في قوله تعالى "هو الأول والآخر" يذكر فيه التوحيد
المصدر : كتاب المدهش لابن الجوزي
أول ليس له مبدأ، آخر جل عن منتهى، ظاهر بالدليل، باطن بالحجاب، يثبته العقل ولا يدركه الحس، كل مخلوق محصور، بحد مأسور في سور قطر، والخالق بائن مباين يعرف بعدم مألوف التعريف، ارتفعت لعدم للشبه الشبه، إنما يقع الإشكال في وصف من له أشكال، وإنما تضرب الأمثال لمن له أمثال، فأما من لم يزل ولا يزال فما للحس معه مجال، عظمته عظمت عن نيل كف الخيال.
كيف يقال له كيف، والكيف في حقه محال، أنى تتخايله الأوهام وهي صنعه، كيف تحده العقول وهي فعله، كيف تحويه الأماكن وهي وضعه، انقطع سير الفكر، وقف سلوك الذهن، بطلت إشارة الوهم، عجز لطف الوصف، عشيت عين العقل، خرس لسان الحس، لا طور للقدم في طور القدم، عز المرقى فيأس المرتقى، بحر لا يتمكن منه غايص، ليل لا يبين للعين فيه كوكب:
مرام شط مرمى العقل فيه | فدون مداه بـيد لا تـبـيد |
فما ينزه عنه فم، فيما يجب نفيه بثم جل وجوب وجوده عن رجم لعل، سبق الزمان فلا يقال كان إذ، تمجد في وحدانيته عن زحام مع، تفرد بالإنشاء فلا يستفهم عن الصانع بمن، أبرز عرايس المخلوقات من كنّ كن، بث الحلم فلم يعارض بلم، تعالى عن بعضية من، وتقدس عن ظرفية في، وتنزه عن شبه كان، وتعظم عن نقص لو أن، وعز عن عيب إلا أن، وسما كماله عن تدارك لكن.
إن وقف ذهن بوصفه صاح العز جز، إن سار فكر نحوه قالت الهيبة عد، إن قعد اللسان عن ذكره قال القلب قم، إن تجبر متكبر قال القهر شم، إن سأل محتاج قال الإنعام رش، إن تعرض فقير قال الوفر فر، إن سكت مذنب حيا قال الحلم قل، إن بعد ذو خطاء نادى اللطف إبْ، نثر عجايب النعم وقال للكل خذ.
من بيان عظمته "رفيع الدرجات" من أثر قسره "تُسبِّح له السماوات" توقيع أمره "يأمر بالعدل" واقع زجره "ينهى عن الفحشاء" ينادي على باب عزته "لا يُسأل" يصاح على محجة حجته "لمن الأرض ومن فيها" ينذر جاسوس علمه "ما يكون من نجوى ثلاثة" يقول جهبذ طوله "وإن تعدُّوا نعمة الله" يترنم منشد فضله "لا تقنطوا".
سبحان من أقام من كل موجود دليلاً على عزته، ونصب علم الهدى على باب حجته، الأكوان كلها تنطق بالدليل على وحدانيته، وكل موافق ومخالف يمشي تحت مشيئته، إن رفعت بصر الفكر ترى دائرة الفلك في قبضته، وتبصر شمس النهار وبدر الدجى يجريان في بحر قدرته، والكواكب قد اصطفت كالمواكب على مناكب تسخير سطوته، فمنها رجوم للشياطين ترميهم فترميهم عن حمى حمايته، ومنها سطور في المهامه يقرؤها المسافر في سفر سفرته، وإن خفضت البصر رأيت الأرض ممسكة بحكمة حكمته، كل قطر منها محروس بأطواده عن حركته، فإذا ضجت عطائها ثار السحاب من بركة بركته، ونفخ في صور الرعد لإحياء صور النبات من حفرته، فيبدو نور النور يهتز طرباً بخزامى رحمته، فإذا استوى على سوقه. زادت في سوقه نعامى نعمته، ويفتق يد الإيجاد بأنامل القدرة أكمام النبات عن صنعة صبغته، فيرفل في حلى حلل الحال الحالية إلى معبر عبرته، وتصدح الورق على الورق كل بتبليغ لغته، والأشجار معتنقة ومفترقة على مقدار إرادته، صنوان وغير صنوان، هذا بعض صنعته "ويُسبِّح الرعد بحمد والملائكة من خيفته".
نظر بعين الاختيار إلى آدم فحظي بسجود ملائكته، وإلى ابنه شيث فأقامه في منزلته، وإلى إدريس فاحتال بإلهامه على جنته، وإلى نوح فنجا من الغرق بسفينته، وإلى هود فعاد على عاد شؤم مخالفته، وإلى صالح فتمخضت صخرة بناقته، وإلى إبراهيم فتبختر في حلة خلته، وإلى إسماعيل فأعان الخليل في بناء كعبته، وإلى إسحق فافتكه بالفداء من ضجعته، وإلى لوط فنجاه وأهله من عشيرته، وإلى شعيب فأعطاه الفصاحة في خطبته، وإلى يعقوب فرد حبيبه مع حبيبته، وإلى يوسف فأراه البرهان في همته، وإلى موسى فخطر في ثوب مكالمته، وإلى إلياس فاليأس للناس من حالته، وإلى داود فألان الحديد له على حدته، وإلى سليمان فراحت الريح من في مملكته، وإلى أيوب فيا طوبى لركضته، وإلى يونس فسمع نداه في ظلمته، وإلى زكريا فقرن سؤاله ببشارته، وإلى يحيى فتلمح حصير الحصور على سدة سيادته، وإلى عيسى فكم أقام ميتاً من حفرته، وإلى محمد، فخصه ليلة المعراج رؤيته.
وأعرض عن إبليس فخزي ببعده ولعنته، وعن قابيل فقلب قلبه إلى معصيته، وعن نمرود فقال أنا أحيي الموتى ببلاهته، وعن فرعون فادعى الربوبية على جرأته، وعن هامان فأين رأيه? يوم اليم في وزارته، وعن قارون فخرج على قومه في زينته، وعن بلعام فهلك بل عام في بحر شقوته، وعن برصيصا فلم تنفعه سابق عبادته، وعن أبي جهل فشقي مع سعادة أمه وابنه وابنته، هكذا جرى تقديره من يوم "لا أبالي" في قسمته "ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته".