِلَّةُ هَذَا أَنَّهُمْ
رُبَّمَا رَأَوْا عَاقِلاً غَيْرَ مَحْظُوظٍ، وَعَالِمًا غَيْرَ مَرْزُوقٍ،
فَظَنُّوا أَنَّ الْعِلْمَ وَالْعَقْلَ هُمَا السَّبَبُ فِي قِلَّةِ حَظِّهِ
وَرِزْقِهِ. وَقَدْ انْصَرَفَتْ عُيُونُهُمْ عَنْ حِرْمَانِ أَكْثَرِ النَّوْكَى
وَإِدْبَارِ أَكْثَرِ الْجُهَّالِ؛ لِأَنَّ فِي الْعُقَلاَءِ وَالْعُلَمَاءِ
قِلَّةً وَعَلَيْهِمْ مِنْ فَضْلِهِمْ سِمَةٌ. وَلِذَلِكَ قِيلَ: الْعُلَمَاءُ غُرَبَاءُ
لِكَثْرَةِ الْجُهَّالِ. فَإِذَا ظَهَرَتْ سِمَةُ فَضْلِهِمْ وَصَادَفَ ذَلِكَ
قِلَّةَ حَظِّ بَعْضِهِمْ تَنَوَّهُوا بِالتَّمْيِيزِ وَاشْتُهِرُوا
بِالتَّعْيِينِ، فَصَارُوا مَقْصُودِينَ بِإِشَارَةِ الْمُتَعَنِّتِينَ،
مَلْحُوظِينَ بِإِيمَاءِ الشَّامِتِينَ. وَالْجُهَّالُ وَالْحَمْقَى لَمَّا
كَثُرُوا وَلَمْ يَتَخَصَّصُوا انْصَرَفَتْ عَنْهُمْ النُّفُوسُ فَلَمْ يَلْحَظْ
الْمَحْرُومُ مِنْهُمْ بِطَرَفِ شَامِتٍ، وَلاَ قَصَدَ الْمَجْدُودُ مِنْهُمْ
بِإِشَارَةِ عَائِبٍ. فَلِذَلِكَ ظَنَّ الْجَاهِلُ الْمَرْزُوقُ أَنَّ الْفَقْرَ
وَالضِّيقَ مُخْتَصٌّ بِالْعِلْمِ، وَالْعَقْلَ دُونَ الْجَهْلِ وَالْحُمْقِ
وَلَوْ فَتَّشَتْ أَحْوَالَ الْعُلَمَاءِ وَالْعُقَلاَءِ، مَعَ قِلَّتِهِمْ،
لَوَجَدْت الاقْبَالَ فِي أَكْثَرِهِمْ. وَلَوْ اخْتَبَرْت أُمُورَ الْجُهَّالِ
وَالْحَمْقَى، مَعَ كَثْرَتِهِمْ، لَوَجَدَتْ الْحِرْمَانَ فِي أَكْثَرِهِمْ.
وَإِنَّمَا يَصِيرُ ذُو الْحَالِ الْوَاسِعَةِ مِنْهُمْ مَلْحُوظًا مُشْتَهِرًا؛
لِأَنَّ حَظَّهُ عَجِيبٌ وَإِقْبَالَهُ مُسْتَغْرَبٌ. كَمَا أَنَّ حِرْمَانَ
الْعَاقِلِ الْعَالِمِ غَرِيبٌ وَإِقْلاَلَهُ عَجِيبٌ. وَلَمْ تَزَلْ النَّاسُ
عَلَى سَالِفِ الدُّهُورِ مِنْ ذَلِكَ مُتَعَجِّبِينَ وَبِهِ مُعْتَبِرِينَ حَتَّى قِيلَ
لِبَزَرْجَمْهَرَ: مَا أَعْجَبُ الاشْيَاءِ ؟ فَقَالَ: نُجْحُ الْجَاهِلِ
وَإِكْدَاءُ الْعَاقِلِ. لَكِنَّ الرِّزْقَ بِالْحَظِّ وَالْجَدِّ، لاَ بِالْعِلْمِ
وَالْعَقْلِ، حِكْمَةً مِنْهُ تَعَالَى يَدُلُّ بِهَا عَلَى قُدْرَتِهِ
وَإِجْرَاءِ الامُورِ عَلَى مَشِيئَتِهِ. وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ: لَوْ
جَرَتْ الاقْسَامُ عَلَى قَدْرِ الْعُقُولِ لَمْ تَعِشْ الْبَهَائِمُ. فَنَظَمَهُ
أَبُو تَمَّامٍ فَقَالَ: يَنَالُ الْفَتَى مِنْ عَيْشِهِ وَهُوَ جَاهِلُ وَيُكْدِي
الْفَتَى مِنْ دَهْرِهِ وَهُوَ عَالِمُ وَلَوْ كَانَتْ الارْزَاقُ تَجْرِي عَلَى
