تذكرة الأبرار بالجنة و النار
تذكرة الأبرار بالجنة و النار
تأليف
د/ أحمد فريد
نبذة عن الكتاب : يعيش القارىء الكريم مع هذه الرسالة فى ذكر الجنة و النار و ما ورد فيهما من صريح الأخبار و صحيح الآثار حيث لخص المؤلف فيها حياة الأشقياء نعوذ بالله من حالهم و مهادهم طعامهم و شرابهم - ثم أردف ذلك بذكر حياة السعداء – نسأل الله من فضله العظيم و كرمه العميم
الناشر
الدار السلفية للنشر و التوزيع
قال تعالى: } فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور {(أل عمران: 185)
و قال النبيr: " للجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك "[1]
و قال النبيr: " ما رأيت مثل النار نام هاربها ولا مثل الجنة نام طالبها"[2]
الحمد لله الذى أسكن عباده هذه الدار, و جعلها لهم منزلة سفر من الأسفار, و جعل الدار الآخرة هى دار القرار, فسبحان من يخلق ما يشاء و يختار, و يرفق بعباده الأبرار فى جميع الأقطار, و سبقت رحمته بعباده غضبه و هو الرحيم الغفار, أحمده على نعمه الغزار, و شكره و فضله على من شكر مدرار, و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار و أن محمدا عبده و رسوله النبي المختار, و الرسول المبعوث بالتيسير و الإنذار صلى الله عليه و على اله و صحبه صلاة تتجدد بركاتها بالعشى و الإبكار.
أما بعد:
فمن تأمل أحوال السابقين من أمة سيد المرسلين و جدهم فى غاية الطاعة لله عز و جل, و الكف عن معصيته, و هم مع ذلك فى غاية الخوف و الإشفاق و الحذر من الله عز و جل و عظيم عقابه و أليم عذابه.
كان ثابت البنانى يستوحش لفقد التعبد بعد موته فيقول: يا رب إن أذنت لأحد أن يصلى فى قبره فأذن لى.
ملأوا الحياة عبادة و طاعة لله عز و جل و رغبة فى طاعته و طمعا فى رضاه, و كثر مع ذلك خوفهم و بكاؤهم حتى أشفقوا من فقد البكاء و الخشية بعد الموت و تمنوا لو وجدوا من يبكى عنهم بعد وفاتهم.
كان يزيد الرقاشى يقول فى بكائه: يا يزيد من يبكى بعدك لك, و من يترضى ربك عنك.
و دخلوا على الجنيد عند الموت و هو يصلى فقالوا له: الآن فقال: الآن تطوى صحيفتى.
قيل لأبى بكر النهشلى و هو فى الموت: اشرب قليلا من الماء, قال: حتى تغرب الشمس.
قرىء على أحمد بن حنبل فى مرضه أن طاووسا كان يكره الأنين فما أن حتى مات.
يا ديار الأحباب أين السكان, يا منازل العارفين أين القطان, يا أطلال الوجد أين أين البنيان.
لا تعرضن بذكرنا فى ذكرهم
حسبك أن قوما موتى تحيى بذكرهم النفوس, و إن قوما أحياء تقسو برؤيتهم القلوب, سلام على تلك القبور, و رضوان الله على حشو تلك اللحود.
أماكن تعبدهم باكية, و مواطن خلواتهم لفقدهم شاكية, زال التعب و بقى الأجر, ذهب ليل النصب و طلع الفجر
إن كنت تنوح يا حمام البان
للبين فأين شاهد الأحزان
أجفانك للدموع أو أجفانى
لا يقبل مدع بلا برهان
و من تأمل أحوالنا من قسوة القلوب و قلة تقواها, و غلبة التكاسل عن الطاعات و الزهد فى القربات و قلة التورع عن المحرمات, و تفكر بعقله و قلبه أليس الإسلام هو الإسلام؟ و القرآن هو القرآن؟ فما بال أحوالنا لا توافق أحوال السلف الكرام, و إنما ينطبق علينا قول القائل:
يا من إذا تشبه بالصالحين فهو عنهم متباعد, و إذا تشبه بالمذنبين فحاله و حالهم واحد, يا من يسمع ما يلين الجوامد و طرفه جامد و قلبه أقصى من الجلامد, إلى متى تدفع التقوى عن قلبك و هل ينفع الطرق فى حديد بارد.
