بسم الله الرحمن الرحيم
المؤمن لا يخاف إلا من الله ويصدع مهما كلفه الثمن
المؤمن لا يخاف إلا من الله ويصدع مهما كلفه الثمن
فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1811)
«وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ ، إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ : يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ. ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً. ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ» ..
إن كان الأمر قد بلغ منكم مبلغ الضيق ، فلم تعودوا تتحملون بقائي فيكم ودعوتي لكم وتذكيري لكم بآيات اللّه. فأنتم وما تريدون. وأنا ماض في طريقي لا أعتمد إلا على اللّه :«فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ» ..
عليه وحده فهو حسبي دون النصراء والأولياء.
«فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ» ..وتدبروا مصادر أمركم وموارده ، وخذوا أهبتكم متضامنين :
«ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً» ..بل ليكن الموقف واضحا في نفوسكم ، وما تعتزمونه مقررا لا لبس فيه ولا غموض ، ولا تردد فيه ولا رجعة.
«ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ» ..فنفذوا ما اعتزمتم بشأني وما دبرتم ، بعد الروية ووزن الأمور كلها والتصميم الذي لا تردد فيه ..
«وَلا تُنْظِرُونِ» ..ولا تمهلوني للأهبة والاستعداد ، فكل استعدادي ، هو اعتمادي على اللّه وحده دون سواه.
إنه التحدي الصريح المثير ، الذي لا يقوله القائل إلا وهو مالئ يديه من قوته ، واثق كل الوثوق من عدته ، حتى ليغري خصومه بنفسه ، ويحرضهم بمثيرات القول على أن يهاجموه! فماذا كان وراء نوح من القوة والعدة؟ وماذا كان معه من قوى الأرض جميعا؟
كان معه الإيمان .. القوة التي تتصاغر أمامها القوى ، وتتضاءل أمامها الكثرة ، ويعجز أمامها التدبير.
وكان وراءه اللّه الذي لا يدع أولياءه لأولياء الشيطان! إنه الإيمان باللّه وحده ذلك الذي يصل صاحبه بمصدر القوة الكبرى المسيطرة على هذا الكون بما فيه ومن فيه. فليس هذا التحدي غرورا ، وليس كذلك تهورا ، وليس انتحارا. إنما هو تحدي القوة الحقيقية الكبرى للقوى الهزيلة الفانية التي تتضاءل وتتصاغر أمام أصحاب الإيمان.
وأصحاب الدعوة إلى اللّه لهم أسوة حسنة في رسل اللّه .. وإنه لينبغي لهم أن تمتلئ قلوبهم بالثقة حتى تفيض.
وإن لهم أن يتوكلوا على اللّه وحده في وجه الطاغوت أيا كان! ولن يضرهم الطاغوت إلّا أذى - ابتلاء من اللّه لا عجزا منه سبحانه عن نصرة أوليائه ، ولا تركا لهم ليسلمهم إلى أعدائه. ولكنه الابتلاء الذي يمحص القلوب والصفوف. ثم تعود الكرة للمؤمنين. ويحق وعد اللّه لهم بالنصر والتمكين.
واللّه سبحانه يقص قصة عبده نوح وهو يتحدى قوى الطاغوت في زمانه هذا التحدي الواضح الصريح.
فلنمض مع القصة لنرى نهايتها عن قريب ، «فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ. إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ. وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» .. فإن أعرضتم عني وابتعدتم ، فأنتم وشأنكم ، فما كنت أسألكم أجرا على الهداية ، فينقص أجري بتوليكم :«إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ» ..
ولن يزحزحني هذا عن عقيدتي ، فقد أمرت أن أسلم نفسي كلها للّه :«وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ»
وأنا عند ما أمرت به .. من المسلمين ..فماذا كان؟
«فَكَذَّبُوهُ. فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ. وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا»..
هكذا باختصار. نجاته هو ومن معه في الفلك - وهم المؤمنون. واستخلافهم في الأرض على قلتهم. وإغراق المكذبين على قوتهم وكثرتهم :«فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ» ..
لينظر من ينظر «عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ» المكذبين وليتعظ من يتعظ بعاقبة المؤمنين الناجين.
ويعجل السياق بإعلان نجاة نوح ومن معه ، لأن نوحا والقلة المؤمنة كانوا يواجهون خطر التحدي للكثرة الكافرة. فلم تكن النتيجة مجرد هلاك هذه الكثرة ، بل كان قبلها نجاة القلة من جميع الأخطار واستخلافها في الأرض ، تعيد تعميرها وتجديد الحياة فيها ، وتأدية الدور الرئيسي فترة من الزمان.
هذه سنة اللّه في الأرض. وهذا وعده لأوليائه فيها .. فإذا طال الطريق على العصبة المؤمنة مرة ، فيجب أن تعلم أن هذا هو الطريق ، وأن تستيقن أن العاقبة والاستخلاف للمؤمنين ، وألا تستعجل وعد اللّه حتى يجيء وهي ماضية في الطريق .. واللّه لا يخدع أولياءه - سبحانه - ولا يعجز عن نصرهم بقوته ، ولا يسلمهم كذلك لأعدائه .. ولكنه يعلمهم ويدربهم ويزودهم - في الابتلاء - بزاد الطريق ..
===============