الْحِجَا هَلَكْنَ إذَنْ مِنْ جَهْلِهِنَّ الْبَهَائِمُ وَقَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرِ بْنُ أَبِي
سُلْمَى: لَوْ كُنْت أَعْجَبُ مِنْ شَيْءِ لاَعْجَبَنِي سَعْيُ الْفَتَى وَهُوَ
مَخْبُوءٌ لَهُ الْقَدَرُ يَسْعَى الْفَتَى لِأُمُورٍ لَيْسَ يُدْرِكُهَا
وَالنَّفْسُ وَاحِدَةٌ وَالْهَمُّ مُنْتَشِرُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ وَالْعَقْلَ
سَعَادَةٌ وَإِقْبَالٌ، وَإِنْ قَلَّ مَعَهُمَا الْمَالُ، وَضَاقَتْ مَعَهُمَا
الْحَالُ. وَالْجَهْلَ وَالْحُمْقَ حِرْمَانٌ وَإِدْبَارٌ وَإِنْ كَثُرَ مَعَهُمَا
الْمَالُ، وَاتَّسَعَتْ فِيهِمَا الْحَالُ؛ لِأَنَّ السَّعَادَةَ لَيْسَتْ
بِكَثْرَةِ الْمَالِ فَكَمْ مِنْ مُكْثِرٍ شَقِيٌّ وَمُقِلٍّ سَعِيدٌ. وَكَيْفَ
يَكُونُ الْجَاهِلُ الْغَنِيُّ سَعِيدًا وَالْجَهْلُ يَضَعُهُ. أَمْ كَيْفَ
يَكُونُ الْعَالِمُ الْفَقِيرُ شَقِيًّا وَالْعِلْمُ يَرْفَعُهُ ؟ وَقَدْ قِيلَ
فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: كَمْ مِنْ ذَلِيلٍ أَعَزَّهُ عِلْمُهُ، وَمِنْ عَزِيزٍ
أَذَلَّهُ جَهْلُهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ: الْجَاهِلُ
كَرَوْضَةٍ عَلَى مَزْبَلَةٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: كُلَّمَا حَسُنَتْ
نِعْمَةُ الْجَاهِلِ ازْدَادَ قُبْحًا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِبَنِيهِ:
يَا بَنِيَّ تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ فَإِنْ لَمْ تَنَالُوا بِهِ مِنْ الدُّنْيَا
حَظًّا فَلاَنْ يُذَمَّ الزَّمَانُ لَكُمْ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يُذَمَّ
الزَّمَانُ بِكُمْ. وَقَالَ بَعْضُ الادَبَاءِ: مَنْ لَمْ يَفِدْ بِالْعِلْمِ
مَالا كَسَبَ بِهِ جَمَالا، وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَهْلِ الادَبِ لِابْنِ طَبَاطَبَا:
حَسُودٌ مَرِيضُ الْقَلْبِ يُخْفِي أَنِينَهُ وَيَضْحَى كَئِيبَ الْبَالِ عِنْدِي حَزِينَهُ يَلُومُ
عَلَيَّ أَنْ رُحْت لِلْعِلْمِ طَالِبًا أَجْمَعُ مِنْ عِنْدِ الرُّوَاةِ
فَنُونَهُ فَأَعْرِفُ أَبْكَارَ الْكَلاَمِ وَعَوْنَهُ وَأَحْفَظُ مِمَّا
أَسْتَفِيدُ عُيُونَهُ وَيَزْعُمُ أَنَّ الْعِلْمَ لاَ يُكْسِبُ الْغِنَى
وَيُحْسِنُ بِالْجَهْلِ الذَّمِيمِ ظُنُونَهُ فَيَا لاَئِمِي دَعْنِي أُغَالِي
بِقِيمَتِي فَقِيمَةُ كُلِّ النَّاسِ مَا يُحْسِنُونَهُ وَأَنَا أَسْتَعِيذُ
بِاَللَّهِ مِنْ خِدَعِ الْجَهْلِ الْمُذِلَّةِ، وَبَوَادِرِ الْحُمْقِ الْمُضِلَّةِ.
