بسم الله الرحمن الرحيم
عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار
الحمد لله الذي يحب من عباده من اصطفاه لقربه وحبـاه بوده ، نحمده تعالى حمد الفقراء إليه هو ربنا الغني الحميدعباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار
ونشكر له شكر السائلين من فضله المزيد ، شاهدين أن لا إلـــه إلا الله وحـده لا شريك له ، لـه الملك وله الحمد
بيده الخير وإليه المصير وهو على كل شيء قدير،( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)، وأن سيدنا محمدا عبده
المجتبى ورسوله المصطفى صلى الله عليه وعلى آله الأبرار الطاهرين وصحابته الأخيار السابقين وعلى كل من
آثارَهم اقتفى وعلى سبيلهم سار إلى يوم القيام للوقوف بين يدي الواحد القهار العزيز الغفار.
أما بعد:
فهذا كتاب جمعت فيه مـا يسر الله لي- له الحمد وله الشكر - مــن تفسيرٍ لآيات " المحبة " وذلك عبر جولة مباركة في رحاب كتب التفسير المشهورة لأعلام هذا الفن ( ابن كثير – القرطبي –السيوطي – الشوكاني –السعدي – البغوي –أبو السعود – الرازي – ابن عطية – السمرقندي -....) وغيرهم رحمهم الله أجمعين ، وأتبعت كل آية بعد تفسيرها بوقفة مع عالم من العلماء البارزين حول كلمة وردت في الآية نفسها أو في حديث نبوي ذكر خلال التفسير. وختمت بشرح حديثين = 1- إذا أحب اللهُ العبدَ ...2- من عادى لي وليــاً ....= وذلك من فتح الباري لابن حجر والمنهاج للنووي مع بعض الإضافات من فيض القدير للمناوي رحمهم الله .وأتبعت الكل بجملة من الأحاديث ذكَر فيها رسولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا صفات وخصال عباد يحبهم الله.... وسميته : عبادٌ يحبُّهم الغفّـــــار من الكتاب والسُّنة والآثـار.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)
أسال الله العلي العظيم أن يجعله خالصاَ لوجهه الكريم وأن ينفع به القراء زوار هذا الموقع المميز أعان الله القائمين عليه وسددهم وبارك فيهم وفي مجهوداتهم ...( إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ)
- أبو يوسف محمد زايد -
* * تفسير آيات المحبة * *
1-(وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة : 195
*ابن كثير - قال البخاري: حدثناإسحاق أخبرنا النضر, أخبرنا شعبة عن سليمان, سمعت أبا وائل عن حذيقة {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} قال: نزلت في النفقة, ,
- وقال الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه, ومعنا أبو أيوب الأنصاري, فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة, فقال أبو أيوب نحن أعلم بهذه الاَية, إنما نزلت فينا, صحبنا رسول الله r وشهدنا معه المشاهد ونصرناه, فلما فشا الإسلام وظهر, اجتمعنا معشر الأنصار نجياً فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه r ونصره, حتى فشا الإسلام وكثر أهله, وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد, وقد وضعت الحرب أوزارها فنرجع إلى أهلينا وأولادنا, فنقيم فيهما, فنزل فينا {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}, فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد. رواه أبو داود والترمذي والنسائي وعبد بن حميد, في تفسيره, وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه والحافظ أبو يعلى في مسنده, وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه, كلهم من حديث يزيد بن أبي حبيب به,
-وقال الترمذي حسن صحيح غريب, وقال الحاكم على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ولفظ أبي داود عن أسلم أبي عمران: كنا بالقسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة بن عامر, وعلى أهل الشام رجل يُريدُ فضالة بن عبيد, فخرج من المدينة صف عظيم من الروم, فصففنا لهم فحمل رجل من المسلمين على الروم حتى دخل فيهم, ثم خرج إلينا فصاح الناس إليه, فقالوا سبحان الله ألقى بيده إلى التهلكة فقال أبو أيوب: يا أيها الناس, إنكم لتتأولون هذه الاَية على غير التأويل وإنما نزلت فينا معشر الأنصار, إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه, قلنا فيما بيننا: لو أقبلنا على أموالنا فاصلحناها, فأنزل الله هذه الاَية,
- وقال أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق السبيعي, قال: قال رجل للبراء بن عازب, إن حملت على العدو وحدي فقتلوني, أكنت ألقيت بيدي إلى التهلكة ؟ قال: لا, قال الله لرسوله: {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك} وإنما هذه في النفقة, رواه ابن مردويه وأخرجه الحاكم في مستدركه, من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق به, وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه, ورواه الترمذي وقيس بن الربيع عن أبي إسحاق عن البراء, فذكره وقال بعد قوله {لا تكلف إلا نفسك}, ولكن التهلكة أن يذنب الرجل الذنب فيلقي بيده إلى التهلكة ولا يتوب,
-وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو صالح, كاتب الليث, حدثني الليث, حدثنا عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي بكر ابن نمير بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن عبد الرحمن الأسود بن عبد يغوث, أخبره أنهم حاصروا دمشق فانطلق رجل من أزد شنوءة, فأسرع إلى العدو وحده ليستقبل, فعاب ذلك عليه المسلمون, ورفعوا حديثه إلى عمرو بن العاص, فأرسل إليه عمرو فرده, وقال عمرو: قال الله: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}, -وقال عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, في قوله تعالى: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}, قال: ليس ذلك في القتال, إنما هو في النفقة أن تمسك بيدك عن النفقة في سبيل الله ولا تلق بيدك إلى التهلكة,
-قال حماد بن سلمة, عن داود, عن الشعبي عن الضحاك بن أبي جبير, قال: كانت الأنصار يتصدقون وينفقون من أموالهم, فأصابتهم سنة فأمسكوا عن النفقة في سبيل الله, فنزلت: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}
-وقال الحسن البصري {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} قال: هو البخل,
وقال سماك بن حرب عن النعمان بن بشير, في قوله: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}, أن يذنب الرجل الذنب فيقول: لا يغفر لي, فأنزل الله: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} رواه ابن مردويه,
-وقال ابن أبي حاتم, وروي عن عبيدة السلماني والحسن وابن سيرين وأبي قلابة نحو ذلك, يعني نحو قول النعمان بن بشير, أنها في الرجل يذنب الذنب فيعتقد أنه لا يغفر له, فيلقي بيده إلى التهلكة, أي يستكثر من الذنوب فيهلك. ولهذا روى علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: التهلكة عذاب الله,
- وقال ابن أبي حاتم وابن جرير, جميعاً حدثنا يونس حدثنا ابن وهب, أخبرني أبو صخر عن القرظي محمد بن كعب, أنه كان يقول في هذه الاَية: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} قال: كان القوم في سبيل الله, فيتزود الرجل, فكان أفضل زاداً من الاَخر, أنفق البائس من زاده حتى لا يبقى من زاده شيء, أحب أن يواسي صاحبه فأنزل الله {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة},
-وقال ابن وهب أيضاً: أخبرني عبد الله بن عياش عن زيد بن أسلم في قول الله {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} وذلك أن رجالاً يخرجون في بعوث يبعثها رسول الله r, بغير نفقة, فإما أن يقطع بهم وإما كانوا عيالاً, فأمرهم الله أن يستنفقوا من المشي. وقال لمن بيده فضل {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}.
= ومضمون الاَية الأمر بالإنفاق في سبيل الله, في سائر وجوه القربات ووجوه الطاعات, وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء, وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم, والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار لمن لزمه واعتاده, ثم عطف بالأمر بالإحسان, وهو أعلى مقامات الطاعة, فقال: {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}.
*القرطبي روى البخاري عن حذيفة: "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: نزلت في النفقة. وروى يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: غزونا القسطنطينية، وعلى الجماعة عبدالرحمن بن الوليد، والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه مه! لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة! فقال أبو أيوب: سبحان الله! أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار لما نصر الله نبيه وأظهر دينه، قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله عز وجل: "وأنفقوا في سبيل الله" الآية. والإلقاء باليد إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد. فلم يزل أبو أيوب مجاهدا في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية، فقبره هناك. فأخبرنا أبو أيوب أن الإلقاء باليد إلى التهلكة هو ترك الجهاد في سبيل الله، وأن الآية نزلت في ذلك .
قلت: وروى الترمذي عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران هذا الخبر بمعناه فقال: "كنا بمدينة الروم، فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة. فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أيها الناس، إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله r: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه rيرد عليه ما قلنا: "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة". فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح".
-وقال حذيفة بن اليمان وابن عباس وعكرمة وعطاء ومجاهد وجمهور الناس: المعنى لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة، فيقول الرجل: ليس عندي، ما أنفقه. وإلى هذا المعنى ذهب البخاري إذ لم يذكر غيره، والله أعلم.