فما هى الأفة فينا حتى فارقت أحوالنا أحوالهم, و باينت أعمالنا أعمالهم؟ هل الآفة هى عدم الإيمان!! كلا و الله نحن مؤمنون بالله عز و جل و اليوم الأخر.
فما هى الأفة؟
الآفة هي ضعف الإيمان بالله عز و جل و اليوم الأخر, و الإيمان إذا ضعف لا يدفع العباد إلى الطاعات و لا يحجزهم عن المعاصي, قال النبيr: " لا يزنى الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن, ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ".[3]
و المعاصي لا تنافى أصل الإيمان كما قال النبي r للصحابي الذي لعن من كان يشرب الخمر: " لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله ".[4]
و علاج الإيمان يكون بالأخذ بأسباب تقويته, فإذا قوى إيمان العبد فإنه يسهل عليه عند ذلك أن يستجيب لله عز و جل و للرسول صلى الله عليه و سلم.
كان الصحابة رضى الله عنهم يتعلمون الإيمان قبل القرآن, روى الحاكم بسند صحيح على شرط الشيخين عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: عشنا برهة من الدهر و كان أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن.
و طريقة القرآن في تقوية الإيمان هي تكرير معاني الإيمان على القلوب و الأسماع, و انظر كيف كرر الله عز و جل و قرر لنا أمور الآخرة حتى ترتسم في القلوب و حتى لا تغيب عن العبد لحظة واحدة, فلا يقول قولا و لا يعمل عملا إلا و هو يستحضر الإيمان بالآخرة , فتارة يخبر الله عز و جل بها إخبارا مؤكدا كما قال تعالى: }إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا) { طه: 15)
و تارة يقسم الله عز و جل بوقوعها كما قال تعالى: } وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً * فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً * فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ { ( الذاريات: 1-6)
و تارة يأمر نبيه بالإقسام على وقوعها كما قال تعالى: }وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ {(سبأ: 3)
و تارة يذم الله عز و جل المكذبين بها كما قال تعالى: } قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ {يونس:45
و تارة يمدح المؤمنين بها كما قال تعالى:} لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ { (البقرة:177)
و تارة يخبر الله عز و جل بقرب يوم القيامة كما قال تعالى: } إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيبا ً{ (المعارج:6-7)
فلا تكاد تقلب ورقة من المصحف حتى ترى خبر الآخرة, و لو ذكر الله ذلك فى موضع واحد لكان كافيا فى وجوب الإيمان بها, و لكن القرآن يكرر ذلك على القلوب حتى يقوى الإيمان بها فكيف العبد قلبه و جوارحه عن المعاصي و يحسبها على الطاعات لأن الإيمان بالآخرة استقر فى قلبه, و كان القرآن المكي كذلك تذكرة بالآخرة, و تقويه للإيمان بها ثم نزلت بعد ذلك الفرائض و الأحكام.
عن عائشة رضى الله عنها قالت: أول ما نزلت من القرآن سورة فيها ذكر الجنة و النار- تعنى رضى الله عنها- سورة المدثر و هي ثاني سورة و فيها يقول جل و علا: } فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ{ (المدثر:8). و قوله جل و علا: } وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَة ً{ (المدثر:31) و قوله جلا و علا: } كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ{ ( المدثر:38-41) حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال و الحرام, و لو نزل من أول الأمر "لا تزنوا" لقالوا لا ندع الزنا أبدا, و لو نزل " لا تشربوا الخمر" لقالوا لا مدع الخمر أبدا.
أنزل على النبي r و أنا جارية ألعب: } بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ{ (القمر:46) و ما نزلت البقرة و النساء إلا و أنا عنده في المدينة.
و مما ربى الله عز و جل به الإيمان كذلك فى قلوب الصحابة فرض قيام الليل فى ابتداء الدعوة.
روى مسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت: فرض الله عز و جل على نبيه r قيام الليل فقام النبي r و قام الصحابة معه حولا كاملا, و احتجز الله عز و جل خاتمة السورة اثنا عشر شهرا ثم نزل بعد ذلك التخفيف.
