طبقات الأطباء السريانيين
الذين كانوا في ابتداء ظهور دولة بني العبَّاس ولنبتدئ أولاً بذكر جورجس وابنه بختيشوع والمتميزين من أولاده على تواليهم ثم أذكر بعد ذلك ما يليق ذكره من الأطباء الذين كانوا في ذلك الوقت.
جورجيوس بن جبرائيل
كانت له خبرة بصناعة الطب ومعرفة بالمداواة وأنواع العلاج وخدم بصناعة الطب المنصور وكان حظياً عنده رفيع المنزلة ونال من جهته أموالاً جزيلة وقد نقل للمنصور كتباً كثيرة من كتب اليونانيين إلى العربي قال فثيون الترجمان أن أول من استدعى أبو جعفر المنصور لجورجس هو أن المنصور في سنة مائة وثمان وأربعين سنة للهجرة مرض وفسدت معدته وانقطعت شهوته وكلما عالجه الأطباء ازداد مرضه فتقدم إلى الربيع بأن يجمع الأطباء لمشاورتهم فجمعهم فقال لهم المنصور من تعرفون من الأطباء في سائر المدن طبيباً ماهراً فقالوا ليس في وقتنا هذا أحد يشبه جورجس رئيس أطباء جندي سابور فإنه ماهر في الطب وله مصنفات جليلة فانفذ المنصور في الوقت من يحضره فلما وصل الرسول إلى عامل البلد احضر جورجس وخاطبه بالخروج معه فقال له علي ههنا أسباب ولا بد أن تصبر علي أياماً حتى أخرج معك فقال له إن أنت خرجت معي في غد طوعاً وإلا أخرجتك كرهاً وامتنع عليه جورجس فأمر باعتقاله ولما اعتقل اجتمع رؤساء المدينة مع المطران فأشاروا على جورجس بالخروج فخرج بعد أن أوصى ابنه بختيشوع بأمر البيمارستان وأموره التي تتعلق به هناك وأخذ معه إبراهيم تلميذه وسرجس تلميذه فقال له ابنه بختيشوع لا تدع هاهنا عيسى بن شهلا فإنه يؤذي أهل البيمارستان فترك سرجس وأخذ عيسى معه عوضاً عنه وخرج إلى مدينة السلام ولما ودعه بختيشوع ابنه قال له لم لا تأخذني معك فقال لا تعجل يا بني فإنك ستخدم الملوك وتبلغ من الأحوال أجلها ولما وصل جورجس إلى الحضرة أمر المنصور بإيصاله إليه ولما وصل دعا إليه بالفارسية والعربية فتعجب الخليفة من حسن منظره ومنطقه فأجلسه قدامه وسأله عن أشياء فأجابه عنها بسكون فقال له قد ظفرت منك بما كنت أحبه وأشتاقه وحدثه بعلته وكيف كان ابتداؤها فقال له جورجس أنا أدبرك كما تحب فأمر الخليفة له في الوقت بخلعة جلية وقال للربيع أنزله في منزل جليل من دورنا وأكرمه كما تكرم أخص الأهل ولما كان من غد دخل إليه ونظر إلى نبضه وإلى قارورة الماء ووافقه على تخفيف الغذاء ودبره تدبيراً لطيفاً حتى رجع إلى مزاجه الأول وفرح به الخليفة فرحاً شديداً وأمر أن يجاب إلى كل ما يسأل ولما كان بعد أيام قال الخليفة للربيع أرى هذا الرجل قد تغير وجهه لا يكون قد منعته مما يشربه على عادته قال له الربيع لم نأذن له أن يدخل إلى هذه الدار مشروباً فأجابه بقبيح وقال له لا بد أن تمضي بنفسك حتى تحضره من المشروب كل ما يريده فمضى الربيع إلى قطربل وحمل منها إلى غاية ما أمكنه من الشراب الجيد ولما كان بعد سنتين قال الخليفة لجورجس أرسل من يحضر ابنك إلينا فقد بلغني أنه مثلك في الطب فقال له جورجس جندي سابور إليه محتاجة وإن فارقها انفسد أمر البيمارستان وكان أهل المدينة إذا مرضوا ساروا إليه وهاهنا معي تلامذة قد ربيتهم وخرجتهم في الصناعة حتى أنهم مثلي فأمر الخليفة بإحضارهم في غد ذلك اليوم ليختبرهم فلما كان من غد أخذ معه عيسى بن شهلا وأوصله إليه فسأله الخليفة عن أشياء وجده فيها حاد المزاج حاذقاً بالصناعة فقال الخليفة لجورجس ما أحسن ما وصفت هذا التلميذ وعلمته قال فثيون ولما كان في سنة إحدى وخمسين ومائة دخل جورجس إلى الخليفة في يوم الميلاد فقال له الخليفة أي شيء آكل اليوم فقال له ما تريد وخرج من بين يديه فلما بلغ الباب رده وقال له من يخدمك هاهنا فقال له تلامذتي فقال له سمعت أنه ليست لك امرأة فقال له لي زوجة كبيرة ضعيفة ولا تقدر تنتقل إليّ من موضعها وخرج من حضرته ومضى إلى البيعة فأمر الخليفة خادمه سالماً إن يختار من الجواري الروميات الحسان ثلاثاً ويحملهن إلى جورجس مع ثلاث آلاف دينار ففعل ذلك ولما انصرف جورجس إلى منزله عرفه عيسى بن شهلا بما جرى وأراه الجواري فأنكر أمورهن وقال لعيسى تلميذه يا تلميذ الشيطان لِم أدخلت هؤلاء منزلي امض ردهن إلى صاحبهن ثم ركب جورجس وعيسى ومعه الجواري إلى دار الخليفة وردهن على الخادم فلما اتصل الخبر بالمنصور أحضره وقال له لِم رددت الجواري قال له هؤلاء لا يكونون معي في بيت واحد لأنا نحن معشر النصارى لا نتزوج بأكثر من امرأة واحدة وما دامت المرأة في الحياة لا نأخذ غيرها فحسن موقعه من الخليفة وأمر في وقته أن يدخل جورجس إلى حظاياه وحرمه ويخدمهن وزاد موضعه في عينه وعظم محله قال فثيون ولما كان في سنة مائة واثنتين وخمسين سنة مرض جورجس مرضا صعباً وكان الخليفة يرسل إليه في كل يوم الخدم حتى يعرف خبره ولما اشتد مرض جورجس أمربه الخليفة فحمل على سرير إلى دار العامة وخرج إليه الخليفة ماشياً وراءه وسأله عن خبره فبكى جورجس بكاء شديدا وقال له إن رأى أمير المؤمنين أطال اللّه بقاءه إن يأذن لي في المصير إلى بلدي لأنظر إلى أهلي وولدي وإن مت قبرت مع آبائي فقال الخليفة يا جورجس اتق اللَّه وأَسْلِم وأنا أضمن لك الجنة.
قال جورجس أنا على دين آبائي أموت وحيث يكون آبائي أحب أن أكون إما في الجنة أو في جهنم فضحك الخليفة من قوله وقال له وجدت راحة عظيمة في جسمي منذ رأيتك وإلى هذه الغاية وقد تخلصت من الأمراض التي كانت تلحقني قال له جورجس إني أخلف بين يديك عيسى وهو تربيتي فأمر الخليفة أن يخرج جورجس إلى بلده وأن يدفع إليه عشرة آلاف دينار وأنفذ معه خادماً وقال إن مات في طريقه فاحمله إلى منزله ليدفن هناك كما آثر فوصل إلى بلده حياً وحصل عيسى بن شهلا في الخدمة وبسط يده على المطارنة والأساقفة يأخذ أموالهم لنفسه حتي أنه كتب إلى مطران نصيبين كتاباً يلتمس منه فيه من آلات البيعة أشياء جليلة المقدار ويتهدده متى أخرها عنه وقال في كتابه إلي المطران ألست تعلم أن أمر الملك بيدي إن شئت أمرضته ؤإن شئت عافيته فعندما وقف المطران على الكتاب احتال في التوصل حتى وافى الربيع وشرح له صورته وأقرأه الكتاب فأوصله الربيع إلى الخليفة حتى عرف شرح ما جرى فأمر بنفى عيسى بن شهلا بعد أن أخذ منه جميع ما ملكه ثم قال الخليفة للربيع سل عن جورجس فإن كان حياً فأنفذ من يحضره وإن كان قد مات فاحضر ابنه فكتب الربيع إلى العامل بجندي سابور في ذلك واتفق أن جورجس سقط في تلك الأيام من السطح وضعف ضعفاً فلما خاطبه أمير البلد قال له أنا أنفذ إلى الخليفة طبيباً ماهراً يخدمه إلى أن أصلح وأتوجه إليه وأحضر إبراهيم تلميذه وأنفذه إلى الأمير مع كتاب شرح فيه حال جورجس إلى الربيع فلما وصل إلى الربيع أوصله إلى الخليفة وخاطبه الخليفة في أشياء فوجده فيها حاد المزاج جيد الجواب فقربه وأكرمه وخلع عليه ووهب له مالاً واستخلصه لخدمته ولم يزل في الخدمة إلى أن مات المنصور ولجورجس من الكتب كناشه المشهور ونقله حنين بن إسحاق من السرياني إلى العربي.
بختيشوع بن جورجس
ومعنى بختيشوع عبد المسيح لأن في اللغة السريانية البخت العبد ويشوع عيسى عليه السلام وكان بختيشوع يلحق بأبيه في معرفته بصناعة الطب ومزاولته لأعمالها وخدم هارون الرشيد وتميز في أيامه قال فثيون الترجمان لما مرض موسى الهادي أرسل إلى جندي سابور من يحضر له بختيشوع فمات قبل قدوم بختيشوع وكان من خبره أنه جمع الأطباء وهم أبو قريش عيسى وعبد اللَّه الطيفوري وداؤد بن سرابيون وقال لهم أنتم تأخذون أموالي وجوائزي وفي وقت الشدة تتقاعدون بي فقال له أبو قريش علينا الاجتهاد واللَّه يهب السلامة فاغتاظ من هذا فقل له الربيع قد وُصف لنا أن بنهر صرصر طبيباً ماهراً يقال له عبد يشوع بن نصر فأمر بإحضاره وبأن تضرب أعناق الأطباء فلم يفعل الربيع هذا لعلمه باختلال عقله من شدة المرض ولأنه كان آمناً منه ووجه إلى صرصر حتى أحضر الرجل ولما دخل على موسى قال له رأيت القارورة قال نعم يا أمير المؤمنين وها أنا أصنع لك دواء تأخذه وإذا كان على تسع ساعات تبرأ وتتخلص وخرج من عنده وقال للأطباء لا تشغلوا قلوبكم فإنكم في هذا اليوم تنصرفون إلي بيوتكم وكان الهادي قد أمر بأن يدفع إليه عشرة آلاف درهم ليبتاع له بها الدواء فأخذها ووجه بها إلى بيته وأحضر أدوية وجمع الأطباء بالقرب من موضع الخليفة وقال لهم دقوا حتى يسمع وتسكن نفسه فإنكم في آخر النهار تتخلصون وكان كل ساعة يدعو به ويسأله عن الدواء فيقول له هو ذا تسمع صوت الدق فيسكت ولما كان بعد تسع ساعات مات وتخلص الأطباء وهذا في سنة سبعين ومائة قال فثيون ولما كان في سنة إحدى وسبعين ومائة مرض هارون الرشيد من صداع لحقه فقال ليحيى بن خالد هؤلاء الأطباء ليس يحسنون شيئاً فقال له يحيى يا أمير المؤمنين أبو قريش طبيب والدك ووالدتك فقال ليس هو بصيراً بالطب إنما كرامتي له لقديم حرمته فينبغي أن تطلب لي طبيباً ماهراً فقال له يحيى بن خالد أنه لما مرض أخوك موسى أرسل والدك إلى جندي سابور حتى حضر رجلاً يعرف ببختيشوع قال له فكيف تركه يمضي فقال لما رأى عيسى أبا قريش ووالدتك يحسدانه اذن له في الإنصراف إلى بلده فقال له أرسل بالبريد حتى يحملوه إن كان حياً ولما كان بعد مدة مديدة وافى بختيشوع الكبير بن جورجس ووصل إلى هارون الرشيد ودعا له بالعربية وبالفارسية فضحك الخليفة وقال ليحيى بن خالد أنت منطقي فتكلم معه حتى أسمع كلامه فقال له يحيى بل ندعو بالأطباء فدعى بهم وهم أبو قريش عيسى وعبد اللَّه الطيفوري وداود بن سرابيون وسرجس فلما رأوا يختيشوع قال أبو قريش يا أمير المؤمنين ليس في الجماعة من يقدر على الكلام مع هذا لأنه كون الكلام هو وأبوه وجنسه فلاسفة فقال الرشيد لبعض الخدم أحضره ماء دابّةٍ حتى نجربه فمضى الخادم وأحضره قارورة الماء فلما رآه قال يا أمير المؤمنين ليس هذا بول إنسان قال له أبو قريش كذبت هذا ماء حظية الخليفة فقال له بختيشوع لك أقول أيها الشيخ الكريم لم يبل هذا الإنسان البتة وإن كان الأمر على ما قلت فلعلها صارت بهيمة فقال له الخليفة من أين علمت أنه ليس ببول إنسان قال له بختيشوع لأنه ليس له قوام بول الناس ولا لونه ولا ريحه قال له الخليفة بين يدي من قرأت قال له قدام أبي جورجس قرأت قال له الأطباء أبوه كان اسمه جورجس ولم يكن مثله في زمانه وكان يكرمه أبو جعفر المنصور إكراماً شديداً ثم التفت الخليفة إلى بختيشوع فقال له ما ترى أن نطعم صاحب هذا الماء فقال شعيراً جيداً فضحك الرشيد ضحكاً شديداً وأمر فخلع عليه خلعة حسنة جليلة ووهب له مالاً وافراً وقال بختيشوع يكون رئيس الأطباء كلهم وله يسمعون ويطيعون ولبختيشوع بن جرجس من الكتب كناش مختصر كتاب التذكرة ألفه لابنه جبرائيل.