-قال ابن عباس: أنفق في سبيل الله، وإن لم يكن لك إلا سهم أو مشقص، ولا يقولن أحدكم: لا أجد شيئا. ونحوه عن السدي: أنفق ولو عقالا، ولا تلقي بيدك إلى التهلكة فتقول: ليس عندي شيء.
-وقول ثالث. قاله ابن عباس، وذلك أن رسول الله r لما أمر الناس بالخروج إلى الجهاد قام إليه أناس من الأعراب حاضرين بالمدينة فقالوا: بماذا نتجهز! فوالله ما لنا زاد ولا يطعمنا أحد، فنزل قوله تعالى: "وأنفقوا في سبيل الله" يعني تصدقوا يا أهل الميسرة في سبيل الله، يعني في طاعة الله. "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" يعني ولا تمسكوا بأيديكم عن الصدقة فتهلكوا، وهكذا قال مقاتل.
-ومعنى قول ابن عباس: ولا تمسكوا عن الصدقة فتهلكوا، أي لا تمسكوا عن النفقة على الضعفاء، فإنهم إذا تخلفوا عنكم غلبكم العدو فتهلكوا.
-وقول رابع - قيل للبراء بن عازب في هذه الآية: أهو الرجل يحمل على الكتيبة؟ فقال لا، ولكنه الرجل يصيب الذنب فيلقي بيديه ويقول: قد بالغت في المعاصي ولا فائدة في التوبة، فييأس من الله فينهمك بعد ذلك في المعاصي. فالهلاك: اليأس من الله، وقاله عبيدة السلماني.
-وقال زيد بن أسلم: المعنى لا تسافروا في الجهاد بغير زاد، وقد كان فعل ذلك قوم فأداهم ذلك إلى الانقطاع في الطريق، أو يكون عالة على الناس. فهذه خمسة أقوال. "سبيل الله" هنا: الجهاد، واللفظ يتناول بعد جميع سبله. والباء في "بأيديكم" زائدة، التقدير تلقوا أيديكم. ونظيره: "ألم يعلم بأن الله يرى" [العلق: 14]. وقال المبرد: "بأيديكم" أي بأنفسكم، فعبر بالبعض عن الكل، كقوله: "فبما كسبت أيديكم"، [الشورى: 30]، "بما قدمت يداك" [الحج: 10].
-وقيل: هذا ضرب مثل، تقول: فلان ألقى بيده في أمر كذا إذا استسلم، لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيديه، فكذلك فعل كل عاجز في أي فعل كان، ومنه قول عبدالمطلب: [والله إن إلقاءنا بأيدينا للموت لعجز]
-وقال قوم: التقدير لا تلقوا أنفسكم بأيديكم، كما تقول: لا تفسد حالك برأيك. التهلكة بضم اللام مصدر من هلك يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة، أي لا تأخذوا فيما يهلككم، قاله الزجاج وغيره. أي إن لم تنفقوا عصيتم الله وهلكتم. وقيل: إن معنى الآية لا تمسكوا أموالكم فيرثها منكم غيركم، فتهلكوا بحرمان منفعة أموالكم. ومعنى آخر: ولا تمسكوا فيذهب عنكم الخلف في الدنيا والثواب في الآخرة. ويقال: "لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" يعني لا تنفقوا من حرام فيرد عليكم فتهلكوا. ونحوه عن عكرمة قال: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" [البقرة: 267] وقال الطبري: قوله "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" عام في جميع ما ذكر لدخوله فيه، إذ اللفظ يحتمله.
اختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب وحمله على العدو وحده، فقال القاسم ابن مخيمرة والقاسم بن محمد وعبدالملك من علمائنا: لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة، وكان لله بنية خالصة، فان لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة. وقيل: إذا طلب الشهادة وخلصت النية فليحمل، لأن مقصوده واحد منهم، وذلك بين في قوله تعالى: "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله" [البقرة: 207]. وقال ابن خويز منداد: فأما أن يحمل الرجل على مائة أو على جملة العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج فلذلك حالتان: إن علم وغلب على ظنه أن سيقتل من حمل عليه وينجو فحسن، وكذلك لو علم وغلب على ظنه أن يقتل ولكن سينكي نكاية أو سيبلي أو يؤثر أثرا ينتفع به المسلمون فجائز أيضا. وقد بلغني أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس نفرت خيل المسلمين من الفيلة، فعمد رجل منهم فصنع فيلا من طين وأنس به فرسه حتى ألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل فحمل على الفيل الذي كان يقدمها فقيل له: إنه قاتلك. فقال: لا ضير أن أقتل ويفتح للمسلمين. وكذلك يوم اليمامة لما تحصنت بنو حنيفة بالحديقة، قال رجل من المسلمين: ضعوني في الحجفة؟؟ وألقوني إليهم، ففعلوا وقاتلهم وحده وفتح الباب.