و إنما قصدت رضى الله عنها الأمر بقيام الليل في قوله تعالى: } يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً{ (المزمل:1-6)
و قصدت بالتخفيف الآية الأخيرة من السورة و هي قوله تعالى: } إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآن{ِ (المزمل:20)
فعلاج ضعف الإيمان إذن إنما يكون بالتذكير بالآخرة و تلاوة القرآن الذي يتضمن أعظم التذكير و أطيبه و تربية الإيمان كذلك بالطاعات بالقيام و الصيام و سائر القربات, و إنما قصدت بهذه الرسالة اللطيفة أن تكون تذكرة سريعة لمن لا يتسع وقته للمصنفات الكبار و مطالعة ما صنفه العلماء الأخيار في سائر الأعصار, فقد ضعفت الهمم و تقاصرت الأعمار , و تشاغل الناس بدنياهم عن دار القرار, و القلوب لا تصلح إلا بالوعظ و التذكير و التبشير و التحذير, عن أنس رضى الله عنه قال: قال رسول الله r: "والذي نفسي بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا. قالوا : وما رأيت يا رسول الله؟ قال: رأيت الجنة والنار".[5]
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: و القدر الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض و اجتناب المحارم, فإن زاد على ذلك بحيث صار باعثا للنفوس على التشمير فى نوافل الطاعات و الانكفاف من دقائق المكروهات و التبسيط فى فضول المباحات كان ذلك فضلا محمودا, فإن تزايد على ذلك بأن أورث مرضا أو موتا, أو هما لازما بحيث يقطع عن السعى فى اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة لله عز و جل لم يكن محمودا. التخويف من النار (18) مكتبة الإيمان.
و قد أنذر الله عز و جل بالنار و أمر المؤمنين بأخذ الوقاية من التعرض لها و بين خطرها فقال تعالى: } كَلَّا وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيراً لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّر{َ (المدثر:32-37)
قال الحسن: و الله ما أنذر العباد بشىء أدهى منها.
و قال تعالى: } فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى{ (الليل:14)
و عن عدى بن حاتم قال: قال رسول الله r: " اتقوا النار. قال: وأشاح, ثم قال: اتقوا النار. ثم أعرض وأشاح ثلاثا حتى ظننا أنه ينظر إليها. ثم قال: اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة".[6]
و قال أبو الجوزاء: لو وليت من أمر الناس شيئا لاتخذت منارا على الطريق و أقمت عليه رجالا ينادون فى الناس النار النار.
و عن مالك بن دينار قال: لو وجدت أعوانا لناديت فى منار البصرة باليل, النار النار ثم قال: لو وجدت أعوانا لناديت لفرقتهم فى منار الدنيا يا أيها الناس النار النار.
و قال ابن عيينة: قال إبراهيم التيمى: مثلت نفسي في الجنة, أكل من ثمارها و أعانق أبكارها, ثم مثلت نفسي في النار, أكل من زقومها و أشرب من صديدها و أعالج سلاسلها و أغلالها, فقلت لنفسي: أي شيء تريدين؟ قالت أريد أن أعد إلى الدنيا فأعمل صالحا, قال: فأنت في الأمنية فأعملي, و نحن و الله في الأمنية فكل من قصر في طاعة الله عز و جل في الدنيا يطلب العودة إليها كلما عاين أمور الآخرة و ترك دار العمل و لا حساب إلى دار الحساب و لا عمل, قال تعالى: } حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْت{ُ (المؤمنون: 99-100)
و قال تعالى: } وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ{ (الأنعام:27)
و قال تعالى: } وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ{ (السجدة:12)
و قال تعالى: } وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِير{ُ (فاطر:37)
و قال تعالى: } قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيل{ (غافر:11)
و أترك القارىء الكريم مع هذه الرسالة يعيش فى ذكر الجنة و النار و ما ورد فيهما من صريح الأخبار و صحيح الآثار حيث لخصت فيها حياة الأشقياء نعوذ بالله من حالهم و مهادهم طعامهم و شرابهم - ثم أردفت ذلك بذكر حياة السعداء – نسأل الله من فضله العظيم و كرمه العميم.
و الإيمان بالآخرة يتضمن الإيمان بكل ما ورد فى كتاب الله فى شأنها و كل ما صحت به سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم و أسأل الله أن يتقبل منا صالح الأعمال و أن يتجاوز عن سيئاتنا إنه على ما يشاء قدير و بالإجابة قدير و هو حسبنا و نعم الوكيل.
