خمسون وصية ووصية لتكون خطيباً ناجحاً
أمير بن محمد المدري
المقدمة
الحمد لله وكفى وصلاة وسلاما على عبده المصطفى وعلى اله وصحبه ومن اقتفى وبعد:-المقدمة
إن الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة وهدى ضرورة من ضرورات هذه الحياة لا تقل أهمية عن حاجة الإنسان إلى الطعام والشراب، بل هي من أعظم الضرورات على الإطلاق والعموم؛ إذ تتوقف عليها سعادة البشرية ونيل مكانتها وريادتها، بل يتوقف على تركها ذل الأبد وحزن الدهر.
"إن الله بعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة"،
ولكن لن تجد الدعوة إلى الله أثرها أو تحقق مقصدها على هذا النحو إلا إذا وجد الداعية الناجح الذي يحملها ويعيش بها ولها، ويحمل لها في قلبه المكان الأسنى والمطلب الأسمى.
والخطبة من أكثر أنواع الدعوة تأثيرًا ووصولاً للقلوب والأسماع إن أحسن الخطيب وتميز.
والخطابة مسؤولية عضمى لا يعلم حجم خطورتها إلا من يعلم أهميتها , فهي منبر التوجيه والدعوة وإحياء السنن وقول الحق وقمع البدع .
من هنا وجب أن تكون لنا وقفة مع الخطيب وصفاته، نحاول التعرف على جوانب ثقافته ومصادر أفكاره وأهم المكونات التي تؤثر في إفرازه وإيجاده.
ولهذا فقد قمت متوكلا على الله مستعينا به جل وعلا بالاطلاع على معظم المطولات في هذا الفن وأخرجت منها بتصرف واختصار سمات وصفات الخطيب الناجح والمؤثر مع بعض الإضافات واتمنى ان يجد كل خطيب مطلبه في هذا العمل.
والله أسأل أن يتقبل هذا العمل وأن يجعله صالحا ولوجهه خالصا وأن يسد الخلل إنه نعم المولى ونعم المصير .
أمير بن محمد المدري
مقدمة لا بد منها للخطيب
مقدمة لا بد منها للخطيب
أخي خطيب الجمعة : تحية إليك أيها الاخ الموفق يا من جعل الله لكلماتك أذاناً صاغية، بل يا من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالانصات لك، ويا من تقوم على الناس خطيباً كل جمعة، لتبين لهم أمر دينهم ولترشد ضالهم، وتهدي عاصيهم، أبعث إليك هذه الرسالة المخضبة بالحب والتقدير علها تكون معيناً لك على أداء مهمتك ...
أخي الخطيب قبل أي شيء أوصيك أن تجدد نيتك وتتفقد إخلاصك حتى تكون لكلماتك وخطبك أثراً في قلوب الناس إذ النائحة الثكلى ليست كالمستأجرة، ثم تأمل معي كم لك من الأجور والحسنات وأن تقوم في مسجدك خطيباً كل جمعة، وكم هو النفع الذي ينتشر بين الناس بسبب كلماتك ونصائحك عبر الخطبة، إن استشعارك أخي لهذه الفضائل يدفعك إن شاء الله إلى السعي الجاد للرقي بخطبتك قالباً ومضمونا. فلا بد أخي أن توقظ في نفسك حس الدعوة إلى الله وتتلمس حاجة مجتمعك وأمتك إلى نصحك ووعظك وتغييرك ....