قلت: ومن هذا ما روي أن رجلا قال للنبي r: أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا؟ قال: (فلك الجنة). فانغمس في العدو حتى قتل. وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال: (من يردهم عنا وله الجنة) أو (هو رفيقي في الجنة) فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل. ثم رهقوه أيضا فقال: (من يردهم عنا وله الجنة) أو (هو رفيقي في الجنة). فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل. فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنصفنا أصحابنا). هكذا الرواية (أنصفنا) بسكون الفاء (أصحابنا) بفتح الباء، أي لم ندلهم للقتال حتى قتلوا. وروي بفتح الفاء ورفع الباء، ووجهها أنها ترجع لمن فر عنه من أصحابه، والله أعلم.
-وقال محمد بن الحسن: لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده، لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه، لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين. فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه فلا يبعد جوازه، ولأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه. وإن كان قصده إرهاب العدو وليعلم صلابة المسلمين في الدين فلا يبعد جوازه. وإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت نفسه لإعزاز دين الله وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم" [التوبة: 111] الآية، إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه. وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه متى رجا نفعا في الدين فبذل نفسه فيه حتى قتل كان في أعلى درجات الشهداء، قال الله تعالى: "وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور" [لقمان: 17]. وقد روى عكرمة عن ابن عباس عن النبي r أنه قال: (أفضل الشهداء حمزة بن عبدالمطلب ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله).
قوله تعالى: "وأحسنوا إن الله يحب المحسنين" أي في الإنفاق في الطاعة، وأحسنوا الظن بالله في إخلافه عليكم. وقيل: "أحسنوا" في أعمالكم بامتثال الطاعات، روي ذلك عن بعض الصحابة.
*البغوي قوله تعالى: " وأنفقوا في سبيل الله " أراد به الجهاد وكل خير هو في سبيل الله، ولكن إطلاقه ينصرف إلى الجهاد " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قيل: الباء في قوله تعالى " بأيديكم " زائدة، يريد: ولا تلقوا أيديكم، أي أنفسكم " إلى التهلكة " عبر عن النفس بالأيدي كقوله تعالى " بما كسبت أيديكم " (30-الشورى) أي بما كسبتم، وقيل الباء في موضعها، وفيه حذف، أي لاتلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة أي الهلاك، وقيل: التهلكة كل شيء يصير عاقبته إلى الهلاك، أي ولا تأخذوا في ذلك، وقيل: التهلكة ما يمكن الاحتراز عنه، والهلاك مالا يمكن الاحتراز عنه، والعرب لا تقول للإنسان ألقى بيده إلا في الشرك، واختلفوا في تأويل هذه الآية فقال بعضهم: هذا في البخل وترك الإنفاق. يقول " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " بترك الإنفاق في سبيل
- وقال: سعيد بن المسيب و مقاتل بن حيان : لما أمر الله تعالى بالإنفاق قال رجل: أمرنا بالنفقة في سبيل الله، ولو انفقنا أموالنا بقينا فقراء، فأنزل الله هذه الآية،
-وقال مجاهد فيها: لا يمنعنكم من نفقة في حق خيفة العيلة... عن عياض بن غضيف قال: أتينا أبا عبيدة نعوده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبعمائة، ومن أنفق نفقة على أهله فالحسنة بعشر أمثالها ". وقال زيد بن أسلم : كان رجال يخرجون في البعوث بغير نفقة فإما أن يقطع بهم، وإما أن كانوا عيالاً فأمرهم الله تعالى بالإنفاق على أنفسهم في سبيل الله، ومن لم يكن عنده شيء ينفقه فلا يخرج بغير نفقة ولا قوت فيلقي بيده إلى التهلكة، فالتهلكة: أن يهلك من الجوع والعطش أو بالمشي،
- وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق ".