النار
صفة جهنم و أهوالها و أنكالها:
قال الغزالى رحمه الله:
يا أيها الغافل عن نفسه, المغرور بما هو فيه من شواغل هذه الدنيا المشرفة على الانقضاء, و الزوال, دع التفكير فيما أنت مرتحل عنه, و اصرف الفكر إلى موردك, فإنك أخبرت بان النار مورد للجميع, إذ قيل: } وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً{ (مريم: 71-72)
فأنت من الورود على يقين و من النجاة في شك, فاستشعر في قلبك هول ذلك المورد فعساك تستعد للنجاة منه, و تأمل في حال الخلائق و قد قاسوا من دواهي القيامة ما قاسوا, فبينما هم في كربها و أهوالها وقوفا ينتظرون حقيقة أنبائها و تشفيع شفائعها, إذ أحاطت بالمجرمين ظلمات ذات شعب و أطلت عليهم نار ذات لهب, و سمعوا لها زفيرا و جرجة تفصح عن شدة الغيظ و الغضب, فعند ذلك أيقن المجرمون بالعطب و جثت الأمم على الركب, حتى أشفق البراء من سوء المنقلب, و خرج المنادى من الزبانية قائلا: أين فلان بن فلان المسوف نفسه في الدنيا بطول الأمل, المضيع عمره في سوء العمل, فيبادرونه بمقامع من حديد, و يستقبلونه بعظائم التهديد, و يسوقونه إلى العذاب الشديد, و ينكسونه في قعر الجحيم, و يقولون له: } ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيم{ُ (الدخان:49). فاسكنوا دارا ضيقة الأرجاء, مظلمة المسالك, مبهمة المهالك, يخلد فيها الأسير, و يوقد فيها السعير, شرابهم فيها الحميم, و مستقرهم الجحيم, الزبانية تقمعهم, و الهاوية تجمعهم, أمانيهم فيها الهلاك, و ما لهم منها فكاك, قد شدت أقدامهم إلى النواصي, و اسودت وجوههم من ظلمة المعاصي, ينادون من أكنافها و يصيحون في نواحيها و أطرافها: يا مالك قد حق علينا الوعيد, يا مالك قد نضجت منا الجلود, يا مالك أخرجنا منها فإنا لا نعود.
فتقول الزبانية: هيهات لات حين أمان, و لا خروج لكم من دار الهوان, فاخسأوا فيها و لا تكلمون, و لو أخرجتم منها لكنتم إلى ما نهيتم عنه تعودون, فعند ذلك يقطنون و على ما فرطوا في جنب الله يتأسفون, و لا ينجيهم الندم, و لا يغنيهم الأسف, بل يكبون على وجوههم مغلولين, النار من فوقهم, و النار من تحتهم, و النار عن أيمانهم, و النار عن شمائلهم فهم غرقى في النار, طعامهم نار, و شرابهم نار, و لباسهم نار, و مهادهم نار, فهم بين مقطعات النيران و سرابيل القطران و ضرب المقاطع و ثقل السلاسل, فهم يتجلجلون في مضايقها, و يتحطمون في دركاتها, و يضربون بين غواشيها, تغلى بهم النار كغلى القدور, و يهتفون بالويل و العويل, و مهما دعوا بالثبور صب من فوق رؤوسهم الحميم, و يصهر به ما في بطونهم و الجلود و لهم مقامع من حديد, تهشم بها جباههم فينفجر الصديد من أفواههم, و تنقطع من العطش أكبادهم, و تسيل على الخدود احداقهم, و يسقط من الوجنات لحومها و هم مع ذلك يتمنون الموت فلا يموتون.[7]
[1] رواه البخاري (11/321) الرقاق, عن عبد الله بن مسعود و رواه أحمد (1/387/413/442).
[2] رواه الترمذى بإسناد حسن لغيره, و انظر السلسلة الصحيحة للألباني (رقم 953).
[3] رواه البخاري (10/30) الأشربة, و مسلم (2/41) الإيمان.
[4] رواه البخاري (14/75) الحدود.
[5] رواه مسلم (4/150), 151) الصلاة, و أحمد (3/170).
[6] رواه البخاري (1/400) الرقاق.
