منتديات فرسان المعرفة

أهلا وسهلا زائرنا الكريم ومرحبا بك في منتديات فرسان المعرفة منتديات التميز والابداع ونتمنى أن تكون زيارتك الأولى مفتاحا للعودة إليه مرة أخرى والانضمام إلى أسرة المنتدى وأن تستفيد إن كنت باحثا وتفيد غيرك إن كنت محترفا

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتديات فرسان المعرفة

أهلا وسهلا زائرنا الكريم ومرحبا بك في منتديات فرسان المعرفة منتديات التميز والابداع ونتمنى أن تكون زيارتك الأولى مفتاحا للعودة إليه مرة أخرى والانضمام إلى أسرة المنتدى وأن تستفيد إن كنت باحثا وتفيد غيرك إن كنت محترفا

منتديات فرسان المعرفة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات الشمول والتنوع والتميز والإبداع

قال تعالى ( يا أيها الذين أمنوا اذكروا الله كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلا)أ
عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال(من قال صبيحة يوم الجمعة قبل صلاة الغداة , أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاث مرات غفرالله ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر)
عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان يدعو بهذا الدعاء "اللهم! اغفر لي خطيئتي وجهلي. وإسرافي في أمري. وما أنت أعلم به مني. اللهم! اغفر لي جدي وهزلي. وخطئي وعمدي. وكل ذلك عندي. اللهم! اغفر لي ما قدمت وما أخرت. وما أسررت وما أعلنت. وما أنت أعلم به مني. أنت المقدم وأنت المؤخر. وأنت على كل شيء قدير". رواه مسلم في صحيحه برقم (2719)
عن عقبة بن عامر رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلي ركعتين يقبل بقلبه ووجهه عليهما إلا وجبت له الجنة)رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة وابن خزيمة في صحيحة
عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "اللهم! أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري. وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي. وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي. واجعل الحياة زيادة لي في كل خير. واجعل الموت راحة لي من كل شر". رواه مسلم في صحيحه برقم (2720)
عن أبي الأحوص، عن عبدالله رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان يقول "اللهم! إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى". رواه مسلم في صحيحه برقم(2721)
عن زيد بن أرقم رضى الله عنه. قال: لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كان يقول "اللهم! إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر. اللهم! آت نفسي تقواها. وزكها أنت خير من زكاها. أنت وليها ومولاها. اللهم! إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها". رواه مسلم في صحيحه برقم(2722)
عن عبدالله رضى الله عنه قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أمسى قال "أمسينا وأمسى الملك لله. والحمد لله. لا إله إلا الله وحده لا شريك له". قال: أراه قال فيهن "له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. رب! أسألك خير ما في هذه الليلة وخير ما بعدها. وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وشر ما بعدها. رب! أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر. رب! أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر". وإذا أصبح قال ذلك أيضا "أصبحنا وأصبح الملك لله". رواه مسلم في صحيحه برقم(2723)
عن عبدالرحمن بن يزيد، عن عبدالله رضى الله عنه . قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمسى قال "أمسينا وأمسى الملك لله. والحمد لله. لا إله إلا الله وحده. لا شريك له. اللهم! إني أسألك من خير هذه الليلة وخير ما فيها. وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها. اللهم! إني أعوذ بك من الكسل والهرم وسوء الكبر. وفتنة الدنيا وعذاب القبر". رواه مسلم في صحيحه برقم(2723)
عن أبي موسى رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت) رواه البخاري.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله, ورجل قلبه معلق بالمساجد إذا خرج منه حتى يعود إليه, ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه, ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه, ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله , ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) متفق عليه
عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ) روه الشيخان والترمذي.
عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(الطهور شطر الإيمان والحمدلله تملأ الميزان وسبحان الله والحمدلله تملأ أو تملآن ما بين السماء والأرض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبائع نفسه أو موبقها) رواه مسلم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم(من قال سبحان الله وبحمده في يومه مائة مرة حُطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر)رواه البخاري ومسلم.
عن أبي سعيد رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( استكثروا من الباقيات الصالحات ) قيل وما هن يارسول الله؟ قال ( التكبير والتهليل والتسبيح والحمدلله ولا حول ولاقوة إلابالله ) رواه النسائي والحاكم وقال صحيح الاسناد.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أحب الكلام إلى الله أربع- لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان الله والحمدلله ولا إله إلا الله والله أكبر ). رواه مسلم

    عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار

    avatar
    د.محمودعبدالحكيم
    مشرف
    مشرف


    الجنس : ذكر
    الابراج : الثور
    عدد المساهمات : 333
    نقاط : 8657
    السٌّمعَة : 191
    تاريخ التسجيل : 24/07/2011
    العمر : 56
    الموقع : جمهورية مصر العربية
    أوسمه : عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار Ououo_21

    عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار Empty عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار

    مُساهمة من طرف د.محمودعبدالحكيم الأحد 8 أبريل 2012 - 11:53

    بسم الله الرحمن الرحيم

    عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار
    الحمد لله الذي يحب من عباده من اصطفاه لقربه وحبـاه بوده ، نحمده تعالى حمد الفقراء إليه هو ربنا الغني الحميد

    ونشكر له شكر السائلين من فضله المزيد ، شاهدين أن لا إلـــه إلا الله وحـده لا شريك له ، لـه الملك وله الحمد

    بيده الخير وإليه المصير وهو على كل شيء قدير،( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)، وأن سيدنا محمدا عبده

    المجتبى ورسوله المصطفى صلى الله عليه وعلى آله الأبرار الطاهرين وصحابته الأخيار السابقين وعلى كل من

    آثارَهم اقتفى وعلى سبيلهم سار إلى يوم القيام للوقوف بين يدي الواحد القهار العزيز الغفار.

    أما بعد:

    فهذا كتاب جمعت فيه مـا يسر الله لي- له الحمد وله الشكر - مــن تفسيرٍ لآيات " المحبة " وذلك عبر جولة مباركة في رحاب كتب التفسير المشهورة لأعلام هذا الفن ( ابن كثير – القرطبي –السيوطي – الشوكاني –السعدي – البغوي –أبو السعود – الرازي – ابن عطية – السمرقندي -....) وغيرهم رحمهم الله أجمعين ، وأتبعت كل آية بعد تفسيرها بوقفة مع عالم من العلماء البارزين حول كلمة وردت في الآية نفسها أو في حديث نبوي ذكر خلال التفسير. وختمت بشرح حديثين = 1- إذا أحب اللهُ العبدَ ...2- من عادى لي وليــاً ....= وذلك من فتح الباري لابن حجر والمنهاج للنووي مع بعض الإضافات من فيض القدير للمناوي رحمهم الله .وأتبعت الكل بجملة من الأحاديث ذكَر فيها رسولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا صفات وخصال عباد يحبهم الله.... وسميته : عبادٌ يحبُّهم الغفّـــــار من الكتاب والسُّنة والآثـار.



    (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)



    أسال الله العلي العظيم أن يجعله خالصاَ لوجهه الكريم وأن ينفع به القراء زوار هذا الموقع المميز أعان الله القائمين عليه وسددهم وبارك فيهم وفي مجهوداتهم ...( إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ)

    - أبو يوسف محمد زايد -









    * * تفسير آيات المحبة * *



    1-(وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة : 195



    *ابن كثير - قال البخاري: حدثناإسحاق أخبرنا النضر, أخبرنا شعبة عن سليمان, سمعت أبا وائل عن حذيقة {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} قال: نزلت في النفقة, ,

    - وقال الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه, ومعنا أبو أيوب الأنصاري, فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة, فقال أبو أيوب نحن أعلم بهذه الاَية, إنما نزلت فينا, صحبنا رسول الله r وشهدنا معه المشاهد ونصرناه, فلما فشا الإسلام وظهر, اجتمعنا معشر الأنصار نجياً فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه r ونصره, حتى فشا الإسلام وكثر أهله, وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد, وقد وضعت الحرب أوزارها فنرجع إلى أهلينا وأولادنا, فنقيم فيهما, فنزل فينا {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}, فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد. رواه أبو داود والترمذي والنسائي وعبد بن حميد, في تفسيره, وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه والحافظ أبو يعلى في مسنده, وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه, كلهم من حديث يزيد بن أبي حبيب به,

    -وقال الترمذي حسن صحيح غريب, وقال الحاكم على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ولفظ أبي داود عن أسلم أبي عمران: كنا بالقسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة بن عامر, وعلى أهل الشام رجل يُريدُ فضالة بن عبيد, فخرج من المدينة صف عظيم من الروم, فصففنا لهم فحمل رجل من المسلمين على الروم حتى دخل فيهم, ثم خرج إلينا فصاح الناس إليه, فقالوا سبحان الله ألقى بيده إلى التهلكة فقال أبو أيوب: يا أيها الناس, إنكم لتتأولون هذه الاَية على غير التأويل وإنما نزلت فينا معشر الأنصار, إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه, قلنا فيما بيننا: لو أقبلنا على أموالنا فاصلحناها, فأنزل الله هذه الاَية,

    - وقال أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق السبيعي, قال: قال رجل للبراء بن عازب, إن حملت على العدو وحدي فقتلوني, أكنت ألقيت بيدي إلى التهلكة ؟ قال: لا, قال الله لرسوله: {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك} وإنما هذه في النفقة, رواه ابن مردويه وأخرجه الحاكم في مستدركه, من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق به, وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه, ورواه الترمذي وقيس بن الربيع عن أبي إسحاق عن البراء, فذكره وقال بعد قوله {لا تكلف إلا نفسك}, ولكن التهلكة أن يذنب الرجل الذنب فيلقي بيده إلى التهلكة ولا يتوب,

    -وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو صالح, كاتب الليث, حدثني الليث, حدثنا عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي بكر ابن نمير بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن عبد الرحمن الأسود بن عبد يغوث, أخبره أنهم حاصروا دمشق فانطلق رجل من أزد شنوءة, فأسرع إلى العدو وحده ليستقبل, فعاب ذلك عليه المسلمون, ورفعوا حديثه إلى عمرو بن العاص, فأرسل إليه عمرو فرده, وقال عمرو: قال الله: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}, -وقال عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, في قوله تعالى: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}, قال: ليس ذلك في القتال, إنما هو في النفقة أن تمسك بيدك عن النفقة في سبيل الله ولا تلق بيدك إلى التهلكة,

    -قال حماد بن سلمة, عن داود, عن الشعبي عن الضحاك بن أبي جبير, قال: كانت الأنصار يتصدقون وينفقون من أموالهم, فأصابتهم سنة فأمسكوا عن النفقة في سبيل الله, فنزلت: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}

    -وقال الحسن البصري {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} قال: هو البخل,

    وقال سماك بن حرب عن النعمان بن بشير, في قوله: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}, أن يذنب الرجل الذنب فيقول: لا يغفر لي, فأنزل الله: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} رواه ابن مردويه,

    -وقال ابن أبي حاتم, وروي عن عبيدة السلماني والحسن وابن سيرين وأبي قلابة نحو ذلك, يعني نحو قول النعمان بن بشير, أنها في الرجل يذنب الذنب فيعتقد أنه لا يغفر له, فيلقي بيده إلى التهلكة, أي يستكثر من الذنوب فيهلك. ولهذا روى علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: التهلكة عذاب الله,

    - وقال ابن أبي حاتم وابن جرير, جميعاً حدثنا يونس حدثنا ابن وهب, أخبرني أبو صخر عن القرظي محمد بن كعب, أنه كان يقول في هذه الاَية: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} قال: كان القوم في سبيل الله, فيتزود الرجل, فكان أفضل زاداً من الاَخر, أنفق البائس من زاده حتى لا يبقى من زاده شيء, أحب أن يواسي صاحبه فأنزل الله {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة},

    -وقال ابن وهب أيضاً: أخبرني عبد الله بن عياش عن زيد بن أسلم في قول الله {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} وذلك أن رجالاً يخرجون في بعوث يبعثها رسول الله r, بغير نفقة, فإما أن يقطع بهم وإما كانوا عيالاً, فأمرهم الله أن يستنفقوا من المشي. وقال لمن بيده فضل {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}.

    = ومضمون الاَية الأمر بالإنفاق في سبيل الله, في سائر وجوه القربات ووجوه الطاعات, وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء, وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم, والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار لمن لزمه واعتاده, ثم عطف بالأمر بالإحسان, وهو أعلى مقامات الطاعة, فقال: {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}.



    *القرطبي روى البخاري عن حذيفة: "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: نزلت في النفقة. وروى يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال: غزونا القسطنطينية، وعلى الجماعة عبدالرحمن بن الوليد، والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه مه! لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة! فقال أبو أيوب: سبحان الله! أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار لما نصر الله نبيه وأظهر دينه، قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله عز وجل: "وأنفقوا في سبيل الله" الآية. والإلقاء باليد إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد. فلم يزل أبو أيوب مجاهدا في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية، فقبره هناك. فأخبرنا أبو أيوب أن الإلقاء باليد إلى التهلكة هو ترك الجهاد في سبيل الله، وأن الآية نزلت في ذلك .
    قلت: وروى الترمذي عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران هذا الخبر بمعناه فقال: "كنا بمدينة الروم، فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة. فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: يا أيها الناس، إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله
    r: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه rيرد عليه ما قلنا: "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة". فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح".


    -وقال حذيفة بن اليمان وابن عباس وعكرمة وعطاء ومجاهد وجمهور الناس: المعنى لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة، فيقول الرجل: ليس عندي، ما أنفقه. وإلى هذا المعنى ذهب البخاري إذ لم يذكر غيره، والله أعلم.

    -قال ابن عباس: أنفق في سبيل الله، وإن لم يكن لك إلا سهم أو مشقص، ولا يقولن أحدكم: لا أجد شيئا. ونحوه عن السدي: أنفق ولو عقالا، ولا تلقي بيدك إلى التهلكة فتقول: ليس عندي شيء.

    -وقول ثالث. قاله ابن عباس، وذلك أن رسول الله r لما أمر الناس بالخروج إلى الجهاد قام إليه أناس من الأعراب حاضرين بالمدينة فقالوا: بماذا نتجهز! فوالله ما لنا زاد ولا يطعمنا أحد، فنزل قوله تعالى: "وأنفقوا في سبيل الله" يعني تصدقوا يا أهل الميسرة في سبيل الله، يعني في طاعة الله. "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" يعني ولا تمسكوا بأيديكم عن الصدقة فتهلكوا، وهكذا قال مقاتل.

    -ومعنى قول ابن عباس: ولا تمسكوا عن الصدقة فتهلكوا، أي لا تمسكوا عن النفقة على الضعفاء، فإنهم إذا تخلفوا عنكم غلبكم العدو فتهلكوا.

    -وقول رابع - قيل للبراء بن عازب في هذه الآية: أهو الرجل يحمل على الكتيبة؟ فقال لا، ولكنه الرجل يصيب الذنب فيلقي بيديه ويقول: قد بالغت في المعاصي ولا فائدة في التوبة، فييأس من الله فينهمك بعد ذلك في المعاصي. فالهلاك: اليأس من الله، وقاله عبيدة السلماني.

    -وقال زيد بن أسلم: المعنى لا تسافروا في الجهاد بغير زاد، وقد كان فعل ذلك قوم فأداهم ذلك إلى الانقطاع في الطريق، أو يكون عالة على الناس. فهذه خمسة أقوال. "سبيل الله" هنا: الجهاد، واللفظ يتناول بعد جميع سبله. والباء في "بأيديكم" زائدة، التقدير تلقوا أيديكم. ونظيره: "ألم يعلم بأن الله يرى" [العلق: 14]. وقال المبرد: "بأيديكم" أي بأنفسكم، فعبر بالبعض عن الكل، كقوله: "فبما كسبت أيديكم"، [الشورى: 30]، "بما قدمت يداك" [الحج: 10].

    -وقيل: هذا ضرب مثل، تقول: فلان ألقى بيده في أمر كذا إذا استسلم، لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيديه، فكذلك فعل كل عاجز في أي فعل كان، ومنه قول عبدالمطلب: [والله إن إلقاءنا بأيدينا للموت لعجز]

    -وقال قوم: التقدير لا تلقوا أنفسكم بأيديكم، كما تقول: لا تفسد حالك برأيك. التهلكة بضم اللام مصدر من هلك يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة، أي لا تأخذوا فيما يهلككم، قاله الزجاج وغيره. أي إن لم تنفقوا عصيتم الله وهلكتم. وقيل: إن معنى الآية لا تمسكوا أموالكم فيرثها منكم غيركم، فتهلكوا بحرمان منفعة أموالكم. ومعنى آخر: ولا تمسكوا فيذهب عنكم الخلف في الدنيا والثواب في الآخرة. ويقال: "لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" يعني لا تنفقوا من حرام فيرد عليكم فتهلكوا. ونحوه عن عكرمة قال: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: "ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" [البقرة: 267] وقال الطبري: قوله "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" عام في جميع ما ذكر لدخوله فيه، إذ اللفظ يحتمله.
    اختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب وحمله على العدو وحده، فقال القاسم ابن مخيمرة والقاسم بن محمد وعبدالملك من علمائنا: لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة، وكان لله بنية خالصة، فان لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة. وقيل: إذا طلب الشهادة وخلصت النية فليحمل، لأن مقصوده واحد منهم، وذلك بين في قوله تعالى: "
    ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله
    " [البقرة: 207]. وقال ابن خويز منداد: فأما أن يحمل الرجل على مائة أو على جملة العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج فلذلك حالتان: إن علم وغلب على ظنه أن سيقتل من حمل عليه وينجو فحسن، وكذلك لو علم وغلب على ظنه أن يقتل ولكن سينكي نكاية أو سيبلي أو يؤثر أثرا ينتفع به المسلمون فجائز أيضا. وقد بلغني أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس نفرت خيل المسلمين من الفيلة، فعمد رجل منهم فصنع فيلا من طين وأنس به فرسه حتى ألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل فحمل على الفيل الذي كان يقدمها فقيل له: إنه قاتلك. فقال: لا ضير أن أقتل ويفتح للمسلمين. وكذلك يوم اليمامة لما تحصنت بنو حنيفة بالحديقة، قال رجل من المسلمين: ضعوني في الحجفة؟؟ وألقوني إليهم، ففعلوا وقاتلهم وحده وفتح الباب.
    قلت: ومن هذا ما روي أن رجلا قال للنبي
    r: أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا؟ قال: (فلك الجنة). فانغمس في العدو حتى قتل. وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه قال: (من يردهم عنا وله الجنة) أو (هو رفيقي في الجنة) فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل. ثم رهقوه أيضا فقال: (من يردهم عنا وله الجنة) أو (هو رفيقي في الجنة). فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل. فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنصفنا أصحابنا). هكذا الرواية (أنصفنا) بسكون الفاء (أصحابنا) بفتح الباء، أي لم ندلهم للقتال حتى قتلوا. وروي بفتح الفاء ورفع الباء، ووجهها أنها ترجع لمن فر عنه من أصحابه، والله أعلم.


    -وقال محمد بن الحسن: لو حمل رجل واحد على ألف رجل من المشركين وهو وحده، لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية في العدو، فإن لم يكن كذلك فهو مكروه، لأنه عرض نفسه للتلف في غير منفعة للمسلمين. فإن كان قصده تجرئة المسلمين عليهم حتى يصنعوا مثل صنيعه فلا يبعد جوازه، ولأن فيه منفعة للمسلمين على بعض الوجوه. وإن كان قصده إرهاب العدو وليعلم صلابة المسلمين في الدين فلا يبعد جوازه. وإذا كان فيه نفع للمسلمين فتلفت نفسه لإعزاز دين الله وتوهين الكفر فهو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم" [التوبة: 111] الآية، إلى غيرها من آيات المدح التي مدح الله بها من بذل نفسه. وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه متى رجا نفعا في الدين فبذل نفسه فيه حتى قتل كان في أعلى درجات الشهداء، قال الله تعالى: "وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور" [لقمان: 17]. وقد روى عكرمة عن ابن عباس عن النبي r أنه قال: (أفضل الشهداء حمزة بن عبدالمطلب ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله).
    قوله تعالى: "
    وأحسنوا إن الله يحب المحسنين" أي في الإنفاق في الطاعة، وأحسنوا الظن بالله في إخلافه عليكم. وقيل: "أحسنوا" في أعمالكم بامتثال الطاعات، روي ذلك عن بعض الصحابة.




    *البغوي قوله تعالى: " وأنفقوا في سبيل الله " أراد به الجهاد وكل خير هو في سبيل الله، ولكن إطلاقه ينصرف إلى الجهاد " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قيل: الباء في قوله تعالى " بأيديكم " زائدة، يريد: ولا تلقوا أيديكم، أي أنفسكم " إلى التهلكة " عبر عن النفس بالأيدي كقوله تعالى " بما كسبت أيديكم " (30-الشورى) أي بما كسبتم، وقيل الباء في موضعها، وفيه حذف، أي لاتلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة أي الهلاك، وقيل: التهلكة كل شيء يصير عاقبته إلى الهلاك، أي ولا تأخذوا في ذلك، وقيل: التهلكة ما يمكن الاحتراز عنه، والهلاك مالا يمكن الاحتراز عنه، والعرب لا تقول للإنسان ألقى بيده إلا في الشرك، واختلفوا في تأويل هذه الآية فقال بعضهم: هذا في البخل وترك الإنفاق. يقول " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " بترك الإنفاق في سبيل

    - وقال: سعيد بن المسيب و مقاتل بن حيان : لما أمر الله تعالى بالإنفاق قال رجل: أمرنا بالنفقة في سبيل الله، ولو انفقنا أموالنا بقينا فقراء، فأنزل الله هذه الآية،

    -وقال مجاهد فيها: لا يمنعنكم من نفقة في حق خيفة العيلة... عن عياض بن غضيف قال: أتينا أبا عبيدة نعوده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبعمائة، ومن أنفق نفقة على أهله فالحسنة بعشر أمثالها ". وقال زيد بن أسلم : كان رجال يخرجون في البعوث بغير نفقة فإما أن يقطع بهم، وإما أن كانوا عيالاً فأمرهم الله تعالى بالإنفاق على أنفسهم في سبيل الله، ومن لم يكن عنده شيء ينفقه فلا يخرج بغير نفقة ولا قوت فيلقي بيده إلى التهلكة، فالتهلكة: أن يهلك من الجوع والعطش أو بالمشي،

    - وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق ".

    - وقال محمد بن سيرين و عبيدة السلماني : الإلقاء إلى التهلكة هو القنوط من رحمة الله تعالى،

    -قال أبو قلابة : هو الرجل يصيب الذنب فيقول: قد هلكت ليس لي توبة فييأس من رحمة الله، وينهمك في المعاصي، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، قال الله تعالى: " إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون " (87-يوسف). قوله تعالى: " وأحسنوا " أي أحسنوا أعمالكم وأخلاقكم وتفضلوا على الفقراء " إن الله يحب المحسنين "



    *السعدي يأمر تعالى عباده بالنفقة في سبيله وهو إخراج الأموال في الطرق الموصلة إلى الله وهي كل طرق الخير من صدقة على مسكين أو قريب أو أنفاق على من تجب مؤنته

    وأعظم ذلك وأول ما دخل في ذلك الإنفاق في الجهاد في سبيل الله فإن النفقة فيه جهاد بالمال وهو فرض كالجهاد بالبدن وفيها من المصالح العظيمة الإعانة على تقوية المسلمين وعلى توهية الشرك وأهله وعلى إقامة دين الله وإعزازه فالجهاد في سبيل الله لا يقوم إلا على ساق النفقة فالنفقة له كالروح لا يمكن وجوده بدونها وفي ترك الإنفاق في سبيل الله إبطال للجهاد وتسليط للأعداء وشدة تكالبهم فيكون قوله تعالى :

    " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة "

    كالتعليل لذلك والإلقاء باليد إلى التهلكة يرجع إلى أمرين : ترك ما أمر به العبد إذا كان تركه موجبا أو مقاربا لهلاك البدن أو الروح وفعل ما هو سبب موصل إلى تلف النفس أو الروح فيدخل تحت ذلك أمور كثيرة فمن ذلك ترك الجهاد في سبيل الله أو النفقة فيه الموجب لتسلط الأعداء ومن ذلك تغرير الإنسان بنفسه في مقاتلة أو سفر مخوف أو محل مسبعة أو حيات أو يصعد شجرا أو بنيانا خطرا أو يدخل تحت شيء فيه خطر ونحو ذلك فهذا ونحوه ممن ألقى بيده إلى التهلكة

    ومن الإلقاء باليد إلى التهلكة الإقامة على معاصي الله واليأس من التوبة ومنها ترك ما أمر الله به من الفرائض التي تركها هلاك للروح والدين

    ولما كانت النفقة في سبيل الله نوعا من أنواع الإحسان أمر بالإحسان عموما فقال :

    " وأحسنوا إن الله يحب المحسنين "

    وهذا يشمل جميع أنواع الإحسان لأنه لم يقيده بشيء دون شيء فيدخل فيه الإحسان بالمال كما تقدم

    ويدخل فيه الإحسان بالجاه بالشفاعات ونحو ذلك ويدخل في ذلك الإحسان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم العلم النافع ويدخل في ذلك قضاء حوائج الناس من تفريج كرباتهم وإزالة شداتهم وعيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم وإرشاد ضالهم وإعانة من يعمل عملا والعمل لمن لا يحسن العمل ونحو ذلك مما هو من الإحسان الذي أمر الله به ويدخل في الإحسان أيضا الإحسان في عبادة الله تعالى وهو كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك

    فمن اتصف بهذه الصفات كان من الذين قال الله فيهم :

    " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة "

    وكان الله معه يسدده ويرشده ويعينه على كل أموره ./

    فـــــصــــــل

    قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ( الفتاوى الكبرى)

    ** فصل‏‏ فيمن قال‏:‏ القول في بعض الصفات كالقول في بعض

    فأما الأصلان‏:‏ فأحدهما أن يقال‏:‏ القول في بعض الصفات كالقول في بعض، فإن كان المخاطب ممن يقول‏:‏ بأن الله حي بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، مريد بإرادة، ويجعل ذلك كله حقيقة وينازع في محبته ورضاه وغضبه وكراهته، فيجعل ذلك مجازا ويفسره، إما بالإرادة وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات، فيقال له‏:‏ لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته، بل القول في أحدهما كالقول في الآخر، فإن قلت‏:‏ إن إرادته مثل إرادة المخلوقين فكذلك محبته ورضاه وغضبه‏.‏ وهذا هو التمثيل ، وإن قلت‏:‏ أن له إرادة تليق به، كما أن للمخلوق إرادة تليق به قيل لك‏:‏ وكذلك له محبة تليق به، وللمخلوق محبة تليق به ، وله رضا وغضب يليق به، وللمخلوق رضا وغضب يليق به ، وإن قلت‏:‏ الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام فيقال لك‏:‏ والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة ، فإن قلت‏:‏ هذه إرادة المخلوق قيل لك‏:‏ وهذا غضب المخلوق.

    وكذلك يلزم القول في كلامه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته، إن نفي عنه الغضب والمحبة والرضا ونحو ذلك مما هو من خصائص المخلوقين، فهذا منتف عن السمع والبصر والكلام وجميع الصفات وإن قال‏:‏ أنه لا حقيقة لهذا إلا ما يختص بالمخلوقين، فيجب نفيه عنه قيل له‏:‏ وهكذا السمع والبصر والكلام والعلم والقدرة، فهذا المفرق بين بعض الصفات وبعض، يقال له‏:‏ فيما نفاه كما يقوله هو لمنازعه فيما أثبته، فإذا قال المعتزلي‏:‏ ليس له إرادة ولا كلام قائم به، لأن هذه الصفات لا تقوم إلا بالمخلوقات، فإنه يبين للمعتزلي أن هذه الصفات يتصف بها القديم، ولا تكون كصفات المحدثات، فهكذا يقول له المثبتون لسائر الصفات من المحبة والرضا، ونحو ذلك، فإن قال‏:‏ تلك الصفات أثبتها بالعقل، لأن الفعل الحادث دل على القدرة، والتخصيص دل على الإرادة ، والإحكام دل على العلم، وهذه الصفات مستلزمة للحياة، والحي لا يخلو عن السمع، والبصر ، والكلام، أو ضد ذلك قال له سائر أهل الإثبات‏:‏ لك جوابان‏:‏ أحدهما أن يقال‏:‏ عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين، فهب أن ما سلكت من الدليل العقلي لا يثبت ذلك، فإنه لا ينفيه، وليس لك أن تنفيه بغير دليل، لأن النافي عليه الدليل، كما على المثبت، والسمع قد دل عليه ولم يعارض ذلك معارض عقلي، ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض‏.‏

    المقام الثاني أن يقال‏:‏ يمكن إثبات هذه الصفات، بنظير ما أثبت به تلك من العقليات، فيقال نفع العباد بالإحسان إليهم دل على الرحمة، كدلالة التخصيص على المشيئة، وإكرام الطائعين يدل على محبتهم، وعقاب الكافرين يدل على بغضهم، كما قد ثبت بالشهادة والخبر‏:‏ من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه، والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته - وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة - تدل على حكمته البالغة، كما يدل التخصيص على المشيئة، وأولى لقوة العلة الغائية،



    **وقال :فلنعتقد أن لله أسماء وصفات قديمة غير مخلوقة، جاء بها كتابه، وأخبر بها الرسول أصحابه، فيما رواه الثقات، وصححه النقاد الأثبات ،ودل القرآن المبين والحديث الصحيح المتين على ثبوتها ‏.‏

    قال ـ رحمه الله تعالى ـ وهي أن الله ـ تعالى ـ أول لم يزل، وآخر لا يزال، أحد قديم وصمد كريم، عليم حليم عليٌّ عظيم، رفيع مجـيد وله بطش شديـد، وهـو يبدئ ويعيد، فعال لما يريد، قوي قدير، منيع نصير، ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏11‏]‏، إلى سائر أسمائه وصفاته من النفس، والوجه، والعين، والقدم، واليدين، والعلم، والنظر، والسمع، والبصر، والإرادة، والمشيئة، والرضى، والغضب، والمحبة، والضحك، والعجب، والاستحياء، والغيرة، والكراهة، والسخط، والقبض، والبسط، والقرب، والدنو، والفوقية والعلو، والكلام، والسلام، والقول، والنداء، والتجلي، واللقاء، والنزول، والصعود، والاستواء، وأنه ـ تعالى ـ في السماء، وأنه على عرشه بائن من خلقه‏...



    وقال : وكذلك إذا قيل‏:‏ الإرادة والرحمة والمحبة تنقسم إلى إرادة اللّه ومحبته ورحمته، وإردة العبد ومحبته ورحمته‏.‏


    فمن ظن أن ‏[‏الحقيقة‏]‏ إنما تتناول صفة العبد المخلوقة المحدثة دون صفة الخالق، كان في غاية الجهل؛
    فإن صفة اللّه أكمل وأتم وأحق بهذه الأسماء الحسنى، فلا نسبة بين صفة العبد وصفة الرب، كما لا نسبة بين ذاته وذاته، فكيف يكون العبد مستحقًا للأسماء الحسنى حقيقة، فيستحق أن يقال له‏:‏ عالم قادر سميع بصير، والرب لا يستحق ذلك إلا مجازًا‏ ؟‏‏!‏ ومعلوم أن كل كمال حصل للمخلوق فهو من الرب ـ سبحانه وتعالى ـ وله المثل الأعلى، فكل كمال حصل للمخلوق فالخالق أحق به، وكل نقص تنزه عنه المخلوق فالخالق أحق أن ينزه عنه؛ ولهذا كان للّه ‏[‏المثل الأعلى‏]‏، فإنه لا يقاس بخلقه ولا يمثل بهم، ولا تضرب له الأمثال‏.‏ فلا يشترك هو والمخلوق في قياس تمثيل بمثل؛ ولا في قياس شمول تستوي أفراده، بل ‏{‏وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏‏.‏



    ** وقال : وكذلك إذا قال‏:‏ الرضا والغضب والفرح والمحبة ونحو ذلك هو من صفات الأجسام‏.‏
    فإنه يقال له‏:‏ وكذلك الإرادة، والسمع، والبصر، والعلم، والقدرة من صفات الأجسام، فإنا كما لا نعقل ما ينزل، ويستوى ويغضب ويرضى إلا جسمً، لم نعقل ما يسمع ويبصر ويريد، ويعلم ويقدر إلا جسمًا‏.‏
    فإذا قيل‏:‏ سمعه ليس كسمعنا، وبصره ليس كبصرنا، وإرادته ليست كإرادتنا، وكذلك علمه وقدرته‏.‏
    قيل له‏:‏ وكذلك رضاه ليس كرضانا،
    ( ومحبته ليست كمحبتنا) وغضبه ليس كغضبنا، وفرحه ليس كفرحنا، ونزوله واستواؤه ليس كنزولنا واستوائنا ...


    **وقال :... إن محبته ورضاه مستلزم للإرادة الدينية والأمر الديني، وكذلك بغضه وغضبه وسخطه مستلزم لعدم الإرادة الدينية فالمحبة والرضا والغضب والسخط ليس هو مجرد الإرادة‏.‏ هذا قول جمهور أهل السنة‏.‏
    ومن قال‏:‏ إن هذه الأمور بمعنى الإرادة كما يقوله كثير من القدرية وكثير من أهل الإثبات، فإنه يستلزم أحد الأمرين‏:‏ إما أن الكفر والفسوق والمعاصي مما يكرهها دينا فقد كره كونها وأنها واقعة بدون مشيئته وإرادته، وهذا قول القدرية، أو يقول‏:‏ إنه لما كان مريدًا لها شاءها فهو محب لها راض بها كما تقوله طائفة من أهل الإثبات‏.‏ وكلا القولين فيه ما فيه، فإن الله تعالى يحب المتقين ويحب المقسطين وقد رضي عن المؤمنين، ويحب ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، وليس هذا المعنى ثابتًا في الكفار والفجار والظالمين، ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب كل مختال فخور، ومع هذا فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن‏.‏
    وأحسن ما يتعذر به من قال هذا القول من أهل الإثبات‏:‏ إن المحبة بمعنى الإرادة أنه أحبها كما أرادها كونًا‏.‏ فكذلك أحبها ورضيها كونا‏.‏ وهذا فيه نظر
    ...


    **وقال :... وتنازعوا في مسألة المحبة ؛ فذهب طوائف إلى أن اللّه لا يُحَبُّ نَفْسُهُ، وإنما المحبة محبة طاعته وعبادته؛ وقالوا‏:‏ هو أيضًا لا يحب عباده المؤمنين؛ وإنما محبته إرادته الإحسان إليهم وولايتهم‏.‏ ودخل في هذا القول من انتسب إلى نصر السنة من أهل الكـلام، حتى وقع فيه طوائف من أصحاب مالك والشافعي وأحمد‏:‏ كالقاضي أبي بكـر والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي الجويني وأمثال هؤلاء‏.‏
    وهذا في الحقيقة شعبة من التجهم والاعتزال؛ فإن أول من أنكر المحبة في الإسلام الجعد بن درهم، أستاذ الجهم بن صفوان؛ فضحى به خالد بن عبد اللّه القسري‏.‏ وقال‏:‏ أيها الناس، ضحوا تقبل اللّه ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن اللّه لم يتخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلم موسى تكليمًا
    ،
    ثم نزل فذبحه‏.‏
    والذي دل عليه
    الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها ومشائخ الطريق‏:‏ أن اللّه يحب ويحب‏.


    **وقال :... وهو ـ سبحانه ـ يحب عباده المؤمنين، وكمال الحب هو الخلة التي جعلها الله لإبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم، فإن الله اتخذ إبراهيم خليلًا، واستفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من غير وجه أنه قال‏:‏ ‏(‏إن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن صاحبكم خليل الله‏)‏، يعني نفسه؛ ولهذا اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة وأهل المعرفة أن الله نفسه يُحِبُّ وَيُحَبُّ‏

    **وقال :... وأما محبة الرب ـ سبحانه ـ لعبده فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 125‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏‏[‏البقرة‏:‏ 195‏]‏، ‏{‏وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ‏}‏‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏، ‏{‏فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ[font:2ccb
    avatar
    د.محمودعبدالحكيم
    مشرف
    مشرف


    الجنس : ذكر
    الابراج : الثور
    عدد المساهمات : 333
    نقاط : 8657
    السٌّمعَة : 191
    تاريخ التسجيل : 24/07/2011
    العمر : 56
    الموقع : جمهورية مصر العربية
    أوسمه : عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار Ououo_21

    عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار Empty رد: عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار

    مُساهمة من طرف د.محمودعبدالحكيم الأحد 8 أبريل 2012 - 11:58

    **وقال :... وأما محبة الرب ـ سبحانه ـ لعبده فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 125‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏‏[‏البقرة‏:‏ 195‏]‏، ‏{‏وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ‏}‏‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏، ‏{‏فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏}‏‏[‏التوبة‏:‏ 4‏]‏، ‏{‏فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏}‏‏[‏التوبة‏:‏ 7‏]‏، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 4‏]‏، ‏{‏بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 76‏]‏‏.‏
    وأما الأعمال التي يحبها اللّه من الواجبات والمستحبات الظاهرة والباطنة فكثيرة معروفة،
    وكذلك حبه لأهلها وهم المؤمنون أولياء اللّه المتقون‏.‏


    وهذه المحبة حق كما نطق بها الكتاب والسنة، والذي عليه سلف الأمة وأئمتها وأهل السنة والحديث وجميع مشائخ الدين المتبعون، وأئمة التصوف إن اللّه ـ سبحانه ـ محبوب لذاته محبة حقيقية، بل هي أكمل محبة، فإنها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏ وكذلك هو ـ سبحانه ـ يحب عباده المؤمنين محبة حقيقية‏.‏

    **وقال :... والمقصود أن عباده المؤمنين يحبونه وهو يحبهم ـ سبحانه وتعالى ـ وحبهم له بحسب فعلهم لما يحبه، كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يقول الله تعالي‏:‏ من عادي لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته؛ كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه‏)‏‏.‏
    فقد بين‏:‏ أن العبد إذا تقرب إلى الله بما يحبه من النوافل بعد الفرائض أحبه الله، فحب الله لعبده بحسب فعل العبد لما يحبه الله، وما يحبه الله من عبادته وطاعته فهو تبع لحب نفسه، وحب ذلك هو سبب حب عباده المؤمنين، فكان حبه للمؤمنين تبعًا لحب نفسه‏.‏
    اه




    2- (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة : 222 )




    *القرطبي قوله تعالى: "ويسألونك عن المحيض" ذكر الطبري عن السدي أن السائل ثابت بن الدحداح - وقيل: أسيد بن حضير وعباد بن بشر، وهو قول الأكثرين. وسبب السؤال فيما قال قتادة وغيره: أن العرب في المدينة وما والاها كانوا قد استنوا بسنة بني إسرائيل في تجنب مؤاكلة الحائض ومساكنتها، فنزلت هذه الآية. وقال مجاهد: كانوا يتجنبون النساء في الحيض، ويأتونهن في أدبارهن مدة زمن الحيض، فنزلت. وفي صحيح مسلم عن أنس: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبي صلىالله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهرِينَ (، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلهما هدية من لَبَنٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفا أن لم يجد عليهما.

    - قال علماؤنا: كانت اليهود والمجوس تجتنب الحائض، وكانت النصارى يجامعون الحيض، فأمر الله بالقصد بين هذين.