جبرائيل بن بختيشوع بن جورجس
كان مشهوراً بالفضل جيد التصرف في المداواة عالي الهمة سعيد الجد حظياً عند الخلفاء رفيع المنزلة عندهم كثيري الإحسان إليه وحصل من جهته من الأموال ما لم يحصله غيره من الأطباء قال فثيون الترجمان لما كان في سنة خمس وسبعين ومائة مرض جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك فتقدم الرشيد إلى بختيشوع أن يتولى خدمته ومعالجته ولما كان في بعض الأيام قال له جعفر أريد أن تختار لي طبيباً ماهراً أكرمه وأحسن إليه قال له بختيشوع ابني جبرائيل أمهر مني وليس في الأطباء من يشاكله فقال له احضرنيه ولما أحضره عالجه في مدة ثلاث أيام وبرأ فأحبه جعفر مثل نفسه وكان لا يصبر عنه ساعة ومعه يأكل ويشرب وفي تلك الأيام تمطت حظية الرشيد ورفعت يدها فبقيت منبسطة لا يمكنها ردها والأطباء يعالجونها بالتمريخ والأدهان ولا ينفع ذلك شيئاً فقال الرشيد لجعفر بن يحيى قد بقيت هذه الصبية بعلتها قال له جعفر لي طبيب ماهر وهو ابن بختيشوع ندعوه ونخاطبه في معنى هذا المرض فلعل عنده حيلة في علاجه فأمر بإحضاره ولما حضر قال له الرشيد ما اسمك قال جبرائيل قال له أي شيء تعرف من الطب فقال أبرد الحار وأسخن البارد وأرطب اليابس وأيبس الرطب الخارج عن الطبع فضحك الخليفة وقال هذا غاية ما يحتاج إليه في صناعة الطب ثم شرح له حال الصبية فقال له جبرائيل إن لم يسخط علي أمير المؤمنين فلها عندي حيلة فقال له وما هي قال تخرج الجارية إلى هاهنا بحضرة الجمع حتى أعمل ما أريده وتمهل علي ولا تعجل بالسخط فأمر الرشيد بإحضار الجارية فخرجت وحين رآها جبرائيل عدا إليها ونكس رأسه ومسك ذيلها كأنه يريد أن يكشفها فأنزعجت الجارية ومن شدة الحياء والانزعاج استرسلت أعضاؤها وبسطت يديها إلى أسفل ومسكت ذيلها فقال جبرائيل قد برئت يا أمير المؤمنين فقال الرشيد للجارية إبسطي يديك يمنة ويسرة ففعلت ذلك وعجب الرشيد وكل من كان بين يديه وأمر الرشيد في الوقت لجبرائيل بخمسمائة ألف درهم وأحبه مثل نفسه وجعله رئيساً على جميع الأطباء ولما سئل جبرائيل عن سبب العلة قال هذه الجارية أنصب إلى أعضائها وقت المجامعة خلط رقيق بالحركة وانتشار الحرارة ولا جل أنّ سكون حركةِ الجماع تكوّن بغتة جَمُدت الفضلةُ في بطون جميع الأعصاب وما كان يحلها إلا حركة مثلها فاحتلت حتى انبسطت حرارتها وانحلت الفضلة قال فثيون وكان محل جبرائيل يقوى في كل وقت حتى أن الرشيد قال لأصحابه كل من كانت له إلي حاجة فليخاطب بها جبرائيل لأني أفعل كل ما يسألني فيه ويطلبه مني فكان القواد يقصدونه في كل أمورهم وحاله تتزايد ومنذ يوم خدم الرشيد وإلى أن انقضت خمس عشرة سنة لم يمرض الرشيد فحظي عنده وفي آخر أيام الرشيد عند حصوله بطوس مرض المرضة التي توفي فيها ولما قوي عليه المرض قال لجبرائيل لم لا تبرئني فقال له قد كنت أنهاك دائماً عن التخليط وأقول لك قديماً أن تخفف من الجماع فلا تسمع مني والآن سألتك أن ترجع إلى بلدك فأنه أوفق لمزاجك فلم تقبل وهذا مرض شديد وأرجو أن يمن اللَّه بعافتيك فأمر بحبسه وقيل له أن بفارس أسقفاً يفهم الطب فوجه من يحضره إليه ولما حضره ورآه قال له الذي عالجك لم يكن يفهم الطب فزاد ذلك أبعاد جبرائيل وكان الفضل بن الربيع يحب جبرائيل ورأى أن الأسقف كذاب يريد إقامة السوق فأحسن فيما بينه وبين جبرائيل وكان الأسقف يعالج الرشيد ومرضه يزيد وهو يقول له أنت قريب من الصحة ثم قال له هذا المرض كله من خطأ جبرائيل فتقدم الرشيد بقتله فلم يقبل منه الفضل بن الربيع لأنه كان يئس من حياته فاستبقى جبرائيل.
ولما كان بعد أيام يسيرة مات الرشيد ولحق الفضل بن الربيع في تلك الأيام قولنج صعب أيس الأطباء منه فعالجه جبرائيل بألطف علاج وأحسنه فبرأ الفضل وازدادت محبته له وعجبه به قال فثيون ولما تولى محمد الأمين وافى إليه جبرائيل فقبله أحسن قبول وأكرمه ووهب له أموالاً جلية أكثر مما كان أبوه يهب له وكان الأمين لا يأكل ولا يشرب إلا بإذنه فلما كان من الأمين ما كان وملك الأمر المأمون كتب إلى الحسن بن سهل وهو يخلفه بالحضرة بأن يقبض على جبرائيل ويحبسه لأنه ترك قصره بعد موت أبيه الرشيد ومضى إلى أخيه الأمين ففعل الحسن بن سهل هذا ولما كان في سنة اثنتين ومائتين مرض الحسن بن سهل مرضاً شديداً وعالجه الأطباء فلم ينتفع بذلك فأخرج جبرائيل من الحبس حتى عالجه وبرأ في أيام يسيرة فوهب له سراً مالاً وافراً وكتب إلى المأمون يعرفه خبر علته وكيف برأ على يد جبرائيل ويسأله في أمره فأجابه بالصفح عنه قال فثيون ولما دخل المأمون الحضرة في سنة خمس ومائتين أمر بأن يجلس جبرائيل في منزله ولا يُخدم ووجّه مَن أحضر ميخائيل المتطبب وهو صهر جبرائيل وجعله مكانه وأكرمه إكراماً وافراً كياداً لجبرائيل قال ولما كان في سنة عشر ومائتين مرض المأمون مرضاً صعباً وكان وجوه الأطباء يعالجونه ولا يصلح فقال لميخائيل الأدوية التي تعطيني تزيدني شراً فاجمع الأطباء وشاورهم في أمري فقال له أخوه أبو عيسى يا أمير المؤمنين نحضر جبرائيل فإنه يعرف مزاجاتنا منذ الصبا فتغافل عن كلامه وأحضر أبو إسحاق أخوه يوحنا بن ماسويه فثلبه ميخائيل طبيبه ووقع فيه وطعن عليه فلما ضعفت قوة المأمون عن أخذ الأدوية أذكروه بجبرائيل فأمر بإحضاره ولما حضر غيَّر تدبيره كله فاستقل بعد يوم وبعد ثلاثة أيام صلح فسر به المأمون سروراً عظيماً ولما كان بعد أيام يسيرة صلح صلاحاً تاماً وأذن له جبرائيل في الأكل والشرب ففعل ذلك وقال له أبو عيسى أخوه وهو جالس معه على الشرب مثل هذا الرجل الذي لم يكن مثله ولا يكون و سبيله أن يكرم فأمر له المأمون بألف ألف درهم وبألف كر حنطة ورد عليه سائر ما قبض منه من الأملاك والضياع وصار إذا خاطبه كناه بأبي عيسى جبرائيل وأكرمه زيادة على ما كان أبوه يكرمه وانتهى به الأمر في الجلالة إلى أن كان كل من تقلد عملاً لا يخرج إلى عمله إلا بعد أن يلقى جبرائيل ويكرمه وكان عند المأمون مثل أبيه ونقص محل ميخائيل الطبيب صهر جبرائيل وانحط قال يوسف بن إبراهيم دخلت على جبرائيل داره التي بالميدان في يوم من تموز وبين يديه المائدة وعليها فراخ طيور مسرولة كبار وقد عملت كردناجاً بفلفل وهو يأكل منها وطالبني بأن آكل معه فقلت له كيف آكل منها في مثل هذا الوقت من السنة وسني سن الشباب قال لي ما الحمية عندك فقلت تجنب الأغذية الرديئة فقال لي غلطت ليس ما ذكرت حمية ثم قال لا أعرف أحداً عظم قدره ولا صغر يصل إلى الإمساك عن غداء من الأغذية كل دهره إلا أن يكون يبغضه ولا تتوق نفسه إليه لأن الإنسان قد يمسك عن أكل الشيء برهة من دهره ثم يضطره إلى أكله عدم أدم سواه لعلة من العلل أو مساعدة لعليل يكون عنده أوصديق يحلف عليه أو شهوة تتجدد له فمتى أكله وقد أمسك عن أكله منه المدة الطويلة لم تقبله طبيعته ونفرت منه وأحدث ذلك في بدن آكله مرضاً كثيراً وربما أتى على نفسه والأصلح للأبدان تمرينها على أكل الأغذية الرديئة حتى تألفها وأن يأكل منها في كل يوم شيئاً واحداً.