أخي الخطيب إعلم أن الإخلاص لله روح الدين ولباب العبادة وأساس أي داع إلى الله وهو في حقيقته قوة إيمانية ، وصراع نفسي ، يدفع صاحبه – بعد جذب وشد – إلى أن يتجرد من المصالح الشخصية ، وأن يترفع عن الغايات الذاتية ، وأن يقصد من عمله وجه الله لا يبغي من ورائه جزاءً ولا شكوراً
فالمخلصون " أعمالهم كلها لله ، وأقوالهم لله ، وعطاؤهم لله ،ومنعهم لله ، وحبهم لله ، وبغضهم لله ، فمعاملتهم ظاهراً وباطناً لوجه الله وحده "
والإخلاص للخطيب ألزم له من كل أحد وأهميته تفوق كل أمر ، وهو استجابة لأمر الله (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)البينة :5
وقال تعالى (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً )الإسراء18
من كان طلبه الدنيا العاجلة، وسعى لها وحدها، ولم يصدِّق بالآخرة، ولم يعمل لها، عجَّل الله له فيها ما يشاؤه اللّه ويريده مما كتبه له في اللوح المحفوظ، ثم يجعل الله له في الآخرة جهنم، يدخلها ملومًا مطرودًا من رحمته عز وجل؛ وذلك بسبب إرادته الدنيا وسعيه لها دون الآخرة.
وفي ترك الاخلاص خوف من الحرمان ِبرّد الأعمال ومنع التوفيق ؛ لأن الله جل وعلا قال في الحديث القدسي ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ) أخرجه مسلم
وفيه وقاية من عذاب الآخرة الذي توعد به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من عمل بلا إخلاص عندما ذكر أول ثلاثة تسعّر بهم النار وهم قارئ وغني ومجاهد لم يقصدوا بأعمالهم وجه الله في الحديث الذي أخرجه مسلم .
وكيف يتصور هذا الامر رجل يقاتل تحت راية الاسلام وباسم الدين فكيف يكون من أهل النار وأكثر من ذلك العالم الفقيه الذي تعلّم وسهر الليالي وأصبح عالما وخطيبا يشار اليه بالبنان فكيف يكون من أهل النار وآخر يحفظ كتاب الله تلاوة وتجويداً وتفسيراً هؤلاء الثلاثة أول الداخلين الى النار لماذا ضياع الاخلاص كل ذلك ليقال عنهم أنهم كذلك .
فلا بد والأمر كذلك من تحري الإخلاص والحذر مما يضاده فإنه " لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت .
وحين فهم الاوائل هذا المعنى أوضحوا لجيلهم معانيه فأيقظوا النفوس الغفلة ليستقر فيها مفهوم النية قال ابن المبارك (رب عمل صغير تعظمه النية ورب عمل كبير تصغره النية )
وقال الكيلاني (كن صحيحا في السر تكن فصيحا في العلا نية )
وأعلم أخي الخطيب أنه لا يشرح الصدر مثل الكلام الصادق، والبيان الناطق، واللفظ الدافق، والأسلوب السامق، أما كلام الحاكة، وألفاظ أهل الركاكة، فهو حُمّى الأرواح، في الصدور رماح، وفي القلوب جراح.
والمفروض أن الخطيب العارف بالله قد بلغ من منازل الإيمان منزلة تجعل رجاءه في الله وحده يسبق كل رغبة إلى مخلوق ، والإخلاص يجعل للكلمات حيوية مؤثرة ، وللدعوة قولاً سريعاً .
وهاهو ابن الجوزي يصف لنا المخلصين فيقول (إنهم رجال مؤمنون ونساء مؤمنات يحفظ الله بهم الارض بواطنهم كظواهرهم بل أجلى وسرائرهم كعلانيتهم بل أحلى وهمهم عند الثريا بل أعلى ) صيد الخاطر
فأنطلق أخي الخطيب على بركة الله بالإخلاص لله في طريق الله لتصل الى الله وقد رضي عنك فأجزل لك العطاء وأسبغ عليك النعم وأكرمك أفضل إكرام وإذ بالحسنات قد تضاعفت وبالسيئات قد محيت وإذ بك تستمع
(سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ )الزمر73.