    قوله تعالى: "عن المحيض" المحيض: الحيض وهو مصدر، يقال: حاضت المرأة حيضا ومحاضا ومحيضا، فهي حائض، وحائضة أيضا، عن الفراء وأنشد:
    كحائضة يزنى بها غير طاهر
    ونساء حيض وحوائض. والحيضة: المرة الواحدة. والحيضة (بالكسر) الاسم، والجمع الحيض. والحيضة أيضا: الخرقة التي تستثفر بها المرأة. قالت عائشة رضي الله عنها: ليتني كنت حيضة ملقاة. وكذلك المحيضة، والجمع المحائض. وقيل: المحيض عبارة عن الزمان والمكان، وعن الحيض نفسه، وأصله في الزمان والمكان مجاز في الحيض. وقال الطبري: المحيض اسم للحيض، ومثله قول رؤبة في العيش:
    إليك أشكو شدة المعيش ومر أعوام نتفن ريشي
    وأصل الكلمة من السيلان والانفجار، يقال: حاض السيل وفاض، وحاضت الشجرة أي سالت رطوبتها، ومنه الحيض أي الحوض، لأن الماء يحيض إليه أي يسيل، والعرب تدخل الواو على الياء والياء على الواو، لأنهما من حيز واحد. قال ابن عرفة: المحيض والحيض اجتماع الدم إلى ذلك الموضع، وبه سمي الحوض لاجتماع الماء فيه، يقال: حاضت المرأة وتحيضت، ودرست وعركت، وطمثت، تحيض حيضا ومحاضا ومحيضا إذا سال الدم منها في أوقات معلومة. فإذا سال في غير أيام معلومة، ومن غير عرق المحيض قلت: استحيضت، فهي مستحاضة.


    - وقال ابن العربي : ولها ثمانية أسماء: الأول: حائض. الثاني: عارك. الثالث: فارك. الرابع: طامس. الخامس: دارس. السادس: كابر. السابع: ضاحك. الثامن: طامث.

    - قال مجاهد في قوله تعالى: "فضحكت" يعني حاضت. وقيل في قوله تعالى: "فلما رأينه أكبرنه" [يوسف: 31] يعني حضن.

    - أجمع العلماء على أن للمرأة ثلاثة أحكام في رؤيتها الدم الظاهر السائل من فرجها، فمن ذلك الحيض المعروف، ودمه أسود خاثر تعلوه حمرة، تترك له الصلاة والصوم، لا خلاف في ذلك. وقد يتصل وينقطع، فإن اتصل فالحكم ثابت له، وإن انقطع فرأت الدم يوما والطهر يوما، أو رأت الدم يومين والطهر يومين أو يوما فإنها تترك الصلاة في أيام الدم، وتغتسل عند انقطاعه وتصلي، ثم تلفق أيام الدم وتلغي أيام الطهر المتخللة لها، ولا تحتسب بها طهرا في عدة ولا استبراء. والحيض خلقة في النساء، وطبع معتاد معروف منهن. روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى فمر على النساء فقال: (يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار - فقلن وبم يا رسول الله؟ قال - تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن - قلن: وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى يا رسول الله، قال: فذلك من نقصان دينها)
    -
    وأجمع العلماء على أن الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، لحديث معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: أحرورية أنت؟ قلت: لست بحرورية، ولكني أسأل. قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة، خرجه مسلم. فإذا انقطع عنها كان طهرها منه الغسل، على ما يأتي.
    - واختلف العلماء في مقدار الحيض، فقال فقهاء المدينة: إن الحيض لا يكون أكثر من خمسة عشر يوما، وجائز أن يكون خمسة عشر يوما فما دون، وما زاد على خمسة عشر يوما لا يكون حيضا وإنما هو استحاضة، هذا مذهب مالك وأصحابه. وقد روي عن مالك أنه لا وقت لقليل الحيض ولا لكثيره إلا ما يوجد في النساء، فكأنه ترك قوله الأول ورجع إلى عادة النساء.


    - وقال محمد بن سلمة: أقل الطهر خمسة عشر يوما، وهو اختيار أكثر البغداديين من المالكيين، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما والثوري، وهو الصحيح في الباب، لأن الله تعالى قد جعل عدة ذوات الأقراء ثلاث حيض، وجعل عدة من لا تحيض من كبر أو صغر ثلاثة أشهر، فكان كل قرء عوضا من شهر، والشهر يجمع الطهر والحيض. فإذا قل الحيض كثر الطهر، وإذا كثر الحيض قل الطهر، فلما كان أكثر الحيض خمسة عشر يوما وجب أن يكون بإزائه أقل الطهر خمسة عشر يوما ليكمل في الشهر الواحد حيض وطهر، وهو المتعارف في الأغلب من خلقة النساء وجبلتهن مع دلائل القرآن والسنة.

    - وقال الشافعي: أقل الحيض يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يوما. وقد روي عنه مثل قول مالك: إن ذلك مردود إلى عرف النساء.

    - وقال أبو حنيفة وأصحابه: أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة.

    - قال ابن عبدالبر: ما نقص عند هؤلاء عن ثلاثة أيام فهو استحاضة، لا يمنع من الصلاة إلا عند أول ظهوره، لأنه لا يعلم مبلغ مدته. ثم على المرأة قضاء صلاة تلك الأوقات، وكذلك ما زاد على عشرة أيام عند الكوفيين. وعند الحجازيين ما زاد على خمسة عشر يوما فهو استحاضة. وما كان أقل من يوم وليلة عند الشافعي فهو استحاضة، وهو قول الأوزاعي والطبري. وممن قال أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما عطاء بن أبي رباح وأبو ثور وأحمد بن حنبل. قال الأوزاعي: وعندنا امرأة تحيض غدوة وتطهر عشية وقد أتينا على ما للعلماء في هذا الباب - من أكثر الحيض وأقله وأقل الطهر، وفي الاستظهار، والحجة في ذلك - في "المقتبس في شرح موطأ مالك بن أنس" فإن كانت بكرا مبتدأة فإنها تجلس أول ما ترى الدم في قول الشافعي خمسة عشر يوما، ثم تغتسل وتعيد صلاة أربعة عشر يوما.

    - وقال مالك: لا تقضي الصلاة ويمسك عنها زوجها. علي بن زياد عنه: تجلس قدر لداتها، وهذا قول عطاء والثوري وغيرهما.

    - ابن حنبل: تجلس يوما وليلة، ثم تغتسل وتصلي ولا يأتيها زوجها. أبو حنيفة وأبو يوسف: تدع الصلاة عشرا، ثم تغتسل وتصلي عشرين يوما، ثم تترك الصلاة بعد العشرين عشرا، فيكون هذا حالها حيت ينقطع الدم عنها. أما التي لها أيام معلومة فإنها تستظهر على أيامها المعلومة بثلاثة أيام، عن مالك: ما لم تجاوز خمسة عشر يوما. الشافعي: تغتسل إذا انقضت أيامها بغير استظهار.
    والثاني من الدماء
    : دم النفاس عند الولادة، وله أيضا عند العلماء حد معلوم اختلفوا فيه، فقيل: شهران، وهو قول مالك. وقيل: أربعون يوما، وهو قول الشافعي. وقيل غير ذلك. وطهرها عند انقطاعه. والغسل منه كالغسل من الجنابة. قال القاضي أبو محمد عبدالوهاب: ودم الحيض والنفاس يمنعان أحد عشر شيئا: وهي وجوب الصلاة وصحة فعلها وفعل الصوم دون وجوبه - وفائدة الفرق لزوم القضاء للصوم ونفيه في الصلاة - والجماع في الفرج وما دونه والعدة والطلاق، والطواف ومس المصحف ودخول المسجد والاعتكاف فيه، وفي قراءة القرآن روايتان.
    والثالث من الدماء: دم ليس بعادة ولا طبع منهن ولا خلقة، وإنما هو عرق انقطع، سائله دم أحمر لا انقطاع له إلا عند البرء منه، فهذا حكمه أن تكون المرأة منه طاهرة لا يمنعها من صلاة ولا صوم بإجماع من العلماء واتفاق من الآثار المرفوعة إذا كان معلوما أنه دم عرق لا دم حيض. روى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قالت فاطمة بنت أبي حبيش: يا رسول الله، إني لا أطهر! أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما ذلك عرق وليس بالحيضة إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي). وفي هذا الحديث مع صحته وقلة ألفاظه ما يفسر لك أحكام الحائض والمستحاضة، وهو أصح ما روي في هذا الباب، وهو يرد ما روي عن عقبة بن عامر ومكحول أن الحائض تغتسل وتتوضأ عند كل وقت صلاة، وتستقبل القبلة ذاكرة الله عز وجل جالسة. وفيه أن الحائض لا تصلي، وهو إجماع من كافة العلماء إلا طوائف من الخوارج يرون على الحائض الصلاة. وفيه ما يدل على أن المستحاضة لا يلزمها غير ذلك الغسل الذي تغتسل من حيضها، ولو لزمها غيره لأمرها به، وفيه رد لقول من رأى ذلك عليها لكل صلاة. ولقول من رأى عليها أن تجمع بين صلاتي النهار بغسل واحد، وصلاتي الليل بغسل واحد وتغتسل للصبح. ولقول من قال: تغتسل من طهر إلى طهر. ولقول سعيد بن المسيب من طهر إلى طهر، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمرها بشيء من ذلك. وفيه رد لقول من قال بالاستظهار، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها إذا علمت أن حيضتها قد أدبرت وذهبت أن تغتسل وتصلي، ولم يأمرها أن تترك الصلاة ثلاثة أيام لانتظار حيض يجيء أو لا يجيء، والاحتياط إنما يكون في عمل الصلاة لا في تركها.


    - قوله تعالى: "قل هو أذى" أي هو شيء تتأذى به المرأة وغيرها أي برائحة دم الحيض. والأذى كناية عن القذر على الجملة. ويطلق على القول المكروه، ومنه قوله تعالى: "لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى" [البقرة: 264] أي بما تسمعه من المكروه. ومنه قوله تعالى: "ودع أذاهم" [الأحزاب: 48] أي دع أذى المنافقين لا تجازهم إلا أن تؤمر فيهم، وفي الحديث: (وأميطوا عنه الأذى) يعني بـ "الأذى" الشعر الذي يكون على رأس الصبي حين يولد، يحلق عنه يوم أسبوعه، وهي العقيقة. وفي حديث الإيمان: (وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) أي تنحيته، يعني الشوك والحجر، وما أشبه ذلك مما يتأذى به المار. وقوله تعالى: "ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر" [النساء: 102] .
    استدل من منع وطء المستحاضة بسيلان دم الاستحاضة، فقالوا: كل دم فهو أذى، يجب غسله من الثوب والبدن، فلا فرق في المباشرة بين دم الحيض والاستحاضة لأنه كله رجس. وأما الصلاة فرخصة وردت بها السنة كما يصلى بسلس البول، هذا قول إبراهيم النخعي وسليمان بن يسار والحكم بن عيينة وعامر الشعبي وابن سيرين والزهري. واختلف فيه عن الحسن، وهو قول عائشة: لا يأتيها زوجها، وبه قال ابن علية والمغيرة بن عبدالرحمن، وكان من أعلى أصحاب مالك، وأبو مصعب، وبه كان يفتي. وقال جمهور العلماء: المستحاضة تصوم وتصلي وتطوف وتقرأ، ويأتيها زوجها. قال مالك: أمر أهل الفقه والعلم على هذا، وإن كان دمها كثيرا، رواه عنه ابن وهب.


    - وكان أحمد يقول: أحب إلي ألا يطأها إلا أن يطول ذلك بها. وعن ابن عباس في المستحاضة: (لا بأس أن يصيبها زوجها وإن كان الدم يسيل على عقبيها). وقال مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما ذلك عرق وليس بالحيضة). فإذا لم تكن حيضة فما يمنعه أن يصيبها وهي تصلي! قال ابن عبدالبر: لما حكم الله عز وجل في دم المستحاضة بأنه لا يمنع الصلاة وتعبد فيه بعبادة غير عبادة الحائض وجب ألا يحكم له بشيء من حكم الحيض إلا فيما أجمعوا عليه من غسله كسائر الدماء.

    - قوله تعالى: "فاعتزلوا النساء في المحيض" أي في زمن الحيض، إن حملت المحيض على المصدر، أو في محل الحيض إن حملته على الاسم. ومقصود هذا النهي ترك المجامعة.

    - وقد اختلف العلماء في مباشرة الحائض وما يستباح منها، فروي عن ابن عباس وعبيدة السلماني (أنه يجب أن يعتزل الرجل فراش زوجته إذا حاضت). وهذا قول شاذ خارج عن قول العلماء. وإن كان عموم الآية يقتضيه فالسنة الثابتة بخلافه، وقد وقفت على ابن عباس خالته ميمونة وقالت له: أراغب أنت عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

    - وقال مالك والشافعي والأوزاعي وأبو حنيفة وأبو يوسف وجماعة عظيمة من العلماء: له منها ما فوق الإزار، لقوله عليه السلام للسائل حين سأله: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ فقال - : (لتشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها) وقوله عليه السلام لعائشة حين حاضت: (شدي على نفسك إزارك ثم عودي إلى مضجعك).

    - وقال الثوري ومحمد بن الحسن وبعض أصحاب الشافعي: يجتنب موضع الدم، لقوله عليه السلام: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح). وقد تقدم. وهو قول داود، وهو الصحيح من قول الشافعي.

    - وروى أبو معشر عن إبراهيم عن مسروق قال: سألت عائشة ما يحل لي من امرأتي وهي حائض فقالت: كل شيء إلا الفرج.

    - قال العلماء: مباشرة الحائض وهي متزرة على الاحتياط والقطع للذريعة، ولأنه لو أباح فخذيها كان ذلك من ذريعة إلى موضع الدم المحرم بإجماع فأمر بذلك احتياطا، والمحرم نفسه موضع الدم، فتتفق بذلك معاني الآثار، ولا تضاد، وبالله التوفيق.

    واختلفوا في الذي يأتي امرأته وهي حائض ماذا عليه، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: يستغفر الله ولا شيء عليه، وهو قول ربيعة ويحيى بن سعيد، وبه قال داود. وروي عن محمد بن الحسن: يتصدق بنصف دينار. وقال أحمد: ما أحسن حديث عبدالحميد عن مقسم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يتصدق بدينار أو نصف دينار). أخرجه أبو داود وقال: هكذا الرواية الصحيحة، قال: دينار أو نصف دينار، واستحبه الطبري. فإن لم يفعل فلا شيء عليه، وهو قول الشافعي ببغداد. وقالت فرقة من أهل الحديث: إن وطئ في الدم فعليه دينار، وإن وطئ في انقطاعه فنصف دينار. وقال الأوزاعي: من وطئ امرأته وهي حائض تصدق بخمسي دينار، والطرق لهذا كله في "سنن أبي داود والدارقطني" وغيرهما. وفي كتاب الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان دما أحمر فدينار وإن كان دما أصفر فنصف دينار). قال أبو عمر: حجة من لم يوجب عليه كفارة إلا الاستغفار والتوبة اضطراب هذا الحديث عن ابن عباس، وأن مثله لا تقوم به حجة، وأن الذمة على البراءة، ولا يجب أن يثبت فيها شيء لمسكين ولا غيره إلا بدليل لا مدفع فيه ولا مطعن عليه، وذلك معدوم في هذه المسألة.
    - قوله تعالى: "ولا تقربوهن حتى يطهرن" قال ابن العربي: سمعت الشاشي في مجلس النظر يقول: إذا قيل لا تقرب (بفتح الراء) كان معناه: لا تلبس بالفعل، وإن كان بضم الراء كان معناه: لا تدن منه. وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه "يَطْهُرنَ " بسكون الطاء وضم الهاء. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل "يطَّهَّرن" بتشديد الطاء والهاء وفتحهما. وفي مصحف أبي وعبدالله "يتطهرن". وفي مصحف أنس بن مالك "ولا تقربوا النساء في محيضهن واعتزلوهن حتى يتطهرن". ورجح الطبري قراءة تشديد الطاء، وقال: هي بمعنى يغتسلن، لإجماع الجميع على أن حراما على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدم حتى تطهر. قال: وإنما الخلاف في الطهر ما هو، فقال قوم: هو الاغتسال بالماء. وقال قوم: هو وضوء كوضوء الصلاة. وقال قوم: هو غسل الفرج، وذلك يحلها لزوجها وإن لم تغتسل من الحيضة، ورجح أبو علي الفارسي قراءة تخفيف الطاء، إذ هو ثلاثي مضاد لطمث وهو ثلاثي.


    - قوله تعالى: "فإذا تطهرن" يعني بالماء، وإليه ذهب مالك وجمهور العلماء، وأن الطهر الذي يحل به جماع الحائض الذي يذهب عنها الدم هو تطهرها بالماء كطهر الجنب، ولا يجزئ من ذلك تيمم ولا غيره، وبه قال مالك والشافعي والطبري ومحمد بن مسلمة وأهل المدينة وغيرهم.

    - وقال يحيى بن بكير ومحمد بن كعب القرظي: إذا طهرت الحائض وتيممت - حيث لا ماء حلت لزوجها وإن لم تغتسل.

    - وقال مجاهد وعكرمة وطاوس: انقطاع الدم يحلها لزوجها. ولكن بأن تتوضأ. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إن انقطع دمها بعد مضي عشرة أيام جاز له أن يطأها قبل الغسل، وإن كان انقطاعه قبل العشرة لم يجز حتى تغتسل أو يدخل عليها وقت الصلاة. وهذا تحكم لا وجه له، وقد حكموا للحائض بعد انقطاع دمها بحكم الحبس في العدة وقالوا لزوجها: عليها الرجعة ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة، فعلى قياس قولهم هذا لا يجب أن توطأ حتى تغتسل، مع موافقة أهل المدينة. ودليلنا أن الله سبحانه علق الحكم فيها على شرطين: أحدهما: انقطاع الدم، وهو قوله تعالى: "حتى يطهرن". والثاني: الاغتسال بالماء، وهو قوله تعالى: "فإذا تطهرن" أي يفعلن الغسل بالماء، وهذا مثل قوله تعالى: "(وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيباً) (النساء : 6 )، فعلق الحكم وهو جواز دفع المال على شرطين: أحدهما: بلوغ المكلف النكاح. والثاني: إيناس الرشد، وكذلك قوله تعالى في المطلقة: "فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" [البقرة: 230] ثم جاءت السنة باشتراط العسيلة، فوقف التحليل على الأمرين جميعا، وهو انعقاد النكاح ووجود الوطء.

    - احتج أبو حنيفة فقال: إن معنى الآية، الغاية في الشرط هو المذكور في الغاية قبلها، فيكون قوله: "حتى يطْهُرْنَ" مخففا هو بمعنى قوله: "يَطَّهَّرَّن" مشددا بعينه، ولكنه جمع بين اللغتين في الآية، كما قال تعالى: "فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين" [التوبة: 108].

    قال الكميت:
    وما كانت الأطهار فيها أذلة ولا غيبا فيها إذا الناس غيب

    وأيضا فإن القراءتين كالآيتين فيجب أن يعمل بهما. ونحن نحمل كل واحدة منهما على معنى، فنحمل المخففة على ما إذا انقطع دمها للأقل، فإنا لا نجوز وطأها حتى تغتسل، لأنه لا يؤمن عوده: ونحمل القراءة الأخرى على ما إذا انقطع دمها للأكثر فيجوز وطؤها وإن لم تغتسل.


    - قال ابن العربي: وهذا أقوى ما لهم، فالجواب عن الأول: أن ذلك ليس من كلام الفصحاء، ولا ألسن البلغاء، فإن ذلك يقتضي التكرار في التعداد، وإذا أمكن حمل اللفظ على فائدة مجردة لم يحمل على التكرار في كلام الناس، فكيف في كلام العليم الحكيم! وعن الثاني: أن كل واحدة منهما محمولة على معنى دون معنى الأخرى، فيلزمهم إذا انقطع الدم ألا يحكم لها بحكم الحيض قبل أن تغتسل في الرجعة، وهم لا يقولون ذلك كما بيناه، فهي إذاً حائض، والحائض لا يجوز وطؤها اتفاقا. وأيضا فإن ما قالوه يقتضي إباحة الوطء عند انقطاع الدم للأكثر وما قلناه يقتضي الحظر، وإذا تعارض ما يقتضي الحظر وما يقتضي الإباحة ويغلب باعثاهما غلب باعث الحظر، كما قال علي وعثمان في الجمع بين الأختين بملك اليمين، أحلتهما آية وحرمتهما أخرى، والتحريم أولى. والله أعلم.
    - واختلف علماؤنا في الكتابية هل تجبر على الاغتسال أم لا، فقال مالك في رواية ابن القاسم: نعم، ليحل للزوج وطؤها، قال الله تعالى: "ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن" يقول بالماء، ولم يخص مسلمة من غيرها.


    - وروى أشهب عن مالك أنها لا تجبر على الاغتسال من المحيض، لأنها غير معتقدة لذلك، لقوله تعالى: "ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله. في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر" [البقرة: 228] وهو الحيض والحمل، وإنما خاطب الله عز وجل بذلك المؤمنات، وقال: "لا إكراه في الدين" [البقرة: 256] وبهذا كان يقول محمود بن عبدالحكم.
    وصفة غسل الحائض صفة غسلها من الجنابة، وليس عليها نقض شعرها في ذلك، لما رواه مسلم عن أم سلمة قالت قلت: يا رسول الله، إني أشد ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: (
    لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين) وفي رواية: أفأنقضه للحيضة والجنابة؟ فقال: (لا) زاد أبو داود: (واغمزي قرونك عند كل حفنة).


    - قوله تعالى: "فأتوهن من حيث أمركم الله" أي فجامعوهن. وهو أمر إباحة، وكنى بالإتيان عن الوطء، وهذا الأمر يقوي ما قلناه من أن المراد بالتطهر الغسل بالماء، لأن صيغة الأمر من الله تعالى لا تقع إلا على الوجه الأكمل. والله أعلم. و"من" بمعنى في، أي في حيث أمركم الله تعالى وهو القبل، ونظيره قوله تعالى: "أروني ماذا خلقوا من الأرض" [فاطر: 40] أي في الأرض،: وقوله: "إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة" [الجمعة: 9] أي في يوم الجمعة. وقيل: المعنى، أي من الوجه الذي أذن لكم فيه، أي من غير صوم وإحرام واعتكاف، قاله الأصم.

    - وقال ابن عباس وأبو رزين: (من قبل الطهر لا من قبل الحيض)، وقاله الضحاك.

    -وقال محمد بن الحنفية: المعنى من قبل الحلال لا من قبل الزنى.

    - قوله تعالى: "إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين" اختلف فيه، فقيل: التوابون من الذنوب والشرك. والمتطهرون أي بالماء من الجنابة والأحداث، قاله عطاء وغيره. وقال مجاهد: من الذنوب، وعنه أيضا: من إتيان النساء في أدبارهن. ابن عطية: كأنه نظر إلى قوله تعالى حكاية عن قوم لوط: "أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون" [الأعراف: 82]. وقيل: المتطهرون الذين لم يذنبوا. فإن قيل: كيف قدم بالذكر الذي أذنب على من لم يذنب، قيل: قدمه لئلا يقنط التائب من الرحمة ولا يعجب المتطهر بنفسه، كما ذكر في آية أخرى: "فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات" [الملائكة: 32] .



    *السعدي " إن الله يحب التوابين " أي : من ذنوبهم على الدوام " ويحب المتطهرين " أي : المتنزهين عن الآثام وهذا يشمل التطهر الحسي من الأنجاس والأحداث ففيه مشروعية الطهارة مطلقا لأن الله يحب المتصف بها ولهذا كانت الطهارة مطلقا شرطا لصحة الصلاة والطواف وجواز مس المصحف ويشمل التطهر المعنوي عن الأخلاق الرذيلة والصفات القبيحة والأفعال الخسيسة.

    *البغوي قوله تعالى: " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " قال عطاء و مقاتل بن سليمان و الكلبي : يحب التوابين من الذنوب، ويحب المتطهرين بالماء من الأحداث والنجاسات، وقال مقاتل بن حيان : يحب التوابين من الذنوب والمتطهرين من الشرك، وقال سعيد بن جبير : التوابين من الشرك والمتطهرين من الذنوب، وقال مجاهد التوابين من الذنوب لا يعودون فيها والمتطهرين منها لم يصيبوها، والتواب: الذي كلما أذنب تاب، نظيره قوله تعالى: " فإنه كان للأوابين غفوراً " (25-الاسراء).

    *الرازي أما قوله تعالى: "إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " التوَّاب هو المكثر من فعل ما يسمى توبة ، وقد يقال هذا من حق الله تعالى من حيث يكثر من قبول التوبة.

    فإن قيل ظاهر الآية يدل على أنه يحب تكثير التوبة مطلقا والعقل يدل على أن التوبة لا تليق إلا بالمذنب،فمن لم يكن مذنبا وجب أن لا تحسن منه التوبة ، والجواب من وجهين:الأول : أن المكلف لا يأمن البتة من التقصير ،فتلزمه التوبة دفعا لذلك التقصير المجوز، والثاني : قال أبو مسلم الأصفهاني : التوبة في اللغة عبارة عن الرجوع ورجوع العبد إلى الله تعالى في كل الأحوال محمود . اعترض القاضي عليه بأن التوبة وإن كانت في اللغة عبارة عن الرجوع إلا أنها في عرف الشرع عبارة عن الندم على ما فعل في الماضي ، والترك في الحاضر ، والعزم على أن لا يفعل مثله في المستقبل فوجب حمله على هذا المعنى الشرعي دون المفهوم اللغوي .ولأبي مسلم أن يجيب عنه فيقول: مرادي من هذا الجواب أنه إن أمكن حمل اللفظ على التوبة الشرعية ،فقد صح اللفظ وسلم عن السؤال، وإن تعذر ذلك حملته على التوبة بحسب اللغة الأصلية لئلا يتوجه الطعن والسؤال.

    أما قوله " ويحب المتطهرين " ففيه وجوه. أحدها:المراد منه التنزيه عن الذنوب والمعاصي وذلك لأن التائب هو الذي فعله ثم تركه ،والمتطهر هو الذي ما فعله تنزها عنه ،ولا ثالث لهذين القسمين .واللفظ محتمل لذلك لأن الذنب نجاسة روحانية ،ولذلك قال :"إنما المشركون نجس" التوبة28 فتركه يكون طهارة روحانية، وبهذا المعنى يوصف الله تعالى بأنه طاهر مطهر من حيث كونه منزَّها عن العيوب والقبائح :ويقال فلان طاهر الذيل.

    والقول الثاني :أن المراد :لا يأتيها في زمان الحيض ،وأن لا يأتيها في غير المأتى على ما قال :"فأتوهن من حيث أمركم الله" ومن قال بهذا القول قال :هذا أولى لأنه أليق بما قبل الآية ولأنه تعالى قال حكاية عن قوم لوط: "أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون" الأعراف 82 فكان قوله : " ويحب المتطهرين " ترك الإتيان في الأدبار.

    والقول الثالث :أمرنا بالتطهر في قوله:"فإذا تطهرن" فلا جرم مدح المتطهر فقال :"ويحب المتطهرين" والمراد منه التطهر بالماء .وقد قال تعالى :" رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين"فقيل في التفسير :إنهم كانوا يستنجون بالماء فأثنى الله عليهم.
    avatar
    د.محمودعبدالحكيم
    مشرف
    مشرف


    الجنس : ذكر
    الابراج : الثور
    عدد المساهمات : 333
    نقاط : 8657
    السٌّمعَة : 191
    تاريخ التسجيل : 24/07/2011
    العمر : 56
    الموقع : جمهورية مصر العربية
    أوسمه : عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار Ououo_21

    عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار Empty رد: عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار

    مُساهمة من طرف د.محمودعبدالحكيم الأحد 8 أبريل 2012 - 12:06

    3-(بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ إِنّ الّذِيـنَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الاَخِرَةِ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران : 76 )



    *ابن كثير بلى من أوفى بعهده واتقى} أي لكن من أوفى بعهده واتقى منكم يا أهل الكتاب الذي عاهدكم الله عليه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث كما أخذ العهد والميثاق على الأنبياء وأممهم بذلك, واتقى محارم الله, واتبع طاعته وشريعته التي بعث بها خاتم رسله وسيدهم {فإن الله يحب المتقين}.

    يقول تعالى: إن الذين يعتاضون عما عاهدوا الله عليه من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وذكر صفته للناس وبيان أمره, وعن أيمانهم الكاذبة الفاجرة الاَثمة بالأثمان القليلة الزهيدة, وهي عروض هذه الحياة الدنيا الفانية الزائلة {أولئك لا خلاق لهم في الاَخرة} أي لا نصيب لهم فيها ولا حظ لهم منها{ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة} أي برحمة منه لهم, يعني لا يكلمهم الله كلام لطف بهم ولا ينظر إليهم بعين الرحمة {ولا يزكيهم} أي من الذنوب والأدناس, بل يأمر بهم إلى النار {ولهم عذاب أليم}.

    وقد وردت أحاديث تتعلق بهذه الاَية الكريمة, فلنذكر منها ما تيسر,
    (
    الحديث الأول) قال الإمام أحمد: حدثنا عفان, حدثنا شعبة, قال علي بن مدرك: أخبرني, قال سمعت أبا زرعة عن خرشة بن الحر, عن أبي ذر, قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله, ولا ينظر إليهم يوم القيامة, ولا يزكيهم, ولهم عذاب أليم» قلت: يا رسول الله, من هم ؟ خسروا وخابوا. قال: وأعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات, قال «المسبل, والمنفق سلعته بالحلف والكاذب, والمنان», ورواه مسلم وأهل السنن من حديث شعبة به.


    (طريق أخرى) قال أحمد: حدثنا إسماعيل عن الجريري, عن أبي العلاء بن الشخير, عن أبي الأحمس, قال: لقيت أباذر فقلت له: بلغني عنك أنك تحدث حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: أما إنه لا يخالني أن أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم, بعدما سمعته منه, فما الذي بلغك عني ؟ قلت: بلغني أنك تقول: ثلاثة يحبهم الله, وثلاثة يشنؤهم الله. قال: قلته وسمعته, قلت: فمن هؤلاء الذين يحبهم الله ؟ قال: «الرجل يلقى العدو في فئة فينصب لهم نحره حتى يقتل أو يفتح لأصحابه, والقوم يسافرون فيطول سراهم حتى يحبوا أن يمسوا الأرض فينزلون, فيتنحى أحدهم يصلي حتى يوقظهم لرحيلهم, والرجل يكون له الجار يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ظعن» قلت: من هؤلاء الذين يشنؤهم الله ؟ قال: «التاجر الحلاف ـ أو قال: البائع الحلاف ـ, والفقير المختال, والبخيل المنان» غريب من هذا الوجه.

    (الحديث الثاني) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد, عن جربر بن حازم, حدثنا عدي بن عدي, أخبرني رجاء بن حيوة والعرس بن عميرة, عن أبيه عدي هو ابن عميرة الكندي, قال: خاصم رجل من كندة, يقال له امرؤ القيس بن عابس, رجلاً من حضر موت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض, فقضى على الحضرمي بالبينة, فلم يكن له بينة فقضى على امرىء القيس باليمين, فقال الحضرمي: إن أمكنته من اليمين يا رسول الله ؟ ذهبت ورب الكعبة أرضي, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال أحد لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان» قال رجاء: وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلا} فقال امرؤ القيس: ماذا لمن تركها يا رسول الله ؟ فقال «الجنة». قال: فاشهد أني قد تركتها له كلها, ورواه النسائي من حديث عدي بن عدي به,

    (الحديث الثالث) قال أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش, عن شقيق, عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين هو فيها فاجر, ليقتطع بها مالَ امرى مسلم, لقى الله عز وجل وهو عليه غضبان». فقال الأشعث: في والله كان ذلك¹ كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني, فقدمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألك بينة ؟ قلت: لا. فقال لليهودي: احلف. فقلت: يا رسول الله, إذاً يحلف فيذهب مالي. فأنزل الله عز وجل: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً} الاَية أخرجاه من حديث الأعمش.


    (
    طريق أخرى) قال أحمد: حدثنا يحيى بن آدم, حدثنا أبو بكر بن عياش, عن عاصم بن أبي النجود, عن شقيق بن سلمة, حدثنا عبد الله بن مسعود, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من اقتطع مال امرىء مسلم بغير حق, لقي الله وهو عليه غضبان» قال: فجاء الأشعث بن قيس, فقال: ما يحدثكم أبو عبد الرحمن ؟ فحدثناه, فقال: فيّ كان هذا الحديث, خاصمت ابن عم لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بئر كانت لي في يده فجحدني, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بينتك أنها بئرك وإلا فيمينه» قال: قلت: يا رسول الله, ما لي بينة, وإن تجعلها بيمينه تذهب بئري, إن خصمي امرؤ فاجر, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من اقتطع مال امرىء مسلم بغير حق, لقي الله وهو عليه غضبان» قال: وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاَية: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلا} الاَية.

    (الحديث الرابع) قال أحمد: حدثنا يحيى بن غيلان, قال: حدثنا رِشْدين عن زَبّان, عن سهل بن معاذ بن أنس, عن أبيه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال «إن لله تعالى عباداً لا يكلمهم يوم القيامة, ولا يزكيهم, ولا ينظر إليهم» قيل: ومن أولئك يا رسول الله ؟ قال «متبري من والديه راغب عنهما, ومتبرىء من ولده, ورجل أنعم عليه قوم, فكفر نعمتهم وتبرأ منهم».

    (الحديث الخامس) قال ابن أبي حاتم: حدثناالحسن بن عرفة, حدثنا هشيم, أنبأنا العوام يعني ابن حوشب, عن إبراهيم بن عبد الرحمن يعني السكسكي, عن عبد الله ابن أبي أوفى, أن رجلاً أقام سلعة له في السوق, فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعط, ليوقع فيها رجلاً من المسلمين, فنزلت هذه الاَية: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا} الاَية, ورواه البخاري من غير وجه عن العوام.

    (الحديث السادس) قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع, عن الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة, ولا ينظر إليهم, ولا يزكيهم, ولهم عذاب أليم: رجل منع ابن السبيل فضل ماء عنده, ورجل حلف على سلعة بعد العصر, يعني كاذباً, ورجل بايع إماماً فإن أعطاه وفى له وإن لم يعطه لم يف له» ورواه أبو داود والترمذي من حديث وكيع, وقال الترمذي: حديث حسن صحيح



    الطبري القول فـي تأويـل قوله تعالـى ) بَلَىَ مَنْ أَوْفَىَ بِعَهْدِهِ وَاتّقَى فَإِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتّقِينَ (

    -هذا إخبـار من الله عزّ وجلّ عمّن أدّى أمانته إلـى من ائتـمنه علـيها اتقاءَ الله ومراقبَته عنده. فقال جل ثناؤه: لـيس الأمر كما يقول هؤلاء الكاذبون علـى الله من الـيهود, من أنه لـيس علـيهم فـي أموال الأميـين حرج ولا إثم,_ وذلك في قوله تعالى( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيل) _ ثم قال (بلـى), ولكن (من أوفـى بعهده واتقـى), يعنـي ولكن الذي أوفـى بعهده, وذلك وصيته إياهم, التـي أوصاهم بها فـي التوراة من الإيـمان بـمـحمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به. والهاء فـي قوله: {مَنْ أَوْفَـى بِعَهْدِهِ} عائدة علـى اسم الله فـي قوله: {وَيَقُولُونَ علـى اللّهِ الكَذِبَ} يقول: بلـى من أوفـى بعهد الله الذي عاهده فـي كتابه, فآمن بـمـحمد صلى الله عليه وسلم وصدّق به. بـما جاء به من الله من أداء الأمانة إلـى من ائتـمنه علـيها, وغير ذلك من أمر الله ونهيه, و{وَاتّقَـى} يقول: واتقـى ما نهاه الله عنه من الكفر به وسائر معاصيه التـي حرّمها علـيه, فـاجتنب ذلك مراقبة وعيد الله, وخوف عقابه {فإنّ اللّهَ يُحِبّ الـمُتقـينَ} يعنـي: فإن الله يحبّ الذين يتقونه فـيخافون عقابه, ويحذرون عذابه, فـيجتنبون ما نهاهم عنه, وحرّمه علـيهم, ويطيعونه فـيـما أمرهم به.

    وقد رُوي عن ابن عبـاس أنه كان يقول: هو اتقاء الشرك.

    ـ حدثنـي الـمثنى, قال: حدثنا عبد الله بن صالـح, قال: حدثنا معاوية, عن علـيّ, عن ابن عبـاس, قوله: {بَلَـى مَنْ أَوْفَـى بِعَهْدِهِ وَاتّقَـى} يقول: اتقـى الشرك¹ {إنّ اللّهَ يُحِبّ الـمُتّقِـينَ} يقول: الذين يتقون الشرك.

    القول فـي تأويـل قوله تعالـى:

    {إِنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الاَخِرَةِ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

    يعنـي بذلك جلّ ثناؤه: إن الذين يستبدلون بتركهم عهد الله الذي عهد إلـيهم, ووصيته التـي أوصاهم بها فـي الكتب التـي أنزلها الله إلـى أنبـيائه بـاتبـاع مـحمد وتصديقه, والإقرار به, وما جاء به من عند الله وبأيـمانهم الكاذبة التـي يستـحلون بها ما حرّم الله علـيهم من أموال الناس التـي اؤتـمنوا علـيها ثمنا, يعنـي عوضا وبدلاً خسيسا من عرض الدنـيا وحطامها. {أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِـي الاَخِرَةِ} يقول: فإن الذين يفعلون ذلك لا حظّ لهم فـي خيرات الاَخرة, ولا نصيب لهم من نعيـم الـجنة, وما أعدّ الله لأهلها فـيها. دون غيرهم.

    وأما قوله: {وَلا يُكَلّـمُهُمُ اللّهُ} فإنه يعنـي: ولا يكلـمهم الله بـما يسرّهم ولا ينظر إلـيهم, يقول: ولا يعطف علـيهم بخير مقتا من الله لهم كقول القائل لاَخر: انظر إلـيّ نظر الله إلـيك, بـمعنى:تعطف علـيّ تعطف الله علـيك بخير ورحمة, وكما يقال للرجل: لا سمع الله لك دعاءك, يراد: لا استـجاب الله لك, والله لا يخفـى علـيه خافـية, وكما قال الشاعر: دَعَوْتُ اللّهَ حتـى خِفْتُ أنْ لا يَكُونَ اللّهُ يَسْمَعُ ما أقُولُ

    وقوله {وَلا يُزَكّيهِمْ} يعنـي: ولا يطهرهم من دنس ذنوبهم وكفرهم, {وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِـيـمٌ} يعنـي: ولهم عذاب موجع.

    *السعدي قال تعالى : " بلى " أي : ليس الأمر كما قالوا فإنه من أوفى بعهده واتقى أي قام بحقوق الله وحقوق خلقه فإن هذا هو المتقي والله يحبه أي ومن كان بخلاف ذلك فلم يف بعهده وعقوده التي بينه وبين الخلق ولا قام بتقوى اللفإن الله يمقته وسيجازيه على ذلك أعظم النكال : " إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا " أولئك " لا خلاق لهم في الآخرة "" ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم " يوم القيامة" ولا يزكيهم "" ولهم عذاب أليم " أي : إن الذين يشترون الدنيا بالدين فيختارون الحطام القليل من الدنيا ويتوسلون إليها بالأيمان الكاذبة والعهود المنكوثة فهؤلاء لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم أي قد حق عليهم سخط الله ووجب عليهم عقابه وحرموا ثوابه ومنعوا من التزكية وهي التطهير بل يردون القيامة وهم متلوثون بالجرائم متدنسون بالذنوب العظائم.

