آدَابُ الفَتـْوَى
والمُفـْتــِي والمُسْـتـَـفـْـتــِي
والمُفـْتــِي والمُسْـتـَـفـْـتــِي
من مقدمة كتاب: المجموع شرح المهذب
للإمام الرباني شيخ الإسلام الحافظ الحجة التقي
محي الدين أبي زكريا
يحيى بن شرف النووي الشافعي
رحمه الله تعالى
(631 – 676 هـ)
للإمام الرباني شيخ الإسلام الحافظ الحجة التقي
محي الدين أبي زكريا
يحيى بن شرف النووي الشافعي
رحمه الله تعالى
(631 – 676 هـ)
باب آداب الفتوى والمفتي والمستفتي
اعلم أن هذا البابَ مهمٌّ جدَّاً، فأحببتُ تقديمه لعمومِ الحاجة إليه.وقد صنَّف في هذا جماعة من أصحابنا، منهم أبو القاسم الصيمري شيخ صاحب الحاوي، ثم الخطيب أبو بكر الحافظ البغدادي، ثم الشيخ أبو عمرو بن الصلاح، وكل منهم ذكرَ نفائس لم يذكرها الآخران، وقد طالعت كتب الثلاثة ولخصت منها جملة مختصرة مستوعبة لكل ما ذكروه من المهم، وضممت إليها نفائس من متفرقات كلام الأصحاب، وبالله التوفيق.
اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر، كبير الموقع، كثير الفضل، لأن المفتي وارث الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- وقائم بفرض الكفاية ولكنه معرض للخطأ; ولهذا قالوا: المفتي موقع عن الله تعالى.
وروينا عن ابن المُنكدر قال: "العالم بين الله تعالى وخلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم".
وروينا عن السلف وفضلاء الخلف من التوقف عن الفتيا أشياء كثيرة معروفة، نذكر منها أحرفاً تبركاً.
وروينا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "أدركتُ عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول". وفي رواية: "ما منهم من يحدث بحديث، إلا وَدَّ أن أخاه كفاه إياه، ولا يستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا".
وعن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم: "مَنْ أفتى عن كلِّ ما يسأل فهو مجنون".
وعن الشعبي والحسن وأبي حَصِين -بفتح الحاء- التابعيين قالوا: "إن أحدَكَم ليفتي في المسألة ولو وَرَدَتْ على عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر".
وعن عطاء بن السائب التابعي: "أدركتُ أقواماً يسأل أحدهم عن الشيء فيتكلم وهو يرعد".
وعن ابن عباس ومحمد بن عجلان: "إذا أغفل العالم (لا أدري) أُصِيبت مقاتله".
وعن سفيان بن عيينة وسحنون: "أجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً".
وعن الشافعي -وقد سئل عن مسألةٍ فلم يجب-، فقيل له، فقال: "حتى أدري أن الفضل في السكوت أو في الجواب".
وعن الأثرم: سمعتُ أحمد بن حنبل يكثر أن يقول: (لا أدري)، وذلك فيما عرف الأقاويل فيه.
وعن الهيثم بن جميل: شهدتُّ مالكاً سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: (لا أدري).
وعن مالك أيضاً: أنه ربما كان يُسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها، وكان يقول: "من أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف خلاصه ثم يجيب".
وسئل عن مسألة فقال: (لا أدري)، فقيل: هي مسألة خفيفة سهلة، فغضب وقال: (ليس في العلم شيء خفيف).
وقال الشافعي: (ما رأيتُ أحداً جمع الله تعالى فيه من آلة الفتيا ما جمع في ابن عيينة أسكت منه عن الفتيا).
وقال أبو حنيفة: (لولا الفَرَقُ من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيتُ، يكون لهم المهنأ وعلي الوزر).
وأقوالهم في هذا كثيرة معروفة.
