بسم الله الرحمن الرحيم
حقيقة العلاقة بين القيم الإيمانية والقيم الواقعية في الحياة البشرية
حقيقة العلاقة بين القيم الإيمانية والقيم الواقعية في الحياة البشرية
فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 1903)
ونقف أمام الحقيقة التي كشف عنها هود لقومه وهو يقول لهم : «وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ ، وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ» .. وهي ذات الحقيقة التي ذكرت في مقدمة السورة بصدد دعوة رسول اللّه - r - لقومه بمضمون الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير. وذلك في قوله تعالى : «وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ» ..
إنها حقيقة العلاقة بين القيم الإيمانية والقيم الواقعية في الحياة البشرية ، وحقيقة اتصال طبيعة الكون ونواميسه الكلية بالحق الذي يحتويه هذا الدين .. وهي حقيقة في حاجة إلى جلاء وتثبيت وبخاصة في نفوس الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا والذين لم تصقل أرواحهم وتشف حتى ترى هذه العلاقة أو على الأقل تستشعرها ..
إن الحق الذي نزل به هذا الدين غير منفصل عن الحق المتمثل في ألوهية اللّه - سبحانه - والحق الذي خلقت به السماوات والأرض ، المتجلي في طبيعة هذا الكون ونواميسه الأزلية .. والقرآن الكريم كثيرا ما يربط بين الحق المتمثل في ألوهية اللّه - سبحانه - والحق الذي قامت به السماوات والأرض والحق المتمثل في الدينونة للّه وحده .. والحق المتمثل في دينونة الناس للّه يوم الحساب بصفة خاصة ، والحق في الجزاء على الخير والشر في الدنيا والآخرة .. وذلك في مثل هذه النصوص :
«وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا .. إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ .. بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ، وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ، وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ. أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ؟ لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا ، فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ. لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ. أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً؟ قُلْ : هاتُوا بُرْهانَكُمْ. هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ. وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» ... (الأنبياء 16 - 25).
« يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ، لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ، وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ - مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ - شَيْئاً ، وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً ، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ، وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ، وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى ، وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها ، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ» ...(الحج : 5 - 7).
« وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ، لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ، فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ. وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً ، وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ ، وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ. ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ ، إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ. ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ ، وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ ، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً؟ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ، وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ.
وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ، إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ. لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ ، فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ ، وَادْعُ إِلى رَبِّكَ ، إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ ...» ..
(الحج : 54 - 67). وهكذا نجد في هذه النصوص وأمثالها في القرآن الكريم العلاقة الواضحة بين كون اللّه سبحانه هو الحق ، وبين خلقه لهذا الكون وتدبيره بنواميسه ومشيئته بالحق ، وبين الظواهر الكونية التي تتم بالحق. وبين تنزيل هذا الكتاب بالحق ، وبين الحكم بين الناس في الدنيا والآخرة بالحق .. فكله حق واحد موصول ينشأ عنه جريان قدر اللّه بما يشاء ، وتسليط القوى الكونية بالخير والشر على من يشاء وفق ما يكون من الناس من الخير والشر في دار الابتلاء. ومن هنا كان ذلك الربط بين الاستغفار والتوبة ، وبين المتاع الحسن وإرسال السماء مدرارا ... فكل أولئك موصول بمصدر واحد هو الحق المتمثل في ذات اللّه سبحانه وفي قضائه وقدره ، وفي تدبيره وتصريفه ، وفي حسابه وجزائه ، في الخير وفي الشر سواء ..
ومن هذا الارتباط مجلى أن القيم الإيمانية ليست منفصلة عن القيم العملية في حياة الناس. فكلتاهما تؤثر في هذه الحياة. سواء عن طريق قدر اللّه الغيبي المتعلق بعالم الأسباب من وراء علم البشر وسعيهم. أو عن طريق الآثار العملية المشهودة التي يمكن للبشر رؤيتها وضبطها كذلك. وهي الآثار التي ينشئها في حياتهم الإيمان أو عدم الإيمان ، من النتائج المحسوسة المدركة.