واليك أخي الخطيب
صفات الخطيب المؤثر، أو العوامل التي تجعل الخطيب نافعا لامته ولمجتمعه ولنفسه اولا ، وهي كالتالي :-
أولاً:الشعور بالمسؤلية:-
يجب أن يشعر الخطيب بأنه صاحب رسالة يؤديها، ويقصد من خلالها وجه الله، حتى ولو كانت تلك وظيفته التي يقتات منها، وذلك لأن صاحب الرسالة يستفرغ كل طاقته في محاولة إيصالها إلى الناس، لا يكل ولا يمل.
. والحقيقة إذا ما توفر هذا الشعور في نفس الخطيب فإن النجاح سيكون حليفه، وسيكون من أحسن الناس قولاً.
قال الله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )فصلت33 فلا أحد أحسن قولاً ممن حمل مشعل الدعوة إلى الله وإلى إتباع منهجه والالتزام بأحكامه وتعاليمه، والواجب على الداعية أو الخطيب أن يعلن هويته وانتمائه بقوله: إنه من المسلمين بعيداً عن الفئوية الضيقة، والنظرة المحدودة. لأن الإسلام هو الأصل وهو الأعم والأشمل.
والخطيب الناجح والمؤثر هو خطيب يتخذ الإخلاص مطية، تصل به إلى دربه ومبتغاه، ويحزم متاعه برباط الخوف من قيوم السماوات والأرض.
ثم اعلم اخي الخطيب أنه قد اصطفاك الله لحمل دعوته، ورعاية أمانته، وصيانة عهده، وتحقيق وعده فعلم الناس دين الله وابسطه بين أيديهم
((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا)) فاطر32 ((وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ )آل عمران79
فيا أيها الخطيب أري الله من نفسك خيرًا، واعلم أنك من ورثة الأنبياء.
ثانيًا: الموهبة :-
الخطابة فن، ولذا ينبغي لمن يتصدى لها أن يكون ذا موهبة، يثقلها بالعلوم والمعارف المختلفة، ذات الصلة الوثيقة بعلم الخطابة، فسعة الإطلاع خير معين للخطيب في أداء خطبته بقوة وتأثير.
ثالثا: الرصيد العلمي والزاد الثقافي :
وهذا أساس لا بد منه حتى يجد الناس عند الخطيب إجابة التساؤلات ، وحلول المشكلات إضافة إلى ذلك هو العدَّة التي بها يعلِّم الخطيب الداعية الناس أحكام الشرع ، ويبصرهم بحقائق الواقع ، وبه أيضاً يكون الخطيب قادراً على الإقناع وتفنيد الشبهات ، ومتقناً في العرض ، ومبدعاً في التوعية والتوجيه .
وإذا كانت الدعوة إلى الله أشرف مقامات العبد وأجلها وأفضلها فهي لا تحصل إلاَّ بالعلم الذي يدعو به وإليه ،ولا بد من كمال الدعوة من البلوغ في العلم على حد يصل إليه السعي.
وإذا نال الخطيب حظاً وافياً من العلم واندرج في سلك طلبة العلم فإنه يكون في مجتمعه نبراساً يُهتدى به كما قال ابن القيم عن الفقهاء ((إنهم يكون الأرض بمنزلة النجوم في السماء ، بهم يُهتدى في الظلماء ، حاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب ، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء))
وعندما يتحرك الداعية ناشراً علمه ساعياً بين الناس بالإصلاح ناعياً عليهم الغفلة والفساد فإنه يحظى بشرف الوصف الذي ذكره الإمام أحمد حين قال :((الحمد لله الذي جعل في كل فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضلَّ إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى ، يحيون بكتاب الله تعالى الموتى ، ويبصرون بنور الله أهل العمى ، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه ، وكم من ضال تائه قد هَدوه ، فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم وأهل العلم والبصيرة من الدعاة شهد التاريخ أنهمهم من اهتدى بهم الحائر ، وسار بهم الواقف ، وأقبل بهم المعرض ، وكمُل بهم الناقص ، ورجع بهم الناكص ، وتقوى بهم الضعيف))
وقال أبو هلال العسكري في ((الحث على طلب العلم)) : ((فإذا كنت – أيها الأخ الكريم – ترغب في سمو القدر ، ونباهة الذكر ، وارتفاع المنزلة بين الخلق ، وتلتمس عزاً لا تثلمه الليالي والأيام ، ولا تتحيَّفه الدهور والأعوام ، وهيبة بغير سلطان ، وغنى بلا مال ، ومنعة بغير سلاح ، وعلاء من غير عشيرة ، وأعواناً بغير أجر ، وجنُداً بلا ديوان وفرض ، فعليك بالعلم فاطلبه في مظانه تأتك المنافع عفواً وتلق ما يعتمد منه صفواً )) .