قال الصيمري والخطيب: قلَّ من حرص على الفتيا، وسابق إليها، وثابر عليها، إلا قلَّ توفيقُه، واضطرب في أموره، وإن كان كارهاً لذلك، غير مؤثر له ما وجد عنه مندوحة، وأحال الأمر فيه على غيره، كانت المعونة له من الله أكثر، والصلاح في جوابه أغلب.
واستَدَلاَّ بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أُعِنتَ عليها).
فصل
[وظيفة إمام المسلمين تجاه المفتين]
قال الخطيب: ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتين، فمَنْ صَلحَ للفتيا أقرَّه، ومن لا يصلح منعه، ونهاه أن يعود، وتوعده بالعقوبة إن عاد.[وظيفة إمام المسلمين تجاه المفتين]
وطريق الإمام إلى معرفة من يصلح للفتوى أن يسأل علماء وقته، ويعتمد أخبار الموثوق به.
ثم روى بإسناده عن مالك -رحمه الله- قال: "ما أفتيتُ حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك". وفي رواية: "ما أفتيت حتى سألتُ من هو أعلم مني: هل يراني موضعا لذلك" ؟
قال مالك: "ولا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلاً لشيء حتى يسأل من هو أعلم منه".
فصل
قالوا: وينبغي أن يكون المفتي ظاهر الورع، مشهوراً بالديانة الظاهرة، والصيانة الباهرة. وكان مالك -رحمه الله- يعمل بما لا يلزمه الناس، ويقول: :لا يكون عالماً حتى يعمل في خاصَّةِ نفسه بما لا يلزمه الناس مما لو تركه لم يأثم".
وكان يحكي نحوه عن شيخه ربيعة.
فصل
شرط المفتي كونه مكلفاً مسلماً، وثقةً مأموناً متنـزِّهاً عن أسباب الفسق وخوارم المروءة، فقيهَ النفس، سليمَ الذهن، رصينَ الفِكر، صحيح التصرف والاستنباط، متيقظاً.سواءٌ فيه الحرُّ والعبد والمرأة والأعمى، والأخرس إذا كتب أو فهمت إشارته.
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: وينبغي أن يكون كالراوي في أنه لا يؤثر فيه قرابة وعداوة، وجرّ نفع ودفع ضر، لأن المفتي في حكم مخبرٌ عن الشرع بما لا اختصاص له بشخص، فكان كالراوي لا كالشاهد، وفتواه لا يرتبط بها إلزام بخلاف حكم القاضي.
قال: وذكر صاحب الحاوي أن المفتي إذا نابذ في فتواه شخصاً معيناً صار خصماً حكماً معانداً، فتُردُّ فتواه على من عاداه كما ترد شهادته عليه.
واتفقوا على أن الفاسق لا تصح فتواه، ونقل الخطيب فيه إجماع المسلمين، ويجب عليه إذا وقعت له واقعة أن يعمل باجتهاد نفسه.
وأما المستور وهو الذي ظاهره العدالة ولم تختبر عدالته باطناً، ففيه وجهان: أصحهما: جواز فتواه; لأنَّ العدالة الباطنة يعسر معرفتها على غير القضاة.
والثاني: لا يجوز كالشهادة، والخلاف كالخلاف في صحة النكاح بحضور المستورين.
قال الصيمري: وتصح فتاوى أهل الأهواء والخوارج ومن لا نكفره ببدعته ولا نفسقه، ونقل الخطيب هذا ثم قال: وأما الشرار والرافضة الذين يسبون السلف الصالح ففتاويهم مردودة وأقوالهم ساقطة.
والقاضي كغيره في جواز الفتيا بلا كراهة، هذا هو الصحيح المشهور من مذهبنا، قال الشيخ: ورأيت في بعض تعاليق الشيخ أبي حامد أنَّ له الفتوى في العبادات، وما لا يتعلق بالقضاء، وفي القضاء وجهان لأصحابنا: أحدهما: الجواز; لأنه أهل، والثاني: لا; لأنه موضع تهمة.