    *البغوي قوله تعالى:" بلى" أي : ليس كما قالوا ( ... لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيل)، بل عليهم سبيل ، ثم ابتدأ فقال " من أوفى" أي : ولكن من أو في " بعهده" أي : بعهد الله الذي عهد إليه في التوراة من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وأداء الأمانة ، وقيل : الهاء في عهده راجعة إلى الموفى " واتقى" الكفر والخيانة ونقض العهد ، " فإن الله يحب المتقين" .

    - أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا قبيصة بن عقبة انا سفيان عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر".

    -قوله تعالى:" إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً " قال عكرمه :نزلت في رؤوس اليهود كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة في شأن محمد صلى الله عليه وسلم وبدلوه وكتبوا بأيديهم غيره وحلفوا أنه من عند الله لئلا يفوتهم المآكل والرشا التي كانت لهم من أتباعهم.

    - اخبرنا عبد الواحد بن احمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ،أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو عوانةعن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان فأنزل الله تعالى تصديق لذلك " {إِنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الاَخِرَةِ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، فدخل الأشعث بن قيس ، فقال : ما يحدثكم أبو عبد الرحمن ؟ فقالوا : كذا وكذا ، فقال : في أنزلت كانت لي بئر في أرض ابن عم لي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثته ، فقال: هات بينتك أو يمينه قلت : اذا يحلف عليها يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حلف علي يمين صبر وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان".

    -أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي أنا محمد بن عيسى الجلودي ، أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان أنا مسلم بن الحجاجأنا قتيبة بن سعيد أنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن علقمة بن وائل بن حجر ، عن أبية قال : "جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي ، فقال الحضرمي : يا رسول الله إن هذا قد غلبني على أرض لي كانت لأبي ، فقال الكندي : هي أرض في يدي أزرعها ، ليس له فيها حق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي : ألك بينة ؟ قال : لا ، قال :فلك يمينه قال :يا رسول الله إن الرجل فاجر لا يبالي على ما يحلف عليه ، قال :ليس لك منه إلا ذلك ، فانطلق ليحلف له ، فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما لئن حلف على مال ليأكله ظلماً ليلقين الله وهو عنه معرض" ورواه عبد الملك بن حمير عن علقمة ، و قال هو امرؤ القيس بن عابس الكندي وخصمه ربيعة بن عبدان. وروي لما هم إن يحلف نزلت هذه الآية فامتنع امرؤ القيس أن يحلف ، وأقر لخصمه بحقه ودفعه اليه .

    –أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أخبرنا زاهر بن احمد السرخسي ، أنا أبو مصعب عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن سعيد بن كعب عن أخيه عبد الله بن كعب بن مالك عن أبي أمامه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار قالوا: وإن كان شيئاً يسيراً يارسول الله ؟ قال: وإن كان قضيباً من أراك قالها ثلاث مرات" .

    - أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عمرو بن محمد أنا هشيم بن محمد أنا العوام بن حوشب عن إبراهيم بن عبد الرحمن عن عبد الله بن أبي أوفى أن رجلاً أقام سلعة وهو في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعط ، ليوقع فيها رجلاً من المسلمين ، فنزلت "إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً". قوله تعالى:" إن الذين يشترون "أي يستبدلون" بعهد الله " وأراد الأمانة،" وأيمانهم" الكاذبة " ثمناً قليلاً" أي : شيئاً قليلاً من حطام الدنيا" أولئك لا خلاق لهم " لا نصيب لهم " في الآخرة" ،ونعيمها ،"ولا يكلمهم الله " كلاماً ينفعهم ويسرهم، وقيل هو بمعنى الغضب ، كما يقول الرجل:إني لا أكلم فلاناً إذا كان غضب عليه ، " ولا ينظر إليهم يوم القيامة " أي لا يرحمهم ولا يحسن إليهم ولا ينيلهم خيراً،"ولا يزكيهم " أي: لا يثني عليهم بالجميل ولا يطهرهم من الذنوب " ولهم عذاب أليم ".

    -عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم " قال قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فقال أبو ذر خابوا وخسروا، من هم يارسول الله ؟قال: " المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب " في رواية "المسبل إزاره " .

    - عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : رجل حلف يميناً على مال مسلم فاقتطعه ، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد صلاة العصر أنه أعطي بسلعته أكثر مما أعطي وهو كاذب، ورجل منع فضل ماله، فإن الله تعالى يقول : اليوم أمنعك فضل ما لم تعمل يداك " .

    ++ ولتعميم قوله تعالى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين) أقول: أوصي نفسي وإياك أيها المسلم الكريم بالوفاء بالعهد وتقوى الله في السر والعلن :

    فلْنَفِ بالعهد ذاكرين أمره عز وجل َأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) (الإسراء : 34 ) أي الذي تعاهدون عليه الناس والعقود التي تعاملونهم بها, فإن العهد والعقد كل منهما يسأل صاحبه عنه {إن العهد كان مسئولاً} أي عنه.=ابن كثير/ وقوله سبحانه: (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (النحل : 91 ) هذا مما يأمر الله تعالى به, وهو الوفاء بالعهود والمواثيق والمحافظة على الأيمان المؤكدة, ولهذا قال: {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} ولا تعارض بين هذا وبين قوله: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم} الاَية, وبين قوله تعالى: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم} أي لا تتركوها بلا كفارة, وبين قوله عليه السلام فيما ثبت عنه في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها ـ وفي رواية ـ وكفرت عن يميني» لا تعارض بين هذا كله ولا بين الاَية المذكورة ههنا, وهي قوله: {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} لأن هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق لا الأيمان التي هي واردة على حث أو منع, ولهذا قال مجاهد في قوله {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} يعني الحلف, أي حلف الجاهلية. ويؤيد ما رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن محمد ـ هو ابن أبي شيبة ـ حدثنا ابن نمير وأبو أسامة عن زكريا. هو ابن أبي زائدة ـ عن سعد بن إبراهيم عن أبيه, عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حلف في الإسلام, وأيما حلف كان في الجاهلية فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة» وكذا رواه مسلم عن ابن أبي شيبة به. ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه, فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه.
    وأما ما ورد في الصحيحين عن عاصم الأحول عن أنس رضي الله عنه أنه قال: حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دورنا, فمعناه أنه آخى بينهم فكانوا يتوارثون به حتى نسخ الله ذلك, والله أعلم.


    -وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عمارة الأسدي, حدثنا عبد الله بن موسى, أخبرنا أبو ليلى عن فريدة في قوله: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} قال: نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم, كان من أسلم بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام, فقال: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} هذه البيعة التي بايعتم على الإسلام {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} لا يحملنكم قلة محمد وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام.

    -وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل, حدثنا صخر بن جويرية عن نافع قال: لما خلع الناس يزيد بن معاوية جمع ابن عمر بنيه وأهله ثم تشهد, ثم قال: أما بعد فإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله, وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال: هذه غدرة فلان, وإن من أعظم الغدر ـ إلا أن يكون الإشراك بالله ـ أن يبايع رجل رجلاً على بيعة الله ورسوله, ثم ينكث بيعته, فلا يخلعن أحد منكم يداً ولا يسرفن أحد منكم في هذا الأمر, فيكون صيلم بيني وبينه» المرفوع منه في الصحيحين. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد حدثنا حجاج عن عبد الرحمن بن عباس عن أبيه, عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من شرط لأخيه شرطا لا يريد أن يفي له به, فهو كالمدلي جاره إلى غير منفعة».
    وقوله: {إن الله يعلم ما تفعلون} تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها=ابن كثير.=
    وقوله تعالى:( وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الأنعام : 152 ) : - وبوصية الله التي أوصاكم بها فأوفوا, وإيفاء ذلك أن تطيعوه فيما أمركم ونهاكم وتعملوا بكتابه وسنة رسوله, وذلك هو الوفاء بعهد الله {ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} يقول تعالى: هذا أوصاكم به وأمركم به وأكد عليكم فيه {لعلكم تذكرون} أي تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه قبل هذا,= الطبري=

    4- يَآ أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرّبَا أَضْعَافاً مّضَاعَفَةً وَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتّقُواْ النّارَ الّتِيَ أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرّسُولَ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَسَارِعُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدّتْ لِلْمُتّقِينَ * الّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السّرّآءِ وَالضّرّآءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ * وَالّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوَاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذّنُوبَ إِلاّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرّواْ عَلَىَ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَـَئِكَ جَزَآؤُهُمْ مّغْفِرَةٌ مّن رّبّهِمْ وَجَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) عمران : 134 )

    *ابن كثير يقول تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافاً مضاعفة كما كانوا في الجاهلية يقولون: إذا حل أجل الدين, إما أن تقضي وإما أن تربي, فإن قضاه, وإلا زاده في المدة, وزاده الاَخر في القدر, وهكذا كل عام فربما تضاعف القليل حتى يصير كثيراً مضاعفاً, وأمر تعالى عباده بالتقوى لعلهم يفلحون في الأولى والأخرى, ثم توعدهم بالنار وحذرهم منها, فقال تعالى: {واتقوا النار التي أعدت للكافرين وأطيعوا الله الرسول لعلكم ترحمون}ثم ندبهم إلى المبادرة إلى فعل الخيرات والمسارعة إلى نيل القربات, فقال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين} أي كما أعدت النار للكافرين, وقد قيل إن معنى قوله {عرضها السموات والأرض} تنبيهاً على اتساع طولها, كما قال في صفة فرش الجنة {بطائنها من إستبرق} أي فما ظنك بالظهائر ؟, وقيل: بل عرضها كطولها لأنها قبة تحت العرش, والشيء المقبب والمستدير عرضه كطوله, وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيح «إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة وسقفها عرش الرحمن»

    - وهذه الاَية كقوله تعالى في سورة الحديد {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض} الاَية, وقد روينا في مسند الإمام أحمد أن هرقل كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنك دعوتني إلى جنة عرضها السموات والأرض, فأين النار ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار ؟» وقد رواه ابن جرير فقال: حدثني يونس, أنبأنا ابن وهب, أخبرني مسلم بن خالد عن أبي خُثيم, عن سعيد بن أبي راشد, عن يعلى بن مرة, قال: لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص شيخاً كبيراً قد فسد, فقال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هرقل فناول الصحيفة رجلاً عن يساره, قال: قلت: من صاحبكم الذي يقرأ ؟ قالوا: معاوية, فإذا كتاب صاحبي: إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدّت للمتقين, فأين النار ؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سبحان الله, فأين الليل إذا جاء النهار ؟» وقال الأعمش وسفيان الثوري وشعبة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب: إن ناساً من اليهود سألوا عمر بن الخطاب عن جنة عرضها السموات والأرض, فأين النار ؟ فقال لهم عمر: أرأيتم إذا جاء النهار أين الليل ؟ وإذا جاء الليل أين النهار ؟ فقالوا: لقد نزعت مثلها من التوراة, رواه ابن جرير من ثلاثة طرق, ثم قال: حدثنا أحمد بن حازم, حدثنا أبو نعيم, حدثنا جعفر بن برقان, أنبأنا يزيد بن الأصم: أن رجلاً من أهل الكتاب قال: يقولون {جنة عرضها السموات والأرض} فأين النار ؟ فقال ابن عباس رضي الله عنه: أين يكون الليل إذا جاء النهار, وأين يكون النهار إذا جاء الليل ؟ وقد روي هذا مرفوعاً, فقال البزار: حدثنا محمد بن معمر, حدثنا المغيرة بن سلمة أبو هشام, حدثنا عبد الواحد بن زياد عن عبيد الله بن عبد الله بن الأصم, عن عمه يزيد بن الأصم, عن أبي هريرة, قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: أرأيت قوله تعالى: {جنة عرضها السموات والأرض} فأين النار ؟ قال: «أرأيت الليل إذا جاء لبس كل شيء, فأين النهار ؟» قال: حيث شاء الله, قال «وكذلك النار تكون حيث شاء الله عز وجل» وهذا يحتمل معنيين (أحدهما) أن يكون المعنى في ذلك أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار أن لا يكون في مكان, وإن كنا لا نعلمه, وكذلك النار تكون حيث يشاء الله عز وجل, وهذا أظهر كما تقدم في حديث أبي هريرة عن البزار. (الثاني) أن يكون المعنى أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب, فإن الليل يكون من الجانب الاَخر, فكذلك الجنة في أعلى عليين فوق السموات تحت العرش وعرضها, كما قال الله عز وجل {كعرض السماء والأرض} والنار في أسفل سافلين فلا تنافي بين كونها كعرض السموات والأرض وبين وجود النار, والله أعلم.

    -ثم ذكر تعالى صفة أهل الجنة فقال {الذين ينفقون في السراء والضراء} أي في الشدة والرخاء والمنشط والمكره والصحة والمرض وفي جميع الأحوال, كما قال {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية} والمعنى أنهم لا يشغلهم أمر عن طاعة الله تعالى والإنفاق في مراضيه. والإحسان إلى خلقه من قراباتهم وغيرهم بأنواع البر. وقوله تعالى: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس} أي إذا ثار بهم الغيظ كظموه بمعنى كتموه فلم يعملوه, وعفوا مع ذلك عمن أساء إليهم. وقد ورد في بعض الاَثار «يقول الله تعالى: يا ابن آدم اذكرني إذا غضبت, أذكرك إذا غضبت فلا أهلكك فيمن أهلك», رواه ابن أبي حاتم, وقد قال أبو يعلى في مسنده: حدثنا أبو موسى الزمن, حدثنا عيسى بن شعيب الضرير أبو الفضل, حدثني الربيع بن سليمان الجيزي عن أبي عمرو بن أنس بن مالك, عن أبيه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من كف غضبه, كف الله عنه عذابه, ومن خزن لسانه, ستر الله عورته, ومن اعتذر إلى الله, قبل الله عذره» وهذا حديث غريب, وفي إسناده نظر, وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن, حدثنا مالك عن الزهري, عن سعيد بن المسيب, عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ليس الشديد بالصرعة, ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» وقد رواه الشيخان من حديث مالك. وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو معاوية, حدثنا الأعمش عن إبراهيم التيمي, عن الحارث بن سويد, عن عبد الله وهو ابن مسعود رضي الله عنه, قال: قال رسول الله «أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله» قال: قالوا: يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه, قال «اعلموا أنه ليس منكم أحد إلا مال وارثه أحب إليه من ماله, ما لَك من مالك إلا ما قدمت, ومالُ وارثك ما أخرْتَ» قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما تعدون الصرعة فيكم ؟» قلنا: الذي لا تصرعه الرجال. قال «لا ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب». قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تعدون فيكم الرقوب ؟» قلنا: الذي لا ولد له. قال «لا, ولكن الرقوب الذي لم يقدم من ولده شيئاً» أخرج البخاري الفصل الأول منه, وأخرج مسلم أصل هذا الحديث, من رواية الأعمش به.

    (حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة سمعت عروة بن عبد الله الجعفي يحدث عن حصبة أو ابن أبي حصين, عن رجل شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب, فقال «تدرون ما الرقوب ؟» قلنا: الذي لا ولد له, قال «الرقوب كل الرقوب الذي له ولد فمات ولم يقدم منهم شيئاً» قال «تدرون ما الصعلوك ؟» قالوا: الذي ليس له مال, فقال النبي صلى الله عليه وسلم «الصعلوك كل الصعلوك الذي له مال فمات ولم يقدم منه شيئاً» قال: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم «ما الصرعة ؟» قالوا: الصريع قال فقال صلى الله عليه وسلم «الصرعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه ويقشعر شعره فيصرع غضبه».

    (حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير, حدثنا هشام بن عروة عن أبيه, عن الأحنف بن قيس, عن عم له يقال له جارية بن قدامة السعدي, أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله, قل لي قولاً ينفعني وأقلل عليّ لعلي أعيه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تغضب» فأعاد عليه حتى أعاد عليه مراراً كل ذلك يقول «لا تغضب», وهكذا رواه عن أبي معاوية عن هشام به, ورواه أيضاً عن يحيى بن سعيد القطان عن هشام به, أن رجلاً قال: يا رسول الله, قل لي قولاً وأقلل عليّ لعلي أعقله, فقال «لا تغضب» الحديث, انفرد به أحمد.

    (حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, أنبأنا معمر عن الزهري, عن حميد بن عبد الرحمن, عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رجل: يا رسول الله أوصني, قال: «لا تغضب». قال الرجل: ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال, فإذا الغضب يجمع الشر كله, انفرد به أحمد.


    (حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية, حدثنا داود بن أبي هند, عن أبي ابن حرب بن أبي الأسود, عن أبي الأسود, عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كان يسقي على حوض له فجاء قوم فقالوا: أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات من رأسه ؟ فقال رجل: أنا, فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فدقه, وكان أبو ذر قائماً فجلس ثم اضطجع فقيل له: يا أبا ذر لم جلست ثم اضطجعت, فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا «إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس, فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع», ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل بإسناده إلا أنه وقع في روايته عن أبي حرب عن أبي ذر, والصحيح ابن أبي حرب عن أبيه عن أبي ذر, كما رواه عبد الله بن أحمد عن أبيه.


    (حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن خالد, حدثنا أبو وائل الصنعاني, قال: كنا جلوساً عند عروة بن محمد إذ دخل عليه رجل فكلمه بكلام أغضبه, فلما أن أغضبه قام ثم
    avatar
    د.محمودعبدالحكيم
    مشرف
    مشرف


    الجنس : ذكر
    الابراج : الثور
    عدد المساهمات : 333
    نقاط : 8657
    السٌّمعَة : 191
    تاريخ التسجيل : 24/07/2011
    العمر : 56
    الموقع : جمهورية مصر العربية
    أوسمه : عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار Ououo_21

    عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار Empty رد: عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار

    مُساهمة من طرف د.محمودعبدالحكيم الأحد 8 أبريل 2012 - 12:15

    (حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن خالد, حدثنا أبو وائل الصنعاني, قال: كنا جلوساً عند عروة بن محمد إذ دخل عليه رجل فكلمه بكلام أغضبه, فلما أن أغضبه قام ثم عاد إلينا وقد توضأ, فقال: حدثني أبي عن جدي عطية هو ابن سعد السعدي ـ وقد كانت له صحبة ـ قال: قال رسول الله «إن الغضب من الشيطان, وإن الشيطان خلق من النار, وإنما تطفأ النار بالماء فإذا أغضب أحدكم فليتوضأ». وهكذا رواه أبو داود من حديث إبراهيم بن خالد الصنعاني عن أبي وائل القاص المرادي الصنعاني, قال أبو داود: أراه عبد الله بن بحير.

    (حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن يزيد, حدثنا نوح بن جَعْونة السلمي, عن مقاتل بن حيان, عن عطاء, عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أنظر معسراً أو وضع له, وقاه الله من فيح جهنم, ألا إن عمل الجنة حزن بربوة ـ ثلاثاً ـ ألا إن عمل النار سهل بسهوة. والسعيد من وقي الفتن, وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد ما كظمها عبد لله إلا ملأ جوفه إيماناً», انفرد به أحمد, وإسناده حسن ليس فيه مجروح, ومتنه حسن.

    (حديث آخر في معناه) ـ قال أبو داود: حدثنا عقبة بن مكرم, حدثنا عبد الرحمن يعني ابن مهدي عن بشر يعني ابن منصور, عن محمد بن عجلان, عن سويد بن وهب, عن رجل من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, عن أبيه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه, ملأه الله أمناً وإيماناً, ومن ترك لبس ثوب جمال وهو يقدر عليه ـ قال بشر: أحسبه قال: تواضعاً ـ كساه الله حلة الكرامة ومن زوّج لله كساه الله تاج الملك».

    (حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن يزيد قال: حدثنا سعيد, حدثني أبو مرحوم عن سهل بن معاذ بن أنس, عن أبيه أن رسول الله قال «من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء» ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث سعيد بن أبي أيوب به, وقال الترمذي: حسن غريب.

    (حديث آخر) ـ قال عبد الرزاق: أنبأنا داود بن قيس عن زيد بن أسلم, عن رجل من أهل الشام يقال له عبد الجليل, عن عم له, عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله تعالى: {والكاظمين الغيظ} أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمناً وإيماناً» رواه ابن جرير.

    (حديث آخر) ـ قال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن محمد بن زياد, أنبأنا يحيى بن أبي طالب, أنبأنا علي بن عاصم, أخبرني يونس بن عبيد عن الحسن, عن ابن عمر رضي الله عنهما, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما تجرع عبد من جرعة أفضل أجراً من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله» وكذا رواه ابن ماجه عن بشر بن عمر, عن حماد بن سلمة, عن يونس بن عبيد به, فقوله تعالى: {والكاظمين الغيظ} أي لا يعملون غضبهم في الناس بل يكفون عنهم شرهم, ويحتسبون ذلك عند الله عز وجل. ثم قال تعالى: {والعافين عن الناس} أي مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم فلا يبقى في أنفسهم موجدة على أحد, وهذا أكمل الأحوال, ولهذا قال {والله يحب المحسنين} فهذا من مقامات الإحسان, وفي الحديث «ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة, وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً, ومن تواضع لله رفعه الله», وروى الحاكم في مستدركه من حديث موسى بن عقبة عن إسحاق بن يحيى بن طلحة القرشي, عن عبادة بن الصامت, عن أبي بن كعب أن رسول الله, قال: «من سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات, فليعف عمن ظلمه, ويعط من حرمه, ويصل من قطعه» ثم قال: صحيح على شرط الشيخين, ولم يخرجاه وقد أورده ابن مردويه من حديث علي وكعب بن عجرة وأبي هريرة وأم سلمة رضي الله عنهم بنحو ذلك. وروي عن طريق الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا كان يوم القيامة نادى مناد يقول: أين العافون عن الناس ؟ هلموا إلى ربكم وخذوا أجوركم, وحق على كل امريء مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة» وقوله تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم} أي إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار. قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, حدثنا همام بن يحيى عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة, عن عبد الرحمن بن أبي عمرة, عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن رجلاً أذنب ذنباً فقال: رب إني أذنبت ذنباً فاغفره, فقال الله عز وجل: عبدي عمل ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به, قد غفرت لعبدي, ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب إني عملت ذنباً فاغفره, فقال تبارك وتعالى: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به, قد غفرت لعبدي, ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب إني عملت ذنباً فاغفره لي, فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب, إني عملت ذنباً فاغفره, فقال عز وجل: عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به, أشهدكم أني قد غفرت لعبدي فليعمل ماشاء». أخرجه في الصحيح من حديث إسحاق بن أبي طلحة بنحوه.

    (حديث آخر) ـ قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر وأبو عامر, قالا: حدثنا زهير, حدثنا سعد الطائي, حدثنا أبو المدله مولى أم المؤمنين, سمع أبا هريرة, قلنا: يا رسول الله, إذا رأيناك رقت قلوبنا, وكنا من أهل الاَخرة, وإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا, وشممنا النساء والأولاد, فقال «لو أنكم تكونون على كل حال على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكفهم, ولزارتكم في بيوتكم. ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم». قلنا: يا رسول الله, حدثنا عن الجنة ما بناؤها ؟ قال «لبنة ذهب ولبنة فضة, وملاطها المسك الأذفر, وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت, وترابها الزعفران, من يدخلها ينعم ولا يبأس, ويخلد ولا يموت لا تبلى ثيابه, ولا يفنى شبابه, ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل, والصائم حتى يفطر, ودعوة المظلوم تحمل على الغمام وتفتح لها أبواب السماء, ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين», ورواه الترمذي وابن ماجه من وجه آخر من حديث سعد به, ويتأكد الوضوء وصلاة ركعتين عند التوبة لما رواه الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا وكيع, حدثنا مسعر وسفيان الثوري عن عثمان بن المغبرة الثقفي, عن علي بن ربيعة, عن أسماء بن الحكم الفزاري عن علي رضي الله عنه, قال: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً, نفعني الله بما شاء منه. وإذا حدثني عنه غيره استحلفته, فإذا حلف لي صدقته, وإن أبا بكر رضي الله عنه حدثني ـ وصدق أبو بكر ـ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال «ما من رجل يذنب ذنباً فيتوضأ فيحسن الوضوء ـ قال مسعر ـ فيصلي ـ وقال سفيان ـ ثم يصلي ركعتين, فيستغفر الله عز وجل إلا غفر له» وهكذا رواه علي بن المديني والحميدي وأبو بكر بن أبي شيبة وأهل السنن وابن حبان في صحيحه والبزار والدارقطني من طرق عن عثمان بن المغيرة به, وقال الترمذي: هو حديث حسن, وقد ذكرنا طرقه, والكلام عليه مستقصى في مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه, وبالجملة فهو حديث حسن, وهو من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عن خليفة النبي أبي بكر الصديق رضي الله عنهما. ومما يشهد بصحة هذا الحديث ما رواه مسلم في صحيحه عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ ـ أو فيسبغ ـ الوضوء, ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية, يدخل من أيها شاء» وفي الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه توضأ لهم وضوء النبي صلى الله عليه وسلم, ثم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول «من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه, غفر له ما تقدم من ذنبه» فقد ثبت هذا الحديث من رواية الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين, عن سيد الأولين والاَخرين, ورسول رب العالمين, كما دل عليه الكتاب المبين, من أن الاستغفار من الذنب ينفع العاصين, وقد قال عبد الرزاق: أنبأنا جعفر بن سليمان عن ثابت, عن أنس بن مالك رضي الله عنه, قال: بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الاَية {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم} الاَية, بكى. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا محرز بن عون, حدثنا عثمان بن مطر, حدثنا عبد الغفور عن أبي نُصَيرة, عن أبي رجاء, عن أبي بكر رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال «عليكم بلا إله إلا الله, والاستغفار, فأكثروا منهما, فإن إبليس قال: أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار, فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء, فهم يحسبون أنهم مهتدون» عثمان بن مطر وشيخه ضعيفان. وروى الإمام أحمد في مسنده من طريق عمرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العتواري عن أبي سعيد, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «قال إبليس: يا رب وعزتك لا أزال أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم, فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني». وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا عمر بن أبي خليفة, سمعت أبا بدر يحدث عن ثابت, عن أنس, قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله, أذنبت ذنباً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا أذنبت فاستغفر ربك. قال: فإني أستغفر ثم أعود فأذنب قال: فإذا أذنبت فعد فاستغفر ربك, فقالها في الرابعة استغفر ربك حتى يكون الشيطان هو المحسور» وهذا حديث غريب من هذا الوجه. وقوله تعالى: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} أي لا يغفرها أحد سواه, كما قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن مصعب, حدثنا سلام بن مسكين والمبارك عن الحسن عن الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بأسير, فقال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد¹ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «عرف الحق لأهله» وقوله {ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} أي تابوا من ذنوبهم ورجعوا إلى الله عن قريب, ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها غير مقلعين عنها, ولو تكرر منهم الذنب تابوا عنه, كما قال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل وغيره, قالوا: حدثنا أبو يحيى عبد الحميد الحماني عن عثمان بن واقد, عن أبي نُصَيرة, عن مولى لأبي بكر, عن أبي بكر رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة» ورواه أبو داود والترمذي والبزار في مسنده من حديث عثمان بن واقد ـ وقد وثقه يحيى بن معين به ـ وشيخه أبو نُصَيرة الواسطي واسمه مسلم بن عبيد, وثقه الإمام أحمد وابن حبان, وقول علي بن المديني والترمذي: ليس إسناد هذا الحديث بذاك, فالظاهر أنه لأجل جهالة مولى أبي بكر, ولكن جهالة مثله لا تضر لأنه تابعي كبير, ويكفيه نسبته إلى أبي بكر, فهو حديث حسن, والله أعلم. وقوله {وهم يعلمون} قال مجاهد وعبد الله بن عبيد بن عمير {وهم يعلمون} أن من تاب تاب الله عليه, وهذا كقوله تعالى: {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده} وكقوله {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً} ونظائر هذا كثيرة جداً. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد, أنبأنا جرير, حدثنا حبان هو ابن زيد الشرعبي عن عبد الله بن عمرو, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وهو على المنبر «ارحموا ترحموا, واغفروا يغفر لكم, ويل لأقماع القول, ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون» تفرد به أحمد. ثم قال تعالى بعد وصفهم بما وصفهم به {أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم} أي جزاؤهم على هذه الصفات {مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار} أي من أنواع المشروبات {خالدين فيها} أي ماكثين فيها {ونعم أجر العاملين} يمدح تعالى الجنة.



    + أقول وما توفيقي إلا بالله: الــوصــايــا العـــشـــــر

    1- اجتنب الربا بجميع أصنافه أكـلاً وشهـادةً وكتابـة فإنه ممحوق مأذون أهله بحرب من الله ورسولــه.

    2- اتَّقِ الله ظاهرا وباطنا إنه يراك.وجعل عليك (كِرَامًا كَاتِبِينَ) وكتابا تلقاه غدا ًمنشورا ويأمرك أن تقرأه بنفسك.

    3- آمِن بالله واعبده وحده مخلصاً له الدين -لا تشرك به شيئا - فإنه رأس الامـر كله وجُنَّتـك من سقــر.

    4- أطِع الله ربك الواحد الأحد في كل أمرٍ ونهيٍ واتبعْ رسولَه النبي الأميr في كل ما جاء به من عند اللـه.

    5- ســارِعْ وســابقْ الى المحفوفة بالمكاره ونــافس فيها المتنافسيــن الذيـن يسعَـون لها سعـيَها .

    6- أنفِق مما رزقـك خيرُ الرازقين حلالاً طيباَ ، من قليله وكثيره ، في السراء والضراء – قِ نفسَـك شُحَّهـا .

    7- اكظِم الغيض .لاتغضب لاتغضب لاتغضب ! ومتى احسستَ بالغضب أطفيءْ نارَه بالماء واستعـذ باللـه .

    8- أعف عن الناس رحمةَ بالصغير،توقيرا للكبير، إن العفْـو محمود يحبه العـفـوّ الكريم الذي ترجـو عفوه.

    9- أذكُـر ربك كلَّما أذنبتَ : توضَّـأْ وصـلِّ ركعتين واستغفـِرْ لذنبك وابْـك على خطيئتك ولا تـيْأس.

    10- أقلِع عن المعاصي نادما ، ولا تُصِرعليها عالما، واعزم ألاّ تعود جازما . تُبْ إلىمولاك الذي يفرح بتوبتك.

    تحلَّ بهذه العشر تـكُـنْ محسنا ويحبك الله

    و عليه يكون جزاؤك دار الخلد السرمدي والنعيم الأبدي وتسمع-إن شاء الله تعالى-قوله : ((ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ) (الحجر : 46 )) - (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) (الزمر : 73 ) - (سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد : 24 ) - (سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) - (النحل : 32 ) ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ) (الأعراف : 49 ) - (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ) (الزخرف : 70 ) ...



    5.- أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) سورة آل عمران.

    *ابن كثير قال تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} أي أحسبتم أن تدخلوا الجنة ولم تُبتلوا بالقتال والشدائد, كما قال تعالى في سورة البقرة {(أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) (البقرة : 214 ) وقال تعالى: {(أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت : 2 ) ولهذا قال ههنا {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} أي لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تبتلوا ويرى الله منكم المجاهدين في سبيله, والصابرين على مقاومة الأعداء. وقوله {ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون} أي قد كنتم أيها المؤمنون قبل هذا اليوم, تتمنون لقاء العدو وتتحرّقون عليهم وتودون مناجزتهم ومصابرتهم, فها قد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه, فدونكم فقاتلوا وصابروا, وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتمنوا لقاء العدو, وسلوا الله العافية, فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» ولهذا قال تعالى: {فقد رأيتموه} يعني الموت شاهدتموه وقت لمعان السيوف وحد الأسنة واشتباك الرماح وصفوف الرجال للقتال والمتكلمون يعبرون عن هذا بالتخييل. وهو مشاهدة ما ليس بمحسوس كالمحسوس كما تتخيل الشاة صداقة الكبش, وعداوة الذئب.

    لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد وقتل من قتل منهم, نادى الشيطان: ألا إن محمداً قد قتل, ورجع ابن قميئة إلى المشركين, فقال لهم: قتلت محمداً, وإنما كان قد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشجه في رأسه, فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس واعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل, وجَوّزوا عليه ذلك, كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء عليهم السلام, فحصل ضعف ووهن وتأخر عن القتال, ففي ذلك أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} أي له أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه, قال ابن أبي نجيح عن أبيه: أن رجلاً من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه فقال له: يا فلان أشعرت أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل, فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ, فقاتلوا عن دينكم, فنزل {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة. ثم قال تعالى منكراً على من حصل له ضعف {أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} أي رجعتم القهقرى {ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين} أي الذين قاموا بطاعته وقاتلوا عن دينه, واتبعوا رسوله حياً وميتاً. وكذلك ثبت في الصحاح والمساند والسنن وغيرها من كتب الإسلام من طرق متعددة تفيد القطع, وقد ذكرت ذلك في مسندي الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن الصديق رضي الله عنه, تلا هذه الاَية لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير, حدثنا الليث عن عقيل, عن ابن شهاب, أخبرني أبو سلمة أن عائشة رضي الله عنها, أخبرته أن أبا بكر رضي الله عنه, أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد, فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة, فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشى بثوب حبرة, فكشف عن وجهه ثم أكب عليه وقبله وبكى, ثم قال: بأبي أنت وأمي والله لا يجمع الله عليك موتتين, أما الموتة التي كتبت عليك فقد مِتّها, وقال الزهري: حدثني أبو سلمة عن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يحدّث الناس فقال: اجلس يا عمر فأبى عمر أن يجلس فأقبل الناس إليه وتركوا عمر, فقال أبو بكر: أما بعد من كان يعبد محمداً, فإن محمداً قد مات, ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. قال الله تعالى: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } قال: فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الاَية حتى تلاها عليهم أبو بكر, فتلقاها منه الناس كلهم فما سمعها بشر من الناس إلا تلاها, وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فَعَقِرتُ حتى ما تقلني رجلاي, وحتى هويت إلى الأرض. وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز, حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القناد, حدثنا أسباط بن نصر عن سماك بن حرب, عن عكرمة, عن ابن عباس, أن علياً كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم {أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله, والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت, والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه, فمن أحق به مني ؟ وقوله تعالى: {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً} أي لا يموت أحد إلا بقدر الله وحتى يستوفي المدة التي ضربها الله له, ولهذا قال {كتاباً مؤجلاً} كقوله {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب} وكقوله {هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده} وهذه الاَية فيها تشجيع للجبناء وترغيب لهم في القتال, فإن الإقدام والإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه, كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا العباس بن يزيد العبدي قال: سمعت أبا معاوية عن الأعمش عن حبيب بن صُهبان, قال: قال رجل من المسلمين وهو حُجْر بن عدي: ما يمنعكم أن تعبروا إلى هؤلاء العدو هذه النطفة ـ يعني دجلة ـ {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً} ثم أقحم فرسه دجلة, فلما أقحم, أقحم الناس, فلما رآهم العدو قالوا: ديوان فهربوا. وقوله {ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها, ومن يرد ثواب الاَخرة نؤته منها} أي من كان عمله للدنيا فقط نال منها ما قدره الله له, ولم يكن له في الاَخرة نصيب, ومن قصد بعمله الدار الاَخرة أعطاه الله منها مع ما قسم له في الدنيا, كما قال تعالى: {من كان يريد حرث الاَخرة نزد له في حرثه, ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الاَخرة من نصيب} وقال تعالى: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً * ومن أراد الاَخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً} ولهذا قال ههنا {وسنجزي الشاكرين} أي سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والاَخرة بحسب شكرهم وعملهم, ثم قال تعالى مسلياً للمؤمنين عما كان وقع في نفوسهم يوم أحد {وكأين من نبيّ قاتل معه ربيون كثير} قيل: معناه كم من نبي قُتل وقُتل معه ربيون من أصحابه كثير. وهذا القول هو اختيار ابن جرير فإنه قال: وأما الذين قرأوا {قُتل معه ربيون كثير} فإنهم قالوا: إنما عنى بالقتل النبي وبعض من معه من الربيين دون جميعهم, وإنما نفى الوهن والضعف عمن بقي من الربيين ممن لم يقتل, قال: ومن قرأ قاتل فإنه اختار ذلك, لأنه قال: لو قتلوا لم يكن لقول الله {فما وهنوا} وجه معروف لأنه يستحيل أن يوصفوا بأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا بعد ما قتلوا, ثم اختار قراءة من قرأ {قُتل معه ربيون كثير} لأن الله عاتب بهذه الاَيات والتي قبلها من انهزم يوم أحد وتركوا القتال لما سمعوا الصائح يصيح بأن محمداً قد قتل, فعذلهم الله على فرارهم وتركهم القتال, فقال لهم {أفإن مات أو قتل} أيها المؤمنون ارتددتم عن دينكم و{انقلبتم على أعقابكم} وقيل: وكم من نبي قُتل بين يديه من أصحابه ربيون كثير, وكلام ابن إسحاق في السيرة يقتضي قولاً آخر, فإنه قال: وكأين من نبي أصابه القتل ومعه ربيون أي جماعات فما وهنوا بعد نبيهم, وما ضعفوا عن عدوهم, وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينهم, وذلك الصبر {والله يحب الصابرين} فجعل قوله {معه ربيون كثير} حالاً, وقد نصر هذا القول السهيلي وبالغ فيه, وله اتجاه لقوله {فما وهنوا لما أصابهم} الاَية, وكذا حكاه الأموي في مغازيه عن كتاب محمد بن إبراهيم ولم يحك غيره, وقرأ بعضهم {قاتل معه ربيون كثير} قال سفيان الثوري, عن عاصم, عن زرّ عن ابن مسعود {ربيون كثير} أي ألوف, وقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والحسن وقتادة والسدي والربيع وعطاء الخراساني: الربيون الجموع الكثيرة وقال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن {ربيون كثير} أي علماء كثير, وعنه أيضاً: علماء صبر أبرار وأتقياء. وحكى ابن جرير عن بعض نحاة البصرة أن الربيين هم الذين يعبدون الرب عز وجل, قال: ورد بعضهم عليه فقال: لو كان كذلك لقيل: الربيون بفتح الراء, وقال ابن زيد: الربيون الأتباع والرعية, والربانيون الولاة. {فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا}قال قتادة والربيع بن أنس {وما ضعفوا} بقتل نبيهم {وما استكانوا} يقول: فما ارتدوا عن بصيرتهم ولا عن دينهم أن قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله حتى لحقوا بالله, وقال ابن عباس {وما استكانوا} تخشعوا, وقال السدي وابن زيد: وما ذلوا لعدوهم, وقال محمد بن إسحاق والسدي وقتادة: أي ما أصابهم ذلك حين قتل نبيهم {والله يحب الصابرين }*





    *السعدي قال تعالى : " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين " هذا استفهام إنكاري أي : لا تظنوا ولا يخطر ببالكم أن تدخلوا الجنة من دون مشقة واحتمال المكاره في سبيل الله وابتغاء مرضاته فإن في الجنة أعلى المطالب وأفضل ما به يتنافس المتنافسون وكلما عظم المطلوب عظمت وسيلته والعمل الموصل إليه فلا يوصل إلى الراحة إلا بترك الراحة ولا يدرك النعيم إلا بترك النعيم ولكن مكاره الدنيا التي تصيب العبد في سبيل الله عند توطين النفس لها وتمرينها عليها ومعرفة ما تؤول إليه تنقلب عند أرباب البصائر منحا يسرون بها ولا يبالون بها وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ثم وبخهم تعالى على عدم صبرهم بأمر كانوا يتمنونه ويودون حصوله فقال : " ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه " وذلك أن كثيرا من الصحابة رضي الله عنهم ممن فاته بدركانوا يتمنون إن يحضرهم الله مشهدا يبذلون فيه جهدهم قال الله [ تعالى ] لهم: " فقد رأيتموه " أي : ما تمنيتم ، بأعينكم " وأنتم تنظرون " فما بالكم وترك الصبر ؟ هذه حالة لا تليق ولا تحسن خصوصا لمن تمنى ذلك وحصل له ما تمنى فإن الواجب عليه بذل الجهد واستفراغ الوسع في ذلك ، وفي هذه الآية دليل على أنه لا يكره تمني الشهادة ووجه الدلالة أن الله تعالى أقرهم على أمنيتهم ولم ينكر عليهم وإنما أنكر عليهم عدم العمل بمقتضاها والله أعلم .