- وقال محمد بن سيرين و عبيدة السلماني : الإلقاء إلى التهلكة هو القنوط من رحمة الله تعالى،
-قال أبو قلابة : هو الرجل يصيب الذنب فيقول: قد هلكت ليس لي توبة فييأس من رحمة الله، وينهمك في المعاصي، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، قال الله تعالى: " إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون " (87-يوسف). قوله تعالى: " وأحسنوا " أي أحسنوا أعمالكم وأخلاقكم وتفضلوا على الفقراء " إن الله يحب المحسنين "
*السعدي يأمر تعالى عباده بالنفقة في سبيله وهو إخراج الأموال في الطرق الموصلة إلى الله وهي كل طرق الخير من صدقة على مسكين أو قريب أو أنفاق على من تجب مؤنته
وأعظم ذلك وأول ما دخل في ذلك الإنفاق في الجهاد في سبيل الله فإن النفقة فيه جهاد بالمال وهو فرض كالجهاد بالبدن وفيها من المصالح العظيمة الإعانة على تقوية المسلمين وعلى توهية الشرك وأهله وعلى إقامة دين الله وإعزازه فالجهاد في سبيل الله لا يقوم إلا على ساق النفقة فالنفقة له كالروح لا يمكن وجوده بدونها وفي ترك الإنفاق في سبيل الله إبطال للجهاد وتسليط للأعداء وشدة تكالبهم فيكون قوله تعالى :
" ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة "
كالتعليل لذلك والإلقاء باليد إلى التهلكة يرجع إلى أمرين : ترك ما أمر به العبد إذا كان تركه موجبا أو مقاربا لهلاك البدن أو الروح وفعل ما هو سبب موصل إلى تلف النفس أو الروح فيدخل تحت ذلك أمور كثيرة فمن ذلك ترك الجهاد في سبيل الله أو النفقة فيه الموجب لتسلط الأعداء ومن ذلك تغرير الإنسان بنفسه في مقاتلة أو سفر مخوف أو محل مسبعة أو حيات أو يصعد شجرا أو بنيانا خطرا أو يدخل تحت شيء فيه خطر ونحو ذلك فهذا ونحوه ممن ألقى بيده إلى التهلكة
ومن الإلقاء باليد إلى التهلكة الإقامة على معاصي الله واليأس من التوبة ومنها ترك ما أمر الله به من الفرائض التي تركها هلاك للروح والدين
ولما كانت النفقة في سبيل الله نوعا من أنواع الإحسان أمر بالإحسان عموما فقال :
" وأحسنوا إن الله يحب المحسنين "
وهذا يشمل جميع أنواع الإحسان لأنه لم يقيده بشيء دون شيء فيدخل فيه الإحسان بالمال كما تقدم
ويدخل فيه الإحسان بالجاه بالشفاعات ونحو ذلك ويدخل في ذلك الإحسان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم العلم النافع ويدخل في ذلك قضاء حوائج الناس من تفريج كرباتهم وإزالة شداتهم وعيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم وإرشاد ضالهم وإعانة من يعمل عملا والعمل لمن لا يحسن العمل ونحو ذلك مما هو من الإحسان الذي أمر الله به ويدخل في الإحسان أيضا الإحسان في عبادة الله تعالى وهو كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك
فمن اتصف بهذه الصفات كان من الذين قال الله فيهم :
" للذين أحسنوا الحسنى وزيادة "
وكان الله معه يسدده ويرشده ويعينه على كل أموره ./
فـــــصــــــل
قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ( الفتاوى الكبرى)
** فصل فيمن قال: القول في بعض الصفات كالقول في بعض
فأما الأصلان: فأحدهما أن يقال: القول في بعض الصفات كالقول في بعض، فإن كان المخاطب ممن يقول: بأن الله حي بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، مريد بإرادة، ويجعل ذلك كله حقيقة وينازع في محبته ورضاه وغضبه وكراهته، فيجعل ذلك مجازا ويفسره، إما بالإرادة وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات، فيقال له: لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر، فإن قلت: إن إرادته مثل إرادة المخلوقين فكذلك محبته ورضاه وغضبه. وهذا هو التمثيل ، وإن قلت: أن له إرادة تليق به، كما أن للمخلوق إرادة تليق به قيل لك: وكذلك له محبة تليق به، وللمخلوق محبة تليق به ، وله رضا وغضب يليق به، وللمخلوق رضا وغضب يليق به ، وإن قلت: الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام فيقال لك: والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة ، فإن قلت: هذه إرادة المخلوق قيل لك: وهذا غضب المخلوق.