[7] إحياء علوم الدين (2986-2988)
تذكرة الأبرار بالجنة و النار
تأليف
د/ أحمد فريد
نبذة عن الكتاب : يعيش القارىء الكريم مع هذه الرسالة فى ذكر الجنة و النار و ما ورد فيهما من صريح الأخبار و صحيح الآثار حيث لخص المؤلف فيها حياة الأشقياء نعوذ بالله من حالهم و مهادهم طعامهم و شرابهم - ثم أردف ذلك بذكر حياة السعداء – نسأل الله من فضله العظيم و كرمه العميم
الناشر
الدار السلفية للنشر و التوزيع
الإسكندرية ت: 0123490589
مكتبة مشكاة الإسلامية
مكتبة مشكاة الإسلامية
قال تعالى: } فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور {(أل عمران: 185)
*****
و قال النبيr: " للجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك "[1]
*****
و قال النبيr: " ما رأيت مثل النار نام هاربها ولا مثل الجنة نام طالبها"[2]
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
نسأل الله حسن الخاتمة
مقدمة
نسأل الله حسن الخاتمة
الحمد لله الذى أسكن عباده هذه الدار, و جعلها لهم منزلة سفر من الأسفار, و جعل الدار الآخرة هى دار القرار, فسبحان من يخلق ما يشاء و يختار, و يرفق بعباده الأبرار فى جميع الأقطار, و سبقت رحمته بعباده غضبه و هو الرحيم الغفار, أحمده على نعمه الغزار, و شكره و فضله على من شكر مدرار, و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار و أن محمدا عبده و رسوله النبي المختار, و الرسول المبعوث بالتيسير و الإنذار صلى الله عليه و على اله و صحبه صلاة تتجدد بركاتها بالعشى و الإبكار.
أما بعد:
فمن تأمل أحوال السابقين من أمة سيد المرسلين و جدهم فى غاية الطاعة لله عز و جل, و الكف عن معصيته, و هم مع ذلك فى غاية الخوف و الإشفاق و الحذر من الله عز و جل و عظيم عقابه و أليم عذابه.
كان ثابت البنانى يستوحش لفقد التعبد بعد موته فيقول: يا رب إن أذنت لأحد أن يصلى فى قبره فأذن لى.
ملأوا الحياة عبادة و طاعة لله عز و جل و رغبة فى طاعته و طمعا فى رضاه, و كثر مع ذلك خوفهم و بكاؤهم حتى أشفقوا من فقد البكاء و الخشية بعد الموت و تمنوا لو وجدوا من يبكى عنهم بعد وفاتهم.
كان يزيد الرقاشى يقول فى بكائه: يا يزيد من يبكى بعدك لك, و من يترضى ربك عنك.
و دخلوا على الجنيد عند الموت و هو يصلى فقالوا له: الآن فقال: الآن تطوى صحيفتى.
قيل لأبى بكر النهشلى و هو فى الموت: اشرب قليلا من الماء, قال: حتى تغرب الشمس.
قرىء على أحمد بن حنبل فى مرضه أن طاووسا كان يكره الأنين فما أن حتى مات.
يا ديار الأحباب أين السكان, يا منازل العارفين أين القطان, يا أطلال الوجد أين أين البنيان.
لا تعرضن بذكرنا فى ذكرهم
ليس السليم إذا مشى كالمقعد
حسبك أن قوما موتى تحيى بذكرهم النفوس, و إن قوما أحياء تقسو برؤيتهم القلوب, سلام على تلك القبور, و رضوان الله على حشو تلك اللحود.
أماكن تعبدهم باكية, و مواطن خلواتهم لفقدهم شاكية, زال التعب و بقى الأجر, ذهب ليل النصب و طلع الفجر
إن كنت تنوح يا حمام البان
للبين فأين شاهد الأحزان
أجفانك للدموع أو أجفانى
لا يقبل مدع بلا برهان
و من تأمل أحوالنا من قسوة القلوب و قلة تقواها, و غلبة التكاسل عن الطاعات و الزهد فى القربات و قلة التورع عن المحرمات, و تفكر بعقله و قلبه أليس الإسلام هو الإسلام؟ و القرآن هو القرآن؟ فما بال أحوالنا لا توافق أحوال السلف الكرام, و إنما ينطبق علينا قول القائل:
يا من إذا تشبه بالصالحين فهو عنهم متباعد, و إذا تشبه بالمذنبين فحاله و حالهم واحد, يا من يسمع ما يلين الجوامد و طرفه جامد و قلبه أقصى من الجلامد, إلى متى تدفع التقوى عن قلبك و هل ينفع الطرق فى حديد بارد.