ولا يجمع أكل شيئين رديئين في يوم واحد وإذا أكل من بعض هذه الأشياء في يوم لم يعاود أكله في غد ذلك اليوم فإن الأبدان إذا مرنت على أكل هذه الأشياء ثم اضطر الإنسان إلى الإكثار من أكل بعضها لم تنفر الطبيعة منه فقد رأينا الأدوية المسهلة إذا أدمنها مدمن وألفها بدنه قل فعلها ولم تسهل وهؤلاء أهل الأندلس إذا أراد أحدهم إسهال طبيعته أخذ من السقمونيا وزن ثلاثة دراهم حتى تلين طبيعته مقدار ما يلينها نصف درهم في بلدنا وإذا كانت الأبدان تألف الأدوية حتى تمنعها من فعلها فهي للأغذية وإن كانت رديئة أشد إلفاً قال يوسف فحدثت بهذا الحديث بختيشوع بن جبرائيل فسألني إملاءه عليه وكتبه عني بخطه قال يوسف بن إبراهيم حدثني سليمان الخادم الخراساني مولى الرشيد أنه كان واقفاً على رأس الرشيد بالحيرة يوماً وهو يتغدى إذ دخل عليه عون العبادي الجوهري وهو حامل صحفة فيها سمكة منعوتة بالسمن فوضعها بين يديه ومعها محشي قد اتخذه لها فحاول الرشيد أكل شيء منها فمنعه من ذلك جبرائيل وغمز صاحب المائدة بعزلها له وفطن الرشيد فلما رفعت المائدة وغسل الرشيد يه خرج جبرائيل عن حضرته قال سليمان فأمرني الرشيد باتباعه وأخفاء شخصي عنه وأن اتفقد ما يعلمه وأرجع إليه بخبره ففعلت ما أمرني به وأحسب أن أمري لم يستتر عن جبرائيل لما تبينت من تحرزه فصار إلى موضع من دار عون ودعا بالطعام فأحضر له وفيه السمكة ودعا بثلاثة أقداح من فضة فجعل في واحد قطعة منها وصب عليه خمراً من خمر طيرناباذ بغير ماء وقال هذا أكل جبرائيل وجعل في قدح آخر قطعة وصب عليها ماء بثلج وقال هذا أكل أمير المؤمنين إن لم يخلط السمك بغيره وجعل في القدح الثالث قطعة من السمك ومعها قطعاً من اللحم من ألوان مختلفة ومن شواء وحلواء وبوارد وفراريج وبقول وصب عليه ماء بثلج وقال هذا طعام أمير المؤمنين أن خلط السمك بغيره ورفع الثلاثة الأقداح إلى صاحب المائدة وقال احتفظ بها إلى أن ينتبه أمير المؤمنين من قائلته قال سليمان الخادم ثم أقبل جبرائيل على السمكة فأكل منها حتى تضلع وكان كلما عطش دعا بقدح مع الخمر الصرف فشربه ثم نام فلما انتبه الرشيد من نومه دعاني فسألني عما عندي من خبر جبرائيل وهل أكل من السمكة شيئاً أم لم يأكل فأخبرته بالخبر فأمر بإحضار الثلاثة الأقداح فوجد الذي صب عليه الخمر الصرف قد تفتت ولم يبق منه شيء ووجد الذي صب عليه الماء بالثلج قد ربا وصار على أكثر من الضعف مما كان ووجد القدح الذي السمك واللحم فيه قد تغيرت رائحته وحدثت له سهوكة شديدة فأمرني الرشيد بحمل خمسة آلاف دينار إلى جبرائيل وقال من يلومني على محبة هذا الرجل الذي يدبرني هذا التدبير فأوصلت إليه المال وقال إسحاق بن علي الرهاوي في كتاب أدب الطبيب عن عيسى بن ماسة أن يوحنا بن ماسويه أخبره أن الرشيد قال لجبرائيل بن بختيشوع وهو حاج بمكة يا جبرائيل علمت مرتبتك عندي قال يا سيدي وكيف لا أعلم قال له دعوت لك واللَّه في الموقف دعاء كثيراً ثم التفت إلى بني هاشم فقال عسى أنكرتم قولي له فقالوا يا سيدنا ذمي فقال نعم ولكن صلاح بدني وقوامه به وصلاح المسلمين بي فصلاحهم بصلاحه وبقائه فقالوا صدقت يا أمير المؤمنين ونقلت من بعض التواريخ قال جبرائيل بن بختيشوع المتطبب اشتريت ضيعة بسبعمائة ألف درهم فنقدت بعض الثمن وتعذر علي بعضه فدخلت على يحيى بن خالد وعنده ولده وأنا أفكر فقال مالي أراك مفكراً فقلت اشتريت ضيعة بسبعمائة ألف فنقدت بعض الثمن وتعذر علي بعضه قال فدعا بالدواة وكتب يعطى جبرائيل سبعمائة إلف درهم ثم دفع إلى كل واحد من ولده فوقع فيه ثلاثمائة ألف قال فقلت جعلت فداك قد أديت عامة الثمن وإنما بقي أقله قال أصرف ذلك فيما ينوبك.
ثم صرت إلى دار أمير المؤمنين كنت عند أبيك وأخوتك ففعلوا بي كذا وكذا وإنما ذلك لخدمتي لك قال فما حالي أنا ثم دعا بدابته فركب إلى يحيى فقال يا أبت أخبرني جبرائيل بما كان فما حالي أنا من بين ولدك فقال يا أمير المؤمنين مر بما شئت يحمل إليه فأمر لي بخمسمائة ألف قال يوسف بن إبراهيم الحاسب المعروف بابن الداية كان لأم جعفر بنت أبي الفضل في قصر عيسى بن علي الذي كات تسكنه مجلس لا يجلس فيه إلا الحسّاب والمتطببون وكانت لا تشتكي علة إلى متطبب حتى يحضر جميع أهل الصناعتين ويكون مقامهم في ذلك المجلس إلى وقت جلوسها فكانت تجلس لهم في أحد موضعين اما عند الشباك الذي على الدكان الكبير المحاذي للشباك وللباب الأول من أبواب الدار أو عند الباب الصغير المحاذي لمسجد الدار فكان الحُسّاب والمتطبببون يجلسون من خارج الموضع الذي تجلس فيه ثم تشتكي ما تجد فيتناظر المتطببون فيما بينهم حتى يجتمعوا على العلة والعلاج فإن كان بينهم اختلاف دخل الحسّاب بينهم وقالوا بتصديق المصيب عندهم ثم تسأل الحساب عن اختيار وقت لذلك العلاج فإن اجتمعوا على وقت وإلا نظر المتطببون فيما بين الحساب وحكموا لإلزمهم القياس فاعتلت عند اجتماعها على الحج آخر حجة حجتها علة أجمع متطببوها على إخراج الدم من ساقيها بالحجامة واختار الحساب لها يوماً تحتجم فيه وكان ذلك في شهر رمضان فلم يمكن أن تكون الحجامة إلا في آخر النهار فكان ممن يختلف إليها من الحساب الحسن بن محمد الطوسي التميمي المعروف بالأبح وعمر بن الفرخان الطبري وشعيب اليهودي قال يوسف بن إبراهيم وكنت متى عرضت للأبح علة أو عاقه عن حضور دار أم جعفر عائق حضرت عنه فحضرت ذلك المجلس في الوقت الذي وقع الاختيار على حجامة أم جعفر فيه فوافيت ابناً لداؤد بن سرافيون حدثا يشبه أن يكون ابن أقل من عشرين سنة قد أمرت أم جعفر بإحضاره مع المتطببين ليتأدب بحضور ذلك المجلس وقد تقدمت إلى جميع من يطيف بها من المتطببين في تعليمه وتوقيفه عناية به لمكان أبيه من خدمتها فوافيته وهو يلاحي متطبباً راهباً أحضر دارها في ذلك اليوم من أهل الأهواز في شرب الماء للمنتبه من نومه ليلاً فقال ابن داؤد ما اللَّه خلق بأحمق ممن شرب ماء بعد انتباهه من نومه ووافى جبرائيل عندما قال الغلام هذا القول باب البيت فلم يدخل المجلس إلا وهو يقول أحمق واللَّه منه أن تتضرم نار على كبده فلم يطفئها ثم دخل فقال من صاحب الكلام الذي سمعته فقيل له ابن داؤد فعنفه على ذلك وقال له كانت لأبيك مرتبة جلية في هذه الصناعة وتتكلم بمثل ما سمعته منك فقال له الغلام فكأنك أعزك اللَّه تطلق شرب الماء بالليل عند الانتباه من النوم فقال جبرائيل المحرور الجاف المعدة ومن تعش وأكل طعاماً مالحاً فأطلقه له وأنا أمنع منه الرطبي المعد وأصحاب البلغم المالح لأن في منعهم من ذلك شفاء من رطوبات معدهم وأكل بعض البلغم المالح بعضاً فسكت عنه جميع من حضر ذلك المجلس غيري فقلت يا أبا عيسى قد بقيت واحدة قال وما هي قلت أن يكون العطشان يفهم من الطب مثل فهمك فيفهم عطشه من مرار أو من بلغم مالح فضحك جبرائيل ثم قال لي متى عطشت ليلاً فأبرز رجلاً من لحافك وتناوم قليلاً فإن تزايد عطشك فهو من حرارة أو من طعام يحتاج إلى شرب الماء عليه فاشرب وإن نقص عن عطشك شيء.
فأمسك عن شرب الماء فإنه من بلغم مالح قال يوسف بن إبراهيم وسأل أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي جبرائيل عن علة الورشكين فقال هو اسم ركبته الفرس من الكسر والصدر و واسم الصدر بالفارسية الفصيحة ور والعامة تسميه بر واسم الكسر اشكين فإذا جمعت اللفظتين كانتا ورشكين أي هذه العلة من العلل التي يجب أن يكسر عليها الصدر وهي علة لا تستحكم بإنسان فيكاد ينهض منها وإن من نهض منها لم يؤمن عليه النكسة سنة إلا أن يخرج منه استفراغ دم كثير تقذفه الطبيعة من الأنف أو من أسفل في وقت العلة أو بعدها قبل السنة فمتى حدث ذلك سلم منه فقال أبو إسحاق كالمتعجب سنة قال نعم جعلني اللَّه فداك وعلة أخرى يستخف بها الناس وهي الحصبة فإني ما أمنت على من أصابته من النكسة سنة إلاّ أن يصيبه بعقبها استطلاق بطن يكاد أن يأتي على نفسه أو يخرج به خراج كثير فإذا اصابه أحد هذين أمنت عليه قال يوسف ودخل جبرائيل على أبي إسحاق يوماً بعقب علة كان فيها وقد أذن له في أكل اللحم الغليظ فحين جلس وضعت بين يديه كشكية رطبة فأمر برفعها فسألته عن السبب فقال ما أطلقت لخليفة قط حم يوماً واحداً أكل الكشك سنة كاملة قال أبو إسحاق أي الكشكين أردت الذي بلبن أم الذي بغير لبن فقال الذي بغير لبن لا أطلق له أكله سنة وعلى قياس ما يوجبه الطب فليس ينبغي أن يطلق له أكل الكشك المعمول بلبن إلا بعد استكمال ثلاث سنين حدث ميمون بن هرون قال حدثني سعيد بن إسحاق النصراني قال قال لي جبرائيل بن بختيشوع كنت مع الرشيد بالرقة ومعه المأمون ومحمد الأمين ولداه وكان رجلاً بادناً كثير الأكل والشرب فأكل في بعض الأيام أشياء خلط فيها ودخل المستراح فغشي عليه وأخرج فقوي عليه الغشي حتى لم يشك في موته وأرسل إلي فحضرت وجسست عرقه فوجدته نبضاً خفياً وقد كان قبل ذلك بأيام يشكو امتلاء وحركة الدم فقلت لهم يموت والصواب أن يحجم الساعة فأجاب المأمون إليه وأحضر الحجم تقدمت بإقعاده فلما وَضَع المحاجم عليه ومصها رأيت الموضع قد احمر فطابت نفسي وعلمت أنه حي فقلت للحجام اشرط فشرط فخرج الدم فسجدت شكراً للَّه وجعل كلما خرج الدم يحرك رأسه ويَسْفُر لونه إلى أن تكلم وقال أين أنا فطيبنا نفسه وغدّيناه بصدر دَرَّاج وسقيناه شراباً وما زلنا نشمه الروائح الطيبة ونجعل في أنفه الطيب حتى تراجعت قوته وأدخل الناس إليه ثم وهب اللَّه عافيته فلما كان بعد أيام دعا صاحب حرصه فسأله عن غلته في السنة فعرفه أنها ثلثمائة ألف درهم وسأل حاجبه عن غلته فعرفه أنها ألف درهم فقال ما أنصفناك حيث غلات هؤلاء وهم يحرسوني من الناس على ما ذكروا وأنت تحرسني من الأمراض والأسقام وتكون غلتك ما ذكرته وأمر بإقطاعي غلة ألف ألف درهم فقلت له يا سيدي مالي حاجة إلى الإقطاع ولكن تهب لي ما أشتري به ضياعاً غلتها ألف ألف درهم فجميع ضياعي أملاك لا أقطاع قال يوسف بن إبراهيم حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي أن جبرائيل لجأ إليه حين انتهبت العوام داره في خلافة محمد الأمين فأسكنه معه في داره وحماه ممن كان يحاول قتله قال أبو إسحاق فكنت أرى من هلع جبرائيل وكثرة أسفه على ما تلف من ماله وشدة اغتمامه ما لم أتوهم أن أحداً بلغ به الوجه بماله مثل الذي بلغ بجبرائيل قال أبو إسحاق فلما ثارت المبيضة فظهرت العلوية بالبصرة والأهواز.