وكذلك يلزم القول في كلامه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته، إن نفي عنه الغضب والمحبة والرضا ونحو ذلك مما هو من خصائص المخلوقين، فهذا منتف عن السمع والبصر والكلام وجميع الصفات وإن قال: أنه لا حقيقة لهذا إلا ما يختص بالمخلوقين، فيجب نفيه عنه قيل له: وهكذا السمع والبصر والكلام والعلم والقدرة، فهذا المفرق بين بعض الصفات وبعض، يقال له: فيما نفاه كما يقوله هو لمنازعه فيما أثبته، فإذا قال المعتزلي: ليس له إرادة ولا كلام قائم به، لأن هذه الصفات لا تقوم إلا بالمخلوقات، فإنه يبين للمعتزلي أن هذه الصفات يتصف بها القديم، ولا تكون كصفات المحدثات، فهكذا يقول له المثبتون لسائر الصفات من المحبة والرضا، ونحو ذلك، فإن قال: تلك الصفات أثبتها بالعقل، لأن الفعل الحادث دل على القدرة، والتخصيص دل على الإرادة ، والإحكام دل على العلم، وهذه الصفات مستلزمة للحياة، والحي لا يخلو عن السمع، والبصر ، والكلام، أو ضد ذلك قال له سائر أهل الإثبات: لك جوابان: أحدهما أن يقال: عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين، فهب أن ما سلكت من الدليل العقلي لا يثبت ذلك، فإنه لا ينفيه، وليس لك أن تنفيه بغير دليل، لأن النافي عليه الدليل، كما على المثبت، والسمع قد دل عليه ولم يعارض ذلك معارض عقلي، ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض.
المقام الثاني أن يقال: يمكن إثبات هذه الصفات، بنظير ما أثبت به تلك من العقليات، فيقال نفع العباد بالإحسان إليهم دل على الرحمة، كدلالة التخصيص على المشيئة، وإكرام الطائعين يدل على محبتهم، وعقاب الكافرين يدل على بغضهم، كما قد ثبت بالشهادة والخبر: من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه، والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته - وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة - تدل على حكمته البالغة، كما يدل التخصيص على المشيئة، وأولى لقوة العلة الغائية،
**وقال :فلنعتقد أن لله أسماء وصفات قديمة غير مخلوقة، جاء بها كتابه، وأخبر بها الرسول أصحابه، فيما رواه الثقات، وصححه النقاد الأثبات ،ودل القرآن المبين والحديث الصحيح المتين على ثبوتها .
قال ـ رحمه الله تعالى ـ وهي أن الله ـ تعالى ـ أول لم يزل، وآخر لا يزال، أحد قديم وصمد كريم، عليم حليم عليٌّ عظيم، رفيع مجـيد وله بطش شديـد، وهـو يبدئ ويعيد، فعال لما يريد، قوي قدير، منيع نصير، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، إلى سائر أسمائه وصفاته من النفس، والوجه، والعين، والقدم، واليدين، والعلم، والنظر، والسمع، والبصر، والإرادة، والمشيئة، والرضى، والغضب، والمحبة، والضحك، والعجب، والاستحياء، والغيرة، والكراهة، والسخط، والقبض، والبسط، والقرب، والدنو، والفوقية والعلو، والكلام، والسلام، والقول، والنداء، والتجلي، واللقاء، والنزول، والصعود، والاستواء، وأنه ـ تعالى ـ في السماء، وأنه على عرشه بائن من خلقه...
وقال : وكذلك إذا قيل: الإرادة والرحمة والمحبة تنقسم إلى إرادة اللّه ومحبته ورحمته، وإردة العبد ومحبته ورحمته.
فمن ظن أن [الحقيقة] إنما تتناول صفة العبد المخلوقة المحدثة دون صفة الخالق، كان في غاية الجهل؛ فإن صفة اللّه أكمل وأتم وأحق بهذه الأسماء الحسنى، فلا نسبة بين صفة العبد وصفة الرب، كما لا نسبة بين ذاته وذاته، فكيف يكون العبد مستحقًا للأسماء الحسنى حقيقة، فيستحق أن يقال له: عالم قادر سميع بصير، والرب لا يستحق ذلك إلا مجازًا ؟! ومعلوم أن كل كمال حصل للمخلوق فهو من الرب ـ سبحانه وتعالى ـ وله المثل الأعلى، فكل كمال حصل للمخلوق فالخالق أحق به، وكل نقص تنزه عنه المخلوق فالخالق أحق أن ينزه عنه؛ ولهذا كان للّه [المثل الأعلى]، فإنه لا يقاس بخلقه ولا يمثل بهم، ولا تضرب له الأمثال. فلا يشترك هو والمخلوق في قياس تمثيل بمثل؛ ولا في قياس شمول تستوي أفراده، بل {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 27].