وقال ابن المنذر: تكره الفتوى في مسائل الأحكام الشرعية وقال شريح: أنا أقضي ولا أفتي.
فصل
قال أبو عَمرو: المفتون قسمان: مستقل وغيره، فالمستقل شرطُه مع ما ذكرناه:1- أن يكون قيماً بمعرفة أدلة الأحكام الشرعية عن الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وما التحق بها على التفضيل، وقد فُصِّلَت في كتب الفقه فتيسرت ولله الحمد.
2- وأن يكون عالماً بما يشترط في الأدلة، ووجوه دلالتها، وبكيفية اقتباس الأحكام منها، وهذا يستفاد من أصول الفقه.
3- عارفاً من علوم القرآن، والحديث، والناسخ والمنسوخ، والنحو واللغة والتصريف، واختلاف العلماء واتفاقهم بالقدر الذي يتمكن معه من الوفاء بشروط الأدلة والاقتباس منها.
4- ذا دربة وارتياض في استعمال ذلك.
5- عالماً بالفقه ضابطاً لأمهات مسائله وتفاريعه.
فمن جمع هذه الأوصاف فهو المفتي المطلق المستقل، الذي يتأدى به فرض الكفاية، وهو المجتهد المطلق المستقل ; لأنه يستقل بالأدلة بغير تقليد وتقيد بمذهب أحد.
قال أبو عمرو: وما شرطناه من حفظه لمسائل الفقه لم يشترط في كثير من الكتب المشهورة ; لكونه ليس شرطاً لمنصب الاجتهاد; لأن الفقه ثمرته فيتأخر عنه، وشرط الشيء لا يتأخر عنه، وشَرَطَه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وصاحبه أبو منصور البغدادي وغيرهما، واشتراطه في المفتي الذي يتأدى به فرض الكفاية هو الصحيح وإن لم يكن كذلك في المجتهد المستقل.
ثم لا يشترط أن يكون جميع الأحكام على ذهنه، بل يكفيه كونه حافظاً المعظم، متمكناً من إدراك الباقي على قرب.
وهل يشترط أن يعرف من الحساب ما يصحح به المسائل الحسابية الفقهية ؟
حكى أبو إسحاق وأبو منصور فيه خلافاً لأصحابنا، والأصح اشتراطه.
ثم إنما نشترط اجتماع العلوم المذكورة في مُفتٍ مطلق في جميع أبواب الشرع، فأما مُفتٍ في باب خاص كالمناسك والفرائض فيكفيه معرفة ذلك الباب، كذا قَطَعَ به الغزالي وصاحبه ابن بَرهان -بفتح الباء- وغيرهما، ومنهم من منعه مطلقاً، وأجازه ابن الصباغ في الفرائض خاصة، والأصحُّ جوازه مطلقاً.
القسم الثاني: المفتي الذي ليس بمستقل، ومن دهر طويل عُدِم المفتي المستقل.
وصَارت الفتوى إلى المنتسبين إلى أئمة المذاهب المتبوعة، وللمفتي المنتسب أربعة أحوال:
أحدهما: أن لا يكون مقلداً لإمامه، لا في المذهب ولا في دليله، لاتصافه بصفة المستقل؛ وإنما ينسب إليه لسلوكه طريقه في الاجتهاد.
وادعى الأستاذ أبو إسحاق هذه الصفة لأصحابنا، فحَكَى عن أصحاب مالك -رحمه الله- وأحمد وداود وأكثر الحنفية أنهم صاروا إلى مذاهب أئمتهم تقليداً لهم، ثم قال: والصحيح الذي ذهب إليه المحققون ما ذهب إليه أصحابنا: وهو أنهم صاروا إلى مذهب الشافعي لا تقليداً له، بل لما وجدوا طرقه في الاجتهاد والقياس أسد الطرق ولم يكن لهم بد من الاجتهاد سلكوا طريقه، فطلبوا معرفة الأحكام بطريق الشافعي وذكر أبو علي السنجي -بكسر السين المهملة- نحو هذا فقال: اتبعنا الشافعي دون غيره، ; لأنا وجدنا قوله أرجح الأقوال وأعدلها، لا أنا قلدناه.
