بسم الله الرحمن الرحيم
فضل التذكير بالله تعالى، ومجالس الوعظ.
من كتاب لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف - تأليف: الإمام الحافظ زين الدين أبي الفرج عبدالرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي الدمشقي (736-795هـ)فضل التذكير بالله تعالى، ومجالس الوعظ.
كانت مجالس النبي r مع أصحابه عامتها مجالس تذكير بالله وترغيب وترهيب، إما بتلاوة القرآن أوبما آتاه الله من الحكمة والموعظة الحسنة وتعليم ما ينفع في الدين كما أمره الله تعالى في كتابه أن يذكر ويعظ ويقص وأن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة وأن يبشر وينذر، وسماه الله (مبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا) فقيل: سراجا للمؤمنين في الدنيا، ومنيرا للمذنبين يوم القيامة بالشفاعة، وسمي سراجا لأن السراج الواحد يوقد منه ألف سراج ولا ينتقص من نوره شيء، كذلك خلق الله الأنبياء من نور محمد r ولم ينقص من نوره شيء، قال العلماء رضي الله عنهم: والسرج خمسة: واحد في الدنيا وواحد في الدين وواحد في السماء وواحد في الجنة وواحد في القلب، ففي الدنيا: النار، وفي السماء: الشمس، وفي الدين: محمد r، وواحد في الجنة: عمر سراج أهل الجنة، وفي القلب: المعرفة، والتبشير والإنذار: هو الترغيب والترهيب فلذلك كانت تلك المجالس توجب لأصحابه ـ كما ذكره أبو هريرة رضي الله عنه في هذا الحديث ـ رقة القلب والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة.
الكلام في المواعظ ورقة القلب
فأما رقة القلوب فتنشأ عن الذكر، فإن ذكر الله يوجب خشوع القلب وصلاحه ورقته ويذهب بالغفلة عنه قال الله تعالى: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب) وقال الله عز وجل: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون) وقال تعالى: (وبشر المخبتين * الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) وقال الله تعالى: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون) وقال تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله)وقال العرباض بن سارية: وعظنا رسول الله r موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون. وقال ابن مسعود: نعم المجالس المجلس الذي تنشر فيه الحكمة وترجى فيه الرحمة هي مجالس الذكر.
وشكا رجل إلى الحسن قساوة قلبه فقال: أدنه من الذكر، وقال: مجلس الذكر محياة العلم، ويحدث في القلب الخشوع .
القلوب الميتة تحيا بالذكر كما تحيا الأرض الميتة بالقطر:
بذكر الله ترتاح القلوب | | ودنيانا بذكراه تطيب |
قال النبي r (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا: وما رياض الجنة ؟ قال: مجالس الذكر). فإذا انقضى مجلس الذكر فأهله بعد ذلك على أقسام:
أقسام أهل الذكر
فمنهم من يرجع إلى هواه فلا يتعلق بشيء مما سمعه في مجلس الذكر ولا يزداد هدى ولا يرتدع عن رديء، وهؤلاء شر الأقسام، ويكون ما سمعوه حجة عليهم فتزداد به عقوبتهم وهؤلاء الظالمون لأنفسهم: (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون). النحل/108ومنهم من ينتفع بما سمعه، وهم على أقسام: فمنهم من يرده ما سمعه عن المحرمات ويوجب له التزام الواجبات، وهؤلاء المقتصدون أصحاب اليمين.
ومنهم من يرتقي عن ذلك إلى التشمير في نوافل الطاعات، والتورع عن دقائق المكروهات، ويشتاق إلى اتباع آثار من سلف من السادات، وهؤلاء السابقون المقربون.
وينقسم المنتفعون بسماع مجلس الذكر في استحضار ما سمعوه في المجلس والغفلة عنه إلى ثلاثة أقسام:
فقسم يرجعون إلى مصالح دنياهم المباحة، فيشتغلون بها فتذهل بذلك قلوبهم عما كانوا يجدونه في مجلس الذكر، من استحضار عظمة الله وجلاله وكبريائه ووعده ووعيده وثوابه وعقابه، وهذا هو الذي شكاه الصحابة إلى النبي r وخشوا، لكمال معرفتهم وشدة خوفهم أن يكون نفاقا فأعلمهم النبي r أنه ليس نفاق وفي صحيح مسلم عن حنظلة أنه قال: يا رسول الله نافق حنظلة قال: وما ذاك قال: نكون عندك تذكرنا بالجنة والنار كأنها رأي عين، فإذا رجعنا من عندك عافسنا الأزواج والضيعة ونسينا كثيرا، فقال: لو تدومون على الحال التي تقومون بها من عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة) ثلاث مرات. وفي رواية له أيضا: (لو كانت تكون قلوبكم كما تكون عند الذكر لصافحتكم الملائكة حتى تسلم عليكم في الطرق) ومعنى هذا: أن استحضار ذكر الآخرة بالقلب في جميع الأحوال عزيز جدا، ولا يقدر كثير من الناس أو أكثرهم عليه فيكتفي منهم بذكر ذلك أحيانا وإن وقعت الغفلة عنه في حال التلبس بمصالح الدنيا المباحة ولكن المؤمن لا يرضى من نفسه بذلك بل يلوم نفسه عليه ويحزنه ذلك من نفسه العارف يتأسف في وقت الكدر على زمن الصفا ويحن إلى زمان القرب والوصال في حال الجفا.
ما أكدر عيشنا الذي قد سلفا | | إلا وجف القلب وكم قد جفا |
واها لزماننا الذي كان صفا | | هل يرجع بعد فوته وا أسفا |
أحدهما: من يشغله ذلك عن مصالح دنياه المباحة، فينقطع عن الخلق فلا يقوى على مخالطتهم ولا القيام بوفاء حقوقهم، وكان كثير من السلف على هذه الحال، فمنهم من كان لا يضحك أبدا، ومنهم من كان يقول: لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة لفسد.
والثاني: من يستحضر ذكر الله وعظمته وثوابه وعقابه بقلبه، ويدخل ببدنه في مصالح دنياه من اكتساب الحلال والقيام على العيال ويخالط الخلق فيما يوصل إليهم به النفع مما هو عبادة في نفسه كتعلم العلم والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهؤلاء أشرف القسمين وهم خلفاء الرسل، وهم الذين قال فيهم علي رضي الله عنه: صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى.
وقد كان حال النبي r عند الذكر يتغير، ثم يرجع بعد انقضائه إلى مخالطة الناس والقيام بحقوقهم، ففي مسند البزار ومعجم الطبراني عن جابر رضي الله عنه قال: كان النبي r إذا نزل عليه الوحي، قلتَ: نذير قوم فإذا سري عنه، فأكثر الناس ضحكا وأحسنهم خلقا).
وفي مسند الإمام أحمد، عن علي أو الزبير قال: (كان رسول الله r يخطبنا فيذكرنا بأيام الله حتى نعرف ذلك في وجهه وكأنه نذير جيش يصبحهم الأمر غدوة، وكان إذا كان حديث عهد بجبريل لم يتبسم ضاحكا حتى يرتفع عنه).
وفي صحيح مسلم عن جابر: أن النبي r كان إذا خطب وذكر الساعة اشتد غضبه وعلا صوته حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم)
وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم أن النبي r قال: اتقوا النار وأشاح ثم قال: اتقوا النار ثم أعرض وأشاح ثلاثا، حتى ظننا أنه ينظر إليها ثم قال: اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة) وسئلت عائشة كيف كان رسول الله r إذا خلا مع نسائه ؟ قالت: (كان كرجل من رجالكم إلا أنه: كان أكرم الناس وأحسن الناس خلقا وكان ضحاكا بساما) فهذه الطبقة خلفاء الرسل عاملوا الله بقلوبهم، وعاشروا الخلق بأبدانهم، كما قالت رابعة:
ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي | | وأبحت جسمي من أراد جلوسي |
فالجسم مني للجليس مؤانس | | وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي |
فمنهم من كان لا يستطيع أن يأكل طعاما عقب ذلك، ومنهم من كان يعمل بمقتضى ما سمعه مدة.
أفضل الصدقة: تعليم جاهل أو إيقاظ غافل، ما وُصل المستثقِل في نوم الغفلة بأفضل من ضربه بسياط الموعظة ليستيقظ.
المواعظ كالسياط تقع على نياط القلوب فمن آلمته فصاح فلا جناح، ومن زاد ألمه فمات فدمه مباح.
قضى الله في القتلى قصاص دمائهم | | ولكن دماء العاشقين جبار |
صاح رجل في حلقة الشبلي فمات، فاستعدى أهله على الشبلي إلى الخليفة فقال الشبلي: نفس رقت، فحنت، فدعيت، فأجابت، فما ذنب الشبلي!؟.
فكر في أفعاله ثم صاح | | لا خير في الحب بغير افتضاح |
قد جئتكم مستأمنا فارحموا | | لا تقتلوني قد رميت السلاح |
كان الحسن إذا خرج إلى الناس كأنه رجل عاين الآخرة ثم جاء يخبر عنها. وكانوا إذا خرجوا من عنده خرجوا وهم لا يعدون الدنيا شيئا.
وكان سفيان الثوري يتعزى بمجالسه عن الدنيا، وكان أحمد لا تذكر الدنيا في مجلسه ولا تذكر عنده.
قال بعضهم: لا تنفع الموعظة إلا إذا خرجت من القلب فإنها تصل إلى القلب فأما إذا خرجت من اللسان فإنها تدخل من الأذن ثم تخرج من الأخرى .
قال بعض السلف: إن العالم إذا لم يرد بموعظة وجه الله زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا.
كان يحيى بن معاذ ينشد في مجالسه:
مواعظ الواعظ لن تقبلا | | حتى يعيها قلبه أولا |
يا قوم من أظلم من واعظ | | قد خالف ما قاله في الملا |
أظهر بين الناس إحسانه | | وبارز الرحمن لما خلا |