وقد أسلفنا الإشارة إلى بعض هذه الآثار العملية الواقعية حين قلنا مرة : إن سيادة المنهج الإلهي في مجتمع معناه أن يجد كل عامل جزاءه العادل في هذا المجتمع ، وأن يجد كل فرد الأمن والسكينة والاستقرار الاجتماعي - فضلا على الأمن والسكينة والاستقرار القلبي بالإيمان - ومن شأن هذا كله أن يمتع الناس متاعا حسنا في هذه الدنيا قبل أن يلقوا جزاءهم الأخير في الآخرة «1» .. وحين قلنا مرة : إن الدينونة للّه وحده في مجتمع من شأنها أن تصون جهود الناس وطاقاتهم من أن تنفق في الطبل والزمر والنفخ والتراتيل والتسابيح والترانيم والتهاويل التي تطلق حول الأرباب المزيفة ، لتخلع عليها شيئا من خصائص الألوهية حتى تخضع لها الرقاب! ومن شأن هذا أن يوفر هذه الجهود والطاقات للبناء في الأرض والعمارة والنهوض بتكاليف الخلافة فيكون الخير الوفير للناس. فضلا على الكرامة والحرية والمساواة التي يتمتع بها الناس في ظل الدينونة للّه وحده دون العباد «2» ..
وليست هذه إلا نماذج من ثمار الإيمان حين تتحقق حقيقته في حياة الناس «3» .. (و سيرد عنها بعض التفصيل في نهاية استعراض قصص الرسل في ختام السورة إن شاء اللّه).
ونقف أمام تلك المواجهة الأخيرة من هود لقومه وأمام تلك المفاصلة التي قذف بها في وجوههم في حسم كامل ، وفي تحد سافر ، وفي استعلاء بالحق الذي معه ، وثقة في ربه الذي يجد حقيقته في نفسه بينة :
«قالَ : إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ ، وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ ، فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها ، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ ، وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً ، إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ» ..
إن أصحاب الدعوة إلى اللّه في كل مكان وفي كل زمان في حاجة إلى أن يقفوا طويلا أمام هذا المشهد الباهر .. رجل واحد ، لم يؤمن معه إلا قليل ، يواجه أعتى أهل الأرض وأغنى أهل الأرض وأكثر أهل الأرض حضارة مادية في زمانهم ، كما جاء عنهم في قول اللّه تعالى فيهم حكاية عما واجههم به أخوهم هود في السورة الأخرى : «كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ : أَلا تَتَّقُونَ؟ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ. أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ؟ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ. وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قالُوا : سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ. إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ. وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ»! .. (الشعراء : 123 - 138) فهؤلاء العتاة الجبارون الذين يبطشون بلا رحمة والذين أبطرتهم النعمة والذين يقيمون المصانع يرجون من ورائها الامتداد والخلود! .. هؤلاء هم الذين واجههم هود - عليه السلام - هذه المواجهة. في شجاعة المؤمن واستعلائه وثقته واطمئنانه وفاصلهم هذه المفاصلة الحاسمة الكاملة - وهم قومه - وتحداهم أن يكيدوه بلا إمهال. وأن يفعلوا ما في وسعهم فلا يباليهم بحال! لقد وقف هود - عليه السلام - هذه الوقفة الباهرة ، بعد ما بذل لقومه من النصح ما يملك وبعد أن تودد إليهم وهو يدعوهم غاية التودد .. ثم تبين له عنادهم وإصرارهم على محادة اللّه وعلى الاستهتار بالوعيد والجرأة على اللّه ..
لقد وقف هود - عليه السلام - هذه الوقفة الباهرة لأنه يجد حقيقة ربه في نفسه ، فيوقن أن أولئك الجبارين العتاة المتمتعين المتبطرين إنما هم من الدواب! وهو مستيقن أنه ما من دابة إلا وربه آخذ بناصيتها ففيم يحفل إذن هؤلاء الدواب؟! وأن ربه هو الذي استخلفهم في الأرض ، وأعطاهم ما أعطاهم من نعمة ومال وقوة وبنين وقدرة على التصنيع والتعدين! للابتلاء لا لمطلق العطاء. وأن ربه يملك أن يذهب بهم ويستخلف غيرهم إذا شاء ، ولا يضرونه شيئا ، ولا يردون له قضاء .. ففيم إذن يهوله شيء مما هم فيه ، وربه هو الذي يعطي ويسلب حين يشاء كيف شاء؟ ..
إن أصحاب الدعوة إلى اللّه لا بد أن يجدوا حقيقة ربهم في نفوسهم على هذا النحو حتى يملكوا أن يقفوا بإيمانهم في استعلاء أمام قوى الجاهلية الطاغية من حولهم .. أمام القوة المادية. وقوة الصناعة. وقوة المال.