أتاني وهو مسرور و كأنه قد وصل بمائة إلف دينار فقلت له أرى أبا عيسى مسروراً فقال إني واللَّه لمسرور عين السرور فسألته عن سبب سروره فقال أنه حاز العلوية ضياعاً وضربوا عليها المنار فقلت له ما أعجب أمرك انتهبت لك العوام جزأ من مالك فخرجت نفسك من الجزع إلى ما خرجت إليه وتحوز العلوية جميع ما تملك فيظهر منك من السرور مثل الذي ظهر فقال جزعي بما ركبني به العوام لأني أوتيت في منامي وسلبت في عزي وأسلمني من يجب عليه حمايتي ولم يتعاظمني ما كان من العلوية لأنه من أكبر المحال عيش مثلي في دولتين بنعمة واحدة ولو لم تفعل العلوية في ضياعي ما فعلوا وقد كان يجب عليهم مع علمهم بصحة طويتي لموالي الذين أنعم اللَّه علي بنعمتهم التي ملكونيها أن يتقدموا في حفظ وكلائي والوصاة بضياعي ومزارعي وأن يقولوا لم يزل جبرائيل مالاً إلينا في أيام دولة أصحابه ومتفضلاً علينا من أمواله ويؤدي إلينا أخبار سادته فكان الخبر متى تأدى بذلك إلى السلطان قتلني فسروري بحيازة ضياعي وبسلامة نفسي مما كان هؤلاء الجهال ملكوه منها فلم يهتدوا إليه قال يوسف وحدثني فرخ الخادم المعروف بأبي خراسان مولى صالح بن الرشيد ووصيه قال كان مولاي صالح بن الرشيد على البصرة وكان عامله عليها أبو الرازي فلما أحدث جبرائيل بن بختيشوع عمارة داره التي في الميدان سأل مولاي أن يهدي له خمسمائة ساجة وكانت الساجة بثلاثة عشر ديناراً فاستكثر مولاي المال وقال له أما خمسمائة فلا ولكني أكتب إلى ابن الرازي في حمل مائتي ساجة إليك وقال جبرائيل فليست بي حاجة إليها قال فرخ فقلت لسيدي أرى جبرائيل سيدبر عليك تدبيراً بغيضاً فقال جبرائيل أهون علي من كل هين لأني لا أشرب له دواء ولا أقبل له علاجاً ثم استزار مولاي أمير المؤمنين المأمون فلما استوى المجلس بالمأمون قال له جبرائيل أرى وجهك متغيراً ثم قام إليه فجس عرقه وقال له يشرب أمير المؤمنين شربة سكنجبين ويؤخر الغداء حتى يفهم الخبر ففعل المأمون ما أشار به وأقبل يجس عرقه في الوقت بعد الوقت ثم لم يشعر بشيء حتى دخل غلمان جبرائيل ومعهم رغيف واحد ومعه ألوان قد اتخذت من قرع وماش وما أشبه ذلك فقال إني أكره لأمير المؤمنين أن يأكل في يومه هذا شيئاً من لحوم الحيوان فليأكل هذه الألوان فأكل منها ونام فلما انتبه من قائلته قال له يا أمير المؤمنين رائحة النبيذ تزيد في الحرارة والرأي لك الإنصراف فانصرف المأمون وتلفت نفقة مولاي كلها فقال لي مولاي يا أبا خراسان التمييز بين مائتي ساجة وخمسمائة ساجة واستزارة الخليفة لا يجتمعان قال يوسف وحدثني جورجس بن ميخائيل عن خاله جبرائيل وكان جبرائيل له مكرماً لكثرة علمه لأني لم أر في أهل هذا البيت بعد جبرائيل وأعلم منه على عجب كان فيه شديداً وسخف كثير أن جبرائيل أخبره أنه أنكر من الرشيد قلة الرزء للطعام أول المحرم سنة سبع وثمانين ومائة وأنه لم يكن يرى في مائه ولا في مجسة عرقه ما يدل على علة توجب قلة الطعام فكان يقول للرشيد يا أمير المؤمنين بدنك صحيح سليم بحمد اللَّه من العلل وما أعرف لتركك استيفاء الغذاء معنى فقال لي لما أكثرت عليه من القول في هذا الباب قد استوخمت مدينة السلام وأنا أكره الاستبعاد عنها في هذه الأيام أفتعرف مكاناً بالقرب منها صحيح الهواء فقلت له الحيرة يا أمير المؤمنين فقال قد نزلنا الحيرة مراراً فاجحفنا بعون العبادي في نزولنا بلده وهي أيضاً بعيدة فقلت يا أمير المؤمنين فالأنبار طيبة وظهرها فأصح هواء من الحيرة فخرج إليها فلم يزدد في طعامه شيئاً بل نقص وصام يوم الخميس قبل قتله جعفراً بيومين وليلة وأحضر جعفراً عشاءه وكان أيضاً صائماً فلم يصب الرشيد من الطعام كثير شيء فقال له جعفر يا أمير المؤمنين لو استزدت من الطعام فقال لو أردت ذلك لقدرت عليه إلا أني أحببت أن أبيت خفيف المعدة لأصبح وأنا أشتهي الطعام وأتغدى مع الحرم ثم بكر بالركوب غداة يوم الجمعة متنسماً وركب معه جعفر بن يحيى فرأيته وقد أدخل يده في كم جعفر حتى بلغ بدنه فضمه إليه وعانقه وقبل بين عينيه وسار يده في يد جعفر أكثر من ألف ذراع ثم رجع إلى مضربه وقال بحياتي أما أصطبحت في يومك هذا وجعلته يوم سرور فإني مشغول بأهلي ثم قال لي يا جبرائيل أنا اتغدى مع حرمي فكن مع أخي تسر بسروره فسرت مع جعفر وأحضر طعامه فتغدينا وأحضر أبا زكار المغني ولم يحضر مجلسه غيرنا ورأيت الخادم بعد الخادم يدخل إلينا فيساره فيتنفس عند مسارتهم إياه ويقول ويحك يا أبا عيسى لم يطعم أمير المؤمنين بعد وأنا واللَّه خائف أن تكون به علة تمنعه من الأكل ويأمر كلما أراد أن يشرب قدحاً أبا زكار أن يغنيه: إن بني المنذر حين انقضوا بحيث شاد البيعة الراهب أضحوا ولا يرهبهم راهب حقاً ولايرجوهم راغب كانت من الخز لبوساتهم لم يجلب الصوف لهم جالب كأنما جثتهم لعبة سار إلى لبين بها راكب فيغنيه أبو زكار هذا الصوت ولا يقترح غيره فلم تزل هذه حالنا إلى أن صليتا العتمة ثم دخل إلينا أبو هاشم مسرور الكبير ومعه خليفة هرثمة بن أعين ومعه جماعة كثيرة من الجند فمد يده خليفة هرثمة إلى يد جعفر ثم قال له قم يا فاسق قال جبرائيل ولم أكلم ولم يؤمر في بأمر وصرت إلى منزلي من ساعتي وأنا لا أعقل فما أقمت فيه إلا أقل من مقدار نصف ساعة حتى صار إلي رسول الرشيد يأمرني بالمصير إليه فدخلت إليه ورأس جعفر في طشت بين يديه فقال لي يا جبرائيل أليس كنت تسألني عن السبب في قلة رزئي للطعام فقلت بلى يا أمير المؤمنين فقال الفكرة فيما ترى أصارتني إلى ما كنت فيه وأنا اليوم يا جبرائيل عند نفسي كالناقة قدم غذائي حتى ترى من الزيادة على ما كنت تراه عجباً وإنما كنت آكل الشيء بعد الشيء لئلا يثقل الطعام علي فيمرضني ثم دعا بطعامه في ذلك الوقت فأكل أكلاً صالحاً من ليلته قال يوسف حدثني إبراهيم بن المهدي أنه تخلف عن مجلس محمد الأمين أمير المؤمنين أيام خلافته عشية من العشايا لدواء كان أخذه وإن جبرائيل بن بختيشوع باكره غداة اليوم الثاني وأبلغه سلام الأمين وسأله عن حاله كيف كانت في دوائه ثم دنا منه فقال له أمر أمير المؤمنين في تجهيز علي بن عيسى بن ماهان إلى خراسان ليأتيه بالمأمون أسيراً في قيد من فضة و بجبرائيل بريء من دين النصرانية أن لم يغلب المأمون محمداً ويقتله ويحوز ملكه - فقلت له ويحك ولم قلت هذا القول وكيف قلته قال لأن هذا الخليفة الموسوس سكر في هذه الليلة فدعا أبا عصمة الشيعي صاحب حرسه وأمر بسواده فنزع عنه وألبسه ثيابي وزناري وقلنسوتي وألبسني أقبيته وسواده وسيفه ومنطقته وأجلسني في مجلس صاحب الحرس إلى وقت طلوع لفجر وأجلسه في مجلسي وقال لكل واحد مني ومن أبي عصمة قد قلدتك ما كان يتقلده صاحبك فقلت أن اللَّه مغير ما به من نعمة لتغييره ما بنفسه منها وأنه إذا جعل حراسته إلى نصراني والنصرانية أذل الأديان لأنه ليس في عقد دين غيرها التسليم لما يريد به عدوه من المكروه مثل الإذعان لمن سخره بالسخرة وأن يمشي ميلاً أن يزيد على ذلك ميلاً آخر وإن لطم له خد حول الآخر ليلطم غير ديني فقضيت بأن عز الرجل زائل وقضيت أنه حين أجلس في مجلس متطببه الحافظ عنده لحياته والقائم بمصالح بدنه والخادم لطبيعته أبا عصمة الذي لا يفهم من كل ذلك قليلاً ولا كثيراً بأنه لا عمر له وأن نفسه تالفة.
قال أبو إسحاق فكان على ما تفاءل جبرائيل به قال يوسف بن إبراهيم وسمعت جبرائيل بن يختيشوع يحدث أبا إسحاق إبراهيم بن المهدي أنه كان عند العباس بن محمد إذ دخل عليه شاعر امتدحه فلم يزل جبرائيل يسمع منه إلى أن صار إلى هذا البيت وهو: لو قيل للعباس يا ابن محمد قل لا وأنت مخلد ما قالها قال جبرائيل فلما سمعت هذا البيت لم أصبر لعلمي أن العباس أبخل أهل زمانه فقلت لا فتبسم العباس ثم قال لي اغرب قبح اللَّه وجهك أقول هذا الشاعر الذي يشار إليه هو ربيعة الرقى قال يوسف وحدث جبرائيل أبا إسحاق في هذا المجلس أنه دخل على العباس بعد فطر النصارى بيوم وفي رأسه فضلة من نبيذة بالأمس وذلك قبل أن يخدم جبرائيل الرشيد فقال جبرائيل للعباس كيف أصبح الأمير أعزه اللَّه فقال العباس أصبحت كما تحب فقال له جبرائيل واللَّه ما أصبح الأمير على ما أحب ولا على ما يحب اللَّه ولا على ما يحب الشيطان فغضب العباس من قوله ثم قال له ما هذا الكلام قبحك اللَّه قال جبرائيل فقلت عليّ البرهان فقال العباس لتأتيني به وإلا أحسنت أدبك ولم تدخل لي داراً فقال جبرائيل الذي كنت أحب أن تكون أمير المؤمنين فأنت كذلك قال العباس لا قال جبرائيل والذي يحب اللَّهُ من عباده الطاعة له فيما أمرهم به ونهاهم عنه فأنت أيها الملك كذلك فقال العباس لا واستغفر اللَّه قال جبرائيل والذي يحب الشيطانُ من العباد أن يكفروا باللَّه ويجحدوا ربوبيته فأنت كذلك أيها الأمير فقال له العباس لا ولا تعد إلى مثل هذا القول بعد يومك هذا قال فثيون الترجمان ولما عزم المأمون على الخروج إلى بلد الروم في سنة ثلاث عشرة ومائتين مرض جبرائيل مرضاً شديداً قوياً فلما رآه المأمون ضعيفاً التمس منه إنفاذ بختيشوع ابنه معه إلى بلد الروم فأحضره وكان مثل أبيه في الفهم والعقل والسرو ولما خاطبه المأمون وسمع حسن جوابه فرح به فرحاً شديداً وأكرمه غاية الإكرام ورفع منزلته وأخرجه معه إلى بلد الروم لما خرج طال مرض جبرائيل إلى أن بلغ الموت وعمل وصيته إلى المأمون ودفعها إلى ميخائيل صهره ومات فمضى في تجميل موته ما لم يمض لأمثاله بحسب استحقاقه بأفعاله الحسنة وخيريته ودفن في دير مار سرجس بالمدائن ولما عاد ابنه بختيشوع من بلد الروم جمع للدير رهباناً وأجرى عليهم جميع ما يحتاجون إليه.