قلتُ: هذا الذي ذكراه موافق لما أمرهم به الشافعي ثم المزني في أول مختصره وغيره بقوله: مع إعلاميه نهيه عن تقليده وتقليد غيره.
قال أبو عَمرو: دعوى انتفاء التقليد عنهم مطلقاً لا يستقيم، ولا يلائم المعلوم من حالهم أو حال أكثرهم، وحَكَى بعض أصحاب الأصول مِنَّا أنه لم يوجد بعد عصر الشافعي مجتهدٌ مستقل.
ثم فتوى المفتي في هذه الحالة كفتوى المستقل في العمل بها، والاعتداد بها في الإجماع والخلاف.
الحالة الثانية: أن يكون مجتهدًا مقيَّداً في مذهب إمامه، مستقلاً بتقرير أصوله بالدليل، غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده، وشرطه: كونه عالماً بالفقه وأصوله، وأدلة الأحكام تفصيلاً، بصيراً بمسالك الأقيسة والمعاني، تام الارتياض في التخريج والاستنباط، قيماً بإلحاق ما ليس منصوصاً عليه لإمامه بأصوله، ولا يعرى عن شوب تقليد له; لإخلاله ببعض أدوات المستقل، بأن يُخلَّ بالحديث أو العربية، وكثيراً ما أخل بهما المقيَّد، ثم يتخذ نصوص إمامه أصولاً يستنبط منها كفعل المستقل بنصوص. الشرع، وربما اكتفى في الحكم بدليل إمامه، ولا يبحث عن معارض كفعل المستقل في النصوص، وهذه صفة أصحابنا أصحاب الوجوه، وعليها كان أئمة أصحابنا أو أكثرهم.
والعامل بفتوى هذا مقلِّدٌ لإمامه لا له.
ثم ظاهر كلام الأصحاب أنَّ من هذا حاله لا يتأدَّى به فرض الكفاية.
قال أبو عمرو: ويظهر تأدي الفرض به في الفتوى، إن لم يتأد في إحياء العلوم التي منها استمداد الفتوى; لأنَّه قام مقام إمامه المستقل تفريعاً على الصحيح، وهو جواز تقليد الميت.
ثم قد يستقل المقيد في مسألة أو باب خاص كما تقدم، وله أن يفتي فيما لا نصَّ فيه لإمامه بما يخرجه على أصوله، هذا هو الصحيح الذي عليه العمل، وإليه مفزع المفتين من مُدَدٍ طويلة، ثم إذا أفتى بتخريجه فالمستفتي مقلد لإمامه لا له.
هكذا قطع به إمام الحرمين في كتابه الغياثي، وما أكثر فوائده[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] !!
قال الشيخ أبو عمرو: وينبغي أن يخرج هذا على خلافٌ حكاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وغيره، أن ما يخرجه أصحابنا هل يجوز نسبته إلى الشافعي؟ والأصح أنه لا ينسب إليه.
ثم تارة يخرِّج من نص معين لإمامه وتارة لا يجده، فيخرّج على أصوله بأن يجد دليلاً على شرط ما يحتج به إمامه فيفتي بموجبه، فإن نصَّ إمامه على شيء ونص في مسألة تشبهها على خلافه، فخرج من أحدهما إلى الآخر سمي قولاً مخرجاً، وشرط هذا التخريج أن لا يجد بين نصه فرقاً، فإن وجده وجب تقريرهما على ظاهرهما، ويختلفون كثيراً في القول بالتخريج في مثل ذلك لاختلافهم في إمكان الفرق.
قلتُ: وأكثر ذلك يمكن فيه الفرقُ، وقد ذكروه.
