قصة ذي القرنين
المصدر : كتاب المدهش لابن الجوزي
قطع ذي القرنين الأرض وأقطعها فمر سالكاً مسلكاً ما فت سبسبه فتى "فأتْبع سبباً" فشمر مشمراً ما تلفت، حتى لفت شملة جمع شمله بالشمس في عين حمئه، فلما أفرغ غرب الغرب على غارب الغربة مشى نحو المشارق، ولم يزل يحوز الكنوز، ويجوز إلى قتل من يجوز، إلى أن طلعت طلايعه الطلعة على مطلع الشمس، فأبرز نير عدله المشرق في المَشرِق، ثم رأى باقي عرضه في دمه مقدار مقدرته كالدين، فسلك بين السدين، فلما حشى حشا الجبلين بالزبر، ولج المفسدون قسر قصراهم، على مضض "فما استطاعوا" عجباً له كم اقتنى من أصقع وأقنف، وكم أسعف بأغشى وأسعف وكم لطى له من لطيم وأخيف، وكم سعى به من أكسع، وقفز به من أقفز، ومشى به في محجة المشرق محجل، وطرق به طريق المغرب مغرب، كم صحبه من سايف ونابل وسالح، كم تبعه من في السلاح كافر، غير شاك في الصلاح ولا كافر، فما درأ عنه الأد المودى له مود، ولا دارى عن داره الدوائر دارع، ولا رد عنه ورد ولا كميت، إذ ورد عليه ما تركه كميّت، ولا فرّ به من منيته سابق، ولا سكيت، فكأنه إذ مات ما تحرك على حارك فرس، ولا شاك شاكلته بشولحة عقب، بل مر كأنه لم يكن، وذل للموت وقبلها لم يهن، فتلمح آخر الدنيا إن كنت تدري، وانظر في أي بحر إلى الهلاك تجري، وأصخ لخطاب الخطوب، وافهم ما يجري، وكن على أهبة فهذي الركاب تسري.
للشريف الرضي:
أو ما رأيت وقائع الـدهـر | أفلا تسيء الظن بالعمـرِ | |
بينا الفتى كالطودِ تمنـعـه | هضباته والعصْب ذي الأثْرِ | |
يأبى الدنيةَ في عشـيرتـه | ويجاذبُ الأيدي على الفخرِ | |
وإذا أشار إلـى قـبـائلـه | حشدتْ عليه بأوجـهٍ غُـرِّ | |
زل الزمان بوطء أخمصـه | ومواطئ الأقدام للعـثْـرِ | |
نزع الإباءَ وكان شملـتـه | وأقرَّ إقراراً على صُغـرِ | |
صدْعُ الردى أعيى تلاحـمـه | مَن ألحم الصدفين بالقِـطـرِ | |
جرّ الجياد على الوجى ومضى | أمماً يدق السهل بـالـوعـرِ | |
حتى التقى بالشمس مغـمـده | في قعر منقطعٍ من البحـرِ | |
ثم انثنت كفُ المـنـون بـه | كالضغث بين الناب والظُفـرِ | |
لم تشتجر عنه الـرمـاح ولا | رد القضاءَ بمالـه الـدثـرِ | |
جمع الجنود وراءه فكأنـمـا | لاقته وهو مُضيِّعُ الظـهـرِ | |
وبنى الحصون ممتعاً فكأنمـا | أمسى بمـضـيعة ولا يدري | |
ويرى المعابل للعدى فكأنمـا | لحمامه كـان الـذي يبـري | |
أودى وما أودت مـنـاقـبـه | ومن الرجال مُعمّرُ الـذكـرِ | |
إن التوقي فضل مـعـجـزة | فدعِ القضاء يقُـدُّ أو يفـري | |
تحمي المطاعم للبـقـاء وذي | الآجال ملؤ فروجها تحـزي | |
لو كان حُفظ النفس ينفعـهـا | كان الطبيب أحق بالعـمـرِ | |
الــداء داء لا دواء لـــه | سيان ما يوبي ومـا يُمـري |