وقوة العلم البشري. وقوة الأنظمة والأجهزة والتجارب والخبرات .. وهم مستيقنون أن ربهم آخذ بناصية كل دابة وأن الناس - كل الناس - إن هم إلا دواب من الدواب! وذات يوم لا بد أن يقف أصحاب الدعوة من قومهم موقف المفاصلة الكاملة فإذا القوم الواحد أمتان مختلفتان .. أمة تدين للّه وحده وترفض الدينونة لسواه. وأمة تتخذ من دون اللّه أربابا ، وتحاد اللّه! ويوم تتم هذه المفاصلة يتحقق وعد اللّه بالنصر لأوليائه ، والتدمير على أعدائه - في صورة من الصور التي قد تخطر وقد لا تخطر على البال - ففي تاريخ الدعوة إلى اللّه على مدار التاريخ! لم يفصل اللّه بين أوليائه وأعدائه إلا بعد أن فاصل أولياؤه أعداءه على أساس العقيدة فاختاروا اللّه وحده .. وكانوا هم حزب اللّه الذين لا يعتمدون على غيره والذين لا يجدون لهم ناصرا سواه.
وحسبنا هذه الوقفات مع إلهامات قصة هود وعاد. لنتابع بعدها سياق السورة مع قصة صالح وثمود.
« وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً. قالَ : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ. هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها. فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ، إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ» ..
إنها الكلمة التي لا تتغير : «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» ..
وإنه كذلك المنهج الذي لا يتبدل :«فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» ..
ثم هو التعريف بحقيقة الألوهية كما يجدها في نفسه الرسول :«إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ» ..
وذكرهم صالح بنشأتهم من الأرض. نشأة جنسهم ، ونشأة أفرادهم من غذاء الأرض أو من عناصرها التي تتألف منها عناصر تكوينهم الجسدي. ومع أنهم من هذه الأرض. من عناصرها. فقد استخلفهم اللّه فيها ليعمروها. استخلفهم بجنسهم واستخلفهم بأشخاصهم بعد الذاهبين من قبلهم.
ثم هم بعد ذلك يشركون معه آلهة أخرى ..
«فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» ..واطمئنوا إلى استجابته وقبوله :«إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ» ..
والإضافة في «ربي» ولفظ «قريب» ولفظ «مجيب» واجتماعها وتجاورها .. ترسم صورة لحقيقة الألوهية كما تتجلى في قلب من قلوب الصفوة المختارة ، وتخلع على الجو أنسا واتصالا ومودة ، تنتقل من قلب النبي الصالح إلى قلوب مستمعيه لو كانت لهم قلوب! ولكن قلوب القوم كانت قد بلغت من الفساد والاستغلاق والانطماس درجة لا تستشعر معها جمال تلك الصورة ولا جلالها ، ولا تحس بشاشة هذا القول الرفيق ، ولا وضاءة هذا الجو الطليق .. وإذا بهم يفاجأون ، حتى ليظنون بأخيهم صالح الظنون! «قالُوا : يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا! أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا؟ وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ» ..
لقد كان لنا رجاء فيك. كنت مرجوا فينا لعلمك أو لعقلك أو لصدقك أو لحسن تدبيرك ، أو لهذا جميعه.
ولكن هذا الرجاء قد خاب ..
«أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا» ..
إنها للقاصمة! فكل شيء يا صالح إلا هذا! وما كنا لنتوقع أن تقولها! فيا لخيبة الرجاء فيك! ثم إننا لفي شك مما تدعونا إليه. شك يجعلنا نرتاب فيك وفيما تقول : «وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ» ..
وهكذا يعجب القوم مما لا عجب فيه بل يستنكرون ما هو واجب وحق ، ويدهشون لأن يدعوهم أخوهم صالح إلى عبادة اللّه وحده. لماذا؟ لا لحجة ولا لبرهان ولا لتفكير. ولكن لأن آباءهم يعبدون هذه الآلهة! وهكذا يبلغ التحجر بالناس أن يعجبوا من الحق البين. وأن يعللوا العقائد بفعل الآباء! وهكذا يتبين مرة وثانية وثالثة أن عقيدة التوحيد هي في صميمها دعوة للتحرر الشامل الكامل الصحيح.