أما عن ثقافة الخطيب فالمقصود بها :-
أولاً: حفظ كتاب الله حفظًا مكينًا بحيث تصير الآيات له كما لو كان يقرؤها وينظر فيها. أو على الاقل قدر كبير منه فلاشك أن حافظ القرآن عن ظهر قلب أقدر على استحضار الآيات والاستشهاد بها وأن هذه الصفة من صفات الكمال للخطيب، ولكن لاشك أن هناك قدراً ضرورياً لا غنى للخطيب عنه، هذا القدر يتعلق أولاً بالقدرة على التلاوة الصحيحة السليمة لكتاب الله عز وجل بغير لحن، ثم القدرة على استحضار الآيات المتعلقة بموضوع خطبته ومعرفة أقوال أهل العلم في تفسيرها والتمييز بين الصحيح والسقيم، والإسرائيليات والموضوعات وغيرها.
وليحذر الخطيب في أن يقحم الآيات في غير محلها أو يصرفها عن غير وجهها أو يخضعها للنظريات العلمية والاكتشافات العصرية أو يخضعها لواقعه الزمني أو المكاني إذا كان مخالفاً لدين الله
ثانيًا: حفظ قدر كبير من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبخاصة كتاب "رياض الصالحين" للخطيب المبتدئ؛ لما يتسم به هذا الكتاب من سهولة العبارة، وقلة الألفاظ، وحسن التبويب، ودقة العرض بتجميع موضوعات الباب، كل على حدة.
ثالثًا: النظر في القصص القرآني الكريم؛ إذ فيه مادة لطيفة لاستخلاص العبرة وربط الفكرة، خاصة أن الناس يحبون هذا اللون من الأداء.
رابعًا: شحن الذهن بغزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وربطها بالواقع المعيش.
خامسًا: النظر في حياة الصحابة أولئك الصفوة والفئة المنتقاة، وأخذ الأسوة عنهم وربطها بحياة الناس.
سادسًا: العلم بالأحكام الشرعية المتعلقة بالإمامة والصلاة:
وهذه الصفة فرع عن الصفة الأولى ولكن أفردناها لأهميتها والتنبيه عليها، فينبغي أن يكون عالماً بأحكام الخطبة والصلاة وشرائطهما ومصححاتهما ومبطلاتهما وجوابرهما وكيفياتهما وتكميلاتهما.
ولا يشترط أن يكون عالماً مجتهداً مطلقاً ولا مقيداً، ولا أن يكون مفتياً في جميع الأحكام ولا حبراً لجميع الأنام، فإن ذلك من صفات الكمال، لا من صفات الصحة والإبطال
سابعا:. علم التاريخ:
فالتاريخ ودراسته يوسع آفاق الخطيب ويطلعه على أحوال الأمم وسير الرجال وتقلب الأيام بها وبهم، وفيه يرى سنن الله الكونية وعاقبة الأمم والمجتمعات والحضارات، وانتصار أو انهزام الدعوات. فالتاريخ مرآة مصقولة تتجلى فيها عاقبة الإيمان والتقوى ونهاية الكفر والفجور، فهو أصدق شاهد على دعوة الرسل وأتباعهم، وقد لفت الله عز وجل في كتابه إلى أهمية القصص والاتعاظ بأحوال السابقين فقال( ُقلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ )الروم 42 وقال: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً )ق 36 وقال(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ)يوسف 111
والخطيب والداعية إذا أحسن دراسة التاريخ والإفادة منه كان أعون له في تثبيت المعاني والقيم التي يدعو إليها لا سيما إذا تماثلت الظروف وتشابهت الدوافع.