    ثم قال تعالى " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين "

    " وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ "

    يقول تعالى : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " أي : ليس ببدع من الرسل بل هو من جنس الرسل الذين قبله وظيفتهم تبليغ رسالة ربهم وتنفيذ أوامره ليسوا بمخلدين وليس بقاؤهم شرطا في امتثال أوامر الله بل الواجب على الأمم عبادة ربهم في كل وقت وبكل حال ولهذا قال" أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم " بترك ما جاءكم به من إيمان أو جهاد أو غير ذلك . قال تعالى" ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا " : إنما يضر نفسه وإلا فالله تعالى غني عنه وسيقيم دينه ويعز عباده المؤمنين فلما وبخ تعالى من انقلب على عقبيه مدح من ثبت مع رسوله وامتثل أمر ربه فقال" وسيجزي الله الشاكرين " والشكر لا يكون إلا بالقيام بعبودية الله تعالى على كل حال وفي هذه الآية الكريمة إرشاد من الله تعالى لعباده أن يكونوا بحالة لا يزعزعهم عن إيمانهم أو عن بعض لوازمه فقد رئيس ولو عظم وما ذاك إلا بالاستعداد في كل أمر من أمور الدين بعدة أناس من أهل الكفاءة فيه إذا فقد أحدهم قام به غيره وأن يكون عموم المؤمنين قصدهم إقامة دين الله والجهاد عنه بحسب الإمكان لا يكون لهم قصد في رئيس دون رئيس فبهذه الحال يستتب لهم أمرهم وتستقيم أمورهم .

    وفي هذه الآية أيضا أعظم دليل على فضيلة الصديق الأكبر أبي بكر وأصحابه الذين قاتلوا المرتدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم هم سادات الشاكرين

    ثم أخبر تعالى أن النفوس جميعها معلقة بآجالها بإذن الله وقدره وقضائه فمن حتم عليه بالقدر أن يموت مات ولو بغير سبب ومن أراد بقاءه فلو وقع من الأسباب كل سبب لم يضره ذلك قبل بلوغ أجله وذلك أن الله قضاه وقدره وكتبه إلى أجل مسمى : " إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون "

    ثم أخبر تعالى أنه يعطي الناس من ثواب الدنيا والآخرة ما تعلقت به إراداتهم فقال : " ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها "

    قال الله تعالى : كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا

    " وسنجزي الشاكرين " ولم يذكر جزاءهم ليدل ذلك على كثرته وعظمته وليعلم أن الجزاء على قدر الشكر قلة وكثرة وحسنا

    " وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين

    هذا تسلية للمؤمنين وحث على الاقتداء بهم والفعل كفعلهم وأن هذا أمر قد كان متقدما لم تزل سنة الله جارية بذلك فقال : وكأين من نبي " أي : وكم من نبي " قاتل معه ربيون كثير " أي : جماعات كثيرون من أتباعهم الذين قد ربتهم الأنبياء بالإيمان والأعمال الصالحة فأصابهم قتل وجراح وغير ذلك" فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا " أي : ما ضعفت قلوبهم ولا وهنت أبدانهم ولا استكانوا أي : ذلوا لعدوهم بل صبروا وثبتوا وشجعوا أنفسهم ولهذا قال : " والله يحب الصابرين ".

    - الصابر هو الذي اتصف بالصبر على الطاعات, وعن المعاصي, وعلى ما يصيبه من أقدار الله المؤلمة*
    avatar
    د.محمودعبدالحكيم
    مشرف
    مشرف


    الجنس : ذكر
    الابراج : الثور
    عدد المساهمات : 333
    نقاط : 8657
    السٌّمعَة : 191
    تاريخ التسجيل : 24/07/2011
    العمر : 56
    الموقع : جمهورية مصر العربية
    أوسمه : عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار Ououo_21

    عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار Empty رد: عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار

    مُساهمة من طرف د.محمودعبدالحكيم الأحد 8 أبريل 2012 - 12:20

    فــــــــــصــــــــــــل

    ومما جاء في باب الصبر = رياض الصالحين الإمام النووي =

    . - وعن أبي مَالِكٍ الْحَارِثِ بْنِ عَاصِم الأشْعريِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَان ، وَالْحَمْدُ للَّه تَمْلأَ الْميزانَ وسُبْحَانَ الله والحَمْدُ للَّه تَمْلآنِ أَوْ تَمْلأ مَا بَيْنَ السَّموَات وَالأَرْضِ وَالصَّلاَةِ نورٌ ، والصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ ، والْقُرْآنُ حُجَّةُ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ . كُلُّ النَّاس يَغْدُو، فَبِائِعٌ نَفْسَهُ فمُعْتِقُها ، أَوْ مُوبِقُهَا» رواه مسلم .

    - وَعَنْ أبي سَعيدٍ بْن مَالِك بْن سِنَانٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ نَاساً مِنَ الأنصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم فأَعْطاهُم ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ ، حَتَّى نَفِد مَا عِنْدَهُ ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ أَنَفَقَ كُلَّ شَيْءٍ بِيَدِهِ : « مَا يَكُنْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أدَّخِرَهُ عَنْكُمْ ، وَمَنْ يسْتعْفِفْ يُعِفَّهُ الله وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ . وَمَا أُعْطِىَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْراً وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ » مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

    - وَعَنْ أبي يَحْيَى صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : «عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن : إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ » رواه مسلم .

    - وَعَنْ أَنَسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : مَرَّ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَال : «اتَّقِي الله وَاصْبِرِي » فَقَالَتْ : إِلَيْكَ عَنِّي ، فَإِنِّكَ لَمْ تُصَبْ بمُصِيبتى، وَلَمْ تعْرفْهُ ، فَقيلَ لَها : إِنَّه النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ، فَأَتتْ بَابَ النَّبِّي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ، فلَمْ تَجِد عِنْدَهُ بَوَّابينَ ، فَقالتْ : لَمْ أَعْرِفْكَ ، فقالَ : « إِنَّما الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأولَى » متفقٌ عليه.

    - وعنْ عطاءِ بْن أَبي رَباحٍ قالَ : قالَ لِي ابْنُ عبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهُمَا ألا أريكَ امْرَأَةً مِن أَهْلِ الجَنَّة ؟ فَقُلت : بلَى ، قَالَ : هذِهِ المْرأَةُ السوْداءُ أَتَتِ النبيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم فقالَتْ : إِنِّي أُصْرَعُ ، وإِنِّي أَتكَشَّفُ ، فَادْعُ اللَّه تعالى لِي قَالَ : « إِن شئْتِ صَبَرْتِ ولكِ الْجنَّةُ، وإِنْ شِئْتِ دعَوْتُ اللَّه تَعالَى أَنْ يُعافِيَكِ » فقَالتْ : أَصْبرُ ، فَقالت : إِنِّي أَتَكشَّفُ ، فَادْعُ اللَّه أَنْ لا أَتكشَّفَ ، فَدَعَا لَهَا . متَّفقٌ عليْهِ .

    - وعنْ أَبي عبْدِ الرَّحْمنِ عبْدِ اللَّه بنِ مسْعُودٍ رضيَ اللَّه عنه قَال : كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلى رسولِ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يحْكيِ نَبيّاً من الأَنْبِياءِ ، صلواتُ اللَّهِ وسَلاَمُهُ عَليْهم ، ضَرَبُهُ قَوْمُهُ فَأَدْمـوْهُ وهُو يمْسحُ الدَّم عنْ وجْهِهِ ، يقُولُ : « اللَّهمَّ اغْفِرْ لِقَوْمي فإِنَّهُمْ لا يعْلمُونَ » متفقٌ عَلَيْه .

    - وَعنْ أَبي سَعيدٍ وأَبي هُرَيْرة رضي اللَّه عَنْهُمَا عن النَّبيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ : «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَن وَلاَ أَذًى وَلاَ غمٍّ ، حتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُها إِلاَّ كفَّر اللَّه بهَا مِنْ خطَايَاه » متفقٌ عليه

    و « الْوَصَب » : الْمرضُ .

    - وعنْ أَبي هُرَيرة رضيَ اللَّهُ عنه قال : قال رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُصِبْ مِنْهُ » : رواه البخاري .

    وضَبطُوا « يُصِب » : بفَتْحِ الصَّادِ وكَسْرِهَا .

    - وعن ابن مَسعُودٍ رضي اللَّه عنه قال : لمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثر رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم نَاساً في الْقِسْمَةِ : فأَعْطَى الأَقْرعَ بْنَ حابِسٍ مائةً مِنَ الإِبِلِ وأَعْطَى عُييْنَةَ بْنَ حِصْنٍ مِثْلَ ذلِكَ ، وأَعطى نَاساً منْ أشرافِ الْعربِ وآثَرهُمْ يوْمئِذٍ في الْقِسْمَةِ . فَقَالَ رجُلٌ : واللَّهِ إنَّ هَذِهِ قِسْمةٌ ما عُدِلَ فِيها ، وما أُريد فِيهَا وَجهُ اللَّه ، فَقُلْتُ: واللَّه لأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ، فأتيتُهُ فَأخبرته بِما قال ، فتغَيَّر وَجْهُهُ حتَّى كَانَ كَالصِّرْفِ . ثُمَّ قال : « فَمنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يعدِلِ اللَّهُ ورسُولُهُ ؟ ثم قال : يرحَمُ اللَّهُ موسى قَدْ أُوْذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصبرَ » فَقُلْتُ: لا جرمَ لا أَرْفعُ إلَيه بعْدها حدِيثاً. متفقٌ عليه .

    وقَوْلُهُ « كَالصِرْفَ » هُو بِكسْرِ الصادِ الْمُهْملةِ : وَهُوَ صِبْغٌ أَحْمَرُ .

    - وقَالَ النبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « إِنَّ عِظَمَ الْجزاءِ مَعَ عِظَمِ الْبلاءِ ، وإِنَّ اللَّه تعالى إِذَا أَحَبَّ قَوماً ابتلاهُمْ ، فَمنْ رضِيَ فلَهُ الرضَا ، ومَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ » رواه الترمذي وقَالَ: حديثٌ حسنٌ .

    - وَعَنْ أبي هُرَيْرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال : قال رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « مَا يَزَال الْبَلاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمؤمِنَةِ في نَفْسِهِ وَولَدِهِ ومَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّه تعالى وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» رواه التِّرْمِذيُّ وقال : حديثٌ حسنٌ صحِيحٌ .

    - وَعن أبي يحْيَى أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ رضي اللَّهُ عنهُ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ قال : يا رسولَ اللَّهِ أَلا تَسْتَعْمِلُني كَمَا اسْتْعْملتَ فُلاناً وفلاناً فَقَالَ : « إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدي أَثَرَةً فاصْبِرُوا حَتَّى تلقَوْنِي علَى الْحوْضِ » متفقٌ عليه .

    « وأُسَيْدٌ » بِضَمِّ الْهمْزةِ . « وحُضَيْرٌ » بِحاءٍ مُهْمَلَةٍ مضمُومَةٍ وضادٍ مُعْجَمَةٍ مفْتُوحةٍ ، واللَّهُ أَعْلَمُ .

    53- وَعنْ أبي إِبْراهيمَ عَبْدِ اللَّه بْنِ أبي أَوْفي رضي اللَّهُ عنهمَا أَنَّ رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم في بعْضِ أَيَّامِهِ التي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ ، انْتَظرَ حَتَّى إِذَا مَالَتِ الشَّمْسُ قَامَ فِيهمْ فَقَالَ: « يَا أَيُّهَا النَّاسُ لا تَتَمنَّوا لِقَاءَ الْعدُوِّ ، وَاسْأَلُوا اللَّه العَافِيَةَ ، فَإِذَا لقيتُموهم فاصْبرُوا ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّة تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ » ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ وَمُجْرِيَ السَّحَابِ ، وَهَازِمَ الأَحْزابِ ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنا عَلَيْهِمْ » . متفقٌ عليه .

    فــــــــــــصــــــــــــــل

    قال ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه "عدة الصابرين"

    * الباب الاول في معنى الصبر لغة ، واشتقاق هذه اللفظة وتصريفها :

    - أصل هذه الكلمة هو المنع والحبس فالصبر حبس النفس عن الجزع واللسان عن التشكي والجوارح عن لطم الخدود وشق الثياب ونحوهما ويقال صبر يصبر صبرا وصبر نفسه قال تعالى ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم )

    - ويقال صبرت فلانا إذا حبسته وصبرته بالتشديد إذا حملته على الصبر وفي حديث الذي أمسك رجلا وقتله آخر( يقتل القاتل ويصبر الصابر) أي يحبس للموت كما حبس من أمسكه للموت، وصبرت الرجل اذا قتلته صبرا أي أمسكته للقتل ،وصبرته أيضا وأصبرته إذا حبسه للحلف ومنه الحديث الصحيح (من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرىء مسلم لقي الله وهو عنه معرض )ومنه الحديث الذي في القسامة (ولا تصبر يمينه حيث تصبر الإيمان) والمصبورة اليمين المحلوف عليها وفي الحديث نهى

    عن المصبورة وهى الشاة والدجاجة ونحوهما تصبر للموت فتربط فترمى حيث تموت ، وفعل هذا الباب صبَرت أصبِر بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل وأما صبَرت أصبُر بالضم في المستقبل فهو بمعنى الكفالة والصبير الكفيل كأنه حبس نفسه للغرم ومنه قولهم أصبرنى أي جعلني كفيلا

    - وقيل أصل الكلمة من الشدة والقوة ومنه الصبر للدواء المعروف لشدة مرارته وكراهته قال الأصمعى إذا لقي الرجل الشدة بكمالها قيل لقيها بأصبارها ومنه الصبر بضم الصاد للأرض ذات الحصب لشدتها وصلابتها ومنه سميت الحرة أم صبار ومنه قولهم وقع القوم في أمر صبّور بتشديد الباء أي أمر شديد ومنه صبارّة الشتاء بتخفيف الباء وتشديد الراء لشدة برده

    - وقيل مأخوذ من الجمع والضم فالصابر يجمع نفسه ويضمها عن الهلع والجزع ومنه صبرة الطعام وصبارة الحجارة والتحقيق أن في الصبر المعاني الثلاثة المنع والشدة والضم ويقال صبَر إذا أتى بالصبر وتصبَّر إذا تكلفه واستدعاه واصطبر إذا اكتسبه وتعمله وصابر إذا وقف خصمه في مقام الصبر وصبر نفسه وغيره بالتشديد إذا حملها على الصبر واسم الفاعل صابر وصبّار وصبور ومِصابر ومصطبِر فمصابر من صابر ومصطبر من اصطبر وصابر من صبر وأما صبّار وصبور فمن أوزان المبالغة من الثلاثى كضراب وضروب والله أعلم

    * الباب الثاني في حقيقة الصبر وكلام الناس فيه

    قد تقدم بيان معناه لغة وأما حقيقته فهو خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل وهو قوة من قوى النفس التى بها صلاح شأنها وقوام أمرها

    - وسئل عنه الجنبد بن محمد فقال =تجرع المرارة من غير تعـبُّس=

    - وقال ذو النون =هو التباعد عن المخالفات والسكون عند تجرع غصص البلية وإظهار الغني مع حلول الفقر بساحات المعيشة =

    - وقبل الصبر =هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب =

    - وقيل =هو الغنى في البلوى بلا ظهور شكوى =

    - وقال أبو عثمان =الصبار هو الذي عود نفسه الهجوم على المكاره =

    - وقيل الصبر= المقام على البلاء بحسن الصحبة كالمقام مع العافية= ،ومعنى هذا أن لله على العبد عبودية في عافيته وفي بلائه فعليه أن يحسن صحبة العافية بالشكر وصحبة البلاء بالصبر

    - وقال عمرو بن عثمان المكى الصبر= هو الثبات مع الله وتلقى بلائه بالرحب والدعة = ،ومعنى هذا انه يتلقى البلاء وبصدر واسع لا يتعلق بالضيق والسخط والشكوى

    - وقال الخواص الصبر= الثبات على أحكام الكتاب والسنة=

    - وقال رويم الصبر= ترك الشكوى= فسره بلازمه

    - وقال غيره الصبر =هو الاستعانة بالله =

    - وقال أبو على الصبر كإسمه

    - وقال على بن أبى طالب رضى الله عنه= الصبر مطية لا تكبو =

    - وقال ابو محمد الجريرى= الصبر أن لا يفرق بين النعمة والمحنة مع سكون الخاطر فيهما =

    قلت وهذا غير مقدور ولا مأمور به فقد ركب الله الطباع على التفريق بين الحالتين وانما المقدور حبس النفس عن الجزع لا استواء الحالتين عند العبد وساحة العافية أوسع للعبد من ساحة الصبر كما قال النبي في الدعاء المشهور (أن لم يكن بك غضب على فلا أبالى غير أن عافيتك أوسع لى )ولا يناقض هذا قوله( وما أعطى أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر) فإن هذا بعد نزول البلاء ليس للعبد أوسع من الصبر وأما قبله فالعافية أوسع له

    - وقيل =الصبر شجاعة النفس= ومن ها هنا أخذ القائل قوله الشجاعة صبر ساعة

    - وقيل = الصبر ثبات القلب عند موارد الاضطراب =

    - والصبر والجزع ضدان ولهذا يقابل أحدهما بالآخر قال تعالى عن أهل النار (سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص )والجزع قرين العجز وشقيقه والصبر قرين الكيس ومادته فلو سئل الجزع من أبوك لقال العجز ولو سئل الكيس من أبوك لقال الصبر، والنفس مطية العبد التى يسير عليها إلى الجنة أو النار والصبر لها بمنزلة الخطام والزمام للمطيه فإن لم يكن للمطيه خطام ولا زمام شردت في كل مذهب ... فرحم الله امرءا جعل لنفسه خطاما وزماما فقادها بخطامها إلى طاعة الله وصرفها بزمامها عن معاصى الله فإن الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه قلت والنفس فيها قوتان قوة الإقدام وقوة الاحجام فحقيقة الصبر ان يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى ما ينفعه وقوة الاحجام امساكا عما يضره ومن الناس من تكون قوة صبره على فعل ما ينتفع به وثباته عليه اقوى من صبره عما يضره فيصبر على مشقة الطاعه ولا صبر له عن داعى هواه إلى ارتكاب ما نهى عنه ومنهم من تكون قوة صبره عن المخالفات أقوى من صبره على مشقة الطاعات ومنهم من لا صبر له على هذا ولا ذاك وأفضل الناس أصبرهم على النوعين فكثير من الناس يصبر على مكابدة قيام الليل في الحر والبرد وعلى مشقة الصيام ولا يصبر عن نظرة محرمة وكثير من الناس يصبر عن النظر وعن الالتفات إلى الصور ولا صبر له على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وجهاد الكفار والمنافقين بل هو أضعف شئ عن هذا وأعجزه وأكثرهم لا صبر له على واحد من الأمرين وأقلهم أصبرهم في الموضعين

    - وقيل =الصبر ثبات باعث العقل والدين في مقابلة باعث الهوى والشهوة ومعنى هذا أن الطبع يتقاضى ما يحب وباعث العقل والدين يمنع منه والحرب قائمة بينهما وهو سجال ومعرك هذا الحرب قلب العبد والصبر والشجاعة والثبات



    في ذكر ما ورد في الصبر من نصوص الكتاب العزيز



    قال الإمام أحمد رحمه الله ذكر الله سبحانه الصبر في القرآن في تسعين موضعا اه

    -ونحن نذكر الأنواع التى سيق فيها الصبر وهى عدة أنواع :

    1- الأمر به كقوله (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ) النحل 127 (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) الطور 48

    2- النهى عما يضاده كقوله (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) الأحقاف 35 وقوله ولا (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) آل عمران 139 وقوله (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ) القلم48

    وبالجملة فكل ما نهى عنه فانه يضاد الصبر المأمور به

    3- تعليق الفلاح به كقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران : 200 فعلق الفلاح بمجموع هذه الأمور

    4- الإخبار عن مضاعفة أجر الصابرين على غيره كقوله (أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (القصص : 54 ) وقوله (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر : 10 )

    قال سليمان بن القاسم كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر قال الله تعالى انما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب قال كالماء المنهمر

    5- تعليق الإمامة في الدين به وباليقين قال الله (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة : 24 )) (الأنبياء : 73 ) فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين

    6- ظفرهم بمعية الله سبحانه لهم قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة : 153 )وقال (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال : 46 ) وقال ( قال الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة : 249 ) وقال (الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال : 66 )

    قال أبو على الدقاق فاز الصابرون بعز الدارين لأنهم نالوا من الله معيته

    7- انه جمع للصابرين ثلاثة أمور لم يجمعها لغيرهم وهى الصلاة منه عليهم ورحمته لهم وهدايته إياهم قال( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة :5-6- 157 )

    وقال بعض السلف وقد عزى على مصيبة نالته فقال مالى لا أصبر وقد وعدنى الله على الصبر ثلاث خصال كل خصلة منها خير من الدنيا وما عليها

    8- أنه سبحانه جعل الصبر عونا وعدة وأمر بالاستعانة به فقال (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة : 45 )

    فمن لا صبر له لا عون له

    9- أنه سبحانه علق النصر بالصبر والتقوى فقال (بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ) (آل عمران : 125 )

    ولهذا قال النبي ضلى الله عليه وسلم (واعلم أن النصر مع الصبر )

    10- أنه سبحانه جعل الصبر والتقوى جنة عظيمة من كيد العدو ومكره فمن استجن العبد من ذلك جنة أعظم منهما قال تعالى (إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (آل عمران : 120 )

    11- انه سبحانه أخبر أن ملائكته تسلم عليهم في الجنة بصبرهم كما قال (وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد : 22 - 23 - 24 )

    12 - انه سبحانه أباح لهم أن يعاقبوا على ما عوقبوا به ثم أقسم قسما مؤكدا غاية التأكيد أن صبرهم خير لهم فقال (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ) (النحل : 126 ) فتأمل هذا التأكيد بالقسم المدلول عليه بالواو ثم باللام بعده ثم باللام التى في الجواب

    13- انه سبحانه رتب المغفرة والأجر الكبير على الصبر والعمل الصالح فقال( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ) (11) هود ، وهؤلاء ثنية الله من نوع الإنسان المذموم الموصوف باليأس والكفر عند المصيبة والفرح والفخر عند النعمة ولا خلاص من هذا الذم الا بالصبر والعمل الصالح كما لا تنال المغفرة والأجر الكبير الا بهما

    14- انه سبحانه جعل الصبر على المصائب من عزم الأمور أى مما يعزم من الأمور التى انما يعزم على أجلها وأشرفها فقال (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) (آل عمران : 186 ) ((إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (الشورى : 43 ) وقال لقمان لابنه (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (لقمان : 17 )

    15- انه سبحانه وعد المؤمنين بالنصر والظفر وهى كلمته التى سبقت لهم وهى الكلمة الحسنى وأخبر أنه انما انالهم ذلك بالصبر فقال تعالى (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ) (الأعراف : 137 )

    16- أنه سبحانه علق محبته بالصبر وجعلها لأهله فقال (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران : 146 )

    17- انه سبحانه أخبر عن خصال الخير انه لا يلقاها الا الصابرون في موضعين من كتابه في سورة القصص في قصة قارون وان الذين أوتوا العلم قالو للذين تمنوا مثل ما (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ) (القصص : 80 ) وفي سورة حميم السجدة حيث أمر العبد أن يدفع بالتى هى أحسن فإذا فعل ذلك صار الذى بينه وبينه عداوة كأنه حبيب قريب ثم قال (َمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( 33 ) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ( 34 ) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ( 35 )) (فصلت )

    18- أنه سبحانه أخبر أنه إنما ينتفع بآياته ويتعظ بها الصبار الشكور فقال تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (إبراهيم : 5 ) وقال تعالى في لقمان (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (لقمان : 31 ) وقال في قصة سبأ (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (سبأ : 19 ) وقال تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ( 32 ) إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) ( 33 ) هود .

    فهذه أربع مواضع في القرآن تدل على أن آيات الرب انما ينتفع بها أهل الصبر والشكر

    19- أنه أثنى على عبده أيوب بأحسن الثناء على صبره فقال (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (صـ : 44 ) فأطلق عليه نعم العبد بكونه وجده صابرا وهذا يدل على أن من لم يصبر اذا ابتلى فإنه بئس العبد

    20- انه سبحانه حكم بالخسران حكما عاما على كل من لم يؤمن ولم يكن من أهل الحق والصبر وهذا يدل على أنه لا رابح سواهم فقال (وَالْعَصْرِ ( 1 ) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ( 2 ) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ( 3 ) العصر.

    ولهذا قال الشافعى لو فكر الناس كلهم في هذه الاية لوسعتهم وذلك أن العبد كماله في تكميل قوتيه قوة العلم وقوة العمل وهما الإيمان والعمل الصالح وكما هو محتاج إلى تكميل نفسه فهو محتاج إلى تكميل غيره وهو التواصى بالحق والتواصى بالصبر وأخية ذلك وقاعدته وساقه الذى يقوم عليه انما هو الصبر

    21- أنه سبحانه خص أهل الميمنة بأنهم أهل الصبر والمرحمة الذين قامت بهم هاتان الخصلتان ووصوا بهما غيرهم فقال تعالى (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ( 18-17البلد ) أولئك أصحاب الميمنة وهذا حصر لأصحاب الميمنة فيمن قام به هذان الوصفان والناس بالنسبة اليهما أربعة أقسام هؤلاء خير الاقسام وشرهم من لا صبر له ولا رحمة فيه ويليه من له صبر ولا رحمة عنده ويليه القسم الرابع وهو من له رحمة ورقة ولكن لا صبر له

    22- أنه سبحانه قرن الصبر بأركان الإسلام ومقامات الإيمان كلها فقرنه بالصلاة كقوله( واستعينوا بالصبر والصلاة )وقرنه بالأعمال الصالحة عموما كقوله (الا الذين صبروا وعملوا الصالحات) وجعله قرين التقوى كقوله( إنه من يتق ويصبر) وجعله قرين الشكر كقوله (ان في ذلك لآيات لكل صبار شكور) وجعله قرين الحق كقوله (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) وجعله قرين الرحمة كقوله (وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) وجعله قرين اليقين كقوله (لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) وجعله قرين الصدق كقوله (والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات) وجعله سبب محبته ومعيته ونصره وعونه وحسن جزائه ويكفي بعض ذلك شرفا وفضلا والله أعلم . ...







    6- (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)147 ( فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)148 (آل عمران )
    avatar
    د.محمودعبدالحكيم
    مشرف
    مشرف


    الجنس : ذكر
    الابراج : الثور
    عدد المساهمات : 333
    نقاط : 8657
    السٌّمعَة : 191
    تاريخ التسجيل : 24/07/2011
    العمر : 56
    الموقع : جمهورية مصر العربية
    أوسمه : عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار Ououo_21

    عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار Empty رد: عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار

    مُساهمة من طرف د.محمودعبدالحكيم الأحد 8 أبريل 2012 - 12:25

    ابن عطية هذه الآية في ذكر الربيين أي هذا كان قولهم ،لا ما قاله بعضكم يا أصحاب محمد من قول من قال نأخذ أمانا من أبي سفيان، ومن قول من قال نرجع إلى ديننا الأول ،ومن قول من فر... فلا شك أن قوله مناسب لفعله ولو بعض المناسبة ، إلى غير ذلك مما اقتضته تلك الحال من الأقوال وقرأ السبعة وجمهور الناس قولَهم بالنصب ويكون الاسم فيما بعد ( إلا ) وقرأ جماعة من القراء قولُهم بالرفع وجعلوا الخبر فيما بعد ( إلا ) روى ذلك حماد بن سلمة عن ابن كثير وأبو بكر عن عاصم ذكره المهدوي واستغفار هؤلاء القوم الممدوحين في هذا الموطن ينحو إلى أنهم رأوا ما نزل من مصائب الدنيا إنما هو بذنوب من البشر وقوله تعالى ( ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ) عبارتان عن معنى قريب بعضه من بعض جاء ذلك للتأكيد ولتعم مناحي الذنوب وكذلك فسر ابن عباس وغيره وقال الضحاك الذنوب عام والإسراف في الأمر أريد به الكبائر خاصة وقولهم (وثبت أقدامنا ) يحتمل أن يجري مع ما قبله من معنى الاستغفار فيكون المعنى اجعلنا دائبين على طاعتك والإيمان بك وتثبيت القدم على هذا استعارة ويحتمل أن يكون في معنى ما بعده من قوله ( وانصرنا على القوم الكافرين ) فيراد ثبوت القدم حقيقة في مواقف الحرب قال ابن فورك في هذا الدعاء رد على القدرية لقولهم إن الله لا يخلق أفعال العبد ولو كان ذلك لم يسغ أن يدعي فيما لا يفعله . و ( ثواب الدنيا ) في هذه الآية الظهور على عدوهم قاله ابن إسحاق وقتادة وغيرهما وقال ابن جريج الظفر والغنيمة وفسر بهذا جماعة من المؤلفين في التفسير قال النقاش ليس إلا الظفر والغلبة فقط لأن الغنيمة لم تحلل إلا لهذه الأمة .

    قال الفقيه الإمام وهذا اعتراض صحيح ( وحسن ثواب الآخرة )الجنة بلا خلاف وعبر بلفظة حسن زيادة في الترغيب



    ابن عاشور وقوله تعالى وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا) الآية عطف على (فما وهنوا) لأنه لما وصفهم برباط الجأش، وثبات القلب، وصفهم بعد ذلك بما يدل على الثبات من أقوال اللسان التي تجري عليه عند الاضطراب الجزع، أي أن ما أصابهم لم يخالجهم بسببه تردد في صدق وعد الله، ولا بدر منهم تذمر، بل علموا أن ذلك لحكمة يعلهما سبحانه، أو لعله كان جزاء على تقصير منهم في القيام بواجب نصر دينه، أو في الوفاء بأمانة التكليف، فلذلك ابتهلوا إليه عند نزول المصيبة بقولهم(ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا) خشية أن يكون ما أصابهم جزاء على ما فرط منهم، ثم سألوه النصر وأسبابه ثانيا فقالوا (وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) فلم يصدهم ما لحقهم من الهزيمة عن رجاء النصر، وفي الموطأ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول: دعوت فلم يستجب لي فقصر قولهم في تلك الحالة التي يندر فيها صدور مثل هذا القول، على قولهم (ربنا أغفر لنا) إلى آخره، فصيغة القصر في قوله (وما كان قولهم إلا أن قالوا) قصر إضافي لرد اعتقاد من قد يتوهم أنهم قالوا أقوالا تنبئ عن الجزع، أو الهلع، أو الشك في النصر، أو الاستسلام للكفار. وفي هذا القصر تعريض بالذين جزعوا من ضعفاء المسلمين أو المنافقين فقال قائلهم: لو كلمنا عبد الله بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان.

    وقدم خبر(كان) على اسمها في قوله (وما كان قولهم إلا أن قالوا) لأنه خبر عن مبتدأ محصور، لأن المقصود حصر أقوالهم حينئذ في مقالة (ربنا أغفر لنا ذنوبنا) فالقصر حقيقي لأنه لقولهم الصادر منهم، حين حصول ما أصابهم في سبيل الله، فلذلك القيد ملاحظ من المقام، نظير القصر في قوله تعالى (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا) فهو قصر حقيقي مقيد بزمان خاص، تقييدا منطوقا به، وهذا أحسن من توجيه تقديم الخبر في الآية بأن المصدر المنسبك المؤول أعرف من المصدر الصريح لدلالة المؤول على النسبة وزمان الحدث، بخلاف إضافة المصدر الصريح، وذلك جائز في باب (كان) في غير صيغ القصر، وأما في الحصر فيتعين تقديم المحصور.

    والمراد من الذنوب جميعها، وعطف عليه بعض الذنوب وهو المعبر عنه هنا بالإسراف في الأمر، والإسراف هو الإفراط وتجاوز الحد، فلعله أريد به الكبائر من الذنوب كما نقل عن أبن عباس وجماعة، وعليه فالمراد بقوله: أمرنا، أي ديننا وتكليفنا، فيكون عطف خاص للاهتمام بطلب غفرانه، وتمحض المعطوف عليه حينئذ لبقية الذنوب وهي الصغائر. ويجوز عندي أن يكون المراد بالإسراف في الامر التقصير في شأنهم ونظامهم فيما يرجع إلى أهبة القتال، والاستعداد له، أو الحذر من العدو، وهذا الظاهر من كلمة أمر، بأن يكونوا شكوا أن يكون ما أصابهم من هزيمتهم في الحرب مع عدوهم ناشئا عن سببين: باطن وظاهر، فالباطن هو غضب الله عليهم من جهة الذنوب، والظاهر هو تقصيرهم في الاستعداد والحذر، وهذا أولى من الوجه الأول.

    وقوله(فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة) إعلام بتعجيل إجابة دعوتهم لحصول خيري الدنيا والآخرة، فثواب الدنيا هو الفتح والغنيمة، وثواب الآخرة هو ما كتب لهم من حسن عاقبة الآخرة، ولذلك وصفه بقوله(وحسن ثواب الآخرة) لأنه خير وأبقى، وتقدم الكلام على الثواب عند قوله تعالى في سورة البقرة (لمثوبة من الله خير).

    وجملة (والله يحب المحسنين) تذييل أي يحب كل محسن، وموقع التذييل يدل على أن المتحدَّث عنهم من الذين أحسنوا، فاللام للجنس المفيد معنى الاستغراق، وهذه من أكبر الأدلة على أن ال الجنسية إذا دخلت على جمع أبطلت منه معنى الجمعية، وأن الاستغراق المفاد من ال إذا كان مدخولها مفردا وجملة سواء.



    + قال عند تفسير قوله تعالى "(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ) (البقرة : ( أي لو آمنوا بمحمد r واتقوا الله فلم يقدموا على إنكار ما بشرت به كتبهم لكانت لهم مثوبة من عند الله ومثوبة الله خير من كل نفع حملهم على المكابرة.

    والمثوبة اسم مصدر أثاب إذا أعطى الثواب، والثواب الجزاء الذي يعطى لخير المعطي -ويقال ثوب وأثوب بمعنى أثاب فالمثوبة على وزن المفعولة كالمصدوقة والمشورة والمكروهة.



    الألوسي وقوله تعالى : ( وما كان قولهم )كالتتميم والمبالغة في صلابتهم في الدين وعدم تطرق الوهن والضعف إليهم بالكلية وهو معطوف على ما قبله وقيل : كلام مبين لمحاسنهم القولية إثر بيان محاسنهم الفعلية و ( قولَهم ) بالنصب خبر لكان وأسمها المصدر المتحصل من ( أن ) وما بعدها في قوله تعالى : ( إلا أن قالوا ) والإستثناء مفرغ من أعم الأشياء أيما كان قولهم في ذلك المقام وإشتباك أسنة الشدائد والآلام ( إلا أن قالوا ) ( ربنا أغفر لنا ذنوبنا )أي صغائرنا ( وإسرافنا في أمرنا ) أي تجاوُزنا عن الحد والمراد كبائرنا وروى ذلك عن الضحاك وقيل : الإسراف تجاوز في فعل ما يجب، والذنب عام فيه وفي التقصير وقيل : إنه يقابل الإسراف وكلاهما ...والظرف متعلق بما عنده أو حال منه وإنما أضافوا ذلك إلى أنفسهم مع أن الظاهر أنهم برءاء من التفريط في جنب الله تعالى هضما لأنفسهم وإستقصارا لهمهم وسسنادا لما أصابهم إلى أعمالهم على أنه لا يبعد أن يراد بتلك الذنوب وذلك الإسراف ما كان ذنبا وإسرافا على الحقيقة لكن بالنسبة إليهم وحسنات الأبرار سيئات المقربين

    -وقيل : أرادوا من طلب المغفرة طلب قبول أعمالهم حيث أنه لا يجب على الله تعالى شيء وفيه ما لا يخفى وقدموا الدعاء بالمغفرة على ما هو الأهم بحسب الحال من الدعاء بقوله سبحانه : ( وثبت أقدامنا ) أي عند جهاد أعدائك بتقوية قلوبنا وإمدادنا بالمدد الروحاني من عندك ( وأنصرنا على القوم الكافرين) تقريبا له إلى حيز القبول فإن الدعاء المقرون بالخضوع الصادر عن زكاء وطهارة أقرب إلى الإستجابة .

    -ومن الناس من قال : المراد من ثبت أقدامنا ثبتنا على دينك الحق فيكون تقديم طلب المغفرة على هذا التثبيت من باب تقديم التخلية وتقديمهما على طلب النصرة لما تقدم

    -وقيل : إنهم طلبوا الغفران أولا ليستحقوا طلب النصر على الكافرين بترجحهم بطهارتهم عن الذنوب عليهم وهم محاطون بالذنوب وفي طلبهم النصر مع كثرتهم المفرطة التي دل عليها ما سبق إيذان بأنهم لا ينظرون إلى كثرتهم ولا يعولون عليها بل يسندون ثبات أقدامهم إلى الله تعالى ويعتقدون أن النصر منه سبحانه وتعالى وفي الأخبار عنهم بأنه ما كان قولهم إلا هذا دون ما فيه شائبة جزع وخور وتزلزل من التعريض بالمنهزمين ما لا يخفى .. ( فأثابهم الله ) أي بسبب قولهم ذلك كما تؤذن به الفاء ( ثواب الدنيا ) أي النصر والغنيمة قاله إبن جريج وقال قتادة الفتح والظهور والتمكن والنصر على عدوهم قيل : وتسمية ذلك ثوابا لأنه مترتب على طاعتهم وفيه إجلال لهم وتعظيم وقيل : تسميه ذلك ثوابا مجاز لأنه يحاكيه .