الحالة الثالثة: أن لا يبلغ رتبة أصحاب الوجوه، لكنه فقيه النفس، حافظ مذهب إمامه، عارف بأدلته، قائم بتقريرها، يصوّر، ويحرّر، ويقرّر، ويمهد، ويزيف، ويرجح، لكنَّه قصر عن أولئك لقصوره عنهم في حفظ المذهب، أو الارتياض في الاستنباط، أو معرفة الأصول ونحوها من أدواتهم.
وهذه صفةُ كثيرٍ من المتأخرين إلى أواخر المائة الرابعة المصنفين الذين رتبوا المذهب وحرروه، وصنَّفوا فيه تصانيف فيها معظم اشتغال الناس اليوم، ولم يلحقوا الذين قبلهم في التخريج.
وأما فتاويهم فكانوا يتبسطون فيها تبسط أولئك أو قريباً منه، ويقيسون غير المنقول عليه، غير مقتصرين على القياس الجلي.
ومنهم من جُمِعَت فتاويه، ولا تبلغ في التحاقها بالمذهب مبلغَ فتاوى أصحاب الوجوه.
الحالة الرابعة: أن يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه في الواضحات والمشكلات، ولكن عنده ضعف في تقرير أدلته وتحرير أقيسته، فهذا يعتمد نقله وفتواه فيما يحكيه من مسطورات مذهبه، من نصوص إمامه، وتفريع المجتهدين في مذهبه.
وما لا يجده منقولاً إن وجد في المنقول معناه، بحيث يدرك بغير كبير فكر أنَّه لا فرق بينهما، جاز إلحاقه به والفتوى به، وكذا ما يعلم اندراجه تحت ضابط ممهد في المذهب، وما ليس كذلك يجب إمساكه عن الفتوى فيه، ومثل هذا يقع نادراً في حق المذكور، إذ يبعد كما قال إمام الحرمين: أن تقع مسألة لم ينص عليها في المذهب، ولا هي في معنى المنصوص، ولا مندرجة تحت ضابط[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط].
وشرطه كونه فقيه النفس ذا حظ وافر من الفقه.
قال أبو عمرو: وأن يكتفي في حفظ المذهب في هذه الحالة والتي قبلها بكون المعظم على ذهنه، ويتمكن لدربته من الوقوف على الباقي على قرب.
فصل
[أصناف المفتين ومراتبهم]
هذه أصناف المفتين وهي خمسةٌ، وكلُّ صنف منها يُشترط فيه حفظ المذهب وفقه النفس، فمن تصدى للفتيا وليس بهذه الصفة فقد باء بأمر عظيم.[أصناف المفتين ومراتبهم]
ولقد قطع إمام الحرمين وغيره بأن الأصولي الماهر المتصرف في الفقه لا يحلُّ له الفتوى بمجرد ذلك، ولو وقعت له واقعة لزمه أن يسأل عنها، ويلتحق به المتصرف النظَّار البحاث، من أئمة الخلاف وفحول المناظرين; لأنه ليس أهلاً لإدراك حكم الواقعة استقلالاً، لقصور آلته، ولا من مذهب إمام، لعدم حفظه له على الوجه المعتبر.
فإن قيل: من حفظ كتاباً أو أكثر في المذهب وهو قاصر، لم يتصف بصفة أحد ممن سبق، ولم يجد العامي في بلده غيره، هل له الرجوع إلى قوله ؟
فالجواب: إن كان في غير بلده مُفتٍ يجد السبيل إليه وجب التوصل إليه بحسب إمكانه، فإن تعذر ذكر مسألته للقاصر، فإن وجدها بعينها في كتاب موثوق بصحته وهو ممن يُقبل خبره نقل له حكمه بنصه، وكان العامي فيها مقلِّداً صاحب المذهب.
قال أبو عمرو: وهذا وجدتُّه في ضمن كلام بعضهم، والدليل يعضده، وإن لم يجدها مسطورة بعينها لم يقسها على مسطور عنده، وإن اعتقده من قياس لا فارق، فإنه قد يتوهم ذلك في غير موضعه.
