وظائف شهر الله المحرم
ويشتمل على مجالس: المجلس الأول في فضل شهر الله المحرم وعشره الأول
ويشتمل على مجالس: المجلس الأول في فضل شهر الله المحرم وعشره الأول
من كتاب لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف - تأليف: الإمام الحافظ زين الدين أبي الفرج عبدالرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي الدمشقي (736-795هـ)
خرج مسلم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي r قال:(أفضل الصيام بعد شهر رمضان، شهر الله الذي تدعونه المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل). الكلام على هذا الحديث في فصلين في أفضل التطوع: بالصيام وأفضل التطوع بالقيام.
الفصل الأول: أفضل التطوع بالصيام
وهذا الحديث صريح في أن أفضل ما تطوع به من الصيام بعد رمضان صوم شهر الله المحرم، وقد يحتمل أن يراد: أنه أفضل شهر تطوع بصيامه كاملا بعد رمضان، فأما بعض التطوع ببعض شهر فقد يكون أفضل من بعض أيامه كصيام يوم عرفه أو عشر ذي الحجة أو ستة أيام من شوال ونحو ذلك. ويشهد لهذا ما خرجه الترمذي من حديث علي أن رجلا أتى النبي r فقال: يا رسول الله أخبرني بشهر أصومه بعد شهر رمضان ؟ قال رسول الله r: إن كنت صائما شهرا بعد رمضان فصم المحرم، فإنه شهر الله، وفيه يوم تاب الله فيه على قوم ويتوب على آخرين). وفي إسناده مقال، ولكن يقال: أن النبي r كان يصوم شهر شعبان ولم ينقل أنه كان يصوم المحرم، إنما كان يصوم عاشوراء. وقوله في آخر سنة: (لئن عشت إلى قابل لأصومنّ التاسع) يدل على أنه كان يصوم التاسع قبل ذلك.وقد أجاب الناس عن هذا السؤال بأجوبة فيها ضعف، والذي ظهر لي والله أعلم أن التطوع بالصيام نوعان:أحدهما: التطوع المطلق بالصوم فهذا أفضله المحرم كما أن أفضل التطوع المطلق بالصلاة قيام الليل.
والثاني: ما صيامه تبع لصيام رمضان قبله وبعده، فهذا ليس من التطوع المطلق بل صيامه تبع لصيام رمضان، وهو ملتحق بصيام رمضان. ولهذا قيل: إن صيام ستة أيام من شهر شوال يلتحق بصيام رمضان، ويكتب بذلك لمن صامها مع رمضان صيام الدهر فرضا، وقد روي أن أسامة بن زيد كان يصوم الأشهر الحرم، فأمره النبي r بصيام شوال فترك الأشهر الحرم وصام شوالا. وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
فهذا النوع من الصيام ملتحق برمضان وصيامه أفضل التطوع مطلقا، فأما التطوع المطلق فأفضله صيام الأشهر الحرم، وقد روي عن النبي r أنه أمر رجلا أن يصوم الأشهر الحرم، وسنذكره في موضع آخر إن شاء الله تعالى. وأفضل صيام الأشهر الحرم شهر الله المحرم ويشهد لهذا أنه r قال في هذا الحديث: (وأفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل) ومراده بعد المكتوبة: ولواحقها من سننها الرواتب، فإن الرواتب قبل الفرائض وبعدها أفضل من قيام الليل عند جمهور العلماء، لالتحاقها بالفرائض، وإنما خالف في ذلك بعض الشافعية، فكذلك الصيام قبل رمضان وبعده ملتحق برمضان وصيامه أفضل من صيام الأشهر الحرم، وأفضل التطوع المطلق بالصيام صيام المحرم.
وقد اختلف العلماء في أي الأشهر الحرم أفضل؟ فقال الحسن وغيره أفضلها شهر الله المحرم، ورجحه طائفة من المتأخرين. وروى وهب بن جرير عن قرة بن خالد عن الحسن قال: إن الله افتتح السنة بشهر حرام، وختمها بشهر حرام، فليس شهر في السنة بعد شهر رمضان أعظم عند الله من المحرم. وكان يسمى شهر الله الأصم من شدة تحريمه. وقد روي عنه مرفوعا ومرسلا، قال آدم بن أبي إياس: حدثنا أبو الهلال الراسبي عن الحسن قال: قال رسول الله r: (أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل الأوسط، وأفضل الشهور بعد شهر رمضان المحرم، وهو شهر الله الأصم)، وخرج النسائي من حديث أبي ذر قال: سألت النبي r: أي الليل خير وأي الأشهر أفضل ؟ فقال: (خير الليل جوفه وأفضل الأشهر شهر الله الذي تدعونه المحرم). وإطلاقه في هذا الحديث أفضل الأشهر محمول على ما بعد رمضان، كما في رواية الحسن المرسلة، وقال سعيد بن جبير وغيره:(أفضل الأشهر الحرم ذو القعدة أو ذو الحجة)، بل قد قيل: إنه أفضل الأشهر مطلقا، وسنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. وزعم بعض الشافعية أن أفضل الأشهر الحرم رجب، وهو قول مردود.
وأفضل شهر الله المحرم عشره الأول، وقد زعم يمان بن رآب: أنه العشر الذي أقسم الله به في كتابه، ولكن الصحيح أن العشر المقسم به عشر ذي الحجة، كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. وقال أبو عثمان النهدي: كانوا يعظمون ثلاث عشرات، العشر الأخير من رمضان، والعشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأول من محرم. وقد وقع هذا في بعض نسخ (كتاب فضائل العشر) لابن أبي الدنيا، عن أبي عثمان عن أبي ذر عن النبي r: (أنه كان يعظم هذه العشرات الثلاث) وليس ذلك بمحفوظ، وقد قيل: إن العشر الذي أتم الله به ميقات موسى عليه السلام أربعين ليلة، وإن التكلم وقع في عاشره. وروي عن وهب بن منبه قال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن مر قومك أن يتوبوا إلي في أول عشر المحرم، فإذا كان يوم العاشر فليخرجوا إلي أغفر لهم. وعن قتادة أن الفجر الذي أقسم الله به في أول سورة الفجر هو فجر أول يوم من المحرم تنفجر منه السنة.
ولما كانت الأشهر الحرم أفضل الأشهر بعد رمضان أو مطلقا، وكان صيامها كلها مندوبا إليه، كما أمر به النبي r وكان بعضها ختام السنة الهلالية، وبعضها مفتاحا لها، فمن صام شهر ذي الحجة سوى الأيام المحرم صيامها منه وصام المحرم فقد ختم السنة بالطاعة وافتتحها بالطاعة، فيرجى أن تكتب له سنته كلها طاعة، فإن من كان أول عمله طاعة وآخره طاعة، فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العملين. وفي حديث مرفوع: (ما من حافظين يرفعان إلى الله صحيفة فيرى في أولها وفي آخرها خيرا إلا قال الله لملائكته أشهدكم أني غفرت لعبدي ما بين طرفيها)خرجه الطبراني وغيره. وهو موجود في بعض نسخ كتاب الترمذي. وفي حديث آخر مرفوع: (ابن آدم اذكرني من أول النهار ساعة ومن آخر النهار ساعة أغفر لك مابين ذلك إلا الكبائر أو تتوب منها) وقال ابن مبارك: من ختم نهاره بذكر،كتب نهاره كله ذكرا. يشير إلى أن الأعمال بالخواتيم، فإذا كان البداءة والختام ذكرا فهو أولى أن يكون حكم الذكر شاملا للجميع، ويتعين افتتاح العام بتوبة نصوح تمحو ما سلف من الذنوب السالفة في الأيام الخالية.
قطعت شهور العام لهوا وغفلة | | ولم تحترم فيما أتيت المحرما |
فلا رجبا وافيت فيه بحقه | | ولا صمت شهر الصوم صوما متمما |
ولا في ليالي عشر ذي الحجة الذي | | مضى كنت قواما ولا كنت محرما |
فهل لك أن تمحو الذنوب بعبرة | | وتبكي عليها حسرة وتندما |
وتستقبل العام الجديد بتوبة | | لعلك أن تمحوبها ما تقدما |
شهر الحرام مبارك ميمون | | والصوم فيه مضاعف مسنون |
وثواب صائمه لوجه إلهه | | في الخلد عند مليكه مخزون |
قال بعضهم: إنما هوغداء وعشاء، فإن أخرت غداءك إلى عشائك أمسيت وقد كتبت في ديوان الصائمين.
(للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه) إذا وجد ثواب صيامه مدخورا، سمع بعضهم مناديا ينادي على السحور في رمضان: يا ما خبأنا للصوام، فانتبه لذلك وسرد الصوم وروي: أن الصائمين توضع لهم مائدة تحت العرش، فيأكلون والناس في الحساب، فيقول الناس: ما بال هؤلاء يأكلون ونحن نحاسب ؟ فيقال: كانوا يصومون وأنتم تفطرون. وروي: أنهم يحكمون في ثمار الجنة، والناس في الحساب، روى ذلك ابن أبي الدنيا في (كتاب الجوع)، قال الله تعالى: (والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما) وقال تعالى: (كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية). قال مجاهد وغيره: نزلت في الصوم، من ترك لله طعامه وشرابه وشهوته عوضه الله خيرا من ذلك طعاما وشرابا لا ينفذ وأزواجا لا تموت، وفي التوراة: طوبى لمن جوع نفسه ليوم الشبع الأكبر، طوبى لمن ظمأ نفسه اليوم ليوم الري الأكبر، طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره، طوبى لمن ترك طعاما ينفذ في دار لدار (أكلها دائم وظلها).
من يرد ملك الجنان | فليذر عنه التواني |
وليقم في ظلمة الل | يل إلى نور القرآن |
وليصل صوما بصوم | إن هذا العيش فإني |
إنما العيش جوار | الله في دار الأمان |
قد كسي حلة البهاء | وطافت بالأباريق حوله الخدام |
ثم حلى وقيل يا قارئي أرقه | فلعمري لقد براك الصيام |
الدنيا كلها شهر صيام المتقين، وعيد فطرهم يوم لقاء ربهم، ومعظم نهار الصيام قد ذهب، وعيد اللقاء قد اقترب.
وقد صمت عن لذات دهري كلها | | ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي |
كم يستر الصادقون أحوالهم وريح الصدق ينم عليهم، ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية.
كم اكتم حبكم عن الأغيار | | والدمع يذيع في الهوى أسراري |
كم أستركم هتكتموأسرارى | | من يخفي في الهوى لهيب النار |
فكاتم الحب يوم البين منهتك | | وصاحب الوجد لا تخفى سرائره. |
وهبني كتمت السر أو قلت غيره | | أتخفى على أهل القلوب السرائر |
أبى ذاك أن السر في الوجه ناطق | | وإن ضمير القلب في العين ظاهر |