ثامنا : الرغبة في معايشة بعض الكتب الأدبية والفكرية لطلاقة اللسان، وسلاسة وسلامة العبارة وجزالة اللفظ، وأخص بالذكر هنا كتب الرافعي، وبخاصة كتاب "من وحي القلم"، وهو كتاب قوي في مادته، عذب جزل في عبارته رصين في ألفاظه، قوي في بنائه، مشوق في عرضه، شهي في فكرته مع متابعة ما كتبه شعراء الإسلام قديمًا وحديثًا وبخاصة شعراء "الدعوة الإسلامية".. وبذلك يتمكن الخطيب من حضور الشاهد في زمانه وإيقاعه في مكانه ذلك هو جزء من مكونات الخطيب، مع ملاحظة أن الشرطين الأولين لا غنى عنهما البتة لأي خطيب كائنًا من كان.
تاسعا: واقع العالم الإسلامي:
فما أقبح بالخطيب أن يجهل أحوال أمته وواقع عالمه، وإلا فأين الجسد الواحد، ومن أين تستقي الجماهير أخبار إخوانهم وكيف يمكنهم مد العون لهم أو على الأقل المشاركة بالدعاء والدعم المعنوي لقضاياهم وأزماتهم؟!
ولا بد ايضا أن يدرك الخطيب واقع القوى العالمية المعادية للإسلام:
فإن تكالب أعداء الإسلام على الإسلام ودعاته أمر لا ينكره إلا مكابر، وتنوع أساليب الأعداء وتبادلهم الأدوار، فهذا اليوم يقدم بدور الحمائم، وغداً يكون هو الصقر الذي ينقض على فريسته، ومع غفلة الأمة عن إدراك حقيقة الصراع وطبيعته يصبح دور الدعاة وخطباء الأمر أمراً لازماً لتبصير الأمة بهؤلاء الأعداء وأساليبهم ومؤامراتهم، ولكن للأسف الشديد الناظر في أحوال الأمة اليوم يدرك غياب هذا الدور تماماً، ولا زالت تلهث وراء أعدائها وتتعلق آمالها بهم غافلة عن تاريخهم وعدائهم ومكرهم، وما ذاك إلا لأنهم اليوم يقومون بدور الحمائم، ومن ذلك تعلق المسلمين اليوم بروسيا أو فرنسا ليعيدوا إليهم حقوقهم السليبة وكرامتهم المفقودة وأرضهم المغتصبة ناسية أو متناسية دورهم القبيح وأفعالهم الشنيعة مع الشعوب المسلمة.
فإدراك الخطيب بهذا الواقع وأساليب الأعداء من اقتصادية وسياسية وفكرية وتنوع صورها من مؤسسات تنصيرية أو تبشيرية أو استشراقية، أو ماسونية، وتحذيره الأمة وتبصيرها بذلك من شأنه أن يقيها ضربات موجعة مؤلمة، ولكن يجب الانتباه إلى أمرين:
الأول: عدم التهويل والمبالغة في شأنها، الأمر الذي ربما سبب اليأس والقعود، كما أن التهوين يسبب الاستهانة وعدم الأخذ بالأسباب.
الثاني: إدراك طبيعة العلاقة بين هذه القوى المعادية، وأنهم تحسبهم جميعاً، وقلوبهم شتى.
فما قوة الخطيب إذن إن لم يستطع أن يحفظ من كل باب دوحة من الأحاديث التي تنمي ملكته وتعضد فكرته وتشبع وتقوم لسانه وتهيج مشاعره؟
رابعا: الاستعانة بالله :-
تذكر أنك إنما تخطب وتتكلم بحول الله تعالى وقوته, فإن شاء الله تعالى أطلق لسانك, وإن شاء عقده, ولو وكلك الله إلى نفسك لعييت وعجزت.