فإن قيل: هل لمقلِّدٍ أن يفتي بما هو مقلد فيه ؟
قلنا: قطع أبو عبد الله الحَلِيمي وأبو محمد الجويني وأبو المحاسن الرّوياني وغيرهم بتحريمه، وقال القفال المروزي: يجوز.
قال أبو عمرو: قولُ من منعه معناه لا يذكره على صورة من يقوله من عند نفسه، بل يضيفه إلى إمامه الذي قلَّده، فعلى هذا من عددناه من المفتين المقلدين ليسوا مفتين حقيقة، لكن لما قاموا مقامهم وأدوا عنهم عدوا معهم، وسبيلهم أن يقولوا مثلاً: مذهب الشافعي كذا أو نحو هذا، ومن ترك منهم الإضافة فهو اكتفاء بالمعلوم من الحال عن التصريح به، ولا بأس بذلك.
وذكر صاحب الحاوي في العامي إذا عرف حكم حادثة بناء على دليلها ثلاثة أوجه: أحدها: يجوز أن يفتي به ويجوز تقليده ; لأنه وصل إلى علمه. كوصول العالم.
والثاني: يجوز إن كان دليلها كتاباً أو سنة، ولا يجوز إن كان غيرهما.
والثالث: لا يجوز مطلقاً، وهو الأصح والله أعلم.
فصل
في أحكام المفتين
فيه مسائل:في أحكام المفتين
إحداها: الإفتاء فرض كفاية، فإذا استفتي وليس في الناحية غيره تعيَّن عليه الجواب، فإن كان فيها غيره وحضرا فالجواب في حقهما فرض كفاية، وإن لم يحضر غيره فوجهان أصحهما: لا يتعين لما سبق عن ابن أبي ليلى، والثاني: يتعين، وهما كالوجهين في مثله في الشهادة.
ولو سأل عامي عمَّا لم يقع لم يجب جوابه.
الثانية: إذا أفتى بشيء ثم رجع عنه فإن علم المستفتي برجوعه، ولم يكن عمل بالأول لم يجز العمل به، وكذا إن نكح بفتواه واستمر على نكاح بفتواه ثم رجع، لزمه مفارقتها كما لو تغير اجتهاد من قلَّده في القبلة في أثناء صلاته، وإن كان عمل قبل رجوعه فإن خالف دليلاً قاطعاً لزم المستفتي نقض عمله ذلك، وإن كان في محل اجتهاد لم يلزمه نقضه; لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد.
وهذا التفصيل ذكره الصيمري والخطيب وأبو عمرو، واتفقوا عليه، ولا أعلم خلافه، وما ذكره الغزالي والرازي ليس فيه تصريح بخلافه.
قال أبو عمرو: وإذا كان يُفتي على مذهب إمامٍ، فرجع لكونه بان له قطعاً مخالفة نص مذهب إمامه، وجب نقضه وإن كان في محل الاجتهاد; لأنَّ نص مذهب إمامه في حقه كنص الشارع في حق المجتهد المستقل.
أما إذا لم يعلم المستفتي برجوع المفتي فحال المستفتي في علمه كما قبل الرجوع، ويلزم المفتي إعلامه قبل العمل، وكذا بعده حيث يجب النقض.
وإذا عمل بفتواه في إتلاف فبان خطؤه وأنه خالف القاطع فعن الأستاذ أبي إسحاق أنه يضمن إن كان أهلاً للفتوى، ولا يضمن إن لم يكن أهلاً; لأن المستفتي قصًَّر. كذا حكاه الشيخ أبو عمرو وسكت عليه، وهو مُشكِلٌ وينبغي أن يخرج الضمان على قولي الغرور المعروف في بابي الغصب والنكاح وغيرهما، أو يقطع بعدم الضمان ; إذ ليس في الفتوى إلزام ولا إلجاء.
الثالثة: يحرم التساهل في الفتوى، ومن عرف به حرم استفتاؤه، فمن التساهل: أن لا يتثبت، ويُسرِع بالفتوى قبل استيفاء حقِّها من النظر والفكر، فإن تقدمت معرفته بالمسؤول عنه فلا بأس بالمبادرة، وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من مبادرة.
ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرَّمة أو المكروهة، والتمسك بالشبه طلباً للترخيص لمن يروم نفعه، أو التغليظ على من يريد ضره.
وأما مَنْ صَحَّ قصده فاحتسب في طَلَبِ حيلةٍ لا شبهة فيها، لتخليص من ورطة يمين ونحوها فذلك حسن جميل، وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا، كقول سفيان: "إنمَّا العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد".
ومن الحيل التي فيها شبهة ويذم فاعلها: الحيلة السُّريجية في سدِّ باب الطلاق.
الرابعة: ينبغي أن لا يفتي في حال تغيُّر خُلُقه، وتشغل قلبه، ويمنعه التأمل، كغضب، وجوع، وعطش، وحزن، وفرح غالب، ونعاس، أو ملل، أو حر مزعج أو مرض مؤلم، أو مدافعة حَدَث، وكل حال يشتغل فيه قلبه ويخرج عن حد الاعتدال، فإن أفتى في بعض هذه الأحوال وهو يَرَى أنه لم يخرج عن الصواب جاز وإن كان مخاطراً بها !!
الخامسة: المختار للمتصدِّي للفتوى أن يتبرعَ بذلك، ويجوز أن يأخذ عليه رزقاً من بيت المال، إلا أن يتعيَّن عليه وله كفاية، فيحرم على الصحيح.
ثم إن كان له رزقٌ لم يجز أخذ أجرة أصلاً، وإن لم يكن له رزق فليس له أخذ أجرة من أعيان مَنْ يفتيه على الأصح كالحاكم.
واحتال الشيخ أبو حاتم القزويني من أصحابنا فقال: له أن يقول: يلزمني أن أفتيك قولاً، وأما كتابة الخط فلا، فإذا استأجره على كتابة الخط جاز.
قال الصيمري والخطيب: لو اتفق أهل البلد فجعلوا له رزقاً من أموالهم على أن يتفرغ لفتاويهم جاز.
أما الهدية فقال أبو مظفر السَّمعاني له قبولها، بخلاف الحاكم فإنه يلزم حكمه.
قال أبو عَمرو: ينبغي أن يحرم قبولها إن كانت رشوة على أن يفتيه بما يريد كما في الحاكم وسائر ما لا يقابل بعوض.
قال الخطيب: وعلى الإمام أن يفرض لمن نصب نفسه لتدريس الفقه والفتوى في الأحكام ما يغنيه عن الاحتراف، ويكون ذلك من بيت المال، ثم روى بإسناده أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعطى كلَّ رجلٍ ممن هذه صفته مائة دينار في السنة.
السادسة: لا يجوز أن يفتي في الأيمان والإقرار ونحوهما مما يتعلق بالألفاظ إلا أن يكون من أهل بلد اللافظ، أو متنَـزِّلاً منـزلتهم في الخبرة بمرادهم من ألفاظهم وعرفهم فيها.
السابعة: لا يجوز لمن كانت فتواه نقلاً لمذهب إمام إذا اعتمد الكتب أن يعتمد إلا على كتاب موثوقٍ بصحته، وبأنه مذهب ذلك الإمام، فإن وثق بأن أصل التصنيف بهذه الصفة لكن لم تكن هذه النسخة معتمدة، فليستظهر بنسخ منه متَّفقة، وقد تحصل له الثقة من نسخة غير موثوق بها في بعض المسائل إذا رأى الكلام منتظماً وهو خبير فَطِن لا يخفى عليه لدربته موضع الإسقاط والتغيير.