    وأستشكل تفسير إبن جريج بأن الغنائم لم تحل لأحد قبل الإسلام بل كانت الأنبياء إذا غنموا مالا جاءت نار من السماء فأخذته فكيف تكون الغنيمة ثوابا دنيويا ولم يصل للغانمين منها شيء وأجيب بأن المال الذي تأخذه النار غير الحيوان وأما الحيوان فكان يبقى للغانمين دون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكان ذلك هو الثواب الدنيوي ( وحسن ثواب الآخرة ) أي وثواب الآخرة الحسن وهو عند إبن جريج رضوان الله تعالى ورحمته ، وعند قتادة هي الجنة وتخصيص الحسن بهذا الثواب للإيذان بفضله ومزيته وأنه المعتد به عنده تعالى ولعل تقديم ثواب الدنيا عليه مراعاة للترتيب الوقوعي أو لأنه أنسب بما قبله من الدعاء بالنصر على الكافرين ( والله يحب المحسنين ) تذييل مقرر لما قبله فإن محبة الله سبحانه للعبد مبدأ كل خير وسعادة واللام إما للعهد ووضع الظاهر موضع المضمر إيذانا بأن ما حكى عنهم من باب الإحسان وإما للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا وفيه على كلا التقديرين ترغيب للمؤمنين في تحصيل ما حكى من المناقب الجليلة *



    فـــــــــــــــصــــــــــــــــل

    ما الإحـسـان ؟ قال: (أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأنَّـك تَـراهُ، فَإن لمْ تكُنْ تَـراهُ فإنَّـهُ يَراك) قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله

    قوله الإحسان هو مصدر تقول أحسن يحسن إحسانا ويتعدى بنفسه وبغيره تقول أحسنت كذا إذا اتقنته واحسنت إلى فلان إذا اوصلت إليه النفع والأول هو المراد لأن المقصود إتقان العبادة وقد يلحظ الثاني بأن المخلص مثلا محسن باخلاصه إلى نفسه وإحسان العبادة الإخلاص فيها والخشوغ وفراغ البال حال التلبس بها ومراقبة المعبود وأشار في الجواب إلى حالتين أرفعهما أن يغلب عليه مشاهدة الحق بقلبه حتى أنه يراه بعينه وهو قوله كأنك تراه أي وهو يراك والثانية أن يستحضر أن الحق مطلع عليه يرى كل ما يعمل وهو قوله فإنه يراك وهاتان الحالتان يثمرهما معرفة الله وخشيته وقد عبر في رواية عمارة بن القعقاع بقوله أن تخشى الله كأنك تراه وكذا في حديث أنس وقال النووي معناه إنك إنما تراعي الآداب المذكورة إذا كنت تراه ويراك لكونه يراك لا لكونك تراه فهو دائما يراك فأحسن عبادته وإن لم تره فتقدير الحديث فإن لم تكن تراه فاستمر على إحسان العبادة فإنه يراك قال وهذا القدر من الحديث أصل عظيم من أصول الدين وقاعدة مهمة من قواعد المسلمين وهو عمدة الصديقين وبغية السالكين وكنز العارفين ودأب الصالحين وهو من جوامع الكلم التي اوتيها صلى الله عليه وسلم وقد ندب أهل التحقيق إلى مجالسة الصالحين ليكون ذلك مانعا من التلبس بشيء من النقائص احتراما واستحياء منهم فكيف بمن لا يزال الله مطلعا عليه في سره وعلانيته انتهى وقد سبق إلى أصل هذا القاضي عياض وغيره وسيأتي مزيد لهذا في تفسير لقمان إن شاء الله تعالى تنبيه دل سياق الحديث على أن رؤية الله في الدنيا بالأبصار غير واقعة وأما رؤية النبي صلى الله عليه وسلم فذاك لدليل آخر وقد صرح مسلم في روايته من حديث أبي إمامة بقوله صلى الله عليه وسلم واعلموا إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا وأقدم بعض غلاة الصوفية على تأويل الحديث بغير علم فقال فيه إشارة الى مقام المحو والفناء وتقديره فإن لم تكن أي فإن لم تصر شيئا وفنيت عن نفسك حتى كأنك ليس بموجود فأنك حينئذ تراه وغفل قائل هذا للجهل بالعربية عن أنه لو كان المراد ما زعم لكان قوله تراه محذوف الألف لأنه يصير مجزوما لكونه على زعمه جواب الشرط ولم يرد في شيء من طرق هذا الحديث بحذف الألف ومن ادعى أن إثباتها في الفعل المجزوم على خلاف القياس فلا يصار إليه إذ لاضرورة هنا وأيضا فلو كان ما ادعاه صحيحا لكان قوله فإنه يراك ضائعا لأنه لا ارتباط له بما قبله ومما يفسد تأويله رواية كهمس فإن لفظها فإنك إن لا تراه فأنه يراك وكذلك في رواية سليمان التيمي فسلط النفي على الرؤية لا على الكون الذي حمل على ارتكاب التأويل المذكور وفي رواية أبي فروة فان لم تره فإنه يراك ونحوه في حديث أنس وابن عباس وكل هذا يبطل التأويل المتقدم والله أعلم

    وقال الامام النووي رحمه الله

    قوله صلى الله عليه وسلم: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) هذا من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم، لأنا لو قدرنا أن أحدنا قام في عبادة وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى لم يترك شيئا مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت، واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلا أتى به، فقال صلى الله عليه وسلم: "اعبد الله في جميع أحوالك كعبادتك في حال العيان".

    فإن التتميم المذكور في حال العيان إنما كان لعلم العبد بإطلاع الله سبحانه وتعالى عليه، فلا يقدم العبد على تقصير في هذا الحال للإطلاع عليه، وهذا المعنى موجود مع عدم رؤية العبد، فينبغي أن يعمل بمقتضاه، فمقصود الكلام الحث على الإخلاص في العبادة، ومراقبة العبد ربه تبارك وتعالى في إتمام الخشوع والخضوع وغير ذلك، وقد ندب أهل الحقائق إلى مجالسة الصالحين ليكون ذلك مانعا من تلبسه بشيء من النقائص احتراما لهم واستحياء منهم، فكيف بمن لا يزال الله تعالى مطلعا عليه في سره وعلانيته.





    وقال الإمام العيني رحمه الله: قال: الإحسان ان تعبد الله كأنك تراه ، أراد مبالغة الإخلاص لله سبحانه وتعالى بالطاعة والمراقبة له.



    وقال قوله ما الإحسان؟ كلمة ما للاستفهام مبتدأ و الإحسان خبره والألف واللام فيه للعهد كما في قوله تعالى (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) وقوله تعالى(هل جزاء لإحسان إلا الإحسان) وقوله تعالى (وأحسنوا أن الله يحب المحسنين) ولتكرره في القرآن وترتب الثواب عليه سأل عنه جبريل عليه السلام . قوله قال أن تعبد الله أي قال النبي في جوابه الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فقوله أن مصدرية في محل الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف تقديره الإحسان عبادتك الله كأنك تراه وقال الكرماني فإن قلت كأنك ما محله من الإعراب قلت هو حال من الفاعل أي تعبد الله مشبها بمن يراه انتهى كلامه قلت تحقيق الكلام هنا أن كأن للتشبيه قال الجوهري في فصل أن وقد تزاد على أن كاف التشبيه تقول كأنه شمس وقال غيره أنه حرف مركب عند الجمهور حتى ادعى ابن هشام وابن الخباز الإجماع عليه وليس كذلك قالوا والأصل في كأن زيداً أسد ثم قدم حرف التشبيه اهتماماً به ففتحت همزة أن لدخول الجار وذكروا لها أربعة معان أحدها وهو الغالب عليها والمتفق عليه التشبيه وهذا المعنى أطلقه الجمهور لِـكأن وزعم منهم ابن السيد أنه لا يكون إلا إذا كان خبرها اسماً جامداً نحو كأن زيداً أسد بخلاف كأن زيداً قائم أو في الدار أو عندك أو يقدم فإنها في ذلك كله للظن والثاني للشك والثالث للتحقيق والرابع للتقريب قاله الكوفيون وحملوا عليه قوله كأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل فإذا علم هذا فنقول قوله كأنك تراه ينزل على أي معنى من المعاني المذكورة فالأقرب أن ينزل على معنى التشبيه فالتقدير الإحسان عبادتك الله تعالى حال كونك في عبادتك مثل حال كونك رائياً وهذا التقدير أحسن وأقرب للمعنى من تقدير الكرماني لأن المفهوم من تقديره أن يكون هو في حال العبادة مشبهاً بالرائي إياه وفرق بين عبادة الرائي نفسه وعبادة المشبه بالرائي بنفسه وأما على قول ابن السيد فتحمل كأن على معنى الظن لأن خبرها غير جامد فافهم قوله فإن لم تكن تراه أي فإن لم تكن ترى الله وكلمة أن للشرط وقوله لم تكن تراه جملة وقعت فعل الشرط فإن قلت أين جزاء الشرط قلت محذوف تقديره فإن لم تكن تراه فأحسن العبادة فإنه يراك فإن قلت لم لا يكون قوله فإنه يراك جزاء للشرط قلت لا يصح لأنه ليس مسبباً عنه.*** وينبغي أن يكون فعل الشرط سببا لوقوع الجزاء كما تقول في إن جئتني أكرمتك فإن المجيء هو السبب للاكرام وعدمه سبب لعدمه وههنا عدم رؤية العبد ليست بسبب لرؤية الله تعالى يراه سواء وجدت من العبد رؤية أولم توجد فإن قلت ما الفاء في قوله فإن قلت للتعليل على ما لا يخفى

    - وقال قوله ما الإحسان وهو يستعمل لمعنيين احدهما متعد بنفسه كقولك احسنت كذا إذا حسنته وكملته، منقولة بالهمزة من حسن الشيء ، والآخر بحرف الجر كقولك أحسنت إليه إذا أوصلت إليه النفع والإحسان، وفي الحديث بالمعنى الأول فإنه يرجع إلى اتقان العبادات ومراعاة حق الله تعالى ومراقبته. ويقال الإحسان على مقامين : الأول كما قال أن تعبد الله كأنك تراه فهذا مقام، والثاني قوله فإن لم تكن تراه فإنه يراك .

    -قال عبد الجليل الأول على ثلاثة أقسام: الأول في مقام الإسلام وذلك أن الأمور في عالم الحسن ثلاثة معاصي وطاعات ومباحات المعايش فأما قسم المعاصي على اختلاف أنواعها فإن العبد مأمور بأن يعلم أن الله يراه فإذا هم بمعصية وعلم أن الله يراه ويبصره على أي حالة كانت وأنه (يعلم خائنه الأعين وما تخفى الصدور) كف عن المعصية ورجع عنها وأما الأنسان فيذهل عن نظر الله إليه فينسى حين المعصية أنه يراه أو يكون جاهلا فيظن أن الله تعالى بعيد منه ولا يتذكر ويعلم أنه يحرك جوارحه حين العمل المعمول فينسى ذلك أو يجهل فيقع في المعصية ولو علم وتحقق أن والده أو رجلا كبيرا لو يراه حين المعصية لكف عنها وهرب منها فإذا علم العبد أن الله يراه في حين المعصية كف عنها بحصول البرهان الإحساني عنده وهو البرهان الذي أوتيه ورآه يوسف عليه السلام وهو قيام الدليل الواضح العلمي بأن الله تعالى موجود حق وأنه ناظر إلى كل شيء ومصرف لكل شيء ومحركه ومسكنه فمن أراه الله تعالى هذا البرهان عند جميع المهمات صرف عنه السوء والفحشاء من جميع المنكرات الثاني قسم الطاعات فهي أن تعلم أن الله تعالى موجود وتبرهن عنده أنه يراه لا محالة إلا أن يكون زنديقا جاحدا لا يقر برب فإن كان مقر بوجوده فترك العبادة فإنما تركها تهاونا لنقصان البرهان الإحساني عنده وهذه حال المضيعين للفرائض لجهلهم بقدر الآمر وقدر أمره الثالث من المباحات وهو محل الغفلة والسهو عن هذا المقام الإحساني فإذا تذكر العبد أن الله تعالى يراه في تصريفه وأنه أره بالإقبال عليه وقلة الإعراض عنه استحي أن يراه مكبا على الخسيس الفاني مستغرقا في الاشتغال به عن ذكره وعن الإقبال على ما يقطع عنه. المقام الثاني في عالم الغيب فإن العبد إذ فكر في مواطن الآخرة من موت وقبر وحشر وعرض وحساب وغي ذلك وعلم أنه معروض على الله تعالى في ذلك العالم ومواطنه تهيأ لذلك العرض فيتزين للآخرة بزينة أهل الآخرة ما استطاع وأما المقام الثالث في الإحسان فإن العبد إذا علم في قلوب اوليائه فيزيل الصفات المهلكات ويطهره منها ويتصف بالمحمودات حتى يجعل سره كالمرآة المجلوة

    -قوله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال النووي هذا اصل عظيم من أصول الدين وقاعدة مهمة من قواعد المسلمين وهو عمدة الصديقين وبغية السالكين وكنز العارفين ودأب الصالحين وتلخيص معناه أن تعبد الله عبادة من يرى الله تعالى ويراه الله تعالى فإنه لا يستبقي شيئا من الخضوع والإخلاص وحفظ القلب والجوارح ومراعاة الآداب ما دام في عبادته وقوله فإن لم تكن تراه فإنه يراك يعني أنك إنما تراعي الآداب إذا رأيته ورآك لكونه يراك لا لكونك تراه وهذا المعنى موجود وإن لم تره لأنه يراك وحاصله الحث على كمال الإخلاص في العبادة ونهاية المراقبة فيها وقال هذا من جوامع الكلم التي أوتيها رسول الله وقد ندب أهل الحقائق إلى مجالسة الصالحين ليكون ذلك مانعا من تلبسه بشيء من النقائص احتراما لهم واستحياء منهم فكيف بمن لا يزال الله تعالى مطلعا عليه في سره وعلانيته.

    وقال ابن رجب الحنبلي رحمه الله

    . وأما الإحسان : ففسره بنفوذ r . بالبصائر في الملكوت حتى يصير الخبر للبصيرة كالعيان ، فهذه أعلى درجات الإيمان ومراتبه . ويتفاوت المؤمنون والمحسنون في تحقيق هذا المقام تفاوتا كثيرا بحسب تفاوتهم في قوة الإيمان والإحسان ، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك هاهنا بقوله : " أن تعبد الله كأنك تراه ؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك " . قيل : المراد : أن نهاية مقام الإحسان : أن يعبد المؤمن ربَّه كأنه يراه بقلبه فيكون مستحضرا ببصيرته وفكرته لهذا المقام فإن عجز عنه وشق عليه انتقل إلى مقام آخر وهو أن يعبد الله على أن الله يراه ويطلع على سره وعلانيته ولا يخفى عليه شيء من أمره .

    وقد وصى النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من أصحابه أن يعبدوا الله كأنهم يرونه ، منهم : ابن عمر ، وأبو ذر، ووصى معاذا أن يستحيي من الله كما يستحيي من رجل ذي هيبة من أهله . قال بعض السلف : من عمل لله على المشاهدة فهو عارف ، ومن عمل على مشاهدة الله إياه فهو مخلص . فهذان مقامان : أحدهما : مقام المراقبة ، وهو أن يستحضر العبد قرب الله منه واطلاعه عليه فيتخايل أنه لا يزال بين يدي الله فيراقبه في حركاته وسكناته وسره وعلانيته ، فهذا مقام المراقبين المخلصين ، وهو أدنى مقام الإحسان .

    والثاني : أن يشهد العبد بقلبه ذلك شهادة فيصير كأنه يرى الله ويشاهده ، وهذا نهاية مقام الإحسان ، وهو مقام العارفين . وحديث حارثه هو من هذا المعنى ؛ فإنه قال : كأني أنظر إلى عرش ربي بارزا ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وإلى أهل النار يتعاوون فيها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " عرفتَ فالزمْ : عبدٌ نوَّر اللهُ الإيمانَ في قلبه " . وهو حديث مرسل ، وقد روي مسندا بإسناد ضعيف . وكذلك قول ابن عمر لعروة لما خطب إليه ابنته في الطواف فلم يرد عليه ثم لقيه فاعتذر إليه وقال : كنا في الطواف نتخايل الله بين أعيننا . ومنه الأثر الذي ذكره الفضيل بن عياض : يقول الله : ما أنا مطلع على أحبائي إذا جهم الليل جعلت أبصارهم في قلوبهم ، ومثلت نفسي بين أعينهم فخاطبوني على المشاهدة وكلموني على حضوري .

    وبهذا فسر المثل الأعلى المذكور في قوله تعالى (وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض) [ الروم : 27 ] ومثله قوله تعالى (الله نور السموات والأرض مثل نوره كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ توقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم ) [ النور : 35] ، قال ابن كعب وغيره من السلف : مثل نوره في قلب المؤمن . ٌفمن وصل إلى هذا المقام فقد وصل إلى نهاية الإحسان وصار الإيمان لقلبه بمنـزلة العيان فعرف ربه وأنس به في خلوته وتنعم بذكره ومناجاته ودعائه حتى ربما استوحش من خلقه ، كما قال بعضهم : عجبت للخليقة كيف أنست بسواك ؟! بل عجبت للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر سواك . وقيل لآخر : أما تستوحش ؟! قال : كيف استوحش وهو يقول : أنا جليس من ذكرني ؟ وقيل لآخر : أما تستوحش وحدك ؟ قال : ويستوحش مع الله أحد ؟ ! وكان حبيب أبو محمد يخلو في بيته ويقول : من لم تقر عينه بك فلا قرت عينه ، ومن لم يأنس بك فلا أنس . وقال الفضيل : طوبى لمن استوحش من الناس وكان الله جليسه .

    وقال معروف لرجل : توكل على الله حتى يكون جليسك وأنيسك وموضع شكواك . وقال ذو النون : علامة المحبين لله : أن لا يأنسوا بسواه ولا يستوحشوا معه ، ثم قال : إذا سكن القلبَ حبُّ الله أنس بالله ؛ لأن الله أجل في صدور العارفين أن يحبوا غيره . وقوله صلى الله عليه وسلم " اعبد الله كأنك تراه " إشارة إلى أن العابد يتخيل ذلك في عبادته ، لا أنه يراه حقيقة لا ببصره ولا بقلبه . وأما من زعم أن القلوب تصل في الدنيا إلى رؤية الله عيانا كما تراه الأبصار في الآخرة – كما يزعم ذلك من يزعمه من الصوفية – فهو زعم باطل ؛ فإن هذا المقام هو الذي قال من قال من الصحابة كأبي ذر وابن عباس وغيرهما ، وروي عن عائشة – أيضا – أنه حصل للنبي صلى الله عليه وسلم مرتين . وروي في ذلك أحاديث مرفوعة – أيضا .

    وكذا قال جماعة من التابعين : إنه يراه بقلبه ، منهم الحسن ، وأبو العالية ، ومجاهد و وعبد الله بن الحارث بن نوفل ، وإبراهيم التيمي وغيرهم . فلو كان هؤلاء لا يعتقدون أن رؤية القلب مشتركة بين الأنبياء وغيرهم لم يكن في تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بذلك مزية له لا سيما وإنما قالوا : إنها حصلت له مرتين ؛ فإن هؤلاء الصوفية يزعمون أن رؤية القلب تصير حالا ومقاما دائما أو غالبا لهم ، ومن هنا ينشأ تفضيل الأولياء على الأنبياء ، ويتفرع على ذلك أنواع من الضلالات والمحالات والجهالات ، والله يهدي من يشاء إلى سراط مستقيم .

    فهذه المقامات الثلاث " الإسلام والإيمان والإحسان يشملها اسم الدين ، فمن استقام على الإسلام إلى موته عصمه الإسلام من الخلود في النار وإن دخلها بذنوبه ، ومن استقام ( 211 – ب / ف ) على الإحسان إلى الموت وصل على الله عز وجل ، وقال تعالى ( لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وزيادة)[ يونس : 26 ] وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة بالنظر إلى وجه الله ...



    7-(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ159 إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ) 160 آل عمران : )



    *ابن كثير يقول تعالى مخاطباً رسوله, ممتناً عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به قلبه على أمته المتبعين لأمره, التاركين لزجره, وأطاب لهم لفظه {فبما رحمة من الله لنت لهم} أي: أي شيء جعلك لهم ليناً, لولا رحمة الله بك وبهم, وقال قتادة {فبما رحمة من الله لنت لهم} يقول فبرحمة من الله لنت لهم, وما صلة, والعرب تصلها بالمعرفة كقوله {فبما نقضهم ميثاقهم} وبالنكرة كقوله: {عما قليل} وهكذا ههنا قال: {فبما رحمة من الله لنت لهم} أي برحمة من الله, وقال الحسن البصري هذا خلق محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله به, وهذه الاَية الكريمة شبيهة بقوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} وقال الإمام أحمد: حدثنا حيوة, حدثنا بقية, حدثنا محمد بن زياد, حدثني أبو راشد الحُبْراني قال: أخذ بيدي أبو أمامة الباهلي وقال: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «يا أبا أمامة إن مِن المؤمنين مَن يلين لي قلبه» تفرد به أحمد, ثم قال تعالى: {ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك} والفظ= الغليظ, والمراد به ههنا غليظ الكلام لقوله بعد ذلك {غليظ القلب} أي لو كنت سيء الكلام, قاسي القلب عليهم لا نفضوا عنك وتركوك, ولكن الله جمعهم عليك, وألان جانبك لهم تأليفاً لقلوبهم, كما قال عبد الله بن عمرو: «إني أرى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة إنه ليس بفظ, ولا غليظ, ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة, ولكن يعفو ويصفح», وقال أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي: أنبأنا بشر بن عبيد الدارمي, حدثنا عمار بن عبد الرحمن عن المسعودي عن ابن أبي مليكة, عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض» حديث غريب. ولهذا قال تعالى: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث تطييباً لقلوبهم ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه, كما شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير, فقالوا: يا رسول الله, لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك, ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك, ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون: ولكن نقول اذهب, فنحن معك, وبين يديك, وعن يمينك, وعن شمالك مقاتلون, وشاورهم أيضاً أين يكون المنزل, حتى أشار المنذر بن عمرو المُعْنق ليموت, بالتقدم إلى أمام القوم. وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو, فأشار جمهورهم بالخروج إليهم, فخرج إليهم وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ, فأبى ذلك عليه السعدان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة, فترك ذلك, وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين. فقال له الصديق: إنا لم نجىء لقتال أحد وإنما جئنا معتمرين, فأجابه إلى ما قال, وقال صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك «أشيروا عليّ معشر المسلمين في قوم أبنوا أهلي ورموهم, وايم الله ما علمت على أهلي من سوء وأبنوهم بمن ؟ والله ما علمت عليه إلا خيراً» واستشار علياً وأسامة في فراق عائشة رضي الله عنها. فكان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها وقد اختلف الفقهاء هل كان ذلك واجباً عليه أو من باب الندب تطييباً لقلوبهم ؟ على قولين. وقد قال الحاكم في مستدركه: أنبأنا أبو جعفر محمد بن محمد البغدادي, حدثنا يحيى بن أيوب العلاف بمصر, حدثنا سعيد بن أبي مريم, أنبأنا سفيان بن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن ابن عباس في قوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} قال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما, ثم قال: صحيح على شرط الشيخين, ولم يخرجاه, وكذا رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزلت في أبي بكر وعمر, وكانا حواريّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيريه, وأبوي المسلمين, وقد روى الإمام أحمد: حدثناوكيع, حدثنا عبد الحميد عن شهر بن حوشب, عن عبد الرحمن بن غنم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال لأبي بكر وعمر «لو اجتمعنا في مشورة ما خالفتكما» وروى ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزم ؟ فقال «مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم» وقد قال ابن ماجه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا يحيى بن بكير عن شيبان, عن عبد الملك بن عمير, عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «المستشار مؤتمن» ورواه أبو داود والترمذي, وحسنه النسائي من حديث عبد الملك بن عمير بأبسط من هذا. ثم قال ابن ماجه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة, حدثنا أسود بن عامر عن شريك, عن الأعمش, عن أبي عمرو الشيباني عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «المستشار مؤتمن» تفرد به. وقال أيضاً: حدثنا أبو بكر, حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة وعلي بن هاشم عن ابن أبي ليلى, عن أبي الزبير, عن جابر, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه» تفرد به أيضاً. وقوله تعالى: {فإذا عزمت فتوكل على الله} أي إذا شاورتهم في الأمر وعزمت عليه فتوكل على الله فيه {إن الله يحب المتوكلين} وقوله تعالى: {إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون} وهذه الاَية كما تقدم من قوله: {وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم} ثم أمرهم بالتوكل عليه, فقال {وعلى الله فليتوكل المؤمنون.}
    avatar
    د.محمودعبدالحكيم
    مشرف
    مشرف


    الجنس : ذكر
    الابراج : الثور
    عدد المساهمات : 333
    نقاط : 8657
    السٌّمعَة : 191
    تاريخ التسجيل : 24/07/2011
    العمر : 56
    الموقع : جمهورية مصر العربية
    أوسمه : عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار Ououo_21

    عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار Empty رد: عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار

    مُساهمة من طرف د.محمودعبدالحكيم الأحد 8 أبريل 2012 - 12:28

    وقال ابن أبي حاتم ذ قوله تعالى: ولو كنت فظا غليظ القلب = حدثنا ابي، ثنا احمد بن عبد الرحمن، ثنا عبد الله بن ابي جعفر عن ابيه، عن الربيع قوله: ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك اي: والله قد طهره من الفظاظة والغلظة، وجعله رحيما قريبا رؤوفا بالمؤمنين. وروي عن قتادة مثل ذلك. قوله تعالى: لانفضوا من حولك = حدثنا محمد بن العباس، ثنا محمد بن عمرو، ثنا سلمة قال محمد ابن اسحاق: لانفضوا من حولك اي لتركوك. قوله تعالى: فاعف عنهم = وبه قال محمد بن اسحاق: فاعف عنهم اي: تجاوز عنهم. قوله تعالى: واستغفر لهم = وبه قال محمد بن اسحاق: واستغفر لهم اي استغفر لهم ذنوبهم. قوله تعالى: وشاورهم في الامر = حدثنا يونس بن عبد الاعلى قراءة، انبا ابن وهب قال: سمعت سفيان بن عيينة يحدث عن معمر، عن ابن شهاب، عن ابي هريرة قال: ما رايت احدا اكثر مشورة لاصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم . = حدثنا ابي، ثنا عبد الله بن رجاء، انبا عمران القطان، عن الحسن في قوله: وشاورهم في الامر قال: والله ما تشاور قط الا عزم الله لهم بالرشد والذي ينفع =حدثنا ابو سعيد، ثنا وكيع، عن سفيان، عن رجل، عن الضحاك: في قوله: وشاورهم في الامر قال: ما امر الله نبيه بالمشورة الا لما يعلم فيها من الفضل. = حدثنا ابي، ثنا ابن ابي عمر، ثنا سفيان، عن ابن شبرمة، عن الحسن في قوله: وشاورهم في الامر قال: قد علم انه ليس به اليهم حاجة، وربما قال: ليس له اليهم حاجة، ولكن اراد ان يستنَّ به من بعده.= حدثنا ابي، ثنا احمد بن عبد الرحمن، ثنا عبد الله بن ابي جعفر عن ابيه عن الربيع بن انس قوله: وشاورهم في الامر قال: امر الله نبيه ان يشاور اصحابه في الامور، وهو ياتيه الوحي من السماء، لانه اطيب لانفسهم. = حدثنا محمد بن يحيى، انبا العباس بن يزيد، عن سعيد عن قتادة: مثل ذلك الا انه زاد: وان القوم اذا شاوروا بعضهم بعضا وارادوا بذلك وجه الله، عزم الله لهم على ارشده. = ذكر عن ابن المبارك، عن ابي اسماعيل يعني: جابر بن اسماعيل عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبيدة وشاورهم في الامر قال: في الحرب. = حدثنا محمد بن العباس، ثنا محمد بن عمرو، ثنا سلمة قال محمد بن اسحاق في قوله: وشاورهم في الامر اي لتريهم انك تسمع منهم وتستعين بهم، وان كنت غنيا عنهم، تؤلفهم بذلك على دينهم. الوجه الثاني: =حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، ثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو ابن دينار قال: قرا ابن عباس: وشاورهم في بعض الامر. قوله تعالى: فاذا عزمت = حدثنا ابي، ثنا عمر الدوري، ثنا ابو عمارة يعني: حمزة بن القاسم، عن ابي تميلة، عن ابي منيب قال: سمعت جابر بن زيد وابا نهيك قريا: فاذا عزمت لك يا محمد على امر فتوكل على الله. =وروي عن الربيع بن انس قال: امره الله اذا عزم على امر ان يمضي فيه. وروي عن قتادة مثل ذلك. = حدثنا محمد بن العباس، ثنا محمد بن عمرو زنيج، ثنا سلمة قال: قال محمد بن اسحاق قوله: فاذا عزمت على امر جاءك مني، او امر من دينك في جهاد عدوك لا يصلحك ولا يصلحهم الا ذلك، فامضِ على ما امرت به، على خلاف من خالفك، وموافقة من وافقك. قوله تعالى: فتوكل على الله = وبه قال محمد بن اسحاق: فتوكل على الله اي ارض به من العباد ان الله يحب المتوكلين.

    قوله تعالى: ان ينصركم الله فلا غالب لكم = وبه قال محمد بن اسحاق: ان ينصركم الله فلا غالب لكم اي ان ينصرك الله فلا غالب لكم من الناس، لن يضركم خذلان من خذلكم. قوله تعالى: وان يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده = وبه قال ابن اسحاق: اي لئلا تترك امري للناس، وارفض الناس لامري. قوله تعالى: وعلى الله فليتوكل المؤمنون = وبه قال ابن اسحاق: وعلى الله اي لا على الناس فليتوكل المؤمنون.







    * القرطبي الآية: 159 {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين}
    قوله: "ما" صلة فيها معنى التأكيد، أي فبرحمة؛ كقوله: "
    عما قليل" [المؤمنون: 40] "فبما نقضهم ميثاقهم" [النساء: 155] "جند ما هنالك مهزوم" [ص: 11]. وليست بزائدة على الإطلاق، وإنما أطلق عليها سيبويه معنى الزيادة من حيث زال عملها.. ابن كيسان: "ما" نكرة في موضع جر بالباء "ورحمة" بدل منها. ومعنى الآية: أنه عليه السلام لما رفق بمن تولى يوم أحد ولم يعنفهم بين الرب تعالى أنه إنما فعل ذلك بتوفيق الله تعالى إياه. وقيل: "ما" استفهام. والمعنى: فبأي رحمة من الله لنت لهم؛ فهو تعجيب. وفيه بعد؛ لأنه لو كان كذلك لكان "فبم" بغير ألف. "لنت" من لان يلين لينا وليانا بالفتح. والفظ الغليظ الجافي. فظظت تفظ فظاظة وفظاظا فأنت فظ. والأنثى فظة والجمع أفظاظ. وفي صفة النبي عليه السلام ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ـ وغلظ القلب عبارة عن تجهم الوجه، وقلة الانفعال في الرغائب، وقلة الإشفاق والرحمة، ومعنى "لانفضوا" لتفرقوا؛ فضضتهم فانفضوا، أي فرقتهم فتفرقوا؛ وأصل الفض الكسر؛ ومنه قولهم: لا يفضض الله فاك.. والمعنى: يا محمد لولا رفقك لمنعهم الاحتشام والهيبة من القرب منك بعد ما كان من توليهم.


    في قوله تعالى: "فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر" قال العلماء: أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ؛ وذلك أنه أمره بأن يعفو عنهم ما له في خاصته عليهم من تبعة؛ فلما صاروا في هذه الدرجة أمره أن يستغفر لهم فيما لله عليهم من تبعة أيضا، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلا للاستشارة في الأمور. قال أهل اللغة: الاستشارة مأخوذة من قول العرب: شرت الدابة وشورتها إذا علمت خبرها بجري أو غيره. ويقال للموضع الذي تركض فيه: مشوار. وقد يكون من قولهم: شرت العسل واشترته فهو مشور ومشتار إذا أخذته من موضعه،

    -قال ابن عطية: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام؛ من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب. هذا ما لا خلاف فيه. وقد مدح الله المؤمنين بقوله: "وأمرهم شورى بينهم" [الشورى: 38]. قال أعرابي: ما غبنت قط حتى يغبن قومي؛ قيل: وكيف ذلك؟ قال لا أفعل شيئا حتى أشاورهم. وقال ابن خويز منداد: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها. وكان يقال: ما ندم من استشار. وكان يقال: من أعجب برأيه ضل.

    قوله تعالى: "وشاورهم في الأمر" يدل على جواز الاجتهاد في الأمور والأخذ بالظنون مع إمكان الوحي؛ فإن الله أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم في ذلك. واختلف أهل التأويل في المعنى الذي أمر الله نبيه rأن يشاور فيه أصحابه؛ فقالت طائفة: ذلك في مكائد الحروب، وعند لقاء العدو، وتطييبا لنفوسهم، ورفعا لأقدارهم، وتألفا على دينهم، وإن كان الله تعالى قد أغناه عن رأيهم بوحيه. روي هذا عن قتادة والربيع وابن إسحاق والشافعي. قال الشافعي: هو كقوله (والبكر تستأمر) تطيبا لقلبها؛ لا أنه واجب. وقال مقاتل وقتادة والربيع: كانت سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شق عليهم: فأمر الله تعالى؛ نبيه عليه السلام أن يشاورهم في الأمر: فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم، وأطيب لنفوسهم. فإذا شاورهم عرفوا إكرامه لهم. وقال آخرون: ذلك فيما لم يأته فيه وحي. روي ذلك عن الحسن البصري والضحاك قالا: ما أمر الله تعالى نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم، وإنما أراد أن يعلمهم ما في المشاورة من الفضل، ولتقتدي به أمته من بعده. وفي قراءة ابن عباس: "وشاورهم في بعض الأمر"

    ولقد أحسن القائل:

    شاور صديقك في الخفي المشكل واقبل نصيحة ناصح متفضل

    فالله قــــد أوصى بذاك نبيه في قوله: (شاورهم)و (توكل)



    جاء في مصنف أبي داود عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المستشار مؤتمن). قال العلماء: وصفة المستشار إن كان في الأحكام أن يكون عالما دينا، وقلما يكون ذلك إلا في عاقل. قال الحسن: ما كمل دين امرئ ما لم يكمل عقله. فإذا استشير من هذه صفته واجتهد في الصلاح وبذل جهده فوقعت الإشارة خطأ فلا غرامة عليه؛ قاله الخطابي وغيره.

    وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلا مجربا وادا في المستشير.
    - والشورى بركة. وقال عليه السلام: (ما ندم من استشار ولا خاب من استخار). وروى سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما شقي قط عبد بمشورة وما سعد باستغناء رأي). وقال بعضهم: شاور من جرب الأمور؛ فإنه يعطيك من رأيه ما وقع عليه غاليا وأنت تأخذه مجانا. وقد جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة - وهي أعظم النوازل - شورى. قال البخاري: وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها. وقال سفيان الثوري: ليكن أهل مشورتك أهل التقوى والأمانة، ومن يخشى الله تعالى. وقال الحسن: والله ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم لأفضل ما يحضر بهم. وروي عن علّي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من قوم كانت لهم مشورة فحضر معهم من اسمه أحمد أو محمد فأدخلوه في مشورتهم إلا خير لهم
    ).
    -والشورى مبنية على اختلاف الآراء، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف، وينظر أقربها قولا إلى الكتاب والسنة إن أمكنه، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه عزم عليه وأنفذه متوكلا عليه، إذ هذه غاية الاجتهاد المطلوب؛ وبهذا أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية.


    قوله تعالى: "فإذا عزمت فتوكل على الله" قال قتادة: أمر الله تعالى نبيه rإذا عزم على أمر أن يمضي فيه ويتوكل على الله، لا على مشاورتهم. والعزم هو الأمر المُرَوَّى المنقَّح، وليس ركوب الرأي دون روِيَّة عزما، إلا على مقطع المشيحين من فتاك العرب

    - وقال النقاش: العزم والحزم واحد، والحاء مبدلة من العين. قال ابن عطية: وهذا خطأ؛ فالحزم جودة النظر في الأمر وتنقيحه والحذر من الخطأ فيه. والعزم قصد الإمضاء؛ والله تعالى يقول: "وشاورهم في الأم فإذا عزمت ". فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم. والعرب تقول: قد أحزم لو أعزم. وقرأ جعفر الصادق وجابر بن زيد: "فإذا عزمت" بضم التاء. نسب العزم إلى نفسه سبحانه إذ هو بهدايته وتوفيقه؛ كما قال: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" [الأنفال: 17]. ومعنى الكلام أي عزمت لك ووفقتك وأرشدتك "فتوكل على الله". والباقون بفتح التاء. قال المهلب: وامتثل هذا النبي صلى الله عليه وسلم من أمر ربه فقال: (لا ينبغي لنبي يلبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله). أي ليس ينبغي له إذا عزم أن ينصرف؛ لأنه نقض للتوكل الذي شرطه الله عز وجل مع العزيمة. فلبسه لأمته صلى الله عليه وسلم حين أشار عليه بالخروج يوم أحد من أكرمه الله بالشهادة فيه، وهم صلحاء المؤمنين ممن كان فاتته بدر: يا رسول الله اخرج بنا إلى عدونا؛ دال على العزيمة. وكان صلى الله عليه وسلم أشار بالقعود، وكذلك عبدالله بن أبي أشار بذلك وقال: أقم يا رسول الله ولا تخرج إليهم بالناس، فإن هم أقاموا أقاموا بشر مجلس، وإن جاؤونا إلى المدينة قاتلناهم في الأفنية وأفواه السكك، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من الآطام، فوالله ما حاربَنا قط عدوُّ في هذه المدينة إلا غلبناه، ولا خرجنا منها إلى عدو إلا غلبَنا. وأبى هذا الرأي من ذكرنا، وشجعوا الناس ودعوا إلى الحرب. فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة، ودخل إثر صلاته بيته ولبس سلاحه، فندم أولئك القوم وقالوا: أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما خرج عليهم في سلاحه قالوا: يا رسول الله، أقم إن شئت فإنا لا نريد أن نكرهك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي لنبي إذا لبس سلاحه أن يضعها حتى يقاتل).

    قوله تعالى: "فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين" التوكل: الاعتماد على الله مع إظهار العجز، والاسم التكلان. يقال منه: اتكلت عليه في أمري، وأصله: "أو تكلت" قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، ثم أبدلت منها التاء وأدغمت في تاء الافتعال. ويقال: وكلته بأمري توكيلا، والاسم الوكالة بكسر الواو وفتحها.
    واختلف العلماء في التوكل؛ فقالت طائفة من المتصوفة: لا يستحقه إلا من لم يخالط قلبه خوف غير الله من سبع أو غيره، وحتى يترك السعي في طلب الرزق لضمان الله تعالى. وقال عامة الفقهاء: ما تقدم ذكره عند قوله تعالى: "
    وعلى الله فليتوكل المؤمنون" [آل عمران: 160]. وهو الصحيح كما بيناه. وقد خاف موسى وهارون بإخبار الله تعالى عنهما في قوله "لا تخافا". وقال: "فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف" [طه: 67 - 68]. وأخبر عن إبراهيم بقوله: "فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف
    " [هود: 70]. فإذا كان الخليل وموسى والكليم قد خافا - وحسبك بهما - فغيرهما أولى. وسيأتي بيان هذا المعنى.
    الآية: 160 {
    إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون
    }
    قوله تعالى:
    "إن ينصركم الله فلا غالب لكم" أي عليه توكلوا فإنه إن يعنكم ويمنعكم من عدوكم لن تُغلبوا. "وإن يخذلكم" يترككم من معونته. "فمن ذا الذي ينصركم من بعده" أي لا ينصركم أحد من بعده، أي من بعد خذلانه إياكم؛ لأنه قال: "وإن يخذلكم" والخذلان ترك العون. والمخذول: المتروك لا يعبأ به. وخذلت الوحشية أقامت على ولدها في المرعى وتركت صواحباتها؛ فهي خذول


    -وقيل: هذا من المقلوب؛ لأنها هي المخذولة إذا تركت. وتخاذلت رجلاه إذا ضعفتا. قال: وخذول الرجل من غير كسح ورجل خذلة للذي لا يزال يخذل. والله أعلم.



    وقال عند تفسير قوله تعالى : "( وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران : 122 )122 فيه مسألة واحدة، وهي بيان التوكل. والتوكل في اللغة إظهار العجز والاعتماد على الغير. وواكل فلان إذا ضَيّع أمره متكلا على غيره.
    واختلف العلماء في حقيقة التوكل؛ فسئل عنه سهل بن عبدالله فقال: قالت فرقة الرضا بالضمان، وقطع الطمع من المخلوقين. وقال قوم: التوكل ترك الأسباب والركون إلى مسبب الأسباب؛ فإذا شغله السبب عن المسبب زا
    ل عنه اسم التوكل. قال سهل: من قال إن التوكل يكون بترك السبب فقد طعن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله عز وجل يقول: "فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا" [الأنفال: 69] فالغنيمة اكتساب. وقال تعالى: "فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان" [الأنفال: 12] فهذا عمل. وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله يحب العبد المحترف). وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرضون على السِرية. وقال غيره: وهذا قول عامة الفقهاء، وأن التوكل على الله هو الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه ماض، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم في السعي فيما لا بد منه من الأسباب من مطعم ومشرب وتحرز من عدو وإعداد الأسلحة واستعمال ما تقتضيه سنة الله تعالى المعتادة. وإلى هذا ذهب محققو الصوفية، لكنه لا يستحق اسم التوكل عندهم مع الطمأنينة إلى تلك الأسباب والالتفات إليها بالقلوب؛ فإنها لا تجلب نفعا ولا تدفع ضرا، بل السبب والمسبب فعل الله تعالى، والكل منه وبمشيئته؛ ومتى وقع من المتوكل ركون إلى تلك الأسباب فقد انسلخ عن ذلك الاسم. ثم المتوكلون على حالين: الأول: حال المتمكن في التوكل فلا يلتفت إلى شيء من تلك الأسباب بقلبه، ولا يتعاطاه إلا بحكم الأمر. الثاني: حال غير المتمكن وهو الذي يقع له الالتفات إلى تلك الأسباب أحيانا غير أنه يدفعها عن نفسه بالطرق العلمية، والبراهين القطعية، والأذواق الحالية؛ فلا يزال كذلك إلى أن يرقيه الله بجوده إلى مقام المتوكلين المتمكنين، ويلحقه بدرجات العارفين.




    فـــــــــــــصـــــــــــــــــل

    الـــــــــتَّــــــــوَكّــــــــُل = وقفة مع ابن تيمية رحمه الله =



    ***ومن تحقيق التوحيد‏:‏ أن يعلم أن الله ـ تعالى ـ أثبت له حقًا لا يشركه فيه مخلوق، كالعبادة والتوكل، والخوف والخشية، والتقوى، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إلهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 22‏]‏‏.‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 2‏]‏‏.‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 11‏]‏‏.‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏الشاكرين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 64-66‏]‏‏.‏، وكل من الرسل يقول لقومه‏:‏ ‏{‏اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 61‏]‏‏

    ***وقد قال تعالى في التوكل‏:‏ ‏{‏وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 23‏]‏‏.‏، ‏{‏وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 38‏]‏‏.‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إلى اللّهِ رَاغِبُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 59‏]‏‏.

    فقال في الإتيان‏:‏ ‏{‏مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ‏}‏، وقال في التوكل‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ‏}‏ ولم يقل‏:‏ ورسوله؛ لأن الإتيان هو الإعطاء الشرعي، وذلك يتضمن الإباحة والإحلال، الذي بلغه الرسول، فإن الحلال ما أحله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏‏ وأما الحسب فهو الكافي، والله وحده كافٍ عبده، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏‏.‏، فهو وحده حسبهم كلهم، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 64‏]‏‏.‏، أي حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين هو الله، فهو كافيكم كلكم، وليس المراد أن الله والمؤمنين حسبك، كما يظنه بعض الغالطين؛ إذ هو وحده كافٍ نبيه، وهو حسبه، ليس معه من يكون هو وإياه حسبا للرسول....



    ***قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا‏}‏‏[‏الأنفال‏:‏2-4‏]‏‏.‏هذا كله واجب؛ فإن التوكل على اللّه واجب من أعظم الواجبات، كما أن الإخلاص للّه واجب، وحب اللّه ورسوله واجب‏.‏ وقد أمر اللّه بالتوكل في غير آية أعظم مما أمر بالوضوء والغسل من الجنابة، ونهى عن التوكل على غير اللّه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ‏}‏‏[‏هود‏:‏123‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏13‏]‏،وقال تعالى‏:‏‏{‏ إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏160‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏84‏]‏‏.‏



    ***الحمد لله رب العالمين‏.‏ اسم الإيمان يستعمل مطلقًا، ويستعمل مقيدًا، وإذا استعمل مطلقًا، فجميع ما يحبه الله ورسوله من أقوال العبد وأعماله الباطنة والظاهرة، يدخل في مسمى الإيمان عند عامة السلف والأئمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، الذين يجعلون الإيمان قولاً وعملاً، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ويدخلون جميع الطاعات فرضها ونفلها في مسماه، وهذا مذهب الجماهير من أهل الحديث والتصوف والكلام والفقه، من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم‏

    ويدخل في ذلك ما قد يسمى مقامًا وحالاً؛ مثل الصبر والشكر والخوف والرجاء والتوكل والرضا والخشية والإنابة والإخلاص والتوحيد وغير ذلك‏.‏



    ***سئل الشيخ الإمام العلامة أبو العباس أحمد بن تيمية ـ رضي الله عنه ـ عن قول علي ـ رضي الله عنه ـ‏:‏ لا يرجون عبد إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه، ما معنى ذلك‏؟‏

    فأجاب‏:‏

    الحمد لله، هذا الكلام يؤثر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وهو من أحسن الكلام، وأبلغه وأتمه؛ فإن الرجاء يكون للخير، والخوف يكون من الشر، والعبد إنما يصيبه الشر بذنوبه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا‏.‏ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 78، 79‏]‏‏.‏

    فإن كثيرًا من الناس يظن أن المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية الطاعات والمعاصي‏.‏



    ثم المثبتة للقدر يحتجون بقوله‏:‏ ‏{‏كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏}‏ فيعارضهم قوله‏:‏ ‏{‏مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ‏}‏، ونفاة القدر يحتجون بهذه الثانية مع غلطهم في ذلك؛ فإن مذهبهم‏:‏ أن العبد يخلق جميع أعماله، ويعارضهم قوله‏:‏ ‏{‏كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏}‏‏.‏

    وإنما غلط كلا الفريقين؛ لما تقدم من ظنهم أن الحسنات والسيئات هي الطاعات والمعاصي، وإنما الحسنات والسيئات في هذه الآية النعم والمصائب، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 168‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 131‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 120]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 9‏]‏ ونحو ذلك، وهذا كثير‏.‏

    وهذه الآية ذم الله بها المنافقين الذين ينكلون عما أمر الله به من الجهاد وغيره، فإذا نالهم رزق ونصر وعافية قالوا‏:‏ هذا من عند الله، وإن نالهم فقر وذل ومرض قالوا‏:‏ هذا من عندك ـ يا محمد ـ بسبب الدين الذي أمرتنا به، كما قال قوم فرعون لموسى، وذكر الله ذلك عنهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 131‏]‏،وكما قال الكفار لرسل عيسى‏:‏ ‏{‏إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 18‏]‏‏.‏

    فالكفار والمنافقون إذا أصابتهم المصائب بذنوبهم تطيروا بالمؤمنين،فبين الله ـ سبحانه ـ أن الحسنة من الله ينعم بها عليهم، وأن السيئة إنما تصيبهم بذنوبهم؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 33‏]‏، فأخبر أنه لا يعذب مستغفرًا؛ لأن الاستغفار يمحو الذنب الذي هو سبب العذاب، فيندفع العذاب، كما في سنن أبي داود وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من أكثر الاستغفار، جعل الله له من كل هم فَرَجًا، ومن كل ضِيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب‏)‏، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ‏.‏ وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ‏}‏ ‏[‏ هود‏:‏ 2، 3‏]‏‏.‏

    فبين‏:‏ أن من وحده واستغفره متعه متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى، ومن عمل بعد ذلك خيرًا زاده من فضله، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏يقول الشيطان‏:‏ أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله، والاستغفار‏)‏، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا‏.‏

    ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ‏.‏ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 42، 43‏]‏، أي‏:‏ فهلا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا، فحقهم عند مجىء البأس التضرع، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 76‏]‏‏.‏ قال عمر بن عبد العزيز‏:‏ ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ‏.‏ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173- 175‏]‏‏.‏

    فنهى المؤمنين عن خوف أولياء الشيطان، وأمرهم بخوفه، وخوفه يوجب فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، والاستغفار من الذنوب، وحينئذ يندفع البلاء وينتصر على الأعداء، فلهذا قال علي رضي الله عنه‏:‏ لا يخافن عبد إلا ذنبه، وإن سلط عليه مخلوق فما سلط عليه إلا بذنوبه، فليخف الله، وليتب من ذنوبه التي ناله بها ما ناله، كما في الأثر‏:‏ ‏(‏ يقول الله‏:‏ أنا الله، مالك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، من أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشتغلوا بسب الملوك، وأطيعوني أعطف قلوبهم عليكم‏)‏‏.‏

    أما قوله‏:‏ لا يرجون عبد إلا ربه‏.‏ فإن الراجي يطلب حصول الخير ودفع الشر، ولا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يذهب السيئات إلا الله ‏{‏وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 107‏]‏، ‏{‏مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 2‏]‏، والرجاء مقرون بالتوكل، فإن المتوكل يطلب ما رجاه من حصول المنفعة ودفع المضرة، والتوكل لا يجوز إلا على الله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 23‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 12‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 160‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 59‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏}‏ ‏[‏ آل عمران‏:‏ 173‏]‏‏.‏

    فهؤلاء قالوا‏:‏ حسبنا الله، أي‏:‏ كافينا الله في دفع البلاء، وأولئك أمروا أن يقولوا‏:‏ حسبنا في جلب النعماء، فهو ـ سبحانه ـ كاف عبده في إزالة الشر وفي إنالة الخير،{ أليس الله بكاف عبده}، ومن توكل على غير الله ورجاه، خذل من جهته وحرم، ‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 41‏]‏، ‏{‏وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ‏.‏ كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 81، 82‏]‏، ‏{‏وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 31‏]‏، ‏{‏لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 22‏]‏، وقال الخليل‏:‏ ‏{‏فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 17‏]‏‏.‏

    فمن عمل لغير الله رجاء أن ينتفع بما عمل له، كانت صفقته خاسرة، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 39‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 18‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 23‏]‏،وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏}‏ ‏
    avatar
    د.محمودعبدالحكيم
    مشرف
    مشرف


    الجنس : ذكر
    الابراج : الثور
    عدد المساهمات : 333
    نقاط : 8657
    السٌّمعَة : 191
    تاريخ التسجيل : 24/07/2011
    العمر : 56
    الموقع : جمهورية مصر العربية
    أوسمه : عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار Ououo_21

    عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار Empty رد: عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار

    مُساهمة من طرف د.محمودعبدالحكيم الأحد 8 أبريل 2012 - 12:37

    كما قيل في تفسيرها‏:‏ كل عمل باطل إلا ما أريد به وجهه، فمن عمل لغير الله ورجاه بطل سعيه، والراجي يكون راجيًا تارة بعمل يعمله لمن يرجوه، وتارة باعتماد قلبه عليه والتجائه إليه وسؤاله، فذاك نوع من العبادة له، وهذا نوع من الاستعانة به،، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 30‏]‏‏.‏

    ومما يوضح ذلك‏:‏ أن كل خير ونعمة تنال العبد فإنما هي من الله، وكل شر ومصيبة تندفع عنه أو تكشف عنه، فإنما يمنعها الله، وإنما يكشفها الله، وإذا جرى ما جرى من أسبابها على يد خلقه، فالله ـ سبحانه ـ هو خالق الأسباب كلها سواء كانت الأسباب حركة حي باختياره وقصده، كما يحدثه تعالى بحركة الملائكة والجن والإنس والبهائم، أو حركة جماد بما جعل الله فيه من الطبع، أو بقاسر يقسره كحركة الرياح والمياه ونحو ذلك، فالله خالق ذلك كله، فإنه لا حول ولا قوة إلا به، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فالرجاء يجب أن يكون كله للرب، والتوكل عليه والدعاء له، فإنه إن شاء ذلك ويسره كان وتيسر، ولو لم يشأ الناس، وإن لم يشأه ولم ييسره لم يكن، وإن شاءه الناس‏.‏

    وهذا واجب لو كان شيء من الأسباب مستقلا بالمطلوب، فإنه لو قدر مستقلا بالمطلوب ـ وإنما يكون بمشيئة الله وتيسيره ـ لكان الواجب ألا يرجى إلا الله، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يسأل إلا هو، ولا يستعان إلا به، ولا يستغاث إلا هو، فله الحمد وإليه المشتكى، وهو المستعان، وهو المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا به، فكيف وليس شيء من الأسباب مستقلاً بمطلوب، بل لابد من انضمام أسباب أخر إليه، ولابد أيضًا من صرف الموانع والمعارضات عنه، حتى يحصل المقصود‏.‏...



    ومن عرف هذا حق المعرفة، انفتح له باب توحيد الله، وعلم أنه لا يستحق لأن يدعى غيره فضلاً عن أن يعبد غيره، ولا يتوكل على غيره، ولا يرجى غيره، وهذا مبرهن بالشرع والعقل، ولا فرق في ذلك بين الأسباب العلوية والسفلية، وأفعال الملائكة والأنبياء والمؤمنين وشفاعتهم وغير ذلك من الأسباب، فإن من توكل في الشفاعة أو الدعاء على ملك أو نبي أو رجل صالح أو نحو ذلك قيل له‏:‏ هذا أيضًا سبب من الأسباب فهذا الشافع والداعي لا يفعل ذلك إلا بمشيئة الله وقدرته، بل شفاعة أهل طاعته لا تكون إلا لمن يرضاه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 28‏]‏‏.‏

    فليس أحد يشفع عنده إلا بإذنه الإذن القدري الكوني، فإن شفاعته من جهة أفعال العباد لا تكون إلا بمشيئته وقدرته، فليس كالمخلوق الذي يشفع إليه شافع تكون شفاعته بغير حول المشفوع إليه وقوته، بل هو ـ سبحانه ـ خالق شفاعة الشافع كسائر التحولات، ولا حول ولا قوة إلا به، والحول يتضمن التحول من حال إلى حال بحركة أو إرادة أو غير ذلك، فالشافع لا حول له في الشفاعة ولا غيرها إلا به، ثم أهل طاعته الذين تقبل شفاعتهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى، فلا يطلبون منه ما لا يحب أن يطلب منه، بل الملائكة الذين هم ملائكته كما قال فيهم‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ‏.‏ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ‏.‏ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26-28‏]‏‏.‏





    + والرب الذي يدعي ويسأل ويرجى ويتوكل عليه لابد أن يكون قيومًا يقيم العبد في جميع الأوقات والأحوال كما قال‏:‏‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 58‏]‏، وقال‏:‏‏{‏اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255،آل عمران‏:‏ 2‏]‏، فهذا وغيره من أنواع النظر والاعتبار يوجب أن العبد لا يرجو إلا الله ولا يتوكل إلا عليه‏.‏



    ***وأما كونه لا يخاف إلا ذنبه، فلما علم من أنه لا تصيبه مصيبة إلا بذنوبه، وهذا يعلم بآيات الآفاق والأنفس، وبما أخبر في كتابه كما هو مبسوط في غير هذا الموضع، وبينا سر ذلك بما لا يحتمله هذا الموضع‏.‏

    وهذا تحقيق ما ثبت في الحديث الصحيح الإلهي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه أنه قال‏:‏ ‏(‏يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه‏)‏‏.‏ فبين أن كل ما يجده العبد من الخير فليحمد الله عليه، فإن الله هو الذي أنعم به، وإن ما يجده من الشر فلا يلومن فيه إلا نفسه‏.‏

    وفي الصحيح ـ أيضًا ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏سيد الاستغفار أن يقول العبد‏:‏ اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت‏)‏، فقوله‏:‏ ‏(‏أبوء لك بنعمتك عليَّ‏)‏ اعتراف وإقرار بالنعمة، وقوله‏:‏ ‏(‏وأبوء بذنبي‏)‏ إقرار بالذنب؛ ولهذا قال من قال من السلف‏:‏ إني أصبح بين نعمة وذنب فأريد أن أحدث بالنعمة شكرًا وللذنب استغفارًا، لكن الشكر يكون بعد النعمة والتوكل والرجاء يكون قبل النعمة، كما قال الخليل‏:‏ ‏{‏فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏17‏]‏، وفي خطبة النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا‏)‏، فجمع بين حمده والاستعانة به والاستغفار له، فقد تبين أن الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، وهو ظلم وجهل، وهذه حال من دعا غير الله وتوكل عليه‏.‏

    ++وكذلك الدعاء والتوكل من أعظم الأسباب لما جعله الله سببًا له، فمن قال‏:‏ ما قدر لي فهو يحصل لي دعوت أو لم أدع، وتوكلت أو لم أتوكل، فهو بمنزلة من يقول‏:‏ ما قسم لي من السعادة والشقاوة فهو يحصل لي آمنت أو لم أؤمن، وأطعت أم عصيت، ومعلوم أن هذا ضلال وكفر، وإن كان الأول ليس مثل هذا في الضلال؛ إذ ليس تعليق المقاصد بالدعاء والتوكل كتعليق سعادة الآخرة بالإيمان، لكن لا ريب أن ما جعل الله الدعاء سببًا له، فهو بمنزلة ما جعل العمل الصالح سببًا له، وهو قادر على أن يفعله ـ سبحانه ـ بدون هذا السبب، وقد يفعله بسبب آخر‏.‏

    وكذلك من ترك الأسباب المشروعة المأمور بها أمر إيجاب أو استحباب من جلب المنافع أو دفع المضار قادح في الشرع خارج عن العقل، ومن هنا غلطوا في ترك الأسباب المأمور بها، وظنوا أن هذا من تمام التوكل، والتوكل مقرون بالعبادة في قوله‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏123‏]‏، والعبادة فعل المأمور، فمن ترك العبادة المأمور بها وتوكل، لم يكن أحسن حالا ممن عبده ولم يتوكل عليه، بل كلاهما عاص لله تاركًا لبعض ما أمر به‏.‏

    -والتوكل يتناول التوكل عليه ليعينه على فعل ما أمر، والتوكل عليه ليعطيه ما لا يقدر العبد عليه، فالاستعانة تكون على الأعمال، وأما التوكل فأعم من ذلك ويكون التوكل عليه لجلب المنفعة ودفع المضرة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏59‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏‏.‏

    فمن لم يفعل ما أمر به، لم يكن مستعينًا بالله على ذلك، فيكون قد ترك العبادة والاستعانة عليها بترك التوكل في هذا الموضع أيضًا، وآخر يتوكل بلا فعل مأمور وهذا هو العجز المذموم، كما في سنن أبي داود‏:‏ أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحكم على أحدهما فقال المقضي عليه‏:‏ حسبى الله ونعم الوكيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإن غلبك أمر فقل‏:‏ حسبى الله ونعم الوكيل‏)‏، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شىء فلا تقل‏:‏ لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل‏:‏ قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان‏)‏‏.‏

    \\فإن الإنسان ليس مأمورًا أن ينظر إلى القدر عندما يؤمر به من الأفعال، ولكن عندما يجري عليه من المصائب التي لا حيلة له في دفعها، فما أصابك بفعل الآدميين أو بغير فعلهم، اصبر عليه وارض وسلم، قال تعالى‏:‏‏{‏مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏11‏]‏‏.‏ قال بعض السلف ـ إما ابن مسعود وإما علقمة ـ‏:‏ هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم‏.‏

    ***وكذلك من غلط فترك الدعاء أو ترك الاستعانة والتوكل ظانًا أن ذلك من مقامات الخاصة ناظرًا إلى القدر، فكل هؤلاء جاهلون ضالون؛ ويشهد لهذا ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل‏:‏ لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل‏:‏ قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان‏)‏‏.

    فأمره بالحرص على ما ينفعه، والاستعانة بالله، ونهاه عن العجز الذي هو الاتكال على القدر، ثم أمره إذا أصابه شيء ألا ييأس على ما فاته، بل ينظر إلى القدر ويسلم الأمر لله، فإنه هنا لا يقدر على غير ذلك وكما قال بعض العقلاء‏:‏ الأمور أمران‏:‏ أمر فيه حيلة، وأمر لا حيلة فيه، فما فيه حيلة لا يعجز عنه، وما لا حيلة فيه لا يجزع منه‏.‏

    وفي سنن أبي داود أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى على أحدهما، فقال المقضي عليه‏:‏ حسبنا الله ونعم الوكيل، فقال‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر فقل‏:‏ حسبي الله ونعم الوكيل‏)‏، وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانيَّ‏)‏ ‏.‏ رواه ابن ماجه والترمذي وقال‏:‏ حديث حسن‏

    وعن شدّاد بن أوس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الكَيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله عز وجل‏.‏ )ومن الناس من يصحفه فيقول‏:‏ الفاجر، وإنما هو العاجز في مقابلة الكيس، كما في الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏كل شيء بقدر حتى العجز والكيس‏)‏‏



    * وسئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ـ قدس الله روحه ـ عما قاله أبو حامد الغزالي ـ في كتابه المعروف بـ ‏[‏منهاج العابدين‏]‏ في زاد الآخرة من العقبة الرابعة‏:‏ وهي العوارض، بعد كلام تقدم في التوكل بأن الرزق مضمون ـ قال‏:‏ فإن قيل‏:‏ هل يلزم العبد طلب الرزق بحال، فاعلم أن الرزق المضمون، هو الغذاء والقوام، فلا يمكن طلبه إذ هو شيء من فعل الله بالعبد كالحياة والموت، لا يقدر العبد على تحصيله ولا دفعه‏.‏

    وأما المقسوم من الأسباب، فلا يلزم العبد طلبه، إذ لا حاجة للعبد إلى ذلك، إنما حاجته إلى المضمون وهو من الله وفي ضمان الله‏.‏

    وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَابْتَغُوا مِنْ فَضْل ِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 10‏]‏، المراد به العلم والثواب وقيل‏:‏ بل هو رخصة إذ هو أمر وارد بعد الحظر، فيكون بمعنى الإباحة، لا بمعنى الإيجاب والإلزام‏.‏

    فإن قيل‏:‏ لكن هذا الرزق المضمون له أسباب، هل يلزم منا طلب الأسباب‏؟‏ قيل‏:‏ لا يلزم منك طلب ذلك، إذ لا حاجة بالعبد إليه، إذ الله سبحانه يفعل بالسبب، وبغير السبب، فمن أين يلزمنا طلب السبب‏؟‏ ثم إن الله ضمن ضمانًا مطلقًا من غير شرط الطلب والكسب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 6‏]‏‏.‏

    ثم كيف يصح أن يأمر العبد بطلب ما لا يعرف مكانه فيطلبه؛ إذ لا يعرف أي سبب منها رزقه يتناوله لا عرف الذي صير سبب غذائه وتربيته لا غير ، فالواحد منا لا يعرف ذلك السبب بعينه، من أين حصل له‏؟‏ فلا يصح تكليفه، فتأمل ـ راشدًا ـ فإنه بين، ثم حسبك أن الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ والأولياء المتوكلين لم يطلبوا الرزق في الأكثر والأعم، وتجردوا للعبادة، وبإجماع أنهم لم يكونوا تاركين لأمر الله تعالى، ولا عاصين له في ذلك، فليس لك أن تطلب الرزق وأسبابه بأمر لازم للعبد‏.‏

    فما الفرق بين هذا الكلام من هذا الإمام، والمنصوص عليه في كتب الأئمة، كالفقه وغيره‏؟‏ وهو أن العبد يجب عليه طلب الرزق، وطلب سببه، وأبلغ من ذلك أن العبد لو احتاج إلى الرزق ووجده عند غيره فاضلاً عنه، وجب عليه طلبه منه، فإن منعه قهره، وإن قتله‏.‏ فهل هذا الذي نص عليه في المنهاج يختص بأحد دون أحد‏؟‏ فأوضحوا لنا ما أشكل علينا من تناقض الكلامين، مثابين، مأجورين، وابسطوا لنا القول‏.‏

    فأجاب ـ رضي الله عنه‏:‏

    الحمد لله رب العالمين، هذا الذي ذكره أبو حامد قد ذهب إليه طائفة من الناس، ولكن أئمة المسلمين وجمهورهم على خلاف هذا، وأن الكسب يكون واجبا تارة، ومستحبا تارة، ومكروهًا تارة، ومباحًا تارة، ، ومحرمًا تارة، فلا يجوز إطلاق القول بأنه لم يكن منه شيء واجب، كما أنه لا يجوز إطلاق القول بأنه ليس منه شيء محرم‏.‏

    والسبب الذي أمر العبد به أمر إيجاب أو أمر استحباب هو عبادة الله وطاعته له ولرسوله‏.‏ والله فرض على العباد أن يعبدوه ويتوكلوا عليه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ‏.‏ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 8، 9‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ‏.‏ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2، 3‏]‏، والتقوى تجمع فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه‏.‏ ويروي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يا أبا ذر، لو عمل الناس كلهم بهذه الآية لوسعتهم‏)‏‏.‏

    ولهذا قال بعض السلف‏:‏ ما احتاج تقي قط‏.‏ يقول‏:‏ إن الله ضمن للمتقين أن يجعل لهم مخرجًا مما يضيق على الناس، وأن يرزقهم، من حيث لا يحتسبون، فيدفع عنهم ما يضرهم، ويجلب لهم ما يحتاجون إليه، فإذا لم يحصل ذلك دل على أن في التقوى خللا، فليستغفر الله وليتب إليه، ولهذا جاء في الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي أنه قال‏:‏ ‏(‏من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب‏)‏‏.‏

    والمقصود‏:‏ أن الله لم يأمر بالتوكل فقط، بل أمر مع التوكل بعبادته وتقواه التي تتضمن فعل ما أمر، وترك ما حذر، فمن ظن أنه يُرضي ربه بالتوكل بدون فعل ما أمر به كان ضالا، كما أن من ظن أنه يقوم بما يُرضي الله عليه دون التوكل، كان ضالا، بل فعل العبادة التي أمر الله بها فرض‏.‏

    وإذا أطلق لفظ العبادة دخل فيها التوكل، وإذا قرن أحدهما بالآخر، كان للتوكل اسم يخصه‏.‏ كما في نظائر ذلك مثل التقوى وطاعة الرسول، فإن التقوى إذا أطلقت دخل فيها طاعة الرسول ‏.‏ وقد يعطف أحدهما على الآخر؛ كقول نوح عليه السلام‏:‏ ‏{‏ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 70‏]‏ وأمثال ذلك‏.‏

    وقد جمع الله بين عبادته والتوكل عليه في مواضع؛ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 30‏]‏، وقول شعيب‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 88‏]‏، فإن الإنابة إلى الله والمتاب هو الرجوع إليه بعبادته وطاعته، وطاعة رسوله، والعبد لا يكون مطيعًا لله ورسوله ـ فضلاً أن يكون من خواص أوليائه المتقين ـ إلا بفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، ويدخل في ذلك التوكل‏.‏

    وأما من ظن أن التوكل يغني عن الأسباب المأمور بها ، فهو ضال، وهذا كمن ظن أنه يتوكل على ما قدر عليه من السعادة والشقاوة بدون أن يفعل ما أمره الله‏.‏

    وهذه المسألة مما سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة والنار‏"‏ فقيل‏:‏ يا رسول الله، أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا ‏!‏ اعملوا فكل ميسر لما خلق له‏)‏ وكذلك في الصحيحين عنه أنه قيل له‏:‏ أرأيت ما يعمل الناس فيه ويكدحون، أفيما جفت الأقلام، وطويت الصحف‏؟‏ ولما قيل له‏:‏ أفلا نتكل على الكتاب ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له‏)‏

    وبين صلى الله عليه وسلم أن الأسباب المخلوقة والمشروعة ، هي من القدر، فقيل له‏:‏ أرأيت رقى نسترقى بها‏؟‏ وتقى نتقى بها‏؟‏ وأدوية نتداوى بها هل ترد من قدر الله شيئًا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏هي من قدر الله‏)‏‏.‏

    فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب المأمور بها قدح في الشرع، فعلى العبد أن يكون قلبه معتمدًا على الله، لا على سبب من الأسباب، والله ييسر له من الأسباب ما يصلحه في الدنيا والآخرة، فإن كانت الأسباب مقدورة له وهو مأمور بها فعلها مع التوكل على الله، كما يؤدي الفرائض، وكما يجاهد العدو، ويحمل السلاح ويلبس جنة الحرب، ولا يكتفي في دفع العدو على مجرد توكله بدون أن يفعل ما أمر به من الجهاد، ومن ترك الأسباب المأمور بها، فهو عاجز مفرط مذموم‏.‏

    وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزنَّ، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل‏:‏ قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان‏)‏، وفي سنن أبي داود‏:‏ أن رجلين تحاكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى على أحدهما، فقال المقضي عليه‏:‏ حسبنا الله ونعم الوكيل، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإن غلبك أمر، فقل‏:‏ حسبنا الله ونعم الوكيل‏)‏‏.‏

    وقد تكلم الناس في حمل الزاد في الحج وغيره من الأسفار، فالذي مضت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان، وأكابر المشائخ هو حمل الزاد لما في ذلك من طاعة الله ورسوله، وانتفاع الحامل ونفعه للناس‏.‏

    وزعمت طائفة أن من تمام التوكل ألا يحمل الزاد، وقد رد الأكابر هذا القول كما رده الحارث المحاسبي في ‏"‏كتاب التوكل‏"‏ وحكاه عن شقيق البلخي، وبالغ في الرد على من قال بذلك، وذكر من الحجج عليهم ما يبين به غلطهم وأنهم غالطون في معرفة حقيقة التوكل، وأنهم عاصون لله بما يتركون من طاعته، وقد حُكي لأحمد بن حنبل أن بعض الغلاة الجهال بحقيقة التوكل كان إذا وضع له الطعام لم يمد يده حتى يوضع في فمه، وإذا وضع يطبق فمه حتى يفتحوه، ويدخلوا فيه الطعام، فأنكر ذلك أشد الإنكار، ومن هؤلاء من حرم المكاسب‏.‏

    وهذا وأمثاله من قلة العلم بسنة الله في خلقه وأمره، فإن الله خلق المخلوقات بأسباب، وشرع للعباد أسبابًا ينالون بها مغفرته، ورحمته، وثوابه في الدنيا والآخرة، فمن ظن أنه بمجرد توكله مع تركه ما أمره الله به من الأسباب يحصل مطلوبه، وأن المطالب لا تتوقف على الأسباب التي جعلها الله أسبابًا لها، فهو غالط، فالله سبحانه، وإن كان قد ضمن للعبد رزقه وهو لابد أن يرزقه ما عمر، فهذا لا يمنع أن يكون ذلك الرزق المضمون له أسباب تحصل من فعل العبد وغير فعله‏.‏

    وأيضًا، فقد يرزقه حلالاً وحرامًا، فإذا فعل ما أمره به رزقه حلالاً، وإذا ترك ما أمره به، فقد يرزقه من حرام‏.‏

    ومن هذا الباب‏:‏ الدعاء والتوكل، فقد ظن بعض الناس أن ذلك لا تأثير له في حصول مطلوب، ولا دفع مرهوب، ولكنه عبادة محضة، ولكن ما حصل به حصل بدونه، وظن آخرون أن ذلك مجرد علامة، والصواب الذي عليه السلف والأئمة والجمهور، أن ذلك من أعظم الأسباب التي تنال بها سعادة الدنيا والآخرة‏.‏

    وما قدره الله بالدعاء، والتوكل، والكسب، وغير ذلك من الأسباب، إذا قال القائل فلو لم يكن السبب ماذا يكون، بمنزلة من يقول‏:‏ هذا المقتول لو لم يقتل هل كان يعيش ‏؟‏ وقد ظن بعض القدرية أنه كان يعيش، وظن بعض المنتسبين إلى السنة أنه كان يموت، والصواب أن هذا تقدير لأمر علم الله أنه يكون، فالله قدر موته بهذا السبب فـلا يموت إلا به كما قدر الله سعادة هذا في الدنيا والآخرة بعبادته، ودعائه، وتوكله، وعمله الصالح، وكسبه، فلا يحصل إلا به، وإذا قدر عدم هذا السبب لم يعلم ما يكون المقدر، وبتقدير عدمه فقد يكون المقدر حينئذ أنه يموت، وقد يكون المقدر أنه يحيى والجزم بأحدهما خطأ‏.‏

    ولو قال القائل‏:‏ أنا لا آكل ولا أشرب، فإن كان الله قدر حياتي فهو يحييني بدون الأكل والشرب، كان أحمق، كمن قال‏:‏ أنا لا أطأ امرأتي فإن كان الله قدر لي ولدًا تحمل من غير ذكر‏.

    فصــل

    إذا عرف هذا‏:‏ فالسالكون طريق الله منهم من يكون مع قيامه بما أمره الله به من الجهاد، والعلم، والعبادة، وغير ذلك عاجزًا عن الكسب، كالذين ذكرهم الله في قوله‏:‏ ‏{‏لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 273‏]‏، والذين ذكرهم الله في قوله‏:‏ ‏{‏لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 8‏]‏‏.‏

    فالصنف الأول، أهل صدقات، والصنف الثاني، أهل الفيء، كما قال تعالى في الصنف الأول‏:‏ ‏{‏ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 271ـ273‏]‏، وقال في الصنف الثاني‏:‏ ‏{ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7- 9‏]‏ ‏.‏ فذكر المهاجرين والأنصار وكان المهاجرون تغلب عليهم التجارة، والأنصار تغلب عليهم الزراعة، وقد قال للطائفتين‏:‏ ‏{‏أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 267‏]‏، فذكر زكاة التجارة وزكاة الخارج من الأرض وهو العشر، أو نصف العشر، أو ربع العشر‏.‏

    ومن السالكين من يمكنه الكسب مع ذلك وقد قال ـ تعالى ـ لما أمرهم بقيام الليل‏:‏ ‏{‏عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 20‏]‏، فجعل المسلمين أربعة أصناف، صنفًا أهل القرآن والعلم والعبادة، وصنفًا يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، وصنفًا يجاهدون في سبيل الله، والرابع المعذورون‏.‏

    وأما قول القائل‏:‏ إن الغذاء والقوام هو من فعل الله، فلا يمكن طلبه كالحياة، فليس كذلك هو، بل ما فعل الله بأسباب يمكن طلبه بطلب الأسباب كما مثله في الحياة والموت، فإن الموت يمكن طلبه ودفعه بالأسباب التي قدرها الله، فإذا أردنا أن يموت عدو الله سعينا في قتله، وإذا أردنا دفع ذلك عن المؤمنين دفعناه بما شرع الله الدفع به، قال تعالى في داود عليه السلام‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 80‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 81‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 102‏]‏، وهذا مثل دفع الحر والبرد عنا هو من فعل الله، فاللباس، والاكتساب، ومثل دفع الجوع، والعطش، هو من فعل الله بالطعام والشراب‏.‏

    وهذا كما أن إزهاق الروح هو من فعل الله ويمكن طلبه بالقتل ، وحصول العلم والهدى في القلب هو من فعل الله ويمكن طلبه بأسبابه المأمور بها وبالدعاء‏.‏

    وقول القائل‏:‏ إن الله يفعل بسبب وبغير سبب، فمن أين يلزمنا طلب السبب ‏؟

    جوابه أن يقال له‏:‏ ليس الأمر كذلك، بل جميع ما يخلقه الله ويقدره إنما يخلقه ويقدره بأسباب، لكن من الأسباب ما يخرج عن قدرة العبد، ومنها ما يكون مقدورًا له، ومن الأسباب ما يفعله العبد، ومنها ما لا يفعله‏.‏

    والأسباب منها، معتاد، ومنها نادر، فإنه في بعض الأعوام قد يمسك المطر ويغذي الزرع بريح يرسلها، وكما يكثر الطعام والشراب بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، والرجل الصالح، فهو أيضًا سبب من الأسباب، ولا ريب أن الرزق قد يأتي على أيدي الخلق، فمن الناس من يأتيه برزقه جنى أو ملك أو بعض الطير والبهائم‏.‏ وهذا نادر، والجمهور إنما يرزقون بواسطة بني آدم مثل أكثر الذين يعجزون عن الأسباب يرزقون على أيدي من يعطيهم، إما صدقة، وإما هدية، أو نذرًا، وإما غير ذلك، مما يؤتيه الله على أيدي من ييسره لهم‏.‏

    وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يا ابن آدم، إن تنفق الفضل خير لك، وإن تمسك الفضل شر لك، ولا يلام على كفاف، واليد العليا خير من اليد السفلى‏)‏، وفي حديث آخر صحيح‏:‏ ‏(‏يد الله هي العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى‏)‏‏.‏

    وبعض الناس يزعم أن يد السائل الآخذ هي العليا؛ لأن الصدقة تقع بيد الحق، وهذا خلاف نص رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخبر، أن يد الله هي العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى ‏.‏

    وقول القائل‏:‏ إن الله ضمن ضمانًا مطلقًا‏.‏

    فيقال له‏:‏ هذا لا يمنع وجوب الأسباب على ما يجب، فإن فيما ضمنه رزق الأطفال والبهائم والزوجات، ومع هذا، فيجب على الرجل أن ينفق على ولده وبهائمه وزوجته، بإجماع المسلمين ونفقته على نفسه أوجب عليه‏.‏

    وقول القائل‏:‏ كيف يطلب مالا يعرف مكانه‏؟‏

    جوابه‏:‏ أنه يفعل السبب المأمور به، ويتوكل على الله فيما يخرج عن قدرته؛ مثل الذي يشق الأرض، ويلقي الحب، ويتوكل علىالله في إنزال المطر، وإنبات الزرع، ودفع المؤذيات، وكذلك التاجر غاية قدرته تحصيل السلعة ونقلها، وأما إلقاء الرغبة في قلب من يطلبها، وبذل الثمن الذي يربح به، فهذا ليس مقدورًا للعبد، ومن فعل ما قدر عليه لم يعاقبه الله بما عجز عنه، والطلب لا يتوجه إلى شيء معين، بل إلى ما يكفيه من الرزق، كالداعي الذي يطلب من الله رزقه وكفايته من غير تعيين‏.‏
    avatar
    د.محمودعبدالحكيم
    مشرف
    مشرف


    الجنس : ذكر
    الابراج : الثور
    عدد المساهمات : 333
    نقاط : 8657
    السٌّمعَة : 191
    تاريخ التسجيل : 24/07/2011
    العمر : 56
    الموقع : جمهورية مصر العربية
    أوسمه : عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار Ououo_21

    عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار Empty رد: عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار

    مُساهمة من طرف د.محمودعبدالحكيم الأحد 8 أبريل 2012 - 12:43

    فصــل
    فإذا عرف ذلك، فمن الكسب ما يكون واجبًا، مثل الرجل المحتاج إلى نفقته على نفسه، أو عياله، أو قضاء دينه، وهو قادر على الكسب، وليس هو مشغولاً بأمر أمره الله به، هو أفضل عند الله من الكسب، فهذا يجب عليه الكسب باتفاق العلماء، وإذا تركه كان عاصيًا آثمًا‏.‏

    ومنه ما يكون مستحبًا، مثل هذا إذا اكتسب ما يتصدق به، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏على كل مسلم صدقة‏"‏، قالوا‏:‏ يا رسول الله‏!‏ فمن لم يجد ‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏يعمل بيده ينفع نفسه ويتصدق‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ فإن لم يجد‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏يعين ذا الحاجة الملهوف‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ فإن لم يجد، قال‏:‏ ‏(‏فليأمر بالمعروف وليمسك عن الشر فإنها له صدقة‏)‏‏.‏

    فصــل

    وأما قول القائل‏:‏ إن الأنبياء والأولياء لم يطلبوا رزقًا، فليس الأمر كذلك، بل عامة الأنبياء كانوا يفعلون أسبابًا يحصل بها الرزق، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد في المسند عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم‏)‏‏.‏وقد ثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أفضل ما أكل الرجل من كسبه‏)‏، وكان داود يأكل من كسبه، وكان يصنع الدروع، وكان زكريا نجارًا، وكان الخليل له ماشية كثيرة حتى إنه كان يقدم للضيف الذين لا يعرفهم عجلاً سمينًا، وهذا إنما يكون مع اليسار‏.‏

    وخيار الأولياء المتوكلين، المهاجرون والأنصار، وأبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ أفضل الأولياء المتوكلين، بعد الأنبياء‏.‏ وكان عامتهم يرزقهم الله بأسباب يفعلونها، كان الصديق تاجرًا، وكان يأخد ما يحصل له من المغنم، ولما ولى الخلافة جعل له من بيت المال كل يوم درهمان، وقد أخرج ماله كله، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما تركت لأهلك‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ تركت لهم الله ورسوله، ومع هذا فما كان يأخذ من أحد شيئًا لا صدقة، ولا فتوحًا، ولا نذرًا، بل إنما كان يعيش من كسبه‏.‏

    بخلاف من يدعي التوكل ويخرج ماله كله ظانًا أنه يقتدى بالصديق، وهو يأخذ من الناس إما بمسألة وإما بغير مسألة، فإن هذه ليست حال أبي بكر الصديق، بل في المسند‏:‏ أن الصديق كان إذا وقع من يده سوط ينزل فيأخذه، ولا يقول لأحد‏:‏ ناولني إياه، ويقول‏:‏ إن خليلي أمرني ألا أسأل الناس شيئًا‏.‏ فأين هذا ممن جعل الكدية وسؤال الناس طريقًا إلى الله، حتى إنهم يأمرون المريد بالمسألة للخلق‏.‏

    وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم مسألة الناس، إلا عند الضرورة، وقال‏:‏ ‏(‏لا تحل المسألة إلا لذي غرم مفظع، أو دم موجع، أو فقر مدقع‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ‏.‏ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 7، 8‏]‏، فأمره أن تكون رغبته إلى الله وحده‏.‏

    ومن هؤلاء من يجعل دعاء الله ومسألته نقصًا، وهو مع ذلك يسأل الناس ويكديهم، وسؤال العبد لربه حاجته من أفضل العبادات، وهو طريق أنبياء الله، وقد أمر العباد بسؤاله فقال‏:‏ {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 32‏]‏، ومدح الذين يدعون ربهم رغبة ورهبة‏.‏ ومن الدعاء ما هو فرض على كل مسلم، كالدعاء المذكور في فاتحة الكتاب‏.‏

    ومن هؤلاء من يحتج بما يروى عن الخليل أنه لما ألقى في النار قال له جبرائيل‏:‏ هل لك من حاجة ‏؟‏ فقال‏:‏ أما إليك فلا، قال‏:‏ سل ‏.‏قال‏:‏ ‏(‏حسبي من سؤالي علمه بحالي‏)‏‏.‏ وأول هذا الحديث معروف، وهو قوله‏:‏ أما إليك فلا؛ وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله‏:‏ حسبنا الله ونعم الوكيل، أنه قالها إبراهيم حين ألقي في النار‏.‏ وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس‏:‏ إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم‏.‏

    وأما قوله‏:‏ حسبي من سؤالي علمه بحالي، فكلام باطل، خلاف ما ذكره الله عن إبراهيم الخليل، وغيره من الأنبياء من دعائهم لله ومسألتهم إياه، وهو خلاف ما أمر الله به عباده من سؤالهم له صلاح الدنيا والآخرة، كقولهم‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 201‏]‏، ودعاء الله وسؤاله والتوكل عليه عبادة لله مشروعة بأسباب كما يقدره بها، فكيف يكون مجرد العلم مسقطًا لما خلقه وأمر به‏؟‏‏!‏ والله أعلم‏.‏ وصلى الله على محمد وسلم‏.