فما هى الأفة فينا حتى فارقت أحوالنا أحوالهم, و باينت أعمالنا أعمالهم؟ هل الآفة هى عدم الإيمان!! كلا و الله نحن مؤمنون بالله عز و جل و اليوم الأخر.
فما هى الأفة؟
الآفة هي ضعف الإيمان بالله عز و جل و اليوم الأخر, و الإيمان إذا ضعف لا يدفع العباد إلى الطاعات و لا يحجزهم عن المعاصي, قال النبيr: " لا يزنى الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن, ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ".[3]
و المعاصي لا تنافى أصل الإيمان كما قال النبي r للصحابي الذي لعن من كان يشرب الخمر: " لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله ".[4]
و علاج الإيمان يكون بالأخذ بأسباب تقويته, فإذا قوى إيمان العبد فإنه يسهل عليه عند ذلك أن يستجيب لله عز و جل و للرسول صلى الله عليه و سلم.
كان الصحابة رضى الله عنهم يتعلمون الإيمان قبل القرآن, روى الحاكم بسند صحيح على شرط الشيخين عن ابن عمر رضى الله عنهما قال: عشنا برهة من الدهر و كان أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن.
و طريقة القرآن في تقوية الإيمان هي تكرير معاني الإيمان على القلوب و الأسماع, و انظر كيف كرر الله عز و جل و قرر لنا أمور الآخرة حتى ترتسم في القلوب و حتى لا تغيب عن العبد لحظة واحدة, فلا يقول قولا و لا يعمل عملا إلا و هو يستحضر الإيمان بالآخرة , فتارة يخبر الله عز و جل بها إخبارا مؤكدا كما قال تعالى: }إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا) { طه: 15)
و تارة يقسم الله عز و جل بوقوعها كما قال تعالى: } وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً * فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً * فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ { ( الذاريات: 1-6)
و تارة يأمر نبيه بالإقسام على وقوعها كما قال تعالى: }وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ {(سبأ: 3)
و تارة يذم الله عز و جل المكذبين بها كما قال تعالى: } قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ {يونس:45
و تارة يمدح المؤمنين بها كما قال تعالى:} لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ { (البقرة:177)
و تارة يخبر الله عز و جل بقرب يوم القيامة كما قال تعالى: } إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيبا ً{ (المعارج:6-7)
فلا تكاد تقلب ورقة من المصحف حتى ترى خبر الآخرة, و لو ذكر الله ذلك فى موضع واحد لكان كافيا فى وجوب الإيمان بها, و لكن القرآن يكرر ذلك على القلوب حتى يقوى الإيمان بها فكيف العبد قلبه و جوارحه عن المعاصي و يحسبها على الطاعات لأن الإيمان بالآخرة استقر فى قلبه, و كان القرآن المكي كذلك تذكرة بالآخرة, و تقويه للإيمان بها ثم نزلت بعد ذلك الفرائض و الأحكام.
عن عائشة رضى الله عنها قالت: أول ما نزلت من القرآن سورة فيها ذكر الجنة و النار- تعنى رضى الله عنها- سورة المدثر و هي ثاني سورة و فيها يقول جل و علا: } فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ{ (المدثر:8). و قوله جل و علا: } وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَة ً{ (المدثر:31) و قوله جلا و علا: } كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ{ ( المدثر:38-41) حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال و الحرام, و لو نزل من أول الأمر "لا تزنوا" لقالوا لا ندع الزنا أبدا, و لو نزل " لا تشربوا الخمر" لقالوا لا مدع الخمر أبدا.
أنزل على النبي r و أنا جارية ألعب: } بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ{ (القمر:46) و ما نزلت البقرة و النساء إلا و أنا عنده في المدينة.
و مما ربى الله عز و جل به الإيمان كذلك فى قلوب الصحابة فرض قيام الليل فى ابتداء الدعوة.
روى مسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت: فرض الله عز و جل على نبيه r قيام الليل فقام النبي r و قام الصحابة معه حولا كاملا, و احتجز الله عز و جل خاتمة السورة اثنا عشر شهرا ثم نزل بعد ذلك التخفيف.