فإن لم يجده إلا في نسخة غير موثوق بها فقال أبو عمرو: ينظر فإن وجده موافقاً لأصول المذهب، وهو أهل لتخريج مثله في المذهب لو لم يجده منقولاً فله أن يفتي به. فإن أراد حكايته عن قائله فلا يقل: قال الشافعي مثلاً كذا، وليقل: وَجدتُّ عن الشافعي كذا، أو بلغني عنه، ونحو هذا.
وإن لم يكن أهلاً لتخريج مثله لم يجز له ذلك، فإن سبيله النقل المحض، ولم يحصل ما يجوز له ذلك، وله أن يذكره لا على سبيل الفتوى مُفصِحاً بحاله، فيقول: وجدته في نسخة من الكتاب الفلاني ونحوه.
قلتُ: لا يجوز لمفتٍ على مذهب الشافعي إذا اعتمد النقل أن يكتفي بمصنَّفٍ ومصنفين ونحوهما من كتب المتقدمين وأكثر المتأخرين لكثرة الاختلاف بينهم في الجزم والترجيح; لأن هذا المفتي المذكور إنما ينقل مذهب الشافعي، ولا يحصل له وثوق بأن ما في المصنفين المذكورين ونحوهما هو مذهب الشافعي، أو الراجح منه; لما فيهما من الاختلاف.
وهذا مما لا يتشكك فيه من له أدنى أنس بالمذهب، بل قد يجزم نحو عشرة من المصنفين بشيء وهو شاذٌ بالنسبة إلى الراجح في المذهب، ومخالفٌ لما عليه الجمهور، وربما خالف نصَّ الشافعي أو نصوصاً له، وسترى في هذا الشرح إن شاء الله تعالى أمثلة ذلك، وأرجو إن تم هذا الكتاب أنه يستغنى به عن كل مصنّف ويعلم به مذهب الشافعي علماً قطعياً إن شاء الله تعالى.
الثامنة: إذا أفتى في حادثة ثم حدثت مثلها، فإن ذكر الفتوى الأولى ودليلها بالنسبة إلى أصل الشرع إن كان مستقلاً، أو إلى مذهبه إن كان منتسباً، أفتى بذلك بلا نظر، وإن ذكرها ولم يذكر دليلها ولا طرأ ما يوجب رجوعه، فقيل: له أن يفتي بذلك، والأصح وجوب تجديد النظر.
ومثله القاضي إذا حكم بالاجتهاد ثم وقعت المسألة، وكذا تجديد الطلب في التيمم، والاجتهاد في القبلة، وفيهما الوجهان.
قال القاضي أبو الطيب في تعليقه في آخر باب استقبال القبلة: وكذا العامي إذا وقعت له مسألة فسأل عنها ثم وقعت له فليلزمه السؤال ثانياً يعني على الأصح قال: إلا أن تكون مسألة يكثر وقوعها ويشق عليه إعادة السؤال عنها، فلا يلزمه ذلك، ويكفيه السؤال الأول للمشقة.
التاسعة: ينبغي أن لا يقتصر في فتواه على قوله: في المسألة خلاف، أو قولان، أو وجهان، أو روايتان، أو يرجع إلى رأي القاضي، ونحو ذلك، فهذا ليس بجواب، ومقصود المستفتي بيان ما يعمل به، فينبغي أن يجزم له بما هو الراجح، فإن لم يعرفه توقَّف حتى يظهر، أو يترك الإفتاء كما كان جماعة من كبار أصحابنا يمتنعون من الإفتاء في حنث الناسي.
[1] سماه: "غياث الأمم في التياث الظلم"، مطبوع مشهور، نفيس في بابه، لكنه صعب العبارة على من لم يرتض بكلام الأصوليين.
[2] وإن أشكلت كثيرٌ من مسائل العصر، مما لم يكن في سابق العهد، لكن قواعد الأصول وضوابط الفقه تلحق بها، وما أتي معاصرونا إلا من ضعفهم في علوم الأولين، فيظنون أن أكثر المسائل لا وجود لنظائرها فيما سبق من علوم الأئمة، والله أعلم.