الذين كانوا في ابتداء ظهور دولة بني العبَّاس ولنبتدئ أولاً بذكر جورجس وابنه بختيشوع والمتميزين من أولاده على تواليهم ثم أذكر بعد ذلك ما يليق ذكره من الأطباء الذين كانوا في ذلك الوقت.
جورجيوس بن جبرائيل
كانت له خبرة بصناعة الطب ومعرفة بالمداواة وأنواع العلاج وخدم بصناعة الطب المنصور وكان حظياً عنده رفيع المنزلة ونال من جهته أموالاً جزيلة وقد نقل للمنصور كتباً كثيرة من كتب اليونانيين إلى العربي قال فثيون الترجمان أن أول من استدعى أبو جعفر المنصور لجورجس هو أن المنصور في سنة مائة وثمان وأربعين سنة للهجرة مرض وفسدت معدته وانقطعت شهوته وكلما عالجه الأطباء ازداد مرضه فتقدم إلى الربيع بأن يجمع الأطباء لمشاورتهم فجمعهم فقال لهم المنصور من تعرفون من الأطباء في سائر المدن طبيباً ماهراً فقالوا ليس في وقتنا هذا أحد يشبه جورجس رئيس أطباء جندي سابور فإنه ماهر في الطب وله مصنفات جليلة فانفذ المنصور في الوقت من يحضره فلما وصل الرسول إلى عامل البلد احضر جورجس وخاطبه بالخروج معه فقال له علي ههنا أسباب ولا بد أن تصبر علي أياماً حتى أخرج معك فقال له إن أنت خرجت معي في غد طوعاً وإلا أخرجتك كرهاً وامتنع عليه جورجس فأمر باعتقاله ولما اعتقل اجتمع رؤساء المدينة مع المطران فأشاروا على جورجس بالخروج فخرج بعد أن أوصى ابنه بختيشوع بأمر البيمارستان وأموره التي تتعلق به هناك وأخذ معه إبراهيم تلميذه وسرجس تلميذه فقال له ابنه بختيشوع لا تدع هاهنا عيسى بن شهلا فإنه يؤذي أهل البيمارستان فترك سرجس وأخذ عيسى معه عوضاً عنه وخرج إلى مدينة السلام ولما ودعه بختيشوع ابنه قال له لم لا تأخذني معك فقال لا تعجل يا بني فإنك ستخدم الملوك وتبلغ من الأحوال أجلها ولما وصل جورجس إلى الحضرة أمر المنصور بإيصاله إليه ولما وصل دعا إليه بالفارسية والعربية فتعجب الخليفة من حسن منظره ومنطقه فأجلسه قدامه وسأله عن أشياء فأجابه عنها بسكون فقال له قد ظفرت منك بما كنت أحبه وأشتاقه وحدثه بعلته وكيف كان ابتداؤها فقال له جورجس أنا أدبرك كما تحب فأمر الخليفة له في الوقت بخلعة جلية وقال للربيع أنزله في منزل جليل من دورنا وأكرمه كما تكرم أخص الأهل ولما كان من غد دخل إليه ونظر إلى نبضه وإلى قارورة الماء ووافقه على تخفيف الغذاء ودبره تدبيراً لطيفاً حتى رجع إلى مزاجه الأول وفرح به الخليفة فرحاً شديداً وأمر أن يجاب إلى كل ما يسأل ولما كان بعد أيام قال الخليفة للربيع أرى هذا الرجل قد تغير وجهه لا يكون قد منعته مما يشربه على عادته قال له الربيع لم نأذن له أن يدخل إلى هذه الدار مشروباً فأجابه بقبيح وقال له لا بد أن تمضي بنفسك حتى تحضره من المشروب كل ما يريده فمضى الربيع إلى قطربل وحمل منها إلى غاية ما أمكنه من الشراب الجيد ولما كان بعد سنتين قال الخليفة لجورجس أرسل من يحضر ابنك إلينا فقد بلغني أنه مثلك في الطب فقال له جورجس جندي سابور إليه محتاجة وإن فارقها انفسد أمر البيمارستان وكان أهل المدينة إذا مرضوا ساروا إليه وهاهنا معي تلامذة قد ربيتهم وخرجتهم في الصناعة حتى أنهم مثلي فأمر الخليفة بإحضارهم في غد ذلك اليوم ليختبرهم فلما كان من غد أخذ معه عيسى بن شهلا وأوصله إليه فسأله الخليفة عن أشياء وجده فيها حاد المزاج حاذقاً بالصناعة فقال الخليفة لجورجس ما أحسن ما وصفت هذا التلميذ وعلمته قال فثيون ولما كان في سنة إحدى وخمسين ومائة دخل جورجس إلى الخليفة في يوم الميلاد فقال له الخليفة أي شيء آكل اليوم فقال له ما تريد وخرج من بين يديه فلما بلغ الباب رده وقال له من يخدمك هاهنا فقال له تلامذتي فقال له سمعت أنه ليست لك امرأة فقال له لي زوجة كبيرة ضعيفة ولا تقدر تنتقل إليّ من موضعها وخرج من حضرته ومضى إلى البيعة فأمر الخليفة خادمه سالماً إن يختار من الجواري الروميات الحسان ثلاثاً ويحملهن إلى جورجس مع ثلاث آلاف دينار ففعل ذلك ولما انصرف جورجس إلى منزله عرفه عيسى بن شهلا بما جرى وأراه الجواري فأنكر أمورهن وقال لعيسى تلميذه يا تلميذ الشيطان لِم أدخلت هؤلاء منزلي امض ردهن إلى صاحبهن ثم ركب جورجس وعيسى ومعه الجواري إلى دار الخليفة وردهن على الخادم فلما اتصل الخبر بالمنصور أحضره وقال له لِم رددت الجواري قال له هؤلاء لا يكونون معي في بيت واحد لأنا نحن معشر النصارى لا نتزوج بأكثر من امرأة واحدة وما دامت المرأة في الحياة لا نأخذ غيرها فحسن موقعه من الخليفة وأمر في وقته أن يدخل جورجس إلى حظاياه وحرمه ويخدمهن وزاد موضعه في عينه وعظم محله قال فثيون ولما كان في سنة مائة واثنتين وخمسين سنة مرض جورجس مرضا صعباً وكان الخليفة يرسل إليه في كل يوم الخدم حتى يعرف خبره ولما اشتد مرض جورجس أمربه الخليفة فحمل على سرير إلى دار العامة وخرج إليه الخليفة ماشياً وراءه وسأله عن خبره فبكى جورجس بكاء شديدا وقال له إن رأى أمير المؤمنين أطال اللّه بقاءه إن يأذن لي في المصير إلى بلدي لأنظر إلى أهلي وولدي وإن مت قبرت مع آبائي فقال الخليفة يا جورجس اتق اللَّه وأَسْلِم وأنا أضمن لك الجنة.
قال جورجس أنا على دين آبائي أموت وحيث يكون آبائي أحب أن أكون إما في الجنة أو في جهنم فضحك الخليفة من قوله وقال له وجدت راحة عظيمة في جسمي منذ رأيتك وإلى هذه الغاية وقد تخلصت من الأمراض التي كانت تلحقني قال له جورجس إني أخلف بين يديك عيسى وهو تربيتي فأمر الخليفة أن يخرج جورجس إلى بلده وأن يدفع إليه عشرة آلاف دينار وأنفذ معه خادماً وقال إن مات في طريقه فاحمله إلى منزله ليدفن هناك كما آثر فوصل إلى بلده حياً وحصل عيسى بن شهلا في الخدمة وبسط يده على المطارنة والأساقفة يأخذ أموالهم لنفسه حتي أنه كتب إلى مطران نصيبين كتاباً يلتمس منه فيه من آلات البيعة أشياء جليلة المقدار ويتهدده متى أخرها عنه وقال في كتابه إلي المطران ألست تعلم أن أمر الملك بيدي إن شئت أمرضته ؤإن شئت عافيته فعندما وقف المطران على الكتاب احتال في التوصل حتى وافى الربيع وشرح له صورته وأقرأه الكتاب فأوصله الربيع إلى الخليفة حتى عرف شرح ما جرى فأمر بنفى عيسى بن شهلا بعد أن أخذ منه جميع ما ملكه ثم قال الخليفة للربيع سل عن جورجس فإن كان حياً فأنفذ من يحضره وإن كان قد مات فاحضر ابنه فكتب الربيع إلى العامل بجندي سابور في ذلك واتفق أن جورجس سقط في تلك الأيام من السطح وضعف ضعفاً فلما خاطبه أمير البلد قال له أنا أنفذ إلى الخليفة طبيباً ماهراً يخدمه إلى أن أصلح وأتوجه إليه وأحضر إبراهيم تلميذه وأنفذه إلى الأمير مع كتاب شرح فيه حال جورجس إلى الربيع فلما وصل إلى الربيع أوصله إلى الخليفة وخاطبه الخليفة في أشياء فوجده فيها حاد المزاج جيد الجواب فقربه وأكرمه وخلع عليه ووهب له مالاً واستخلصه لخدمته ولم يزل في الخدمة إلى أن مات المنصور ولجورجس من الكتب كناشه المشهور ونقله حنين بن إسحاق من السرياني إلى العربي.
بختيشوع بن جورجس
ومعنى بختيشوع عبد المسيح لأن في اللغة السريانية البخت العبد ويشوع عيسى عليه السلام وكان بختيشوع يلحق بأبيه في معرفته بصناعة الطب ومزاولته لأعمالها وخدم هارون الرشيد وتميز في أيامه قال فثيون الترجمان لما مرض موسى الهادي أرسل إلى جندي سابور من يحضر له بختيشوع فمات قبل قدوم بختيشوع وكان من خبره أنه جمع الأطباء وهم أبو قريش عيسى وعبد اللَّه الطيفوري وداؤد بن سرابيون وقال لهم أنتم تأخذون أموالي وجوائزي وفي وقت الشدة تتقاعدون بي فقال له أبو قريش علينا الاجتهاد واللَّه يهب السلامة فاغتاظ من هذا فقل له الربيع قد وُصف لنا أن بنهر صرصر طبيباً ماهراً يقال له عبد يشوع بن نصر فأمر بإحضاره وبأن تضرب أعناق الأطباء فلم يفعل الربيع هذا لعلمه باختلال عقله من شدة المرض ولأنه كان آمناً منه ووجه إلى صرصر حتى أحضر الرجل ولما دخل على موسى قال له رأيت القارورة قال نعم يا أمير المؤمنين وها أنا أصنع لك دواء تأخذه وإذا كان على تسع ساعات تبرأ وتتخلص وخرج من عنده وقال للأطباء لا تشغلوا قلوبكم فإنكم في هذا اليوم تنصرفون إلي بيوتكم وكان الهادي قد أمر بأن يدفع إليه عشرة آلاف درهم ليبتاع له بها الدواء فأخذها ووجه بها إلى بيته وأحضر أدوية وجمع الأطباء بالقرب من موضع الخليفة وقال لهم دقوا حتى يسمع وتسكن نفسه فإنكم في آخر النهار تتخلصون وكان كل ساعة يدعو به ويسأله عن الدواء فيقول له هو ذا تسمع صوت الدق فيسكت ولما كان بعد تسع ساعات مات وتخلص الأطباء وهذا في سنة سبعين ومائة قال فثيون ولما كان في سنة إحدى وسبعين ومائة مرض هارون الرشيد من صداع لحقه فقال ليحيى بن خالد هؤلاء الأطباء ليس يحسنون شيئاً فقال له يحيى يا أمير المؤمنين أبو قريش طبيب والدك ووالدتك فقال ليس هو بصيراً بالطب إنما كرامتي له لقديم حرمته فينبغي أن تطلب لي طبيباً ماهراً فقال له يحيى بن خالد أنه لما مرض أخوك موسى أرسل والدك إلى جندي سابور حتى حضر رجلاً يعرف ببختيشوع قال له فكيف تركه يمضي فقال لما رأى عيسى أبا قريش ووالدتك يحسدانه اذن له في الإنصراف إلى بلده فقال له أرسل بالبريد حتى يحملوه إن كان حياً ولما كان بعد مدة مديدة وافى بختيشوع الكبير بن جورجس ووصل إلى هارون الرشيد ودعا له بالعربية وبالفارسية فضحك الخليفة وقال ليحيى بن خالد أنت منطقي فتكلم معه حتى أسمع كلامه فقال له يحيى بل ندعو بالأطباء فدعى بهم وهم أبو قريش عيسى وعبد اللَّه الطيفوري وداود بن سرابيون وسرجس فلما رأوا يختيشوع قال أبو قريش يا أمير المؤمنين ليس في الجماعة من يقدر على الكلام مع هذا لأنه كون الكلام هو وأبوه وجنسه فلاسفة فقال الرشيد لبعض الخدم أحضره ماء دابّةٍ حتى نجربه فمضى الخادم وأحضره قارورة الماء فلما رآه قال يا أمير المؤمنين ليس هذا بول إنسان قال له أبو قريش كذبت هذا ماء حظية الخليفة فقال له بختيشوع لك أقول أيها الشيخ الكريم لم يبل هذا الإنسان البتة وإن كان الأمر على ما قلت فلعلها صارت بهيمة فقال له الخليفة من أين علمت أنه ليس ببول إنسان قال له بختيشوع لأنه ليس له قوام بول الناس ولا لونه ولا ريحه قال له الخليفة بين يدي من قرأت قال له قدام أبي جورجس قرأت قال له الأطباء أبوه كان اسمه جورجس ولم يكن مثله في زمانه وكان يكرمه أبو جعفر المنصور إكراماً شديداً ثم التفت الخليفة إلى بختيشوع فقال له ما ترى أن نطعم صاحب هذا الماء فقال شعيراً جيداً فضحك الرشيد ضحكاً شديداً وأمر فخلع عليه خلعة حسنة جليلة ووهب له مالاً وافراً وقال بختيشوع يكون رئيس الأطباء كلهم وله يسمعون ويطيعون ولبختيشوع بن جرجس من الكتب كناش مختصر كتاب التذكرة ألفه لابنه جبرائيل.