و إنما قصدت رضى الله عنها الأمر بقيام الليل في قوله تعالى: } يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً{ (المزمل:1-6)
و قصدت بالتخفيف الآية الأخيرة من السورة و هي قوله تعالى: } إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآن{ِ (المزمل:20)
فعلاج ضعف الإيمان إذن إنما يكون بالتذكير بالآخرة و تلاوة القرآن الذي يتضمن أعظم التذكير و أطيبه و تربية الإيمان كذلك بالطاعات بالقيام و الصيام و سائر القربات, و إنما قصدت بهذه الرسالة اللطيفة أن تكون تذكرة سريعة لمن لا يتسع وقته للمصنفات الكبار و مطالعة ما صنفه العلماء الأخيار في سائر الأعصار, فقد ضعفت الهمم و تقاصرت الأعمار , و تشاغل الناس بدنياهم عن دار القرار, و القلوب لا تصلح إلا بالوعظ و التذكير و التبشير و التحذير, عن أنس رضى الله عنه قال: قال رسول الله r: "والذي نفسي بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا. قالوا : وما رأيت يا رسول الله؟ قال: رأيت الجنة والنار".[5]
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: و القدر الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض و اجتناب المحارم, فإن زاد على ذلك بحيث صار باعثا للنفوس على التشمير فى نوافل الطاعات و الانكفاف من دقائق المكروهات و التبسيط فى فضول المباحات كان ذلك فضلا محمودا, فإن تزايد على ذلك بأن أورث مرضا أو موتا, أو هما لازما بحيث يقطع عن السعى فى اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة لله عز و جل لم يكن محمودا. التخويف من النار (18) مكتبة الإيمان.
و قد أنذر الله عز و جل بالنار و أمر المؤمنين بأخذ الوقاية من التعرض لها و بين خطرها فقال تعالى: } كَلَّا وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيراً لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّر{َ (المدثر:32-37)
قال الحسن: و الله ما أنذر العباد بشىء أدهى منها.
و قال تعالى: } فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى{ (الليل:14)
و عن عدى بن حاتم قال: قال رسول الله r: " اتقوا النار. قال: وأشاح, ثم قال: اتقوا النار. ثم أعرض وأشاح ثلاثا حتى ظننا أنه ينظر إليها. ثم قال: اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة".[6]
و قال أبو الجوزاء: لو وليت من أمر الناس شيئا لاتخذت منارا على الطريق و أقمت عليه رجالا ينادون فى الناس النار النار.
و عن مالك بن دينار قال: لو وجدت أعوانا لناديت فى منار البصرة باليل, النار النار ثم قال: لو وجدت أعوانا لناديت لفرقتهم فى منار الدنيا يا أيها الناس النار النار.
و قال ابن عيينة: قال إبراهيم التيمى: مثلت نفسي في الجنة, أكل من ثمارها و أعانق أبكارها, ثم مثلت نفسي في النار, أكل من زقومها و أشرب من صديدها و أعالج سلاسلها و أغلالها, فقلت لنفسي: أي شيء تريدين؟ قالت أريد أن أعد إلى الدنيا فأعمل صالحا, قال: فأنت في الأمنية فأعملي, و نحن و الله في الأمنية فكل من قصر في طاعة الله عز و جل في الدنيا يطلب العودة إليها كلما عاين أمور الآخرة و ترك دار العمل و لا حساب إلى دار الحساب و لا عمل, قال تعالى: } حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْت{ُ (المؤمنون: 99-100)
و قال تعالى: } وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ{ (الأنعام:27)
و قال تعالى: } وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ{ (السجدة:12)
و قال تعالى: } وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِير{ُ (فاطر:37)
و قال تعالى: } قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيل{ (غافر:11)
و أترك القارىء الكريم مع هذه الرسالة يعيش فى ذكر الجنة و النار و ما ورد فيهما من صريح الأخبار و صحيح الآثار حيث لخصت فيها حياة الأشقياء نعوذ بالله من حالهم و مهادهم طعامهم و شرابهم - ثم أردفت ذلك بذكر حياة السعداء – نسأل الله من فضله العظيم و كرمه العميم.
و الإيمان بالآخرة يتضمن الإيمان بكل ما ورد فى كتاب الله فى شأنها و كل ما صحت به سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم و أسأل الله أن يتقبل منا صالح الأعمال و أن يتجاوز عن سيئاتنا إنه على ما يشاء قدير و بالإجابة قدير و هو حسبنا و نعم الوكيل.