    *** والأسباب التي يحصل بها الرزق هي من جملة ما قدره الله وكتبه، فإن كان قد تقدم بأنه يرزق العبد بسعيه، واكتسابه، ألهمه السعي، والاكتساب، وذلك الذي قدره له بالاكتساب، لا يحصل بدون الاكتساب، وما قدره له بغير اكتساب كموت موروثه، يأتيه به بغير اكتساب ‏.‏ والسعي سعيان، سعى فيما نصب للرزق؛ كالصناعة والزراعة والتجارة‏.‏ وسعى بالدعاء والتوكل والإحسان إلى الخلق، ونحو ذلك، فإن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه‏.‏



    ***وهذه الأعمال الباطنة، كمحبة اللّه والإخلاص له والتوكل عليه والرضا عنه ونحو ذلك، كلها مأمور بها في حق الخاصة والعامة لا يكون تركها محمودًا في حال أحد، وإن ارتقى مقامه



    ***.وأما المحبة للّه، والتوكل عليه، والإخلاص له ونحو ذلك، فهذه كلها خير محض، وهي حسنة محبوبة في حق كل أحد من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين‏.‏ ومن قال‏:‏ إن هذه المقامات تكون للعامة دون الخاصة فقد غلط في ذلك إن أراد خروج الخاصة عنها، فإن هذه لا يخرج عنها مؤمن قط، وإنما يخرج عنها كافر أو منافق‏



    ***ولكن هذه المقامات ينقسم الناس فيها إلى‏:‏ خصوص وعموم، فللخاصة خاصها، وللعامة عامها‏.‏ مثال ذلك أن هؤلاء قالوا‏:‏ إن التوكل مناضلة عن النفس في طلب القوت، والخاص لا يناضل عن نفسه‏.‏ وقالوا‏:‏ المتوكل يطلب بتوكله أمرًا من الأمور، والعارف يشهد الأمور بفروعها منها فلا يطلب شيئًا‏.‏ فيقال‏:‏ أما الأول فإن التوكل أعم من التوكل في مصالح الدنيا، فإن المتوكل يتوكل على اللّه في صلاح قلبه ودينه وحفظ لسانه وإرادته وهذا أهم الأمور إليه؛ ولهذا يناجي ربه في كل صلاة بقوله‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 88، الشورى‏:‏ 10‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ‏}‏‏[‏الرعد‏:‏ 30‏]‏‏.

    فهو قد جمع بين العبادة والتوكل في عدة مواضع؛ لأن هذين يجمعان الدين كله؛ ولهذا قال من قال من السلف‏:‏ إن اللّه جمع الكتب المنزلة في القرآن، وجمع علم القرآن في المفصل، وجمع علم المفصل في فاتحة الكتاب، وجمع علم فاتحة الكتاب في قوله‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}



    ***.والتوكل والاستعانة للعبد؛ لأنه هو الوسيلة والطريق الذي ينال به مقصوده ومطلوبه من العبادة، فالاستعانة كالدعاء والمسألة‏.‏ وقد روى الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏يقول اللّه عز وجل‏:‏ يا بن آدم، إنما هي أربع‏:‏ واحدة لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي‏.‏ فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا، وأما التي هي لك فعملك أجازيك به أحوج ما تكون إليه، وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعلىَّ الإجابة، وأما التي بينك وبين خلقي فأت للناس ما تحب أن يأتوا إليك‏)‏‏.وكون هذا للّه وهذا للعبد هو باعتبار تعلق المحبة والرضا ابتداء، فإن العبد ابتداء يحب ويريد ما يراه ملائمًا له، واللّه ـ تعالى ـ يحب ويرضى ما هو الغاية المقصودة في رضاه، ويحب الوسيلة تبعًا لذلك، وإلا فكل مأمور به فمنفعته عائدة على العبد، وكل ذلك يحبه اللّه ويرضاه، وعلى هذا فالذي ظن أن التوكل من المقامات العامة ظن أن التوكل لا يطلب به إلا حظوظ الدنيا، وهو غلط بل التوكل في الأمور الدينية أعظم‏.وأيضًا، التوكل من الأمور الدينية التي لا تتم الواجبات والمستحبات إلا بها، والزاهد فيها زاهد فيما يحبه اللّه ويأمر به ويرضاه



    ***وأيضًا، فإن التوكل هو محبوب للّه مرضي له مأمور به دائمًا، وما كان محبوبًا للّه مرضيًا له مأمورًا به دائما لا يكون من فعل المقتصدين دون المقربين، فهذه ثلاثة أجوبة عن قولهم‏:‏ المتوكل يطلب حظوظه‏.‏وأما قولهم‏:‏ إن الأمور قد فرغ منها، فهذا نظير ما قاله بعضهم في الدعاء أنه لا حاجة إليه؛ لأن المطلوب إن كان مقدرًا فلا حاجة إليه، وإن لم يكن مقدرًا لم ينفع الدعاء، وهذا القول من أفسد الأقوال شرعًا وعقلًا‏.‏وكذلك قول من قال‏:‏ التوكل والدعاء لا يجلب به منفعة ولا يدفع به مضرة، وإنما هو عبادة محضة، وإن حقيقة التوكل بمنزلة حقيقة التفويض المحض، وهذا وإن كان قاله طائفة من المشائخ فهو غلط أيضًا، وكذلك قول من قال‏:‏ إن الدعاء إنما هو عبادة محضة

    فهذه الأقوال وما أشبهها يجمعها أصل واحد‏:‏ وهو أن هؤلاء ظنوا أن كون الأمور مقدرة مقضية يمنع أن تتوقف على أسباب مقدرة ـ أيضًا ـ تكون من العبد، ولم يعلموا أن اللّه سبحانه يقدر الأمور ويقضيها بالأسباب التي جعلها معلقة بها من أفعال العباد، وغير أفعالهم؛ ولهذا كان طرد قولهم يوجب تعطيل الأعمال بالكلية.



    ***فهذا الموضع قد انقسم الناس فيه إلى أربعة أقسام‏:‏ قـوم ينظـرون إلـى جانـب الأمـر والنهـي والعبـادة والطاعـة شاهديـن لإلهية الرب ـ سبحانه ـ الذي أمروا أن يعبدوه، ولا ينظرون إلى جانب القضاء والقدر والتوكل والاستعانة، وهو حال كثير من المتفقهة والمتعبدة، فهم مع حسن قصدهم وتعظيمهم لحرمات اللّه ولشعائره يغلب عليهم الضعف والعجز والخذلان؛ لأن الاستعانة باللّه والتوكل عليه واللجأ إلىه والدعاء له هي التي تقوى العبد وتيسر عليه الأمور‏.‏

    ولهذا قال بعض السلف‏:‏ من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على اللّه‏.‏ وفي الصحيحين عن عبد اللّه بن عمرو؛ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صفته في التوراة‏:‏ ‏(‏إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخّاب بالأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يجزى بالسيئة الحسنة، ويعفو ويغفر، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، فأفتح به أعينًا عميا وآذانًا صُمّا وقلوبًا غُلْفًا بأن يقولوا لا إله إلا اللّه‏)‏‏.

    ولهذا روى أن حملة العرش إنما أطاقوا حمل العرش بقولهم‏:‏ لا حول ولا قوة إلا باللّه‏.‏ وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنها كنز من كنوز الجنة‏)‏‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 3‏]‏، وقال تعالى‏:‏{ الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ‏[‏آل عمران‏:‏ 173-175‏]‏، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس ـ رضي اللّه عنه ـ في قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏}‏ قالها إبراهيم الخليل حين ألقى في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس‏:‏ إن الناس قد جمعوا لكم‏ وقسم ثان‏:‏ يشهدون ربوبية الحق وافتقارهم إلىه ويستعينون به، لكن على أهوائهم وأذواقهم، غير ناظرين إلى حقيقة أمره ونهيه ورضاه وغضبه ومحبته، وهذا حال كثير من المفتقرة والمتصوفة ؛ ولهذا كثيرًا ما يعملون على الأحوال التي يتصرفون بها في الوجود، ولا يقصدون ما يرضى الرب ويحبه، وكثيرًا ما يغلطون، فيظنون أن معصيته هي مرضاته، فيعودون إلى تعطيل الأمر والنهي ويسمون هذا حقيقة، ويظنون أن هذه الحقيقة القدرية يجب الاسترسال معها دون مراعاة الحقيقة الأمرية الدينية التي هي تحوى مرضاة الرب ومحبته وأمره ونهيه ظاهرًا وباطنًا‏.‏وهؤلاء كثيرًا ما يسلبون أحوالهم، وقد يعودون إلى نوع من المعاصي والفسوق، بل كثير منهم يرتد عن الإسلام؛ لأن العاقبة للتقوى، ومن لم يقف عند أمر اللّه ونهيه فليس من المتقين، فهم يقعون في بعض ما وقع المشركون فيه، تارة في بدعة يظنونها شرعة، وتارة في الاحتجاج بالقدر على الأمر، واللّه ـ تعالى ـ لما ذكر ما ذم به المشركين في سورة الأنعام والأعراف ذكر ما ابتدعوه من الدين وجعلوه شرعة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 28‏]‏، وقد ذمهم على أن حرموا ما لم يحرمه اللّه، وأن شرعوا ما لم يشرعه اللّه، وذكر احتجاجهم بالقدر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏، ونظيرها في النحل ويس والزخرف‏.‏ وهؤلاء يكون فيهم شبه من هذا وهذا‏ .وأما القسم الثالث‏:‏ وهو من أعرض عن عبادة اللّه واستعانته به فهؤلاء شر الأقسام‏.‏ والقسم الرابع‏:‏ هو القسم المحمود وهو حال الذين حققوا ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏ فاستعانوا به على طاعته‏.‏ وشهدوا أنه إلههم الذي لايجوز أن يعبد إلا إياه بطاعته وطاعة رسوله، وإنه ربهم الذي ‏{‏لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 51‏]‏، وأنه ‏{‏مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ‏}‏‏[‏فاطر‏:‏ 2‏]‏، ‏{‏وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ‏}‏‏[‏يونس‏:‏ 107‏]‏، ‏{‏قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 38‏]‏‏.

    ولهذا قال طائفة من العلماء‏:‏ الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباب نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، وإنما التوكل المأمور به ما اجتمع فيه مقتضى التوحيد والعقل والشرع‏ فقد تبين أن من ظن التوكل من مقامات عامة أهل الطريق، فقد غلط غلطًا شديدًا، وإن كان من أعيان المشائخ ـ كصاحب ‏[‏علل المقامات‏]‏ وهو من أجل المشائخ، وأخذ ذلك عنه صاحب ‏[‏محاسن المجالس‏]‏ ـ وظهر ضعف حجة من قال ذلك لظنه أن المطلوب به حظ العامة فقط، وظنه أنه لا فائدة له في تحصيل المقصود، وهذه حال من جعل الدعاء كذلك، وذلك بمنزلة من جعل الأعمال المأمور بها كذلك، كمن اشتغل بالتوكل عما يجب عليه من الأسباب التي هي عبادة وطاعة مأمور بهـا، فإن غلـط هـذا في ترك الأسباب المأمور بها التي هي داخـلة في قوله تعـالى‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ كغلط الأول في ترك التوكل المأمور به الذي هو داخل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏‏.‏

    لكن يقال‏:‏ من كان توكله على اللّه ودعاؤه له هو في حصول مباحات فهو من العامة، وإن كان في حصول مستحبات وواجبات فهو من الخاصة، كما أن من دعاه وتوكل عليه في حصول محرمات فهو ظالم لنفسه، ومن أعرض عن التوكل فهو عاص للّه ورسوله، بل خارج عن حقيقة الإيمان، فكيف يكون هذا المقام للخاصة، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 84‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 160‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 11‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ‏}‏إلى قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 38‏]‏‏.‏
    وقد ذكر اللّه هذه الكلمة ‏{‏
    حَسْبِي اللَّهُ‏}‏ في جلب المنفعة تارة، وفي دفع المضرة أخرى‏.‏ فالأولى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ‏}‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏ 59‏]‏‏.‏ والثانية في قوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 26‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ‏}‏، يتضمن بالرضا والتوكل‏.‏


    والرضا والتوكل يكتنفان المقدور، فالتوكل قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الصلاة‏:‏ ‏(‏اللّهم، بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، اللّهم، إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، اللّهم، إني أسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برْد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللّهم، زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين‏)‏ رواه أحمد والنسائي من حديث عمار بن ياسر



    ***.سئل أحمد بن حنبل عن التوكل، فقال‏:‏ قطع الاستشراف إلى الخلق، أي‏:‏ لا يكون في قلبك أن أحدًا يأتيك بشىء، فقيل له‏:‏ فما الحجة في ذلك ‏؟‏ فقال‏:‏ قول الخليل لما قال له جبرائيل‏:‏ هل لك من حاجة‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏أما إليك فلا‏)‏‏.‏



    ***فمن تمام نعمة اللّه على عباده المؤمنين أن ينزل بهم الشدة والضر وما يلجئهم إلى توحيده فيدعونه مخلصين له الدين ويرجونه لا يرجون أحدًا سواه، وتتعلق قلوبهم به لا بغيره، فيحصل لهم من التوكل عليه والإنابة إليه، وحلاوة الإيمان وذوق طعمه، والبراءة من الشرك ما هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض والخوف، أو الجدب، أو حصول اليسر وزوال العسر في المعيشة، فإن ذلك لذات بدنية ونعم دنيوية قد يحصل للكافر منها أعظم مما يحصل للمؤمن‏.



    ***.ولكن التفريغ والتخلية التي جاء بها الرسول أن يفرغ قلبه مما لا يحبه الله، ويملؤه بما يحبه الله، فيفرغه من عبادة غير الله ويملؤه بعبادة الله، وكذلك يفرغه عن محبة غير الله ويملؤه بمحبة الله، وكذلك يخرج عنه خوف غير الله، ويدخل فيه خوف الله ـ تعالى ـ وينفي عنه التوكل على غير الله، ويثبت فيه التوكل على الله‏.‏ وهذا هو الإسلام المتضمن للإيمان الذي يمده القرآن ويقويه، لا ينقاضه وينافيه، كما قال جندب وابن عمر‏:‏ تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانًا‏



    ***.ومن أعمال أهل الجنة‏:‏ الإخلاص للّه، والتوكل عليه، والمحبة له ولرسوله، وخشية اللّه ورجاء رحمته، والإنابة إليه، والصبر على حكمه، والشكر لنعمه



    ***.وفي الأثر‏:‏ ‏(‏من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على اللّه‏)‏‏.‏ وعن سعيد بن جبير‏:‏ ‏(‏التوكل جماع الإيمان‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 3‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 9‏]‏، وهذا على أصح القولين في أن التوكل عليه ـ بمنزلة الدعاء على أصح القولين أيضًا ـ سبب لجلب المنافع ودفع المضار، فإنه يفيد قوة العبد وتصريف الكون ولهذا هو الغالب على ذوي الأحوال متشرعهم وغير متشرعهم، وبه يتصرفون ويؤثرون تارة بما يوافق الأمر، وتارة بما يخالفه



    ***وأما أرجح المكاسب، فالتوكل على اللّه، والثقة بكفايته، وحسن الظن به‏.‏ وذلك أنه ينبغي للمهتم بأمر الرزق أن يلجأ فيه إلى اللّه ويدعــوه، كما قال سبحانه فيما يأثر عنه نبيه‏:‏ ‏(‏كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم‏.‏ ياعبادي، كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم‏)‏ وفيما رواه الترمذي عن أنس ـ رضي اللّه عنه ـ قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر‏)‏‏.

    وقد قال اللّه تعالى في كتابه‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 32‏]‏، وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 10‏]‏ وهذا وإن كان في الجمعة فمعناه قائم في جميع الصلوات‏.



    ***.وقد جمع بين هذين الأصلين الجامعين إيجاباً وغير إيجاب فى مواضع، كقوله فى آخر سورة هود‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏123‏]‏، وقول العبد الصالح شعيب‏:‏ ‏{‏وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 88‏]‏، وقول إبراهيم والذين معه‏:‏ ‏{‏رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏، وقوله ـ سبحانه ـ إذ أمر رسوله أن يقـول‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 30‏]‏‏. فأمر نبيـه بأن يقول‏:‏على الرحمن توكلت وإليه متاب،كما أمره بهما فى قوله‏:‏‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏123‏]‏ والأمر له أمر لأمته، وأمره بذلك فى أم القرآن وفى غيرها لأمته ليكون فعلهم ذلك طاعة للّه وامتثالا لأمره، ولا يتقدموا بين يدى اللّه ورسوله؛ ولهذا كان عامة ما يفعله نبينا صلى الله عليه وسلم والخالصون من أمته من الأدعية والعبادات وغيرها إنما هو بأمر من اللّه؛ بخلاف من يفعل ما لم يؤمر به وإن كان حسناً أو عفواً، وهذا أحد الأسباب الموجبة لفضله وفضل أمته على من سواهم، وفضل الخالصين من أمته على المشوبين الذين شابوا ما جاء به بغيره، كالمنحرفين عن الصراط المستقيم

    وإلى هذين الأصلين كان النبى صلى الله عليه وسلم يقصد فى عباداته وأذكاره ومناجاته، مثل قوله فى الأضحية‏:‏ ‏(‏اللهم هذا منك ولك‏)‏، فإن قوله‏:‏ ‏(‏منك‏)‏ هو معنى التوكل والاستعانة، وقوله‏:‏‏(‏لك‏)‏ هو معنى العبادة، ومثل قوله في قيامه من الليل‏:‏ ‏(‏لك أسلمت، وبك آمنت، وعلىك توكلت، وإليك أنَبْت ، وبـك خاصمت، وإليك حاكمت، أعوذ بعزتك،لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذى لا يموت، والجن والإنس يموتون‏)‏ إلى أمثال ذلك



    *** وكذلك ما فى النفس مما يناقض محبة الله والتوكل عليه والإخلاص له والشكر له يعاقب عليه؛ لأن هذه الأمور كلها واجبة‏.‏ فإذا خلى القلب عنها واتصف بأضدادها استحق العذاب على ترك هذه الواجبات



    ***ويحب التوكل عليه وخشيته ودعاءه، ويبغض التوكل على غيره وخشيته ودعاءه‏



    ***.والله ـ سبحانه ـ يحب المحسنين، ويبغض من ليس من المحسنين، ومن أحبه الله فرحمته أقرب شىء منه، ومن أبغضه الله فرحمته أبعد شىء منه، والإحسان هاهنا هو فعل المأمور به، سواء كان إحسانًا إلى الناس أو إلى نفسه، فأعظم الإحسان الإيمان والتوحيد والإنابة إلى الله ـ تعالى ـ والإقبال إليه والتوكل عليه، وأن يعبد الله كأنه يراه إجلالا ومهابة، وحياء ومحبة وخشية‏

    فهذا هو مقام الإحسان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سأله جبريل ـ عليه السلام ـ عن الإحسان‏:‏ فقال‏:‏ ‏(‏أن تَعْبُدَ الله كأنك تراه‏)‏، فإذا كان هذا هو الإحسان، فرحمته قريب من صاحبه، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان‏؟‏ يعنى‏:‏ هل جزاء من أحسن عبادة ربه إلا أن يحسن ربه إليه، قال ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ هل جزاء من قال‏:‏ لا إله إلا الله، وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الجنة‏؟‏

    وقد ذكر ابن أبى شيبة وغيره من حديث الزبير بن عدى عن أنس بن مالك ـ رضى الله عنه ـ قال‏:‏ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 60‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏هل تدرون ما قال ربكم‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة‏)‏‏.‏



    ***قال" يوسف عليه السلام للذي نجا من الفتيين الذين دخلا معه السجن " ‏:‏ ‏{‏اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏42‏]‏، فكيف يكون قد أَنْسَى الشيطان يوسف ذكر ربه‏؟‏ وإنما أنسى الشيطان الناجي ذكر ربه، أى‏:‏ الذكر المضاف إلى ربه والمنسوب إليه، وهو أن يذكر عنده يوسف‏.‏ والذين قالوا ذلك القول، قالوا‏:‏ كان الأولى أن يتوكل على الله، ولا يقول‏:‏ اذكرنى عند ربك، فلما نسى أن يتوكل على ربه جوزى بِلُبْثِه فى السجن بِضْعَ سنين‏.فيقال‏:‏ ليس فى قوله‏:‏ ‏{‏اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ‏}‏ ما يناقض التوكل، بل قد قال يوسف‏:‏ ‏{‏إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏40‏]‏، كما أن قول أبيه‏:‏ ‏{‏لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 67‏]‏، لم يناقض توكله، بل قال‏:‏ ‏{‏وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 67‏]‏‏ وأيضًا، فيوسف قد شهد الله له أنه من عباده المخلصين، والمخلص لا يكون مخلصًا مع توكله على غير الله، فإن ذلك شرك، ويوسف لم يكن مشركًا لا فى عبادته ولا توكله، بل قد توكل على ربه فى فعل نفسه بقوله‏:‏ ‏{‏وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 33‏]‏، فكيف لا يتوكل عليه فى أفعال عباده‏.وقوله‏:‏‏{‏اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ‏}‏، مثل قوله لربه‏:‏‏{‏اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 55‏]‏، فلما سأل الولاية للمصلحة الدينية لم يكن هـذا مناقضًا للتوكل، ولا هو من سؤال الإمارة المنهى عنه،فكيف يكون قوله للفتى‏:‏ ‏{‏اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ‏}‏ مناقضًا لِلتَّوَكُّل وليس فيه إلا مجرد إخبار الملك به؛ ليعلم حاله ليتبين الحق، ويوسف كان من أثبت الناس‏.



    ***وأيضًا، فسالك طريق الله متوكل عليه‏.‏ فلابد له من عبادته ومن التوكل عليه‏.
    avatar
    د.محمودعبدالحكيم
    مشرف
    مشرف


    الجنس : ذكر
    الابراج : الثور
    عدد المساهمات : 333
    نقاط : 8657
    السٌّمعَة : 191
    تاريخ التسجيل : 24/07/2011
    العمر : 56
    الموقع : جمهورية مصر العربية
    أوسمه : عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار Ououo_21

    عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار Empty رد: عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار

    مُساهمة من طرف د.محمودعبدالحكيم الأحد 8 أبريل 2012 - 12:50

    *** قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2، 3‏]‏ قد روي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لو أخذ الناس كلهم بهذه الآية لكفتهم‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مَخْرَجًا‏}‏ عن بعض السلف‏:‏ أي من كل ما ضاق علي الناس، وهذه الآية مطابقة لقوله‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ الجامعة لعلم الكتب الإلهية كلها؛ وذلك أن التقوي هي العبادة المأمور بها، فإن تقوي الله وعبادته وطاعته أسماء متقاربة متكافئة متلازمة، والتوكل عليه هو الاستعانة به،فمن يتقي الله مثال‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏، ومن يتوكل علي الله مثال‏:‏ ‏{‏وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏، كما قال‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏123‏]‏، وقال‏:‏‏{‏عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 10‏]‏‏.‏ ثم جعل للتقوي فائدتين‏:‏ أن يجعل له مخرجا، وأن يرزقه من حيث لا يحتسب‏.‏ والمخرج هو موضع الخروج، وهو الخروج، وإنما يطلب الخروج من الضيق والشدة، وهذا هو الفرج والنصر والرزق، فَبَين أن فيها النصر والرزق، كما قال‏:‏ ‏{‏أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ‏}‏ ‏[‏قريش‏:‏ 4‏]‏؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم‏؟‏ بدعائهم، وصلاتهم، واستغفارهم‏)‏ هذا لجلب المنفعة، وهذا لدفع المضرة‏.‏
    وأما التوكل فَبَين أن الله حسبه، أي‏:‏ كافيه، وفي هذا بيان التوكل علي الله من حيث أن الله يكفي المتوكل عليه، كما قال‏:‏
    ‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 36‏]‏ خلافا لمن قال‏:‏ ليس في التوكل إلا التفويض والرضا‏.‏ ثم إن الله بالغ أمره، ليس هو كالعاجز، ‏{‏قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 3‏]




    ***وأما قوله‏:‏ ‏(‏يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، وكلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم‏)‏ فيقتضي أصلين عظيمين-أحدهما‏:‏ وجـوب التوكل على الله في الرزق المتضمن جَلْب المنفعة كالطعام، ودفع المضرة كاللباس، وأنـه لا يقدر غير الله على الإطعام والكسوة قدرة مطلقة‏.‏ وإنما القدرة التي تحصل لبعض العباد تكون على بعض أسباب ذلك؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَعلى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 5‏]‏ ، فالمأمور به هو المقدور للعباد، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 14‏:‏ 16‏]‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 36‏]‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 28‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 47‏]‏ فذم من يترك المأمور به اكتفاء بما يجري به القدر‏.

    ومن هنا، يعرف أن السبب المأمور به أو المباح لا ينافي وجوب التوكل على الله في وجود السبب، بل الحاجة والفقر إلى الله ثابتة مع فعل السبب؛ إذ ليس في المخلوقات ما هو وحده سبب تام لحصول المطلوب؛ ولهذا لا يجب أن تقترن الحوادث بما قد يجعل سببًا إلا بمشيئة الله تعالى، فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن‏.

    فمـن ظـن الاستغناء بالسبب عـن التوكل فقد ترك ما أوجب الله عليه من التوكل، وأخَلَّ بواجب التوحيد؛ ولهذا يخذل أمثال هؤلاء إذا اعتمدوا على الأسباب‏.‏ فمن رجا نصرًا أو رزقًا من غير الله خذله الله، كما قال على - رضي الله عنه -‏:‏ لا يرْجُوَنَّ عَبْدٌ إلا ربه، ولا يخافنَّ إلا ذنبه‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 2‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 107‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عليه يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 38‏]‏ ‏.‏

    وهذا كما أن من أخذ يدخل في التوكل تاركًا لما أمر به من الأسباب فهو ـ أيضًا ـ جاهل ظالم، عاص لله بترك ما أمره، فإن فعل المأمور به عبادة لله‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عليه‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عليه تَوَكَّلْتُ وَإليه مَتَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 30‏]‏ ، وقال شعيب ـ عليه السلام ـ‏:‏ ‏{‏عليه تَوَكَّلْتُ وَإليه أُنِيبُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 88‏]‏ ، وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عليه تَوَكَّلْتُ وَإليه أُنِيبُ‏}‏ ‏[‏الشوري‏:‏ 10‏]‏ ‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حتى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عليكَ تَوَكَّلْنَا وَإليكَ أَنَبْنَا وَإليكَ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏ ، فليس من فعل شيئًا أمر به وترك ما أمر به من التوكل بأعظم ذنبًا ممن فعل توكلًا أمر به وترك فعل ما أمر به من السبب؛ إذ كلاهما مخل ببعض ما وجب عليه، وهما، مع اشتراكهما في جنس الذنب، فقد يكون هذا أَلْوَم، وقد يكون الآخر، مع أن التوكل في الحقيقة من جملة الأسباب‏.‏

    وقد روي أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضي بين رجلين‏.‏ فقال المقضي عليه‏:‏ حسبي الله ونعم الوكيل‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكَيْس، فإن غلبك أمر فقل‏:‏ حسبي الله ونعم الوكيل‏)‏‏.


    وفي صحيـح مسلم عـن أبي هـريرة ـ رضي الله عنـه ـ عـن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏
    المؤمـن القوي خـير وأحب إلى الله مـن المؤمـن الضعيف وفي كـل خـير، احـرص على مـا ينفـعك، واستعـن بالله ولا تعجـز، فـإن أصابك شيء فلا تقل‏:‏ لو أني فعلت لكان كـذا وكـذا، ولكـن قـل‏:‏ قَدَّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان‏)‏، ففي قـوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏احرص على مـا ينفـعك واستعـن بالله ولا تعجز‏)‏ أمر بالتسبب المأمور به، وهو الحـرص على المنافع‏.‏ وأمر مع ذلك بالتوكـل وهو الاستعانة بالله، فمن اكتفي بأحدهما فقد عصى أحد الأمرين، ونهى عن العجز الذي هو ضد الكيس‏.‏ كما قال في الحديث الآخـر‏:‏ ‏(‏إن الله يلـوم على العجـز، ولكـن عليك بالكيـس‏)‏، وكما في الحديث الشامي‏:‏ ‏(‏الكَيِّسُ مـن دان نفسـه وعمـل لما بعـد المـوت، والعاجز من أَتْبَع نفسه هواها وتمني على الله‏)‏، فالعاجز في الحـديث مقابل الكيس، ومن قال‏:‏ العاجز هو مقابل البر فقد حرف الحديث ولم يفهم معناه‏.‏ ومنه الحديث‏:‏ ‏(‏كل شيء بقدر حتى العجز والكيس‏)‏‏.



    ومـن ذلك مـا روي البخاري في صحيحـه عـن ابن عباس قال‏:‏كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، يقـولون‏:‏ نحن المتوكلون‏.‏ فإذا قدموا سألوا الناس فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏
    وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏ ، فمن فعل ما أمر به من التزود فاستعان به على طاعة الله وأحسن منه إلى من يكون محتاجًا كان مطيعًا لله في هذين الأمرين، بخلاف من ترك ذلك ملتفتًا إلى أزْواد الحجيج، كَلًا على الناس، وإن كان مع هذا قلبه غير ملتفت إلى معين، فهو ملتفت إلى الجملة، لكن إن كان المتزود غير قائم بما يجب عليه من التوكل على الله ومواساة المحتاج، فقد يكون في تركه لما أمر به من جنس هذا التارك للتزود المأمور به‏ -وفي هذه النصوص بيان غلط طوائف؛طائفة تضعف أمر السبب المأمور به فتعده نقصًا، أو قدحًا في التوحيد والتوكل، وأن تركه من كمال التوكل والتوحيد، وهم في ذلك ملبوس عليهم، وقد يقترن بالغلط اتباع الهوي في إخلاد النفس إلى البطالة؛ ولهذا تجد عامة هذا الضرب - التاركين لما أمروا به من الأسباب ـ يتعلقون بأسباب دون ذلك، فإما أن يعلقوا قلوبهم بالخلق رغبة ورهبة، وإما أن يتركوا لأجل ما تبتلوا له من الغلو في التوكل واجبات أو مستحبات أنفع لهم من ذلك، كمن يصرف همته في توكله إلى شفاء مرضه بلا دواء أو نيل رزقه بلا سعي فقد يحصل ذلك، لكن كان مباشرة الدواء الخفيف، والسعي اليسير، وصرف تلك الهمة، والتوجه في عمل صالح ، أنفع له، بل قد يكون أوجب عليه من تبتله لهذا الأمر اليسير الذي قدره درهم، أو نحوه‏ وفوق هؤلاء من يجعل التوكل والدعاء ـ أيضًا ـ نقصًا وانقطاعًا عن الخاصة؛ ظنًا أن ملاحظة ما فرغ منه في القدر هو حال الخاصة‏.‏


    وقد قال في هذا الحديث‏:‏ ‏(‏كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏فاستكسوني أكسكم‏)‏ وفي الطبراني ـ أو غيره ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لِيَسْأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى شِسْعُ نعله إذا انقطع، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر‏)‏‏.‏ وهذا قد يلزمه أن يجعل ـ أيضًا ـ استهداء الله وعمله بطاعته من ذلك وقولهم يوجب دفع المأمور به مطلقًا، بل دفع المخلوق والمأمور، وإنما غلطوا من حيث ظنوا أن سبق التقدير يمنع أن يكون بالسبب المأمور به، كمن يتزندق فيترك الأعمال الواجبة، بناء على أن القدر قد سبق بأهل السعادة وأهل الشقاوة، ولم يعلم أن القدر سبق بالأمور على ما هي عليه، فمن قدره الله من أهل السعادة كان مما قدره الله تيسيره لعمل أهل السعادة، ومن قدره من أهل الشقاء كان مما قدره أنه ييسره لعمل أهل الشقاء، كما قد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا السؤال في حديث على بن أبي طالب، وعمران بن حصين، وسراقة بن جُعْشُم، وغيرهم‏.

    ومنه حديث الترمذي‏:‏ حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن أبي خزامـة، عـن أبيـه‏.‏ قـال‏:‏ سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ يا رسول الله، أرأيت أدوية نتداوي بها، ورقى نسترقي بها، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئًا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏هي من قدر الله‏)‏‏.

    وطائفة تظن أن التوكل إنما هو من مقامات الخاصة المتقربين إلى الله بالنوافل، وكذلك قولهم في أعمال القلوب وتوابعها، كالحب والرجاء والخوف والشكر، ونحو ذلك‏.‏ وهذا ضـلال مبـين، بل جميـع هـذه الأمـور فروض على الأعيان باتفاق أهـل الإيمان، ومن تركها بالكليةفهو إما كافر، وإما منافق، لكن الناس هم فيها كما هم في الأعمال الظاهرة؛ فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات، ونصوص الكتاب والسنة طَافِحَة بذلك، وليس هؤلاء المعرضون عن هذه الأمور ـ علمًا وعملًا ـ بأقل لوما من التاركـين لما أمـروا بـه مـن أعمال ظاهرة مع تلبسهم ببعض هذه الأعمال، بل استحقاق الذم والعقاب يتوجه إلى من ترك المأمور من الأمور الباطنة والظاهرة، وإن كانت الأمور الباطنة مبتدأ الأمور الظاهرة وأصولها، والأمور الظاهرة كمالها وفروعها التي لا تتم إلا بها‏.



    ***وأما مسائل التوكل والإخلاص والزهد، ونحو ذلك فهم يجتهدون فيها، فمن كان منهم متبعًا للرسول أصاب، ومن خالفه أخطأ‏.



    ***وأما ما يقصد لنفسه مثل معرفة اللّه، ومحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه، فهذه يشرع فيها الكمال، لكن يقع فيها سرف، وعدوان، بإدخال ما ليس منها فيها، مثل أن يدخل ترك الأسباب المأمور بها في التوكل، أو يدخل استحلال المحرمات، وترك المشروعات في المحبة، فهذا هذا‏.‏ واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم‏.



    ***وأما التوكل فعلي اللّه وحده، والرغبة فإليه وحده، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ‏}‏ ولم يقل‏:‏ ورسوله، وقالوا‏:‏‏{‏إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ‏}‏ ولم يقولوا هنا‏:‏ ورسوله، كما قال في الإيتاء، بل هذا نظير قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏7،8‏]‏ ، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏ ، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال‏:‏ حسبنا اللّه ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين ‏{‏قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏}‏‏.‏ وقد قال تعالي‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 64‏]‏ ‏.‏ أي‏:‏ اللّه وحده حسبك، وحسب المؤمنين الذين اتبعوك‏.