وَأَسْأَلُهُ السَّعَادَةَ بِعَقْلٍ رَادِعٍ يَسْتَقِيمُ بِهِ مَنْ زَلَّ،
وَعِلْمٍ نَافِعٍ يَسْتَهْدِي بِهِ مَنْ ضَلَّ. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: إذَا اسْتَرْذَلَ اللَّهُ عَبْدًا حَظَرَ عَلَيْهِ
الْعِلْمَ. فَيَنْبَغِي لِمَنْ زَهِدَ فِي الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ رَاغِبًا
وَلِمَنْ رَغِبَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ طَالِبًا، وَلِمَنْ طَلَبَهُ أَنْ
يَكُونَ مِنْهُ مُسْتَكْثَرًا، وَلِمَنْ اسْتَكْثَرَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ بِهِ
عَامِلاً، وَلاَ يَطْلُبُ لِتَرْكِهِ احْتِجَاجًا وَلاَ لِلتَّقْصِيرِ فِيهِ
عُذْرًا. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ: فَلاَ
تَعْذِرَانِي فِي الاسَاءَةِ إنَّهُ شِرَارُ الرِّجَالِ مَنْ يُسِيءُ فَيُعْذَرُ
وَلاَ يُسَوِّفُ نَفْسَهُ بِالْمَوَاعِيدِ الْكَاذِبَةِ وَيُمَنِّيهَا
بِانْقِطَاعِ الاشْغَالِ الْمُتَّصِلَةِ، فَإِنَّ لِكُلِّ وَقْتٍ شُغْلاً
وَلِكُلِّ زَمَانٍ عُذْرًا. وَقَالَ الشَّاعِرُ: نَرُوحُ وَنَغْدُو لِحَاجَاتِنَا
وَحَاجَةُ مَنْ عَاشَ لاَ تَنْقَضِي تَمُوتُ مَعَ الْمَرْءِ حَاجَاتُهُ وَتَبْقَى
لَهُ حَاجَةٌ مَا بَقِيَ وَيَقْصِدُ طَلَبَ الْعِلْمِ وَاثِقًا بِتَيْسِيرِ
اللَّهِ قَاصِدًا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ وَعَزِيمَةٍ
صَادِقَةٍ. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:
{مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا لِغَيْرِ اللَّهِ وَأَرَادَ بِهِ غَيْرَ اللَّهِ
فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ}. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله
عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ قَبْلَ
أَنْ يُرْفَعَ، وَرَفْعُهُ ذَهَابُ أَهْلِهِ. فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَدْرِي
مَتَى يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَوْ مَتَى يَحْتَاجُ إلَى مَا عِنْدَهُ}.