النار
صفة جهنم و أهوالها و أنكالها:
قال الغزالى رحمه الله:
يا أيها الغافل عن نفسه, المغرور بما هو فيه من شواغل هذه الدنيا المشرفة على الانقضاء, و الزوال, دع التفكير فيما أنت مرتحل عنه, و اصرف الفكر إلى موردك, فإنك أخبرت بان النار مورد للجميع, إذ قيل: } وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً{ (مريم: 71-72)
فأنت من الورود على يقين و من النجاة في شك, فاستشعر في قلبك هول ذلك المورد فعساك تستعد للنجاة منه, و تأمل في حال الخلائق و قد قاسوا من دواهي القيامة ما قاسوا, فبينما هم في كربها و أهوالها وقوفا ينتظرون حقيقة أنبائها و تشفيع شفائعها, إذ أحاطت بالمجرمين ظلمات ذات شعب و أطلت عليهم نار ذات لهب, و سمعوا لها زفيرا و جرجة تفصح عن شدة الغيظ و الغضب, فعند ذلك أيقن المجرمون بالعطب و جثت الأمم على الركب, حتى أشفق البراء من سوء المنقلب, و خرج المنادى من الزبانية قائلا: أين فلان بن فلان المسوف نفسه في الدنيا بطول الأمل, المضيع عمره في سوء العمل, فيبادرونه بمقامع من حديد, و يستقبلونه بعظائم التهديد, و يسوقونه إلى العذاب الشديد, و ينكسونه في قعر الجحيم, و يقولون له: } ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيم{ُ (الدخان:49). فاسكنوا دارا ضيقة الأرجاء, مظلمة المسالك, مبهمة المهالك, يخلد فيها الأسير, و يوقد فيها السعير, شرابهم فيها الحميم, و مستقرهم الجحيم, الزبانية تقمعهم, و الهاوية تجمعهم, أمانيهم فيها الهلاك, و ما لهم منها فكاك, قد شدت أقدامهم إلى النواصي, و اسودت وجوههم من ظلمة المعاصي, ينادون من أكنافها و يصيحون في نواحيها و أطرافها: يا مالك قد حق علينا الوعيد, يا مالك قد نضجت منا الجلود, يا مالك أخرجنا منها فإنا لا نعود.
فتقول الزبانية: هيهات لات حين أمان, و لا خروج لكم من دار الهوان, فاخسأوا فيها و لا تكلمون, و لو أخرجتم منها لكنتم إلى ما نهيتم عنه تعودون, فعند ذلك يقطنون و على ما فرطوا في جنب الله يتأسفون, و لا ينجيهم الندم, و لا يغنيهم الأسف, بل يكبون على وجوههم مغلولين, النار من فوقهم, و النار من تحتهم, و النار عن أيمانهم, و النار عن شمائلهم فهم غرقى في النار, طعامهم نار, و شرابهم نار, و لباسهم نار, و مهادهم نار, فهم بين مقطعات النيران و سرابيل القطران و ضرب المقاطع و ثقل السلاسل, فهم يتجلجلون في مضايقها, و يتحطمون في دركاتها, و يضربون بين غواشيها, تغلى بهم النار كغلى القدور, و يهتفون بالويل و العويل, و مهما دعوا بالثبور صب من فوق رؤوسهم الحميم, و يصهر به ما في بطونهم و الجلود و لهم مقامع من حديد, تهشم بها جباههم فينفجر الصديد من أفواههم, و تنقطع من العطش أكبادهم, و تسيل على الخدود احداقهم, و يسقط من الوجنات لحومها و هم مع ذلك يتمنون الموت فلا يموتون.[7]
[1] رواه البخاري (11/321) الرقاق, عن عبد الله بن مسعود و رواه أحمد (1/387/413/442).
[2] رواه الترمذى بإسناد حسن لغيره, و انظر السلسلة الصحيحة للألباني (رقم 953).
[3] رواه البخاري (10/30) الأشربة, و مسلم (2/41) الإيمان.
[4] رواه البخاري (14/75) الحدود.
[5] رواه مسلم (4/150), 151) الصلاة, و أحمد (3/170).
[6] رواه البخاري (1/400) الرقاق.
[7] إحياء علوم الدين (2986-2988)