    ومـن قـال ‏:‏ إن اللّه والمؤمنـين حسـبك فقـد ضـل، بل قولـه من جنس الكفرة، فإن اللّه وحده هو حسب كل مؤمن به‏.‏ والحسب الكافي، كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏36‏]

    وللّه تعالى حق لا يشركه فيه مخلوق؛ كالعبادات، والإخلاص والتوكل، والخوف، والرجاء، والحج، والصلاة، والزكاة، والصيام، والصدقة‏



    ***إن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضرر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عز ولا ذل، بل ربه هو الذى خلقه ورزقه، وبصره وهداه وأسبغ عليه نعمه، فإذا مسه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره، وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه، وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلا بإذن الله، وهذا الوجه أظهر للعامة من الأول؛ ولهذا خوطبوا به فى القرآن أكثر من الأول، لكن إذا تدبر اللبيب طريقة القرآن، وجد أن الله يدعو عباده بهذا الوجه إلى الأول‏.‏
    فهذا الوجه يقتضى‏:‏ التوكل على الله، والاستعانة به، ودعاه، ومسألته، دون ما سواه‏.‏ ويقتضى أيضا‏:‏ محبة الله وعبادته لإحسانه إلى عبده، وإسباغ نعمه عليه، وحاجة العبد إليه فى هذه النعم، ولكن إذا عبدوه وأحبوه، وتوكلوا عليه من هذا الوجه، دخلوا فى الوجه الأول‏.‏ ونظيره فى الدنيا من نزل به بلاء عظيم أو فاقة شديدة أو خوف مقلق، فجعل يدعو الله ويتضرع إليه حتى فتح له من لذة مناجاته ما كان أحب إليه من تلك الحاجة التى قصدها أولا، ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولا حتى يطلبه ويشتاق إليه‏.‏
    والقرآن مملوء من ذكر حاجة العباد إلى الله دون ما سواه، ومن ذكر نعمائه عليهم، ومن ذكر ما وعدهم فى الآخرة من صنوف النعيم واللذات، وليس عند المخلوق شىء من هذا، فهذا الوجه يحقق التوكل على الله والشكر له ومحبته على إحسانه‏.‏




    ***فى وجوب اختصاص الخالق بالعبادة والتوكل عليه، فلا يعمل إلا له، ولا يرجى إلا هو، هو ـ سبحانه ـ الذي ابتدأك بخلقك والإنعام عليك، بنفس قدرته عليك ومشيئته ورحمته من غير سبب منك أصلا، وما فعل بك لا يقدر عليه غيره‏.‏ ثم إذا احتجت إليه فى جلب رزق أو دفع ضرر، فهو الذى يأتى بالرزق لا يأتى به غيره، وهو الذى يدفع الضرر لا يدفعه غيره، كما قال تعالى‏:‏ ‏{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 20-21‏]‏



    ***فالتوحيد ضد الشرك، فإذا قام العبد بالتوحيد الذى هو حق الله، فعبده لا يشرك به شيئاً كان موحداً‏.‏ ومن توحيد الله وعبادته‏:‏ التوكل عليه والرجاء له، والخوف منه، فهذا يخلص به العبد من الشرك‏.‏



    ***فأما العبادة والاستعانة فلله وحده لا شريك له، كما قال‏:‏ ‏{وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 36‏]‏، ‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏، ‏{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 5‏]‏، وقد جمع بينهما فى مواضع، كقوله‏:‏ ‏{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}‏ ‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ}‏ ‏[‏الفرقان‏: 58‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}‏ ‏[‏هود‏:‏ 88‏]‏‏.‏

    وكذلك التوكل كما قال‏:‏ ‏{وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 12‏]‏، وقال‏:‏ ‏{قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 38‏]‏، وقال‏:‏ ‏{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏173‏]‏‏.‏



    ***.فقوله‏:‏‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ}‏ إشارة إلى عبادته بما اقتضته إلهيته‏:‏ من المحبة والخوف، والرجاء، والأمر، والنهى‏.‏‏ {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}‏ إشارة إلى ما اقتضته الربوبية ،من التوكل والتفويض والتسليم؛ لأن الرب ـ سبحانه وتعالى ـ هو المالك، وفيه أيضا معنى الربوبية والإصلاح، والمالك الذى يتصرف فى ملكه كما يشاء‏.

    فإذا ظهر للـعبد من سـر الربـوبية أن الملك والتدبير كله بيد الله تعالى، قال تعالى‏:‏ ‏{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}‏ ‏[‏الملك ‏:‏1‏]‏ فلا يرى نفعا، ولا ضرا، ولا حركة، ولا سكونًا، ولا قبضا، ولا بسطا، ولا خفضًا، ولا رفعًا، إلا والله ـ سبحانه وتعالى ـ فاعله، وخالقه، وقابضه، وباسطه، ورافعه، وخافضه‏.‏ فهذا الشهود هو سر الكلمات الكونيات، وهو علم صفة الربوبية‏.‏ والأول هو علم صفة الإلهية وهو كشف سر الكلمات التكليفيات‏.‏فالتحقيق بالأمر والنهى، والمحبة والخوف والرجاء، يكون عن كشف علم الإلهية‏.‏ والتحقيق بالتوكل والتفويض والتسليم يكون بعد كشف علم الربوبية، وهو علم التدبير السارى فى الأكوان، كما قال الله عز وجل‏:‏‏{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 40‏]‏‏.‏ فإذا تحقق العبد لهذا المشهد، ووفقه لذلك، بحيث لا يحجبه هذا المشهد عن المشهد الأول فهو الفقيه فى عبوديته، فإن هذين المشهدين عليهما مدار الدين، فإن جميع مشاهد الرحمة واللطف والكرم، والجمال داخل فى مشهد الربوبية‏.

    ولهذا قيل‏:‏ إن هذه الآية جمعت جميع أسرار القرآن‏:‏ ‏{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}‏؛ لأن أولها اقتضى عبادته بالأمر والنهى، والمحبة والخوف والرجاء، كما ذكرنا، وآخرها اقتضى عبوديته بالتفويض والتسليم، وترك الاختيار، وجميع العبوديات داخلة فى ذلك‏.‏



    ***وأصل سؤال الخلق الحاجات الدنيوية التى لا يجب عليهم فعلها ليس واجباً على السائل ولا مستحباً، بل المأمور به سؤال الله تعالى والرغبة إليه والتوكل عليه‏.‏ وسؤال الخلق فى الأصل محرم، لكنه أبيح للضرورة، وتركه توكلاً على الله أفضل، قال تعالى‏:‏ ‏{ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ }‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 7، 8‏]‏ أى ارغب إلى الله لا إلى غيره، وقال تعالى‏:‏ ‏{ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ }‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 59‏]‏ فجعل الإيتاء لله والرسول لقوله تعالى‏:‏ ‏{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا }‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏، فأمرهم بإرضاء الله ورسوله‏.‏
    وأما فى الحسب فأمرهم أن يقولوا‏:‏ ‏{
    حَسْبُنَا اللّهُ}‏ لا يقولوا‏:‏ حسبنا الله ورسوله‏.‏ ويقولوا‏:‏ ‏{ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ }‏ ‏[‏التوبة‏:‏59‏]‏ لم يأمرهم أن يقولوا‏:‏ إنا لله ورسوله راغبون، فالرغبة إلى الله وحده كما قال تعالى فى الآية الأخرى‏:‏ ‏{ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ
    }‏ ‏[‏النور‏:‏ 52‏]‏، فجعل الطاعة لله والرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده‏.‏
    وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم لابن عباس‏:‏ ‏(‏
    يا غلام، إنى معلمك كلمات‏:‏ احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك، تعرَّف إلى الله فى الرخاء يعرفك فى الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، جَفَّ القلم بما أنت لاق، فلو جهدت الخليقة على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن فى الصبر على ما تكره خيراً كثيراً‏)‏، وهذا الحديث معروف مشهور، ولكن قد يروى مختصراً‏.‏


    وقوله‏:‏ ‏(‏إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله‏)‏ هو من أصح ما روى عنه‏.‏ وفى المسند لأحمد‏:‏ أن أبا بكر الصديق كان يسقط السَّوط من يده فلا يقول لأحد‏:‏ ناولنى إياه، ويقول‏:‏ إن خليلى أمرنى ألا أسأل الناس شيئا‏.‏ وفى صحيح مسلم عن عوف بن مالك أن النبى صلى الله عليه وسلم بايع طائفة من أصحابه وأسرّ إليهم كلمة خفية‏:‏ ‏(‏ألا تسألوا الناس شيئا‏)‏‏.‏ قال عوف‏:‏ فقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد‏:‏ ناولني إياه‏.



    وفى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يدخل من أمتى الجنة سبعون ألفاً بغير حساب‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏هم الذين لا يَسْتَرقُونَ وَلا يَكْتَوُونَ ولا يَتَطَيَّرونَ وعلى ربهم يتوكلون‏)‏..........................................................................................................
    avatar
    د.محمودعبدالحكيم
    مشرف
    مشرف


    الجنس : ذكر
    الابراج : الثور
    عدد المساهمات : 333
    نقاط : 8657
    السٌّمعَة : 191
    تاريخ التسجيل : 24/07/2011
    العمر : 56
    الموقع : جمهورية مصر العربية
    أوسمه : عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار Ououo_21

    عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار Empty رد: عباد يحبهم الغفار من الكتاب والسنة والأثار

    مُساهمة من طرف د.محمودعبدالحكيم الأحد 8 أبريل 2012 - 12:52



    خ - باب: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) /الطلاق: 3/.

    وقال الربيع بن خثيم: من كل ما ضاق على الناس.

    - حدثني إسحق: حدثنا روح بن عبادة: حدثنا شعبة قال: سمعت حصين بن عبد الرحمن قال: كنت قاعداً عند سعيد بن جبير فقال: عن ابن عباس:

    أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب، هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون).

    قال ابن حجر رحمه الله

    *-* قوله باب ومن يتوكل على الله فهو حسبه استعمل لفظ الآية ترجمة لتضمنها الترغيب في التوكل وكأنه أشار الى تقييد ما أطلق في حديث الباب قبله وأن كلا من الاستغناء والتصبر والتعفف إذا كان مقرونا بالتوكل على الله فهو الذي ينفع وينجع وأصل التوكل الوكول يقال وكلت أمري الى فلان أي الجأته اليه واعتمدت فيه عليه ووكل فلان فلانا استكفاه امره ثقة بكفايته والمراد بالتوكل اعتقاد ما دلت عليه هذه الآية {وما من دابة في الأرض الا على الله رزقها} وليس المراد به ترك التسبب والاعتماد على ما يأتي من المخلوقين لأن ذلك قد يجر الى ضد ما يراه من التوكل وقد سئل أحمد عن رجل جلس في بيته أو في المسجد وقال لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي فقال هذا رجل جهل العلم فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ان الله (جعل رزقي تحت ظل رمحي )وقال( لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا) فذكر انها تغدو وتروح في طلب الرزق قال وكان الصحابة يتجرون ويعملون في تخيلهم والقدوة بهم انتهى

    + قوله وقال الربيع بن خثيم بمعجمة ومثلثة مصغر قوله من كل ما ضاق على الناس وصله الطبراني وابن أبي حاتم من طريق الربيع بن منذر الثوري عن أبيه عن الربيع بن خثيم قال في قوله تعالى{ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) }(الطلاق :2+ 3 ) -قال من كل شيء ضاق على الناس

    + قوله باب يدخل الجنة سبعون الفا بغير حساب فيه إشارة الى أن وراء التقسيم الذي تضمنته الآية المشار إليها في الباب الذي قبله أمرا آخر وان من المكلفين من لا يحاسب أصلا ومنهم من يحاسب حسابا يسيرا ومنهم من يناقش الحساب

    قوله هؤلاء أمتك وهؤلاء سبعون الفا قدامهم لاحساب عليهم ولا عذاب في رواية سعيد بن منصور معهم بدل قدامهم وفي رواية حصين بن نمير ومع هؤلاء وكذا في حديث بن مسعود والمراد بالمعية المعنوية فإن السبعين الفا المذكورين من جملة أمته لكن لم يكونوا في الذين عرضوا إذ ذاك فأريد الزيادة في تكثير أمته بإضافة السبعين الفا إليهم وقد وقع في رواية بن فضيل ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون الفا بغير حساب وفي رواية عبثر بن القاسم هؤلاء أمتك ومن هؤلاء من أمتك سبعون الفا والإشارة بهؤلاء الى الأمة لا الى خصوص من عرض ويحتمل أن تكون مع بمعنى من فتأتلف الروايات قوله قلت ولِمَْ بكسر اللام وفتح الميم ويجوز اسكانها يستفهم بها عن السبب وقع في رواية سعيد بن منصور وشريح عن هشيم ثم نهض أي النبي صلى الله عليه وسلم فدخل منزله فخاض الناس في أولئك فقال بعضهم فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا وذكروا أشياء فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال هم الذين وفي رواية عبثر فدخل ولم يسألوه ولم يفسر لهم والباقي نحوه وفي رواية بن فضيل فأفاض القوم فقالوا نحن الذين آمنا بالله واتبعنا الرسول فنحن هم أو اولادنا الذين ولدوا في الإسلام فإنا ولدنا في الجاهلية فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فخرج فقال وفي رواية حصين بن نمير فقالوا أما نحن فولدنا في الشرك ولكنا آمنا بالله وبرسوله ولكن هؤلاء هم أبناؤنا وفي حديث جابر وقال بعضنا هم الشهداء وفي رواية له من رق قلبه للإسلام قوله كانوا لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون اتفق على ذكر هذه الأربع معظم الروايات في حديث بن عباس وان كان عند البعض تقديم وتأخير وكذا في حديث عمران بن حصين عند مسلم وفي لفظ له سقط ولا يتطيرون هكذا في حديث بن مسعود وفي حديث جابر اللذين أشرت إليهما بنحو الأربع ووقع في رواية سعيد بن منصور عند مسلم ولا يرقون بدل ولا يكتوون وقد انكر الشيخ تقي الدين بن تيمية هذه الرواية وزعم انها غلط من راويها واعتل بأن الراقي يحسن الى الذي يرقيه فكيف يكون ذلك مطلوب الترك وأيضا فقد رقى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ورقى النبي اصحابه واذن لهم في الرقى وقال من استطاع ان ينفع اخاه فليفعل والنفع مطلوب قال واما المسترقي فإنه يسأل غيره ويرجو نفعه وتمام التوكل ينافي ذلك قال وانما المراد وصف السبعين بتمام التوكل فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكويهم ولا يتطيرون من شيء وأجاب غيره بأن الزيادة من الثقة مقبولة وسعيد بن منصور حافظ وقد اعتمده البخاري ومسلم واعتمد مسلم على روايته هذه وبأن تغليط الراوي مع إمكان تصحيح الزيادة لا يصار اليه والمعنى الذي حمله على التغليط موجود في المسترقي لأنه اعتل بان الذي لا يطلب من غيره أن يرقيه تام التوكل فكذا يقال له والذي يفعل غيره به ذلك ينبغي ان لا يمكنه منه لاجل تمام التوكل وليس في وقوع ذلك من جبريل دلالة على المدعى ولا في فعل النبي صلى الله عليه وسلم له أيضا دلالة لأنه في مقام التشريع وتبيين الاحكام ويمكن أن يقال انما ترك المذكورون الرقى والاسترقاء حسما للمادة لأن فاعل ذلك لا يأمن أن يكل نفسه اليه وإلا فالرقية في ذاتها ليست ممنوعة وانما منع منها ما كان شركا أو احتمله ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم اعرضوا علي رقاكم ولا بأس بالرقى ما لم يكن شرك ففيه إشارة الى علة النهى كما تقدم تقرير ذلك واضحا في كتاب الطب وقد نقل القرطبي عن غيره ان استعمال الرقى والكي قادح في التوكل بخلاف سائر أنواع الطب وفرق بين القسمين بأن البرء فيهما أمر موهوم وما عداهما محقق عادة كالاكل والشرب فلا يقدح قال القرطبي وهذا فاسد من وجهين أحدهما أن أكثر أبواب الطب موهوم والثاني أن الرقى بأسماء الله تعالى تقتضي التوكل عليه والالتجاء اليه والرغبة فيما عنده والتبرك بأسمائه فلو كان ذلك قادحا في التوكل لقدح الدعاء إذ لا فرق بين الذكر والدعاء وقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم ورقى وفعله السلف والخلف فلو كان مانعا من اللحاق بالسبعين أو قادحا في التوكل لم يقع من هؤلاء وفيهم من هو اعلم وافضل ممن عداهم وتعقب بأنه بنى كلامه على أن السبعين المذكورين أرفع رتبة من غيرهم مطلقا وليس كذلك لما سأبينه وجوز أبو طالب بن عطية في موازنة الأعمال أن السبعين المذكورين هم المراد بقوله تعالى {والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم} فان أراد انهم من جملة السابقين فمسلم والا فلا وقد اخرج أحمد وصححه بن خزيمة وابن حبان من حديث رفاعة الجهني قال اقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر حديثا وفيه (وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين الفا بغير حساب واني لأرجو أن لا يدخولها حتى تبوؤا أنتم ومن صلح من أزواجكم وذرياتكم مساكن في الجنة )فهذا يدل على أن مزية السبعين بالدخول بغير حساب لا يستلزم انهم أفضل من غيرهم بل فيمن يحاسب في الجملة من يكون أفضل منهم وفيمن يتأخر عن الدخول ممن تحققت نجاته وعرف مقامه من الجنة يشفع في غيره من هو أفضل منهم وسأذكر بعد قليل من حديث أم قيس بنت محصن أن السبعين الفا ممن يحشر من مقبرة البقيع بالمدينة وهي خصوصية أخرى قوله ولا يتطيرون =والمراد أنهم لا يتشاءمون كما كانوا يفعلون في الجاهلية قوله وعلى ربهم يتوكلون يحتمل أن تكون هذه الجملة مفسرة لما تقدم من ترك الاسترقاء والاكتواء والطيرة ويحتمل أن تكون من العام بعد الخاص لأن صفة كل واحدة منها صفة خاصة من التوكل وهو أعم من ذلك وقد مضى القول في التوكل في باب ومن يتوكل على الله فهو حسبه قريبا

    -وقال القرطبي وغيره قالت طائفة من الصوفية لا يستحق اسم التوكل الا من لم يخالط قلبه خوف غير الله تعالى حتى لو هجم عليه الأسد لا ينزعج وحتى لا يسعى في طلب الرزق لكون الله ضمنه له وأبى هذا الجمهور وقالوا يحصل التوكل بأن يثق بوعد الله ويوقن بأن قضاءه واقع ولا يترك اتباع السنة في ابتغاء الرزق مما لا بد له منه من مطعم ومشرب وتحرز من عدو باعداد السلاح واغلاق الباب ونحو ذلك ومع ذلك فلا يطمئن الى الأسباب بقلبه بل يعتقد انها لا تجلب بذاتها نفعا ولا تدفع ضرا بل السبب والمسبب فعل الله تعالى والكل بمشيئته فإذا وقع من المرء ركون الى السبب قدح في توكله وهم مع ذلك فيه على قسمين واصل وسالك فالأول صفة الواصل وهو الذي لا يلتفت الى الأسباب ولو تعاطاها وأما السالك فيقع له الالتفات الى السبب أحيانا الا انه يدفع ذلك عن نفسه بالطرق العلمية والاذواق الحالية الى ان يرتقى الى مقام الواصل

    -وقال أبو القاسم القشيري التوكل محله القلب وأما الحركة الظاهرة فلا تنافيه إذا تحقق العبد أن الكل من قِبَل الله فان تيسر شيء فبتيسيره وان تعسر فبتقديره ومن الأدلة على مشروعية الاكتساب ما تقدم في البيوع من حديث أبي هريرة رفعه أفضل ما أكل الرجل من كسبه وكان داود يأكل من كسبه فقد قال تعالى{وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم }وقال تعالى {وخذوا حذركم }وأما قول القائل كيف تطلب مالا تعرف مكانه فجوابه أنه يفعل السببب المأمور به ويتوكل على الله فيما يخرج عن قدرته فيشق الأرض مثلا ويلقى الحب ويتوكل على الله في انباته وانزال الغيث له ويحصل السلعة مثلا وينقلها ويتوكل على الله في القاء الرغبة في قلب من يطلبها منه بل ربما كان التكسب واجبا كقادر على الكسب يحتاج عياله للنفقة فمتى ترك ذلك كان عاصيا وسلك الكرماني في الصفات المذكورة مسلك التأويل فقال قوله لا يكتوون معناه الا عند الضرورة مع اعتقاد أن الشفاء من الله لا من مجرد الكي وقوله ولايسترقون معناه بالرقى التي ليست في القرآن والحديث الصحيح كرقى الجاهلية وما لا يؤمن ان يكون فيه شرك وقوله ولا يتطيرون أي لا يتشاءمون بشيء فكأن المراد أنهم الذين يتركون أعمال الجاهلية في عقائدهم قال فان قيل ان المتصف بهذا أكثر من العدد المذكور فما وجه الحصر فية وأجاب باحتمال ان يكون المراد به التكثير لا خصوص العدد قلت الظاهر أن العدد المذكور على ظاهره فقد وقع في حديث أبي هريرة ثاني أحاديث الباب وصفهم بأنهم تضيء وجوهم اضاءة القمر ليلة البدر ومضى في بدء الخلق من طريق عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة رفعه أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر والذين على آثارهم كأحسن كوكب دري في السماء اضاءة وأخرجه مسلم من طرق عن أبي هريرة منها رواية أبي يونس وهمام عن أبي هريرة على صورة القمر وله من حديث جابر فتنجو أول زمرة وجوهم كالقمر ليلة البدر سبعون الفا لا يحاسبون وقد وقع في أحاديث أخرى أن مع السبعين الفا زيادة عليهم ففي حديث أبي هريرة عند أحمد والبيهقي في البعث من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال( سألت ربي فوعدني أن يدخل الجنة من أمتي ...)فذكر الحديث نحو سياق حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ثاني أحاديث الباب وزاد (فاستزدت ربي فزادني مع كل الف سبعين الفا )وسنده جيد وفي الباب عن أبي أيوب عند الطبراني وعن حذيفة عند أحمد وعن أنس عند البزار وعن ثوبان عند بن أبي عاصم فهذه طرق يقوى بعضها بعضا وجاء في أحاديث أخرى أكثر من ذلك فأخرج الترمذي وحسنه والطبراني وابن حبان في صحيحه من حديث أبي امامة رفعه (وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين الفا مع كل الف سبعين الفا لا حساب عليهم ولا عذاب وثلاث حثيات من حثيات ربي )وفي صحيح بن حبان أيضا والطبراني بسند جيد من حديث عتبة بن عبد نحوه بلفظ (ثم يشفع كل الف في سبعين الفا ثم يحثى ربي ثلاث حثيات بكفيه ) وفيه فكبر عمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ان السبعين الفا يشفعهم الله في آبائهم وأمهاتهم وعشائرهم واني لأرجو ان يكون أدنى أمتي الحثيات) وأخرجه الحافظ الضياء وقال لا اعلم له علة قلت علته الاختلاف في سنده فان الطبراني أخرجه من رواية أبي سلام حدثني عامر بن زيد انه سمع عتبة ثم أخرجه من طريق أبي سلام أيضا فقال حدثني عبد الله بن عامر ان قيس بن الحارث حدثه ان أبا سعيد الأنماري حدثه فذكره وزاد قال قيس فقلت لأبي سعيد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يستوعب مهاجري أمتي ويوفى الله بقيتهم من اعرابنا وفي رواية لابن أبي عاصم قال أبو سعيد فحسبنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ أربعة آلاف الف وتسعمائة الف يعني من عدا الحثيات وقد وقع عند أحمد والطبراني من حديث أبي أيوب نحو حديث عتبة بن عبد وزاد والخبيئة بمعجمة ثم موحدة وهمزة وزن عظيمة عند ربي وورد من وجه آخر ما يزيد على العدد الذي حسبه أبو سعيد الأنماري فعند أحمد وأبي يعلى من حديث أبي بكر الصديق نحوه بلفظ أعطاني مع كل واحد من السبعين الفا سبعين الفا وفي سنده راويان أحدهما ضعيف الحفظ والاخر لم يسم واخرج البيهقي في البعث من حديث عمرو بن حزم مثله وفيه راو ضعيف أيضا واختلف في سنده وفي سياق متنه وعند البزار من حديث أنس بسند ضعيف نحوه وعند الكلاباذي في معاني الاخبار بسند واه من حديث عائشة فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فاتبعته فإذا هو في مشربة يصلي فرأيت على رأسه ثلاثة أنوار فلما قضى صلاته قال رأيت الأنوار قلت نعم قال ان آتيا أتاني من ربي فبشرني ان الله يدخل الجنة من أمتي سبعين الفا بغير حساب ولا عذاب ثم أتاني فبشرني ان الله يدخل من أمتي مكان كل واحد من السبعين الفا سبعين الفا بغير حساب ولا عذاب ثم أتاني فبشرني ان الله يدخل من أمتي مكان كل واحد من السبعين الفا المضاعفة سبعين الفا بغير حساب ولا عذاب فقلت يا رب لا يبلغ هذا أمتي قال اكملهم لك من الاعراب ممن لا يصوم ولا يصلي قال الكلاباذي المراد بالأمة أولا امة الإجابة وبقوله آخرا أمتي امة الاتباع فان أمته صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أقسام أحدها أخص من الاخر أمة الاتباع ثم أمة الإجابة ثم أمة الدعوة فالأولى أهل العمل الصالح والثانية مطلق المسلمين والثالثة من عداهم ممن بعث إليهم ويمكن الجمع بأن القدر الزائد على الذي قبله هو مقدار الحثيات فقد وقع عند أحمد من رواية قتادة عن النضر بن أنس أو غيره عن أنس رفعه ان الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي أربعمائة الف فقال أبو بكر زدنا يا رسول الله فقال هكذا وجمع كفيه فقال زدنا فقال وهكذا فقال عمر حسبك ان الله ان شاء ادخل خلقه الجنة بكف واحدة فقال النبي صلى الله عليه وسلم صدق عمر وسنده جيد لكن اختلف على قتادة في سنده اختلافا كثيرا...اه





    + وقال للذي سأله أعقل ناقتي أو أدعها قال اعقلها وتوكل فأشار إلى أن الاحتراز لا يدفع التوكل والله أعلم



    حدثنا أبو حفص عمرو بن علي، حدثني يحيى بن سعيد القطان، أخبرنا المغيرة بن أبي قرة السدوسي قال سمعت أنس بن مالك يقول:- " قال رجل: يا رسول الله، أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل؟ قال اعقلها وتوكل"

    قال عمرو بن علي، قال يحيى وهذا عندي حديث منكر. قال ألو عيس وهذا حديث غريب من حديث أنس لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقد روى عن عمرو بن أمية الضمري عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا.



    - أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى قال حدثنا أبو خيثمة قال حدثنا المقرىء عن حيوة بن شريح عن بكر بن عمرو عن عبد الله بن هبيرة عن أبي تميم الجيشاني عن عمر بن الخطاب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لو توكلون على الله حق توكله لرزقكم الله كما يرزق الطير تغدو خماصا وتعود بطانا أحمد



    ذكر الإخبار بأن المرء يجب عليه مع توكل القلب الاحتراز بالأعضاء ضد قول من كرهه

    - أخبرنا الحسين بن عبد الله القطان قال حدثنا هشام بن عمار قال حدثنا حاتم بن إسماعيل قال حدثنا يعقوب بن عبد الله عن جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه قال قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم أرسل ناقتي وأتوكل قال اعقلها وتوكل قال أبو حاتم رضى الله تعالى عنه يعقوب هذا هو يعقوب بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن أمية الضمري من أهل الحجاز مشهور مأمون ابن حبان



    ذكر الإخبار عما يجب على المرء من قطع القلب عن الخلائق بجميع العلائق في أحواله وأسبابه

    - أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى قال حدثنا أبو خيثمة قال حدثنا المقرىء عن حيوة بن شريح عن بكر بن عمرو عن عبد الله بن هبيرة عن أبي تميم الجيشاني عن عمر بن الخطاب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لو توكلون على الله حق توكله لرزقكم الله كما يرزق الطير تغدو خماصا وتعود بطانا ابن حبان + أحمد



    باب ما جاء ما يقول إذا خرج من بيته

    - حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي أخبرنا أبي أخبرنا ابن جريج عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:


    - "من قال يعني إذا خرج من بيته:
    بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله يقال له: كفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ لا نعرفه إلا من هذا الوجه.


    - حدثنا محمود بن غيلان أخبرنا وكيعٌ أخبرنا سفيان عن منصور عن عامر الشعبي عن أم سلمة
    - "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من بيته قال:
    بسم الله توكلت على الله اللهم إنا نعوذ بك من أن نزل أو نضل أو نظلم أو نظلم أو نجهل أو يجهل علينا". هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. الـترمذي






    8-(فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين (المائدة : 13 )

    *ابن كثير قوله "{فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم} أي فبسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم لعناهم, أي أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى, {وجعلنا قلوبهم قاسية} أي فلا يتعظون بموعظة لغلظها وقساوتها, {يحرفون الكلم عن مواضعه} أي فسدت فهومهم وساء تصرفهم في آيات الله, وتأولوا كتابه على غير ما أنزله, وحملوه على غير مراده, وقالوا عليه مالم يقل, عياذاً بالله من ذلك, {ونسوا حظاً مما ذكروا به} أي وتركوا العمل به رغبة عنه. وقال الحسن: تركوا عرى دينهم ووظائف الله تعالى التي لا يقبل العمل إلا بها, وقال غيره: تركوا العمل فصاروا إلى حالة رديئة, فلا قلوب سليمة, ولا فطر مستقيمة, ولا أعمال قويمة, {ولا تزال تطلع على خائنة منهم} يعني مكرهم وغدرهم لك ولأصحابك. وقال مجاهد وغيره: يعني بذلك تمالؤهم على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم {فاعف عنهم واصفح} وهذا هو عين النصر والظفر, كما قال بعض السلف ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه, وبهذا يحصل لهم تأليف وجمع على الحق, ولعل الله أن يهديهم, ولهذا قال تعالى: {إن الله يحب المحسنين} يعني به الصفح عمن أساء إليك. وقال قتادة: هذه الاَية (فاعف عنهم واصفح) منسوخة بقوله {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاَخر} الاَية.



    *القرطبي الآية: 13 {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين}

    قوله تعالى: "فبما نقضهم ميثاقهم" أي فبنقضهم ميثاقهم، "ما" زائدة للتوكيد، عن قتادة وسائر أهل العلم؛ وذلك أنها تؤكد الكلام بمعنى تمكنه في النفس من جهة حسن النظم، ومن جهة تكثيره للتوكيد .

    فالتأكيد بعلامة موضوعة كالتأكيد بالتكرير. "لعناهم" قال ابن عباس: عذبناهم بالجزية. وقال الحسن ومقاتل: بالمسخ. عطاء: أبعدناهم؛ واللعن الإبعاد والطرد من الرحمة. "وجعلنا قلوبهم قاسية" أي صلبة لا تعي خيرا ولا تفعله؛ والقاسية والعاتية بمعنى واحد. وقرأ الكسائي وحمزة: "قسيَّة" بتشديد الياء من غير ألف؛ وهي قراءة ابن مسعود والنخعي ويحيى بن وثاب. والعام القسي الشديد الذي لا مطر فيه. وقيل: هو من الدراهم القسيات أي الفاسدة الرديئة؛ فمعنى "قسية" على هذا ليست بخالصة الإيمان، أي فيها نفاق. قال النحاس: وهذا قول حسن؛ لأنه يقال: درهم قسي إذا كان مغشوشا بنحاس أو غيره. يقال: درهم قسي (مخفف السين مشدد الياء) مثال شقي أي زائف .

    وقال الأصمعي وأبو عبيد: درهم قسي كأنه معرب قاشي. قال القشيري: وهذا بعيد؛ لأنه ليس في القرآن ما ليس من لغة العرب، بل الدرهم القسي من القسوة والشدة أيضا؛ لأن ما قلت نقرته يقسوا ويصلب. وقرأ الأعمش: "قسية" بتخفيف الياء على وزن فعلة نحو عمية وشجية؛ من قسي يقسى لا من قسا يقسو. وقرأ الباقون على وزن فاعلة؛ وهو اختيار أبي عبيد؛ وهما لغتان مثل العلية والعالية، والزكية والزاكية. قال أبو جعفر النحاس: أولى ما فيه أن تكون قسية بمعنى قاسية، إلا أن فعيلة أبلغ من فاعلة. فالمعنى: جعلنا قلوبهم غليظة نابية عن الإيمان والتوفيق لطاعتي؛ لأن القوم لم يوصفوا بشيء من الإيمان فتكون قلوبهم موصوفة بأن إيمانها خالطه كفر، كالدراهم القسية التي خالطها غش. قال الراجز: قد قسوت وقست لداتيقوله تعالى: "يحرفون الكلم عن مواضعه" أي يتأولونه على غير تأويله، ويلقون ذلك إلى العوام. وقيل: معناه يبدلون حروفه. "ويحرفون" في موضع نصب، أي جعلنا قلوبهم قاسية محرفين. وقرأ السلمي والنخعي "الكلام" بالألف وذلك أنهم غيروا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم. "ونسوا حظا مما ذكروا به" أي نسوا عهد الله الذي أخذه الأنبياء عليهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.، وبيان نعته. "ولا تزال تطلع" أي وأنت يا محمد لا تزال الآن تقف "على خائنة منهم" والخائنة الخيانة؛ قال قتادة. وهذا جائز في اللغة، ويكون مثل قولهم: قائلة بمعنى قيلولة. وقيل: هو نعت لمحذوف والتقدير فرقة خائنة. وقد تقع "خائنة" للواحد كما يقال: رجل نسابة وعلامة؛ فخائنة على هذا للمبالغة؛ يقال: رجل خائنة إذا بالغت في وصفه بالخيانة

    قال ابن عباس: "على خائنة" أي معصية. وقيل: كذب وفجور. وكانت خيانتهم نقضهم العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومظاهرتهم المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كيوم الأحزاب وغير ذلك من همهم بقتله وسبه. "إلا قليلا منهم" لم يخونوا فهو استثناء من الهاء والميم اللتين في "خائنة منهم". "فاعف عنهم واصفح" في معناه قولان: فاعف عنهم واصفح ما دام بينك وبينهم عهد وهم أهل الذمة. والقول الآخر إنه منسوخ بآية السيف. وقيل: بقوله عز وجل "وإما تخافن من قوم خيانة" [الأنفال:58].



    *السعدي فبما نقضهم ميثاقهم " أي : بسببه عاقبناهم بعدة عقوبات : الأولى : أن " لعناهم " أي : طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا ، حيث أغلقوا على أنفسهم أبواب الرحمة ، ولم يقوموا بالعهد الذي أخذ عليهم ، الذي هو سببها الأعظم . الثانية : قوله : " وجعلنا قلوبهم قاسية " أي : غليظة لا تجدي فيها المواعظ ، ولا تنفعها الآيات والنذر ، فلا يرغبهم تشويق . ولا يزعجهم تخويف . وهذا من أعظم العقوبات على العبد ، أن يكون قلبه بهذه الصفة ، التي لا يفيده معها ، الهدى ، والخير إلا شرا . الثالثة : أنهم " يحرفون الكلم عن مواضعه " أي : ابتلوا بالتغيير والتبديل ، فيجعلون الكلام الذي أراد الله له معنى ، غير ما أراد الله ، ولا رسوله . الرابعة : أنهم " فنسوا حظا مما ذكروا به "

    . فإنهم ذكروا بالتوراة ، وبما أنزل الله على موسى ، فنسوا حظا منه . وهذا شامل ، لنسيان علمه ، وأنهم نسوه ، وضاع عنهم ، ولم يوجد كثير مما أنساهم الله إياه ، عقوبة منه لهم . وشامل لنسيان العمل ، الذي هو الترك ، فلم يوفقوا للقيام بما أمروا به . ويستدل بهذا على أهل الكتاب ، بإنكارهم بعض الذي قد ذكر في كتابهم ، أو وقع في زمانهم ، أنه مما نسوه . الخامسة : الخيانة المستمرة التي " ولا تزال تطلع على خائنة منهم " أي : خيانتهم لله ، ولعباده المؤمنين . ومن أعظم الخيانة منهم ، كتمهم الحق ، عن من يعظهم ، ويحسن فيهم الظن ، وإبقاؤهم على كفرهم ، فهذه خيانة عظيمة . وهذه الخصال الذميمة ، حاصلة لكل من اتصف بصفاتهم . فكل من لم يقم بما أمر الله به ، وأخذ به عليه الالتزام ، كان له نصيب من اللعنة وقسوة القلب ، والابتلاء بتحريف الكلم ، وأنه لا يوفق للصواب ونسيان حظ مما ذكر به . وأنه لا بد أن يبتلى بالخيانة . نسأل الله العافية . وسمى الله تعالى ما ذكروا به حظا ، لأنه هو أعظم الحظوظ ، وما عداه فإنما هي حظوظ دنيوية . كما قال تعالى : " فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم ". وقال في الحظ النافع : " وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم " . وقوله : " إلا قليلا منهم " أي : فإنهم وفوا بما عاهدوا الله عليهم فوفقهم ، وهداهم للصراط المستقيم . " فاعف عنهم واصفح " أي : لا تؤاخذهم بما يصدر منهم من الأذى ، الذي يقتضي أن يعفى عنهم . واصفح ، فإن ذلك من الإحسان " والله يحب المحسنين " والإحسان : هو أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك . وفي حق المخلوقين : بذل النفع الديني والدنيوي لهم .



    ابن عاشور {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين}

    .......

    وقد جمعت الآية من الدلائل على قلة اكتراثهم بالدين ورقة اتباعهم ثلاثة أصول من ذلك: وهي التعمد إلى نقض ما عاهدوا عليه من الامتثال، والغرور بسوء التأويل، والنسيان الناشئ عن قلة تعهد الدين وقلة الاهتمام به.

    والمقصود من هذا أن نعتبر بحالهم ونتعظ من الوقوع في مثلها. وقد حاط علماء الإسلام رضي الله عنهم هذا الدين من كل مسارب التحريف، فميزوا الأحكام المنصوصة والمقيسة ووضعوا ألقابا للتمييز بينها، ولذلك قالوا في الحكم الثابت بالقياس: يجوز أن يقال: هو دين الله، ولا يجوز أن يقال: قاله الله.

    وقوله {ولا تزال تطلع على خائنة منهم} انتقال من ذكر نقضهم لعهد الله إلى خيسهم بعهدهم مع النبي صلى الله عليه وسلم. وفعل {لا تزال} يدل على الاستمرار، لأن المضارع للدلالة على استمرار الفعل لأنه في قوة أن يقال: يدوم اطلاعك. فالاطلاع مجاز مشهور في العلم بالأمر، والاطلاع هنا كناية عن المطلع عليه، أي لا يزالون يخونون فتطلع على خيانتهم.

    والاطلاع افتعال من طلع. والطلوع: الصعود. وصيغة الافتعال فيه لمجرد المبالغة، إذ ليس فعله متعديا حتى يصاغ له مطاوع، فاطلع بمنزلة تطلع، أي تكلف الطلوع لقصد الإشراف.

    والمعنى: ولا تزال تكشف وتشاهد خائنة منهم.

    والخائنة: الخيانة فهو مصدر على وزن الفاعلة، كالعاقبة ، والطاغية. ومنه {يعلم خائنة الأعين}. وأصل الخيانة: عدم الوفاء بالعهد، ولعل أصلها إظهار خلاف الباطن. وقيل: {خائنة} صفة لمحذوف، أي فرقة خائنة.

    واستثنى قليلا منهم جبلوا على الوفاء، وقد نقض يهود المدينة عهدهم مع رسول الله والمسلمين فظاهروا المشركين في وقعة الأحزاب، قال تعالى {وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم}. وأمره بالعفو عنهم والصفح حمل على مكارم الأخلاق، وذلك فيما يرجع إلى سوء معاملتهم للنبي صلى الله عليه وسلم. وليس المقام مقام ذكر المناواة القومية أو الدينية، فلا يعارض هذا قوله في براءة {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} لأن تلك أحكام التصرفات العامة، فلا حاجة إلى القول بأن هذه الآية نسخت بآية براءة.

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس 7 نوفمبر 2024 - 14:50