بسم الله الرحمن الرحيم
هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق إلى المدينة المنورة
هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق إلى المدينة المنورة
بينما ينظر البعض إلى الهجرة كذكريات عطرة تتجدّد كل عام ، يرى الحكماء وأصحاب العقول الراجحة في هذا الحدث نصراً يُضاف إلى رصيد الجماعة المؤمنة ، وهروباً من حياة الظلم والاستعباد ، إلى الحياة الحرّة الكريمة ، وبداية مرحلةٍ جديدة من الصراع بين الإسلام والكفر ، والحق والباطل ، حتى صار تاريخاً للمسلمين يؤرّخون به أحداثهم .
وللوقوف على أهمّية الحدث ، واستشعار أبعاده ، يجدر بنا أن نعود إلى الوراء بضعة عشر قرناً من الزمان ، وتحديداً في العام الثالث عشر من البعثة ، حين نجحت جموع المؤمنين في الخروج من مكة ، واستطاعت أن تتغلّب على المصاعب والعقبات التي زرعتها قريشٌ للحيلولة دون وصولهم إلى أرض يثرب ، ليجدوا إخوانهم الأنصار قد استقبلوهم ببشاشة وجهٍ ورحابة صدر ، وفتحوا لهم قلوبهم قبل بيوتهم ، مما كان له أعظم الأثر في نفوسهم ، ولم يبق في مكّة سوى نفرٍ قليل من المؤمنين ما بين مستضعفٍ ومفتونٍ ومأسورٍ .
وهنا أحسّت قريشٌ بالمخاطر التي تنتظرهم ، وأدركت أنها لن تستطيع تدارك الموقف وإعادة الأمور إلى نصابها إلا بالوقوف بأيّ وسيلة دون إتمام هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ونتيجةً لذلك ، كانت المؤامرات تدور في الخفاء للقضاء على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ففي يوم الخميس من شهر صفر اجتمع المشركون في دار الندوة وتشاوروا في الطريقة المُثلى لتحقيق مقصودهم ، فمن قائلٍ بضرورةِ قتله عليه الصلاة والسلام والتخلّص منه ، وآخر بحبسه وإحكام وثاقه ، وثالثٍ بنفيه وطرده ، حتى اتفقت الآراء على قتله ، ولكن بطريقة تَعْجَز بنو هاشم معها عن أخذ الثأر ، وذلك بأن تختار قريش صفوة فتيانها من جميع القبائل فيقوموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - قومة رجلٍ واحد ويقتلوه ، ليتفرّق دمه بين القبائل ، وفي هذه الحالة لن تستطيع بنو هاشم أن تقاتل سائر الناس ، ولن يبقى أمامها سوى خيارٍ واحد هو قبول الدية ، وصدق الله عزوجل إذ يقول : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } ( الأنفال : 30 ) .
ولم تكن قريش لتعلم أن الله سبحانه وتعالى أذن لنبيه بالهجرة إلى المدينة ، فبينما هم يبرمون خطّتهم ويحيكون مؤامرتهم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد استعدّ للسفر ، وانطلق إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه في وقت الظهيرة متخفّياً على غير عادته ، ليخبره بأمر الخروج .
وخشي أبو بكر رضي الله عنه أن يُحرم شرف هذه الرحلة المباركة ، فاستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحبته فأذن له ، فبكى رضي الله عنه من شدّة الفرح، وكان قد جهّز راحلتين استعداداً للهجرة ، فلما أعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم -بقرب الرحيل قام من فوره واستأجر رجلاً مشركاً من بني الديل يُقال له عبد الله بن أُريقط ، ودفع إليه الراحلتين ليرعاهما ، واتفقا على اللقاء في غار ثورٍ بعد ثلاث ليالٍ ، في حين قامت عائشة وأختها أسماء رضي الله عنهما بتجهيز المتاع والمؤن ، ووضعا السفرة في وعاء ، وشقّت أسماء نطاقها نصفين لتربط السُفرة بنصفه وقربة الماء بالنصف الآخر ، فسمّيت من يومها بذات النطاقين .
وتسارعت الأحداث ، وحانت اللحظة المرتقبة ، وانطلق النبي - صلى الله عليه وسلم -متخفّياً إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه ، وكان الميعاد بينهما ليلاً ، فخرجا من فتحةٍ خلفيةٍ في البيت ، وفي الوقت ذاته أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأن يتخلّف عن السفر ليؤدي عنه ودائع الناس وأماناتهم ، وأن يلبس بردته ويبيت في فراشه تلك الليلة ؛ من أجل إيهام قريشٍ .
ونجح النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه في الفرار من بين أيديهم ، ولم يكشتفوا الأمر إلا عندما أصبح الصباح وخرج عليهم عليٌ رضي الله عنه وهو لابسٌ بردة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجُنّ جنونهم ، وأحاطوا به يسألونه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتظاهر بالدهشة وعدم معرفته بمكانه ، وانطلقت قريشٌ مسرعةً إلى بيت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه ، لأنّهم يعلمون أنه صاحبه ورفيق دربه ، ولابد أن يصلوا من خلاله إلى معلومة تقودهم إلى وجهته ، إلا أنهم فوجئوا برحيله هو الآخر ، فساءلوا أسماء عن والدها ، فأبدت جهلها ، فغضب أبو جهل لعنه الله ولطمها لطمة أسقطت الحليّ من أذنها .
وبدأت محاولات المطاردة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقاموا بمراقبة جميع منافذ مكّة مراقبة دقيقة ، وأعلنوا بين أفراد القبائل جائزة ثمينة لمن يأتي به حيّاً أو ميّتاً ، وأرسلوا كلّ من له خبرة بتتبّع الآثار ، وانطلقت جموعهم شمالاً علّهم يقفوا له على أثر .
وخالف النبي - صلى الله عليه وسلم - بذكائه وحنكته كل توقعاتهم ، فلم يتجه صوب المدينة مباشرة ، بل ذهب إلى جهة الجنوب حتى بلغ جبلاً وعراً يُقال له " جبل ثور " ، يوجد في أعلاه غار يصعب الوصول إليه ، ويمكنهم المكوث فيه إلى أن يهدأ الطلب .
وقادت الجهود قريشاً إلى غار ثورٍ ، وصعدوا إلى باب الغار ، وبات الخطر وشيكاً ، وبلغت أصواتهم سمع أبي بكر فقال رضي الله عنه : " يا رسول الله ، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا " ، فأجابه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إجابة الواثق المطمئنّ بموعود الله : ( يا أبا بكر ، ما ظنّك باثنين الله ثالثهما ؟ ) ، وصدق ظنّه بربه ، فإن قريشاً استبعدت وجود النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا المكان ، و انصرفت تجرّ أذيال الخيبة .
وأقام النبي - صلى الله عليه وسلم -في الغار ثلاث ليالٍ ، وكان عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنهما يأتي كل يوم ليبلغهما أخبار قريش ، و عامر بن فهيرة يأتي بالأغنام ليشربا من لبنها ، ويخفي آثار عبدالله بن أبي بكر ، حتى جاء عبدالله بن أريقط في الموعد المنتظر ، ومعه رواحل السفر .
وفي ليلة الإثنين من شهر ربيع الأوّل انطلق الركب إلى المدينة متّخذاً طريق الساحل ، وظلوا يسيرون طيلة يومهم ، و أبو بكر رضي الله عنه يمشي مرّة أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومرّة خلفه ، ومرّة عن يمينه ، ومرّة عن يساره ، خوفاً عليه من قريش ، حتى توسّطت الشمس كبد السماء ، فنزلوا عند صخرةٍ عظيمةٍ واستظلّوا بظلّها ، وبسط أبو بكر رضي الله عنه المكان للنبي - صلى الله عليه وسلم - وسوّاه بيده لينام ، وبينما هم كذلك إذ أقبل غلام يسوق غنمه قاصداً تلك الصخرة ، فلما اقترب قال له أبوبكر رضي الله عنه : لمن أنت يا غلام ؟ ، فقال : لرجل من أهل مكة ، فقال له : أفي غنمك لبن ؟ ، فقال : نعم ، فحلب للنبي - صلى الله عليه وسلم -في إناء ، فشرب منه حتى ارتوى .
قصة سراقة بن مالك
فلما أيس المشركون منهما جعلوا لمن جاء فيهما دية كل واحد منهما ، لمن يأتي بهما أو بأحدهما ، فجد الناس في الطلب ، والله غالب على أمره . فلما مروا بحي مدلج مصعدين من قديد ، بصر بهم رجل فوقف على الحي ، فقال : لقد رأيت آنفاً أسودة ما أراها إلا محمداً وأصحابه . ففطن بالأمر سراقة بن مالك ، فأراد أن يكون الظفر له ، وقد سبق له من الظفر ما لم يكن في حسابه ، فقال: بل هما فلان وفلان، خرجا في طلب حاجة لهما . ثم مكث قليلاً ، ثم قام فدخل خباءه ، وقال لجاريته : اخرجي بالفرس من وراء الخباء وموعدك وراء الأكمة . ثم أخذ رمحه وخفض عاليه يخط به الأرض حتى ركب فرسه ، فلما قرب منهم ، وسمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر يكثر الالتفات ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلتفت- قال أبو بكر : يا رسول الله ! هذا سراقة بن مالك قد رهقنا . فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فساخت يدا فرسه في الأرض ، فقال : قد علمت أن الذي أصابني بدعائكما ، فادعوا الله لي ، ولكما أن أرد الناس عنكما
فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخلصت يدا فرسه ، فانطلق . وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن يكتب له كتاباً ، فكتب له أبو بكر بأمره في أديم . وكان الكتاب معه إلى يوم فتح مكة ، فجاء به ، فوفى له رسول الله صلى الله عليه وسلم . فرجع ، فوجد الناس في الطلب ، فجعل يقول : قد استبرأت لكم الخبر ، وقد كفيتم ها هنا ، فكان أول النهار جاهداً عليهما ، وكان آخره حارساً لهما .