جبرائيل بن بختيشوع بن جورجس
كان مشهوراً بالفضل جيد التصرف في المداواة عالي الهمة سعيد الجد حظياً عند الخلفاء رفيع المنزلة عندهم كثيري الإحسان إليه وحصل من جهته من الأموال ما لم يحصله غيره من الأطباء قال فثيون الترجمان لما كان في سنة خمس وسبعين ومائة مرض جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك فتقدم الرشيد إلى بختيشوع أن يتولى خدمته ومعالجته ولما كان في بعض الأيام قال له جعفر أريد أن تختار لي طبيباً ماهراً أكرمه وأحسن إليه قال له بختيشوع ابني جبرائيل أمهر مني وليس في الأطباء من يشاكله فقال له احضرنيه ولما أحضره عالجه في مدة ثلاث أيام وبرأ فأحبه جعفر مثل نفسه وكان لا يصبر عنه ساعة ومعه يأكل ويشرب وفي تلك الأيام تمطت حظية الرشيد ورفعت يدها فبقيت منبسطة لا يمكنها ردها والأطباء يعالجونها بالتمريخ والأدهان ولا ينفع ذلك شيئاً فقال الرشيد لجعفر بن يحيى قد بقيت هذه الصبية بعلتها قال له جعفر لي طبيب ماهر وهو ابن بختيشوع ندعوه ونخاطبه في معنى هذا المرض فلعل عنده حيلة في علاجه فأمر بإحضاره ولما حضر قال له الرشيد ما اسمك قال جبرائيل قال له أي شيء تعرف من الطب فقال أبرد الحار وأسخن البارد وأرطب اليابس وأيبس الرطب الخارج عن الطبع فضحك الخليفة وقال هذا غاية ما يحتاج إليه في صناعة الطب ثم شرح له حال الصبية فقال له جبرائيل إن لم يسخط علي أمير المؤمنين فلها عندي حيلة فقال له وما هي قال تخرج الجارية إلى هاهنا بحضرة الجمع حتى أعمل ما أريده وتمهل علي ولا تعجل بالسخط فأمر الرشيد بإحضار الجارية فخرجت وحين رآها جبرائيل عدا إليها ونكس رأسه ومسك ذيلها كأنه يريد أن يكشفها فأنزعجت الجارية ومن شدة الحياء والانزعاج استرسلت أعضاؤها وبسطت يديها إلى أسفل ومسكت ذيلها فقال جبرائيل قد برئت يا أمير المؤمنين فقال الرشيد للجارية إبسطي يديك يمنة ويسرة ففعلت ذلك وعجب الرشيد وكل من كان بين يديه وأمر الرشيد في الوقت لجبرائيل بخمسمائة ألف درهم وأحبه مثل نفسه وجعله رئيساً على جميع الأطباء ولما سئل جبرائيل عن سبب العلة قال هذه الجارية أنصب إلى أعضائها وقت المجامعة خلط رقيق بالحركة وانتشار الحرارة ولا جل أنّ سكون حركةِ الجماع تكوّن بغتة جَمُدت الفضلةُ في بطون جميع الأعصاب وما كان يحلها إلا حركة مثلها فاحتلت حتى انبسطت حرارتها وانحلت الفضلة قال فثيون وكان محل جبرائيل يقوى في كل وقت حتى أن الرشيد قال لأصحابه كل من كانت له إلي حاجة فليخاطب بها جبرائيل لأني أفعل كل ما يسألني فيه ويطلبه مني فكان القواد يقصدونه في كل أمورهم وحاله تتزايد ومنذ يوم خدم الرشيد وإلى أن انقضت خمس عشرة سنة لم يمرض الرشيد فحظي عنده وفي آخر أيام الرشيد عند حصوله بطوس مرض المرضة التي توفي فيها ولما قوي عليه المرض قال لجبرائيل لم لا تبرئني فقال له قد كنت أنهاك دائماً عن التخليط وأقول لك قديماً أن تخفف من الجماع فلا تسمع مني والآن سألتك أن ترجع إلى بلدك فأنه أوفق لمزاجك فلم تقبل وهذا مرض شديد وأرجو أن يمن اللَّه بعافتيك فأمر بحبسه وقيل له أن بفارس أسقفاً يفهم الطب فوجه من يحضره إليه ولما حضره ورآه قال له الذي عالجك لم يكن يفهم الطب فزاد ذلك أبعاد جبرائيل وكان الفضل بن الربيع يحب جبرائيل ورأى أن الأسقف كذاب يريد إقامة السوق فأحسن فيما بينه وبين جبرائيل وكان الأسقف يعالج الرشيد ومرضه يزيد وهو يقول له أنت قريب من الصحة ثم قال له هذا المرض كله من خطأ جبرائيل فتقدم الرشيد بقتله فلم يقبل منه الفضل بن الربيع لأنه كان يئس من حياته فاستبقى جبرائيل.
ولما كان بعد أيام يسيرة مات الرشيد ولحق الفضل بن الربيع في تلك الأيام قولنج صعب أيس الأطباء منه فعالجه جبرائيل بألطف علاج وأحسنه فبرأ الفضل وازدادت محبته له وعجبه به قال فثيون ولما تولى محمد الأمين وافى إليه جبرائيل فقبله أحسن قبول وأكرمه ووهب له أموالاً جلية أكثر مما كان أبوه يهب له وكان الأمين لا يأكل ولا يشرب إلا بإذنه فلما كان من الأمين ما كان وملك الأمر المأمون كتب إلى الحسن بن سهل وهو يخلفه بالحضرة بأن يقبض على جبرائيل ويحبسه لأنه ترك قصره بعد موت أبيه الرشيد ومضى إلى أخيه الأمين ففعل الحسن بن سهل هذا ولما كان في سنة اثنتين ومائتين مرض الحسن بن سهل مرضاً شديداً وعالجه الأطباء فلم ينتفع بذلك فأخرج جبرائيل من الحبس حتى عالجه وبرأ في أيام يسيرة فوهب له سراً مالاً وافراً وكتب إلى المأمون يعرفه خبر علته وكيف برأ على يد جبرائيل ويسأله في أمره فأجابه بالصفح عنه قال فثيون ولما دخل المأمون الحضرة في سنة خمس ومائتين أمر بأن يجلس جبرائيل في منزله ولا يُخدم ووجّه مَن أحضر ميخائيل المتطبب وهو صهر جبرائيل وجعله مكانه وأكرمه إكراماً وافراً كياداً لجبرائيل قال ولما كان في سنة عشر ومائتين مرض المأمون مرضاً صعباً وكان وجوه الأطباء يعالجونه ولا يصلح فقال لميخائيل الأدوية التي تعطيني تزيدني شراً فاجمع الأطباء وشاورهم في أمري فقال له أخوه أبو عيسى يا أمير المؤمنين نحضر جبرائيل فإنه يعرف مزاجاتنا منذ الصبا فتغافل عن كلامه وأحضر أبو إسحاق أخوه يوحنا بن ماسويه فثلبه ميخائيل طبيبه ووقع فيه وطعن عليه فلما ضعفت قوة المأمون عن أخذ الأدوية أذكروه بجبرائيل فأمر بإحضاره ولما حضر غيَّر تدبيره كله فاستقل بعد يوم وبعد ثلاثة أيام صلح فسر به المأمون سروراً عظيماً ولما كان بعد أيام يسيرة صلح صلاحاً تاماً وأذن له جبرائيل في الأكل والشرب ففعل ذلك وقال له أبو عيسى أخوه وهو جالس معه على الشرب مثل هذا الرجل الذي لم يكن مثله ولا يكون و سبيله أن يكرم فأمر له المأمون بألف ألف درهم وبألف كر حنطة ورد عليه سائر ما قبض منه من الأملاك والضياع وصار إذا خاطبه كناه بأبي عيسى جبرائيل وأكرمه زيادة على ما كان أبوه يكرمه وانتهى به الأمر في الجلالة إلى أن كان كل من تقلد عملاً لا يخرج إلى عمله إلا بعد أن يلقى جبرائيل ويكرمه وكان عند المأمون مثل أبيه ونقص محل ميخائيل الطبيب صهر جبرائيل وانحط قال يوسف بن إبراهيم دخلت على جبرائيل داره التي بالميدان في يوم من تموز وبين يديه المائدة وعليها فراخ طيور مسرولة كبار وقد عملت كردناجاً بفلفل وهو يأكل منها وطالبني بأن آكل معه فقلت له كيف آكل منها في مثل هذا الوقت من السنة وسني سن الشباب قال لي ما الحمية عندك فقلت تجنب الأغذية الرديئة فقال لي غلطت ليس ما ذكرت حمية ثم قال لا أعرف أحداً عظم قدره ولا صغر يصل إلى الإمساك عن غداء من الأغذية كل دهره إلا أن يكون يبغضه ولا تتوق نفسه إليه لأن الإنسان قد يمسك عن أكل الشيء برهة من دهره ثم يضطره إلى أكله عدم أدم سواه لعلة من العلل أو مساعدة لعليل يكون عنده أوصديق يحلف عليه أو شهوة تتجدد له فمتى أكله وقد أمسك عن أكله منه المدة الطويلة لم تقبله طبيعته ونفرت منه وأحدث ذلك في بدن آكله مرضاً كثيراً وربما أتى على نفسه والأصلح للأبدان تمرينها على أكل الأغذية الرديئة حتى تألفها وأن يأكل منها في كل يوم شيئاً واحداً.