ودعوة إلى إطلاق العقل البشري من عقال التقليد ، ومن أوهاق الوهم والخرافة التي لا تستند إلى دليل.
وتذكرنا قولة ثمود لصالح : «قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا» ..
تذكرنا بما كان لقريش من ثقة بصدق محمد - r - وأمانته. فلما أن دعاهم إلى ربوبية اللّه وحده تنكروا له كما تنكر قوم صالح ، وقالوا : ساحر. وقالوا : مفتر. ونسوا شهادتهم له وثقتهم فيه! إنها طبيعة واحدة ، ورواية واحدة تتكرر على مدى العصور والدهور ..
ويقول صالح كما قال جده نوح : «قال : يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة ، فمن ينصرني من اللّه إن عصيته؟ فما تزيدونني غير تخسير» ..
يا قوم : ماذا ترون إن كنت أجد في نفسي حقيقة ربي واضحة بينة ، تجعلني على يقين من أن هذا هو الطريق؟ وآتاني منه رحمة فاختارني لرسالته وأمدني بالخصائص التي تؤهلني لها. فمن ينصرني من اللّه إن أنا عصيته فقصرت في إبلاغكم دعوته ، احتفاظا برجائكم فيّ؟ أفنافعي هذا الرجاء وناصري من اللّه؟ كلا :
«فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ؟ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ» ..
ما تزيدونني إلا خسارة على خسارة .. غضب اللّه وحرماني شرف الرسالة وخزي الدنيا وعذاب الآخرة.
وهي خسارة بعد خسارة. ولا شيء إلا التخسير! والتثقيل والتشديد! «وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً ، فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ ، وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ» ولا يذكر السياق صفة لهذه الناقة التي أشار إليها صالح لتكون آية لهم وعلامة. ولكن في إضافتها للّه :
«هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ» وفي تخصيصها لهم : «لكم آية» ما يشير إلى أنها كانت ذات صفة خاصة مميزة ، يعلمون بها أنها آية لهم من اللّه. ونكتفي بهذا دون الخوض في ذلك الخضم من الأساطير والإسرائيليات التي تفرقت بها أقوال المفسرين حول ناقة صالح فيما مضى وفيما سيجي ء! «هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً. فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ» ..
وإلا فسيعاجلكم العذاب. يدل على هذه المعاجلة فاء الترتيب في العبارة. ولفظ قريب : «فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ» ..
يأخذكم أخذا. وهي حركة أشد من المس أو الوقوع.
«فَعَقَرُوها .. فَقالَ : تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ. ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ» ..
ودل عقرهم للناقة ، أي ضربهم لها بالسيف في قوائمها وقتلها على هذا النحو. دل على فساد قلوبهم واستهتارهم. والسياق هنا لا يطيل بين إعطائهم الناقة وعقرهم إياها ، لأنها لم تحدث في نفوسهم تجاه الدعوة تغييرا يذكر. ثم ليتابع السياق عجلة العذاب. فهو يعبر هنا بفاء التعقيب في كل الخطوات :
«فَعَقَرُوها. فَقالَ : تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ» ..
فهي آخر ما بقي لكم من متاع هذه الدنيا ومن أيام هذه الحياة : «ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ» ..
فهو وعد صادق لن يحيد ..
وبالفاء التعقيبية يعبر كذلك. فالعذاب لم يتأخر : «فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ، وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ، فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ» ..
فلما جاء موعد تحقيق الأمر - وهو الإنذار أو الإهلاك - نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ..
خاصة ومباشرة .. نجيناه من الموت ومن خزي ذلك اليوم ، فقد كانت ميتة ثمود ميتة مخزية ، وكان مشهدهم جاثمين في دورهم بعد الصاعقة المدوية التي تركتهم موتى على هيئتهم مشهدا مخزيا.
«إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ» ..
يأخذ العتاة أخذا ولا يعز عليه أمر ، ولا يهون من يتولاه ويرعاه.
ثم يعرض السياق مشهدهم ، معجّبا منهم ، ومن سرعة زوالهم : «كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها» ..
كأن لم يقيموا ويتمتعوا .. وإنه لمشهد مؤثر ، وإنها للمسة مثيرة ، والمشهد معروض ، وما بين الحياة والموت - بعد أن يكون - إلا لمحة كومضة العين ، وإذا الحياة كلها شريط سريع. كأن لم يغنوا فيها ...