إن حنجرتك التي هي وعاء خروج الأصوات, ولسانك وشفتيك وأسنانك التي تصيغ الحروف والنغمات, إنما هي خلق من خلق الله تعالى {الذي أنطق كل شيء}.
واعلم أن الله معك.. شاهد ومطلع عليك.. نظره أسبق من نظر المخاطبين إليك.
فاعتصم بالله، وليكن لك في نبي الله موسى عليه السلام أسوة حسنة حيث (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي)طه 25-28
وأنبه إلى ضرورة تجنب الخطيب الغرور والإعجاب بالنفس، فإن ذلك محبط للعمل والأجر والثواب.
خامسا :الله الله في القدوة :-
فالناس ينظرون إلى سلوك الخطيب، ويدققون النظر فيه، ولذا ينبغي أن تتطابق أفعاله مع أقواله، فالتزام الخطيب بأحكام الإسلام بوجه عام، وتطبيق ما يدعو إليه في خطبته، يجعل كلامه مقبولاً عند المستمعين، أما مخالفة العمل للقول، فإنه يجعل المستمعين لا يثقون به ولا بكلامه.
قال الله تعالى: ((تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ )البقرة44
ويقول أيضاً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ )الصف2,3
الخطيب القدوة الذي يعامل الناس ويدعوهم بالقول والعمل فيصبح مؤثراًأشد التأثير تلتف حوله القلوب وتحوم حوله الافئدة وفي صورة مثيرة رهيبة ومخيفة يبين فيها النبي صلى الله عليه وسلم حال من خالف عمله قوله فيقول (يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى فيجتمع عليه أهل النار ويقولون يا فلان الم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ فيقول نعم كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه ) رواه البخاري
فأين الدعاة من هذا الحديث العظيم أسال الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ممن توافق أقوالهم أفعالهم .
سادسا: الشجاعة:-
أن يكون الخطيب شجاعًا في قول الحق، مع التحلي بالحكمة وحسن التقدير للموقف، بعيدًا عن التهور والاندفاع غير المحسوب، فالشجاعة في قول الحق صفة أساسية لابد وأن يتحلَّى بها الخطيب؛ لأنه سيتعرض لأمور كثيرة فإن لم تكن عنده الشجاعة الكافية فلن يستطيع الوصول إلى الهدف والغاية المرجوة، وكما نطالب الخطباء بالشجاعة، فعلى الحكومات والوزارات المعنية أن توفر جانبًا من الحرية للخطباء، كما توفر هامشًا - قل أو كثر – للصحافة وأجهزة الإعلام.
سابعا:الصلة مع الجماهير :-
أن يكون وثيق الصلة بجمهوره، أقصد مستمعيه، وأن يحدث تقاربًا بينه وبينهم، فيعود مرضاهم، ويسأل عن غائبهم، ويشارك في وضع الحلول لمشكلاتهم، وكلما اقترب من المدعوين ووقف بجانبهم في أزماتهم، كلما كان ذلك أدعى إلى التفافهم حوله، والقرب منه.
مع ملاحظة أن يعف نفسه عما في أيدي الناس، وكما ورد في الحديث الشريف:
(ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبوك).
ثامنا: القناعة بما يدعو اليه :-
أن يكون على قناعة تامة بما يدعو إليه، حتى يكون قادرًا على الإقناع والتأثير، فالإيمان بقضية ما يجعل صاحبها يدافع عنها بكل ما يملك. فإذا لم يكن الخطيب على قناعة بما يدعو إليه، فلا يستطيع إقناع الآخرين بذلك، فإذا دعا الخطيب في خطبته الناس إلى دفع زكاة أموالهم أو الصدقة وهو في نفس الوقت لا يدفع زكاة أمواله ولا يتصدق ، أو دعاهم إلى ترك الغيبة وهو يفعل ذلك، أو دعاهم إلى إلزام بناتهم وزوجاتهم باللباس الشرعي، وبناته وزوجته لا يلتزمن بذلك، إلى غير ذلك، فإن الكثير من الناس سوف لا يلتفتون إلى أقواله ولا إلى خطبه.