ولا يجمع أكل شيئين رديئين في يوم واحد وإذا أكل من بعض هذه الأشياء في يوم لم يعاود أكله في غد ذلك اليوم فإن الأبدان إذا مرنت على أكل هذه الأشياء ثم اضطر الإنسان إلى الإكثار من أكل بعضها لم تنفر الطبيعة منه فقد رأينا الأدوية المسهلة إذا أدمنها مدمن وألفها بدنه قل فعلها ولم تسهل وهؤلاء أهل الأندلس إذا أراد أحدهم إسهال طبيعته أخذ من السقمونيا وزن ثلاثة دراهم حتى تلين طبيعته مقدار ما يلينها نصف درهم في بلدنا وإذا كانت الأبدان تألف الأدوية حتى تمنعها من فعلها فهي للأغذية وإن كانت رديئة أشد إلفاً قال يوسف فحدثت بهذا الحديث بختيشوع بن جبرائيل فسألني إملاءه عليه وكتبه عني بخطه قال يوسف بن إبراهيم حدثني سليمان الخادم الخراساني مولى الرشيد أنه كان واقفاً على رأس الرشيد بالحيرة يوماً وهو يتغدى إذ دخل عليه عون العبادي الجوهري وهو حامل صحفة فيها سمكة منعوتة بالسمن فوضعها بين يديه ومعها محشي قد اتخذه لها فحاول الرشيد أكل شيء منها فمنعه من ذلك جبرائيل وغمز صاحب المائدة بعزلها له وفطن الرشيد فلما رفعت المائدة وغسل الرشيد يه خرج جبرائيل عن حضرته قال سليمان فأمرني الرشيد باتباعه وأخفاء شخصي عنه وأن اتفقد ما يعلمه وأرجع إليه بخبره ففعلت ما أمرني به وأحسب أن أمري لم يستتر عن جبرائيل لما تبينت من تحرزه فصار إلى موضع من دار عون ودعا بالطعام فأحضر له وفيه السمكة ودعا بثلاثة أقداح من فضة فجعل في واحد قطعة منها وصب عليه خمراً من خمر طيرناباذ بغير ماء وقال هذا أكل جبرائيل وجعل في قدح آخر قطعة وصب عليها ماء بثلج وقال هذا أكل أمير المؤمنين إن لم يخلط السمك بغيره وجعل في القدح الثالث قطعة من السمك ومعها قطعاً من اللحم من ألوان مختلفة ومن شواء وحلواء وبوارد وفراريج وبقول وصب عليه ماء بثلج وقال هذا طعام أمير المؤمنين أن خلط السمك بغيره ورفع الثلاثة الأقداح إلى صاحب المائدة وقال احتفظ بها إلى أن ينتبه أمير المؤمنين من قائلته قال سليمان الخادم ثم أقبل جبرائيل على السمكة فأكل منها حتى تضلع وكان كلما عطش دعا بقدح مع الخمر الصرف فشربه ثم نام فلما انتبه الرشيد من نومه دعاني فسألني عما عندي من خبر جبرائيل وهل أكل من السمكة شيئاً أم لم يأكل فأخبرته بالخبر فأمر بإحضار الثلاثة الأقداح فوجد الذي صب عليه الخمر الصرف قد تفتت ولم يبق منه شيء ووجد الذي صب عليه الماء بالثلج قد ربا وصار على أكثر من الضعف مما كان ووجد القدح الذي السمك واللحم فيه قد تغيرت رائحته وحدثت له سهوكة شديدة فأمرني الرشيد بحمل خمسة آلاف دينار إلى جبرائيل وقال من يلومني على محبة هذا الرجل الذي يدبرني هذا التدبير فأوصلت إليه المال وقال إسحاق بن علي الرهاوي في كتاب أدب الطبيب عن عيسى بن ماسة أن يوحنا بن ماسويه أخبره أن الرشيد قال لجبرائيل بن بختيشوع وهو حاج بمكة يا جبرائيل علمت مرتبتك عندي قال يا سيدي وكيف لا أعلم قال له دعوت لك واللَّه في الموقف دعاء كثيراً ثم التفت إلى بني هاشم فقال عسى أنكرتم قولي له فقالوا يا سيدنا ذمي فقال نعم ولكن صلاح بدني وقوامه به وصلاح المسلمين بي فصلاحهم بصلاحه وبقائه فقالوا صدقت يا أمير المؤمنين ونقلت من بعض التواريخ قال جبرائيل بن بختيشوع المتطبب اشتريت ضيعة بسبعمائة ألف درهم فنقدت بعض الثمن وتعذر علي بعضه فدخلت على يحيى بن خالد وعنده ولده وأنا أفكر فقال مالي أراك مفكراً فقلت اشتريت ضيعة بسبعمائة ألف فنقدت بعض الثمن وتعذر علي بعضه قال فدعا بالدواة وكتب يعطى جبرائيل سبعمائة إلف درهم ثم دفع إلى كل واحد من ولده فوقع فيه ثلاثمائة ألف قال فقلت جعلت فداك قد أديت عامة الثمن وإنما بقي أقله قال أصرف ذلك فيما ينوبك.
ثم صرت إلى دار أمير المؤمنين كنت عند أبيك وأخوتك ففعلوا بي كذا وكذا وإنما ذلك لخدمتي لك قال فما حالي أنا ثم دعا بدابته فركب إلى يحيى فقال يا أبت أخبرني جبرائيل بما كان فما حالي أنا من بين ولدك فقال يا أمير المؤمنين مر بما شئت يحمل إليه فأمر لي بخمسمائة ألف قال يوسف بن إبراهيم الحاسب المعروف بابن الداية كان لأم جعفر بنت أبي الفضل في قصر عيسى بن علي الذي كات تسكنه مجلس لا يجلس فيه إلا الحسّاب والمتطببون وكانت لا تشتكي علة إلى متطبب حتى يحضر جميع أهل الصناعتين ويكون مقامهم في ذلك المجلس إلى وقت جلوسها فكانت تجلس لهم في أحد موضعين اما عند الشباك الذي على الدكان الكبير المحاذي للشباك وللباب الأول من أبواب الدار أو عند الباب الصغير المحاذي لمسجد الدار فكان الحُسّاب والمتطبببون يجلسون من خارج الموضع الذي تجلس فيه ثم تشتكي ما تجد فيتناظر المتطببون فيما بينهم حتى يجتمعوا على العلة والعلاج فإن كان بينهم اختلاف دخل الحسّاب بينهم وقالوا بتصديق المصيب عندهم ثم تسأل الحساب عن اختيار وقت لذلك العلاج فإن اجتمعوا على وقت وإلا نظر المتطببون فيما بين الحساب وحكموا لإلزمهم القياس فاعتلت عند اجتماعها على الحج آخر حجة حجتها علة أجمع متطببوها على إخراج الدم من ساقيها بالحجامة واختار الحساب لها يوماً تحتجم فيه وكان ذلك في شهر رمضان فلم يمكن أن تكون الحجامة إلا في آخر النهار فكان ممن يختلف إليها من الحساب الحسن بن محمد الطوسي التميمي المعروف بالأبح وعمر بن الفرخان الطبري وشعيب اليهودي قال يوسف بن إبراهيم وكنت متى عرضت للأبح علة أو عاقه عن حضور دار أم جعفر عائق حضرت عنه فحضرت ذلك المجلس في الوقت الذي وقع الاختيار على حجامة أم جعفر فيه فوافيت ابناً لداؤد بن سرافيون حدثا يشبه أن يكون ابن أقل من عشرين سنة قد أمرت أم جعفر بإحضاره مع المتطببين ليتأدب بحضور ذلك المجلس وقد تقدمت إلى جميع من يطيف بها من المتطببين في تعليمه وتوقيفه عناية به لمكان أبيه من خدمتها فوافيته وهو يلاحي متطبباً راهباً أحضر دارها في ذلك اليوم من أهل الأهواز في شرب الماء للمنتبه من نومه ليلاً فقال ابن داؤد ما اللَّه خلق بأحمق ممن شرب ماء بعد انتباهه من نومه ووافى جبرائيل عندما قال الغلام هذا القول باب البيت فلم يدخل المجلس إلا وهو يقول أحمق واللَّه منه أن تتضرم نار على كبده فلم يطفئها ثم دخل فقال من صاحب الكلام الذي سمعته فقيل له ابن داؤد فعنفه على ذلك وقال له كانت لأبيك مرتبة جلية في هذه الصناعة وتتكلم بمثل ما سمعته منك فقال له الغلام فكأنك أعزك اللَّه تطلق شرب الماء بالليل عند الانتباه من النوم فقال جبرائيل المحرور الجاف المعدة ومن تعش وأكل طعاماً مالحاً فأطلقه له وأنا أمنع منه الرطبي المعد وأصحاب البلغم المالح لأن في منعهم من ذلك شفاء من رطوبات معدهم وأكل بعض البلغم المالح بعضاً فسكت عنه جميع من حضر ذلك المجلس غيري فقلت يا أبا عيسى قد بقيت واحدة قال وما هي قلت أن يكون العطشان يفهم من الطب مثل فهمك فيفهم عطشه من مرار أو من بلغم مالح فضحك جبرائيل ثم قال لي متى عطشت ليلاً فأبرز رجلاً من لحافك وتناوم قليلاً فإن تزايد عطشك فهو من حرارة أو من طعام يحتاج إلى شرب الماء عليه فاشرب وإن نقص عن عطشك شيء.
فأمسك عن شرب الماء فإنه من بلغم مالح قال يوسف بن إبراهيم وسأل أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي جبرائيل عن علة الورشكين فقال هو اسم ركبته الفرس من الكسر والصدر و واسم الصدر بالفارسية الفصيحة ور والعامة تسميه بر واسم الكسر اشكين فإذا جمعت اللفظتين كانتا ورشكين أي هذه العلة من العلل التي يجب أن يكسر عليها الصدر وهي علة لا تستحكم بإنسان فيكاد ينهض منها وإن من نهض منها لم يؤمن عليه النكسة سنة إلا أن يخرج منه استفراغ دم كثير تقذفه الطبيعة من الأنف أو من أسفل في وقت العلة أو بعدها قبل السنة فمتى حدث ذلك سلم منه فقال أبو إسحاق كالمتعجب سنة قال نعم جعلني اللَّه فداك وعلة أخرى يستخف بها الناس وهي الحصبة فإني ما أمنت على من أصابته من النكسة سنة إلاّ أن يصيبه بعقبها استطلاق بطن يكاد أن يأتي على نفسه أو يخرج به خراج كثير فإذا اصابه أحد هذين أمنت عليه قال يوسف ودخل جبرائيل على أبي إسحاق يوماً بعقب علة كان فيها وقد أذن له في أكل اللحم الغليظ فحين جلس وضعت بين يديه كشكية رطبة فأمر برفعها فسألته عن السبب فقال ما أطلقت لخليفة قط حم يوماً واحداً أكل الكشك سنة كاملة قال أبو إسحاق أي الكشكين أردت الذي بلبن أم الذي بغير لبن فقال الذي بغير لبن لا أطلق له أكله سنة وعلى قياس ما يوجبه الطب فليس ينبغي أن يطلق له أكل الكشك المعمول بلبن إلا بعد استكمال ثلاث سنين حدث ميمون بن هرون قال حدثني سعيد بن إسحاق النصراني قال قال لي جبرائيل بن بختيشوع كنت مع الرشيد بالرقة ومعه المأمون ومحمد الأمين ولداه وكان رجلاً بادناً كثير الأكل والشرب فأكل في بعض الأيام أشياء خلط فيها ودخل المستراح فغشي عليه وأخرج فقوي عليه الغشي حتى لم يشك في موته وأرسل إلي فحضرت وجسست عرقه فوجدته نبضاً خفياً وقد كان قبل ذلك بأيام يشكو امتلاء وحركة الدم فقلت لهم يموت والصواب أن يحجم الساعة فأجاب المأمون إليه وأحضر الحجم تقدمت بإقعاده فلما وَضَع المحاجم عليه ومصها رأيت الموضع قد احمر فطابت نفسي وعلمت أنه حي فقلت للحجام اشرط فشرط فخرج الدم فسجدت شكراً للَّه وجعل كلما خرج الدم يحرك رأسه ويَسْفُر لونه إلى أن تكلم وقال أين أنا فطيبنا نفسه وغدّيناه بصدر دَرَّاج وسقيناه شراباً وما زلنا نشمه الروائح الطيبة ونجعل في أنفه الطيب حتى تراجعت قوته وأدخل الناس إليه ثم وهب اللَّه عافيته فلما كان بعد أيام دعا صاحب حرصه فسأله عن غلته في السنة فعرفه أنها ثلثمائة ألف درهم وسأل حاجبه عن غلته فعرفه أنها ألف درهم فقال ما أنصفناك حيث غلات هؤلاء وهم يحرسوني من الناس على ما ذكروا وأنت تحرسني من الأمراض والأسقام وتكون غلتك ما ذكرته وأمر بإقطاعي غلة ألف ألف درهم فقلت له يا سيدي مالي حاجة إلى الإقطاع ولكن تهب لي ما أشتري به ضياعاً غلتها ألف ألف درهم فجميع ضياعي أملاك لا أقطاع قال يوسف بن إبراهيم حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي أن جبرائيل لجأ إليه حين انتهبت العوام داره في خلافة محمد الأمين فأسكنه معه في داره وحماه ممن كان يحاول قتله قال أبو إسحاق فكنت أرى من هلع جبرائيل وكثرة أسفه على ما تلف من ماله وشدة اغتمامه ما لم أتوهم أن أحداً بلغ به الوجه بماله مثل الذي بلغ بجبرائيل قال أبو إسحاق فلما ثارت المبيضة فظهرت العلوية بالبصرة والأهواز.