** وقال : وكذلك إذا قال: الرضا والغضب والفرح والمحبة ونحو ذلك هو من صفات الأجسام.
فإنه يقال له: وكذلك الإرادة، والسمع، والبصر، والعلم، والقدرة من صفات الأجسام، فإنا كما لا نعقل ما ينزل، ويستوى ويغضب ويرضى إلا جسمً، لم نعقل ما يسمع ويبصر ويريد، ويعلم ويقدر إلا جسمًا.
فإذا قيل: سمعه ليس كسمعنا، وبصره ليس كبصرنا، وإرادته ليست كإرادتنا، وكذلك علمه وقدرته.
قيل له: وكذلك رضاه ليس كرضانا، ( ومحبته ليست كمحبتنا) وغضبه ليس كغضبنا، وفرحه ليس كفرحنا، ونزوله واستواؤه ليس كنزولنا واستوائنا ...
**وقال :... إن محبته ورضاه مستلزم للإرادة الدينية والأمر الديني، وكذلك بغضه وغضبه وسخطه مستلزم لعدم الإرادة الدينية فالمحبة والرضا والغضب والسخط ليس هو مجرد الإرادة. هذا قول جمهور أهل السنة.
ومن قال: إن هذه الأمور بمعنى الإرادة كما يقوله كثير من القدرية وكثير من أهل الإثبات، فإنه يستلزم أحد الأمرين: إما أن الكفر والفسوق والمعاصي مما يكرهها دينا فقد كره كونها وأنها واقعة بدون مشيئته وإرادته، وهذا قول القدرية، أو يقول: إنه لما كان مريدًا لها شاءها فهو محب لها راض بها كما تقوله طائفة من أهل الإثبات. وكلا القولين فيه ما فيه، فإن الله تعالى يحب المتقين ويحب المقسطين وقد رضي عن المؤمنين، ويحب ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، وليس هذا المعنى ثابتًا في الكفار والفجار والظالمين، ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب كل مختال فخور، ومع هذا فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
وأحسن ما يتعذر به من قال هذا القول من أهل الإثبات: إن المحبة بمعنى الإرادة أنه أحبها كما أرادها كونًا. فكذلك أحبها ورضيها كونا. وهذا فيه نظر...
**وقال :... وتنازعوا في مسألة المحبة ؛ فذهب طوائف إلى أن اللّه لا يُحَبُّ نَفْسُهُ، وإنما المحبة محبة طاعته وعبادته؛ وقالوا: هو أيضًا لا يحب عباده المؤمنين؛ وإنما محبته إرادته الإحسان إليهم وولايتهم. ودخل في هذا القول من انتسب إلى نصر السنة من أهل الكـلام، حتى وقع فيه طوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد: كالقاضي أبي بكـر والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي الجويني وأمثال هؤلاء.
وهذا في الحقيقة شعبة من التجهم والاعتزال؛ فإن أول من أنكر المحبة في الإسلام الجعد بن درهم، أستاذ الجهم بن صفوان؛ فضحى به خالد بن عبد اللّه القسري. وقال: أيها الناس، ضحوا تقبل اللّه ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن اللّه لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا، ثم نزل فذبحه.
والذي دل عليه الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها ومشائخ الطريق: أن اللّه يحب ويحب.
**وقال :... وهو ـ سبحانه ـ يحب عباده المؤمنين، وكمال الحب هو الخلة التي جعلها الله لإبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم، فإن الله اتخذ إبراهيم خليلًا، واستفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من غير وجه أنه قال: (إن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا)، وقال: (لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن صاحبكم خليل الله)، يعني نفسه؛ ولهذا اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة وأهل المعرفة أن الله نفسه يُحِبُّ وَيُحَبُّ
**وقال :... وأما محبة الرب ـ سبحانه ـ لعبده فقال تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]، وقال تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}[المائدة: 54]، وقال تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[البقرة: 195]، {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[الحجرات: 9]، {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ[font:2ccb