وَلْيَحْذَرْ أَنْ
يَطْلُبَهُ لِمِرَاءٍ أَوْ رِيَاءٍ فَإِنَّ الْمُمَارِيَ بِهِ مَهْجُورٌ لاَ
يَنْتَفِعُ، وَالْمُرَائِيَ بِهِ مَحْقُورٌ لاَ يَرْتَفِعُ. وَرُوِيَ عَنْ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لاَ تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُمَارُوا
بِهِ السُّفَهَاءَ، وَلاَ
تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُجَادِلُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ
مِنْكُمْ فَالنَّارُ مَثْوَاهُ}. وَلَيْسَ الْمُمَارِي بِهِ هُوَ الْمُنَاظِرُ
فِيهِ طَلَبًا لِلصَّوَابِ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ الْقَاصِدُ لِدَفْعِ مَا يَرِدُ
عَلَيْهِ مِنْ فَاسِدٍ أَوْ صَحِيحٍ. وَفِيهِمْ جَاءَتْ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: {لاَ يُجَادِلُ الا مُنَافِقٌ أَوْ
مُرْتَابٌ}. وَقَالَ الاوْزَاعِيُّ: إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ شَرًّا
أَعْطَاهُمْ الْجَدَلَ، وَمَنَعَهُمْ
الْعَمَلَ. وَأَنْشَدَ الرِّيَاشِيُّ لِمُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أُجَادِلُ
كُلَّ مُعْتَرِضٍ ظَنِينِ وَأَجْعَلُ دِينَهُ غَرَضًا لِدِينِي وَأَتْرُكُ مَا
عَمِلْتُ لِرَأْيِ غَيْرِي وَلَيْسَ الرَّأْيُ كَالْعِلْمِ الْيَقِينِ وَمَا أَنَا
وَالْخُصُومَةُ وَهِيَ شَيْءٌ يُصْرَفُ فِي الشِّمَالِ وَفِي الْيَمِينِ فَأَمَّا
مَا عَلِمْت فَقَدْ كَفَانِي وَأَمَّا مَا جَهِلْت فَجَنِّبُونِي وَقَدْ بَيَّنَ
ذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ: لاَ يَمْنَعَنَّكَ حَذَرُ
الْمِرَاءِ مِنْ حُسْنِ الْمُنَاظَرَةِ، فَإِنَّ الْمُمَارِيَ هُوَ الَّذِي لاَ
يُرِيدُ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْهُ أَحَدٌ وَلاَ يَرْجُو أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ أَحَدٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ
لِكُلِّ مَطْلُوبٍ بَاعِثًا. وَالْبَاعِثُ عَلَى الْمَطْلُوبِ شَيْئَانِ: رَغْبَةٌ
أَوْ رَهْبَةٌ، فَلْيَكُنْ طَالِبُ الْعِلْمِ رَاغِبًا رَاهِبًا. أَمَّا
الرَّغْبَةُ فَفِي ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى لِطَالِبِي مَرْضَاتِهِ، وَحَافِظِي
مُفْتَرَضَاتِهِ. وَأَمَّا الرَّهْبَةُ فَمِنْ عِقَابِ اللَّهِ تَعَالَى
لِتَارِكِي أَوَامِرِهِ، وَمُهْمَلِي زَوَاجِرِهِ. فَإِذَا اجْتَمَعَتْ الرَّغْبَةُ وَالرَّهْبَةُ أَدَّيَا إلَى كُنْهِ
الْعِلْمِ وَحَقِيقَةِ الزُّهْدِ؛ لِأَنَّ الرَّغْبَةَ أَقْوَى الْبَاعِثَيْنِ
عَلَى الْعِلْمِ، وَالرَّهْبَةَ أَقْوَى السَّبَبَيْنِ فِي الزُّهْدِ. وَقَدْ
قَالَتْ الْحُكَمَاءُ: أَصْلُ الْعِلْمِ الرَّغْبَةُ وَثَمَرَتُهُ السَّعَادَةُ،
وَأَصْلُ الزُّهْدِ الرَّهْبَةُ وَثَمَرَتُهُ الْعِبَادَةُ فَإِذَا اقْتَرَنَ
الزُّهْدُ وَالْعِلْمُ فَقَدْ تَمَّتْ السَّعَادَةُ وَعَمَّتْ الْفَضِيلَةُ،
وَإِنْ افْتَرَقَا فَيَا وَيْحَ مُفْتَرَقَيْنِ مَا أَضَرَّ افْتِرَاقَهُمَا،
وَأَقْبَحَ انْفِرَادَهُمَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
أَنَّهُ قَالَ: {مَنْ ازْدَادَ فِي الْعِلْمِ رُشْدًا، فَلَمْ يَزْدَدْ فِي
الدُّنْيَا زُهْدًا، لَمْ يَزْدَدْ مِنْ اللَّهِ الا بُعْدًا}. وَقَالَ مَالِكُ
بْنُ دِينَارٍ: مَنْ لَمْ يُؤْتَ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَقْمَعُهُ، فَمَا أُوتِيَ
مِنْهُ لاَ يَنْفَعُهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْفَقِيهُ بِغَيْرِ وَرَعٍ
كَالسِّرَاجِ يُضِيءُ الْبَيْتَ وَيُحْرِقُ نَفْسَهُ.