أتاني وهو مسرور و كأنه قد وصل بمائة إلف دينار فقلت له أرى أبا عيسى مسروراً فقال إني واللَّه لمسرور عين السرور فسألته عن سبب سروره فقال أنه حاز العلوية ضياعاً وضربوا عليها المنار فقلت له ما أعجب أمرك انتهبت لك العوام جزأ من مالك فخرجت نفسك من الجزع إلى ما خرجت إليه وتحوز العلوية جميع ما تملك فيظهر منك من السرور مثل الذي ظهر فقال جزعي بما ركبني به العوام لأني أوتيت في منامي وسلبت في عزي وأسلمني من يجب عليه حمايتي ولم يتعاظمني ما كان من العلوية لأنه من أكبر المحال عيش مثلي في دولتين بنعمة واحدة ولو لم تفعل العلوية في ضياعي ما فعلوا وقد كان يجب عليهم مع علمهم بصحة طويتي لموالي الذين أنعم اللَّه علي بنعمتهم التي ملكونيها أن يتقدموا في حفظ وكلائي والوصاة بضياعي ومزارعي وأن يقولوا لم يزل جبرائيل مالاً إلينا في أيام دولة أصحابه ومتفضلاً علينا من أمواله ويؤدي إلينا أخبار سادته فكان الخبر متى تأدى بذلك إلى السلطان قتلني فسروري بحيازة ضياعي وبسلامة نفسي مما كان هؤلاء الجهال ملكوه منها فلم يهتدوا إليه قال يوسف وحدثني فرخ الخادم المعروف بأبي خراسان مولى صالح بن الرشيد ووصيه قال كان مولاي صالح بن الرشيد على البصرة وكان عامله عليها أبو الرازي فلما أحدث جبرائيل بن بختيشوع عمارة داره التي في الميدان سأل مولاي أن يهدي له خمسمائة ساجة وكانت الساجة بثلاثة عشر ديناراً فاستكثر مولاي المال وقال له أما خمسمائة فلا ولكني أكتب إلى ابن الرازي في حمل مائتي ساجة إليك وقال جبرائيل فليست بي حاجة إليها قال فرخ فقلت لسيدي أرى جبرائيل سيدبر عليك تدبيراً بغيضاً فقال جبرائيل أهون علي من كل هين لأني لا أشرب له دواء ولا أقبل له علاجاً ثم استزار مولاي أمير المؤمنين المأمون فلما استوى المجلس بالمأمون قال له جبرائيل أرى وجهك متغيراً ثم قام إليه فجس عرقه وقال له يشرب أمير المؤمنين شربة سكنجبين ويؤخر الغداء حتى يفهم الخبر ففعل المأمون ما أشار به وأقبل يجس عرقه في الوقت بعد الوقت ثم لم يشعر بشيء حتى دخل غلمان جبرائيل ومعهم رغيف واحد ومعه ألوان قد اتخذت من قرع وماش وما أشبه ذلك فقال إني أكره لأمير المؤمنين أن يأكل في يومه هذا شيئاً من لحوم الحيوان فليأكل هذه الألوان فأكل منها ونام فلما انتبه من قائلته قال له يا أمير المؤمنين رائحة النبيذ تزيد في الحرارة والرأي لك الإنصراف فانصرف المأمون وتلفت نفقة مولاي كلها فقال لي مولاي يا أبا خراسان التمييز بين مائتي ساجة وخمسمائة ساجة واستزارة الخليفة لا يجتمعان قال يوسف وحدثني جورجس بن ميخائيل عن خاله جبرائيل وكان جبرائيل له مكرماً لكثرة علمه لأني لم أر في أهل هذا البيت بعد جبرائيل وأعلم منه على عجب كان فيه شديداً وسخف كثير أن جبرائيل أخبره أنه أنكر من الرشيد قلة الرزء للطعام أول المحرم سنة سبع وثمانين ومائة وأنه لم يكن يرى في مائه ولا في مجسة عرقه ما يدل على علة توجب قلة الطعام فكان يقول للرشيد يا أمير المؤمنين بدنك صحيح سليم بحمد اللَّه من العلل وما أعرف لتركك استيفاء الغذاء معنى فقال لي لما أكثرت عليه من القول في هذا الباب قد استوخمت مدينة السلام وأنا أكره الاستبعاد عنها في هذه الأيام أفتعرف مكاناً بالقرب منها صحيح الهواء فقلت له الحيرة يا أمير المؤمنين فقال قد نزلنا الحيرة مراراً فاجحفنا بعون العبادي في نزولنا بلده وهي أيضاً بعيدة فقلت يا أمير المؤمنين فالأنبار طيبة وظهرها فأصح هواء من الحيرة فخرج إليها فلم يزدد في طعامه شيئاً بل نقص وصام يوم الخميس قبل قتله جعفراً بيومين وليلة وأحضر جعفراً عشاءه وكان أيضاً صائماً فلم يصب الرشيد من الطعام كثير شيء فقال له جعفر يا أمير المؤمنين لو استزدت من الطعام فقال لو أردت ذلك لقدرت عليه إلا أني أحببت أن أبيت خفيف المعدة لأصبح وأنا أشتهي الطعام وأتغدى مع الحرم ثم بكر بالركوب غداة يوم الجمعة متنسماً وركب معه جعفر بن يحيى فرأيته وقد أدخل يده في كم جعفر حتى بلغ بدنه فضمه إليه وعانقه وقبل بين عينيه وسار يده في يد جعفر أكثر من ألف ذراع ثم رجع إلى مضربه وقال بحياتي أما أصطبحت في يومك هذا وجعلته يوم سرور فإني مشغول بأهلي ثم قال لي يا جبرائيل أنا اتغدى مع حرمي فكن مع أخي تسر بسروره فسرت مع جعفر وأحضر طعامه فتغدينا وأحضر أبا زكار المغني ولم يحضر مجلسه غيرنا ورأيت الخادم بعد الخادم يدخل إلينا فيساره فيتنفس عند مسارتهم إياه ويقول ويحك يا أبا عيسى لم يطعم أمير المؤمنين بعد وأنا واللَّه خائف أن تكون به علة تمنعه من الأكل ويأمر كلما أراد أن يشرب قدحاً أبا زكار أن يغنيه: إن بني المنذر حين انقضوا بحيث شاد البيعة الراهب أضحوا ولا يرهبهم راهب حقاً ولايرجوهم راغب كانت من الخز لبوساتهم لم يجلب الصوف لهم جالب كأنما جثتهم لعبة سار إلى لبين بها راكب فيغنيه أبو زكار هذا الصوت ولا يقترح غيره فلم تزل هذه حالنا إلى أن صليتا العتمة ثم دخل إلينا أبو هاشم مسرور الكبير ومعه خليفة هرثمة بن أعين ومعه جماعة كثيرة من الجند فمد يده خليفة هرثمة إلى يد جعفر ثم قال له قم يا فاسق قال جبرائيل ولم أكلم ولم يؤمر في بأمر وصرت إلى منزلي من ساعتي وأنا لا أعقل فما أقمت فيه إلا أقل من مقدار نصف ساعة حتى صار إلي رسول الرشيد يأمرني بالمصير إليه فدخلت إليه ورأس جعفر في طشت بين يديه فقال لي يا جبرائيل أليس كنت تسألني عن السبب في قلة رزئي للطعام فقلت بلى يا أمير المؤمنين فقال الفكرة فيما ترى أصارتني إلى ما كنت فيه وأنا اليوم يا جبرائيل عند نفسي كالناقة قدم غذائي حتى ترى من الزيادة على ما كنت تراه عجباً وإنما كنت آكل الشيء بعد الشيء لئلا يثقل الطعام علي فيمرضني ثم دعا بطعامه في ذلك الوقت فأكل أكلاً صالحاً من ليلته قال يوسف حدثني إبراهيم بن المهدي أنه تخلف عن مجلس محمد الأمين أمير المؤمنين أيام خلافته عشية من العشايا لدواء كان أخذه وإن جبرائيل بن بختيشوع باكره غداة اليوم الثاني وأبلغه سلام الأمين وسأله عن حاله كيف كانت في دوائه ثم دنا منه فقال له أمر أمير المؤمنين في تجهيز علي بن عيسى بن ماهان إلى خراسان ليأتيه بالمأمون أسيراً في قيد من فضة و بجبرائيل بريء من دين النصرانية أن لم يغلب المأمون محمداً ويقتله ويحوز ملكه - فقلت له ويحك ولم قلت هذا القول وكيف قلته قال لأن هذا الخليفة الموسوس سكر في هذه الليلة فدعا أبا عصمة الشيعي صاحب حرسه وأمر بسواده فنزع عنه وألبسه ثيابي وزناري وقلنسوتي وألبسني أقبيته وسواده وسيفه ومنطقته وأجلسني في مجلس صاحب الحرس إلى وقت طلوع لفجر وأجلسه في مجلسي وقال لكل واحد مني ومن أبي عصمة قد قلدتك ما كان يتقلده صاحبك فقلت أن اللَّه مغير ما به من نعمة لتغييره ما بنفسه منها وأنه إذا جعل حراسته إلى نصراني والنصرانية أذل الأديان لأنه ليس في عقد دين غيرها التسليم لما يريد به عدوه من المكروه مثل الإذعان لمن سخره بالسخرة وأن يمشي ميلاً أن يزيد على ذلك ميلاً آخر وإن لطم له خد حول الآخر ليلطم غير ديني فقضيت بأن عز الرجل زائل وقضيت أنه حين أجلس في مجلس متطببه الحافظ عنده لحياته والقائم بمصالح بدنه والخادم لطبيعته أبا عصمة الذي لا يفهم من كل ذلك قليلاً ولا كثيراً بأنه لا عمر له وأن نفسه تالفة.
قال أبو إسحاق فكان على ما تفاءل جبرائيل به قال يوسف بن إبراهيم وسمعت جبرائيل بن يختيشوع يحدث أبا إسحاق إبراهيم بن المهدي أنه كان عند العباس بن محمد إذ دخل عليه شاعر امتدحه فلم يزل جبرائيل يسمع منه إلى أن صار إلى هذا البيت وهو: لو قيل للعباس يا ابن محمد قل لا وأنت مخلد ما قالها قال جبرائيل فلما سمعت هذا البيت لم أصبر لعلمي أن العباس أبخل أهل زمانه فقلت لا فتبسم العباس ثم قال لي اغرب قبح اللَّه وجهك أقول هذا الشاعر الذي يشار إليه هو ربيعة الرقى قال يوسف وحدث جبرائيل أبا إسحاق في هذا المجلس أنه دخل على العباس بعد فطر النصارى بيوم وفي رأسه فضلة من نبيذة بالأمس وذلك قبل أن يخدم جبرائيل الرشيد فقال جبرائيل للعباس كيف أصبح الأمير أعزه اللَّه فقال العباس أصبحت كما تحب فقال له جبرائيل واللَّه ما أصبح الأمير على ما أحب ولا على ما يحب اللَّه ولا على ما يحب الشيطان فغضب العباس من قوله ثم قال له ما هذا الكلام قبحك اللَّه قال جبرائيل فقلت عليّ البرهان فقال العباس لتأتيني به وإلا أحسنت أدبك ولم تدخل لي داراً فقال جبرائيل الذي كنت أحب أن تكون أمير المؤمنين فأنت كذلك قال العباس لا قال جبرائيل والذي يحب اللَّهُ من عباده الطاعة له فيما أمرهم به ونهاهم عنه فأنت أيها الملك كذلك فقال العباس لا واستغفر اللَّه قال جبرائيل والذي يحب الشيطانُ من العباد أن يكفروا باللَّه ويجحدوا ربوبيته فأنت كذلك أيها الأمير فقال له العباس لا ولا تعد إلى مثل هذا القول بعد يومك هذا قال فثيون الترجمان ولما عزم المأمون على الخروج إلى بلد الروم في سنة ثلاث عشرة ومائتين مرض جبرائيل مرضاً شديداً قوياً فلما رآه المأمون ضعيفاً التمس منه إنفاذ بختيشوع ابنه معه إلى بلد الروم فأحضره وكان مثل أبيه في الفهم والعقل والسرو ولما خاطبه المأمون وسمع حسن جوابه فرح به فرحاً شديداً وأكرمه غاية الإكرام ورفع منزلته وأخرجه معه إلى بلد الروم لما خرج طال مرض جبرائيل إلى أن بلغ الموت وعمل وصيته إلى المأمون ودفعها إلى ميخائيل صهره ومات فمضى في تجميل موته ما لم يمض لأمثاله بحسب استحقاقه بأفعاله الحسنة وخيريته ودفن في دير مار سرجس بالمدائن ولما عاد ابنه بختيشوع من بلد الروم جمع للدير رهباناً وأجرى عليهم جميع ما يحتاجون إليه.