تاسعا: إختيار مواضيع من واقع الحياة :-
فغلى الخطيب اختيار موضوع الخطبة من واقع الحياة التي يحياها الناس، ومناقشة المشكلات الاجتماعية المتعددة، ومحاولة طرح الحلول لها، أما الموضوعات السلبية التي لا تعالج أمراض المجتمع وعلله المختلفة، فإن الاستفادة منها تكون قليلة.
فالخطيب الناجح هو الذي ينظر إلى واقع الناس ليتحدث عنه، فليس من الحكمة عدم مراعاة واقع الناس، فمثلا إذا ما حصلت حادثة وفاة فليس من المناسب أن يذهب الخطيب فيتحدث عن الزواج، إذ المناسب التحدث عن الموت من حيث كونه حقاً لا مفر منه ومن حيث أخذ العبرة منه، ودعوة الناس إلى الاستعداد له، وبيان أن الإنسان لا يدري متى يأتيه الأجل وهكذا. كما يتوجب عليه أن يكون مطلعاً على ما يجري في العالم من أحداث ومتغيرات ومستجدات، ليطلع جمهوره على ذلك مع بيان حكم الإسلام في ذلك.
عاشرا: فصاحة اللسان وجودة النطق :-
إن فصاحة اللسان وسلامة مخارج الحروف أمر مهم للخطيب وكذلك مراعاة حسن الإلقاء، قوةً ولينًا، فلا يكون الإلقاء على وتيرة واحدة، حتى لا يمل السامع، أو يعتمد أسلوب السجع الممقوت، فإن من شأن ذلك إضاعة المعنى، والتركيز على اللفظ. مع ضرورة مراعاة قواعد اللغة العربية، لأن عدم مراعاتها يحدث خللاً في المعنى.
فمع الأسف كثيراً ما نشاهد بعض الخطباء أو المتحدثين لا يراعون في خطبهم أو كلماتهم قواعد اللغة العربية، ولا يقيمون لها وزناً، ويظنون أن ذلك ليس من الضرورة بمكان، وهذا خطأ كبير وجهل فاضح، فتغيير حركة واحدة في الكلمة من شأنه أن يقلب المعنى رأساً على عقب، والأمثلة على ذلك كثيرة.
والخطيب الناجح والمؤثر يمتلك من الألفاظ أعذبها وأشوقها وأقربها إلى القلوب والشعور، يأسرك بكلماته التي هي واحة المتعبين وأنس السامرين، ودليل الحائرين، يربطهم بالمسجد ربط الطائر بعشه وأفراخه
(وقد نرى بعض الخطباء إذا تكلم لا يكاد يبين، كأنه من الأعجمين، ينطق بالحرف مقلوباً، ويجعل المرفوع منصوباً، ملأ خطبته عيوباً، وندوباً، وثقوباً. غضب منه في النحو سيبويه، وفي اللغة نفطويه، وفي الحديث راهويه، وفي الشعر متنبيويه.
الخطيب البارع يأسر القلوب أسراً، ويسري بالأرواح، فسبحان من أسرى، ويسترق الضمائر فإما منّاً بعد وإما فداء، وله على مستعمرات النفوس احتلال واستيلاء.
الخطيب الملهم يكتب على صفحات القلوب رسائل من التأثير، في العقول صوراً من براعة التعبير، ويبني في الأفئدة خياماً من جلال التصوير. هل تمل من الروضة الغنّاء إذا غنى فيها العندليب، وحل بها الحبيب، وأطفأ نسيمها اللهيب، وكذلك الخطيب النجيب، في خطبه روضات من الجمال، وبساتين من الجلال، ودواوين من الكمال)المسك والعنبر