ثم الخاتمة المعهودة في هذه السورة : تسجيل الذنب ، وتشييع اللعنة ، وانطواء الصفحة من الواقع ومن الذكرى : « أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ. أَلا بُعْداً لِثَمُودَ!» ..
ومرة أخرى نجدنا أمام حلقة من حلقات الرسالة على مدار التاريخ .. الدعوة فيها هي الدعوة. وحقيقة الإسلام فيها هي حقيقته .. عبادة اللّه وحده بلا شريك ، والدينونة للّه وحده بلا منازع .. ومرة أخرى نجد الجاهلية التي تعقب الإسلام ، ونجد الشرك الذي يعقب التوحيد - فثمود كعاد هم من ذراري المسلمين الذين نجوا في السفينة مع نوح - ولكنهم انحرفوا فصاروا إلى الجاهلية ، حتى جاءهم صالح ليردهم إلى الإسلام من جديد ..
ثم نجد أن القوم يواجهون الآية الخارقة التي طلبوها ، لا بالإيمان والتصديق ، ولكن بالجحود وعقر الناقة! ولقد كان مشركو العرب يطلبون من رسول اللّه - r - خارقة كالخوارق السابقة كي يؤمنوا.
فها هم أولاء قوم صالح قد جاءتهم الخارقة التي طلبوا. فما أغنت معهم شيئا! إن الإيمان لا يحتاج إلى الخوارق.
إنه دعوة بسيطة تتدبرها القلوب والعقول. ولكن الجاهلية هي التي تطمس على القلوب والعقول : !!! ومرة أخرى نجد حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلب من قلوب الصفوة المختارة. قلوب الرسل الكرام.
نجدها في قولة صالح التي يحكيها عنه القرآن الكريم : «قالَ : يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ، وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً ، فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ؟ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ» .. وذلك بعد أن يصف لهم ربه كما يجده في قلبه : «إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ» ..
وما تتجلى حقيقة الألوهية قط في كمالها وجلالها وروائها وجمالها كما تتجلى في قلوب تلك الصفوة المختارة من عباده. فهذه القلوب هي المعرض الصافي الرائق الذي تتجلى فيه هذه الحقيقة على هذا النحو الفريد العجيب !
ثم نقف من القصة أمام الجاهلية التي ترى في الرشد ضلالا وفي الحق عجيبة لا تكاد تتصورها! فصالح الذي كان مرجوا في قومه ، لصلاحه ولرجاحة عقله وخلقه ، يقف منه قومه موقف اليائس منه ، المفجوع فيه! لماذا؟ لأنه دعاهم إلى الدينونة للّه وحده. على غير ما ورثوا عن آبائهم من الدينونة لغيره! إن القلب البشري حين ينحرف شعرة واحدة عن العقيدة الصحيحة ، لا يقف عند حد في ضلاله وشروده.حتى إن الحق البسيط الفطري المنطقي ليبدو عنده عجيبة العجائب التي يعجز عن تصورها بينما هو يستسيغ الانحراف الذي لا يستند إلى منطق فطري أو منطق عقلي على الإطلاق! إن صالحا يناديهم : «يا قوم اعبدوا اللّه ما لكم من إله غيره .. هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ..» ..
فهو يناديهم بما في نشأتهم ووجودهم في الأرض من دليل فطري منطقي لا يملكون له ردا .. وهم ما كانوا يزعمون أنهم هم أنشئوا أنفسهم ، ولا أنهم هم كفلوا لأنفسهم البقاء ، ولا أعطوا أنفسهم هذه الأرزاق التي يستمتعون بها في الأرض ..
وظاهر أنهم لم يكونوا يجحدون أن اللّه - سبحانه - هو الذي أنشأهم من الأرض ، وهو الذي أقدرهم على عمارتها. ولكنهم ما كانوا يتبعون هذا الاعتراف بألوهية اللّه - سبحانه - وإنشائه لهم واستخلافهم في الأرض ، بما ينبغي أن يتبعه من الدينونة للّه وحده بلا شريك ، واتباع أمره وحده بلا منازع .. وهو ما يدعوهم إليه صالح بقوله : «يا قوم اعبدوا اللّه ما لكم من إله غيره» ..
لقد كانت القضية هي ذاتها .. قضية الربوبية لا قضية الألوهية. قضية الدينونة والحاكمية قضية الاتباع والطاعة .. إنها القضية الدائمة التي تدور عليها معركة الإسلام مع الجاهلية!
===============