وفي طريقهم إلى المدينة نزل الرسول - صلى الله عليه وسلم -وصاحبه بخيمة أم معبد ، فسألاها إن كان عندها شيء من طعامٍ ونحوه ، فاعتذرت بعدم وجود شيء سوى شاة هزيلة لا تدرّ اللبن ، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم -الشاة فمسح ضرعها بيده ودعا الله أن يبارك فيها ، ثم حلب في إناء ، وشرب منه الجميع ، وكانت هذه المعجزة سبباً في إسلامها هي وزوجها .
قصة أم معبد:
ثم مروا بخيمة أم معبد الخزاعية : وكانت امرأة برزة جلدة تحتبي بفناء الخيمة ثم تطعم وتسقي من مر بها ، فسألاها : هل عندها شئ يشترونه ؟ فقالت : -والله لو عندنا شئ ما أعوزكم القرى ، والشاء عازب - وكانت سنة شهباء - فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة ، فقال : ما هذه الشاة ؟ قالت : خلفها الجهد عن الغنم ، فقال : هل بها من لبن ؟، قالت : هي أجهد من ذلك ، قال : أتأذنين لي أن أحلبها ؟، قالت :
نعم -بأبي أنت وأمي- إن رأيت بها حليباً فاحلبها، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ضرعها ، وسمى الله ودعا . فتفاجت عليه ودرت ، فدعا بإناء لها يربض الرهط ، فحلب فيه حتى علته الرغوة ، فسقاها فشربت حتى رويت ، وسقى أصحابه حتى رووا ، ثم شرب هو ، وحلب فيه ثانياً فملأ الإناء، ثم غادره عندها وارتحلوا . فقل ما لبثت : أن جاء زوجها يسوق أعنزاً عجافاً يتساوكن هزالاً ، فلما رأى اللبن ، قال : من أين هذا؟ والشاء عازب ، ولا حلوبة في البيت . قالت : لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك ، من حديثه : كيت وكيت ، قال : والله إني لأراه صاحب قريش الذي تطلبه ، صفيه لي يا أم معبد . قالت : ظاهر الو ضاءة ، أبلج الوجه ، حسن الخلق ، لم تعبه ثجلة ، ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم في عينيه دعج ، وفي أشفاره وطف ، وفي صوته صحل ، وفي عنقه سطع ، وفي لحيته كثاثة أحور أكحل أزج أقرن، شديد سواد الشعر، إذا تكلم علاه البهاء ، أجمل الناس وأبهاه من بعيد ، وأحسنه وأحلاه من قريب ، حلو المنطق ، فصل ، لا تزر ولا هذر ، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن ، ربعة لا تقتحمه عين من قصر ، وتشنؤه من طول ، غصن بين غصنين ، فهو أنضر الثلاثة منظراً ، وأحسنهم قدراً ، له رفقاء يحفون به ، إذا قال استمعوا لقوله ، وإذا أمر تبادروا إلى أمره ، محفود محشود ، لا عابس ولا مفند . قال أبو معبد : هذا -والله- صاحب قريش الذي تطلبه ، ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن ، إن وجدت إلى ذلك سبيلاً . وأصبح صوت عال بمكة يسمعونه ، ولا يرون القائل ، يقول : جزى الله رب الناس خير جزائه رفيقين حلا خيمتي أم معبد هما نزلا بالبر وارتحلا به فأفلح من أمسى رفيق محمد فيا لقصي ما زوى الله عنكمو به من فخار لا يحاذى وسؤدد وقد غادرت وهناً لديها بحالب يرد بها في مصدر ثم يورد سلوا أختكم عن شاتها وإنائها؟ فإنكموا إن ت سألوا الشاة تشهد دعاها بشاة حائل فتحلبت له بصريح ضرة الشاة مزبد لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم وقدس من يسري إليه ويغتدي ترحل عن قوم فزالت عقولهم وحل على قوم بنور مجدد هداهم به -بعد الضلالة-ربهم وأرشدهم من يتبع الحق يرشد وقد نزلت منه على أهل يثرب ركاب هدى حلت عليهم بأسعد نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ويتلو كتاب الله في كل مشهد وإن قال في يوم مقالة غائب فتصديقها في ضحوة اليوم أوغد ليهن أبا بكر سعادة جده بصحبته من يسعد الله يسعد ويهن بني كعب مكان فتاتهم ويقعدها للمؤمنين بمرصد قالت أسماء بنت أبي بكر : مكثنا ثلاث ليال لا ندري أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يتغنى بأبيات غناء العرب ، والناس يتبعونه ، ويسمعون منه ولا يرونه ، حتى خرج من أعلى مكة ، فعرفنا أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالت : ولما خرج أبو بكر احتمل معه ماله ، فدخل علينا جدي أبو قحافة -وقد ذهب بصره - فقال : إني والله لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه . قلت : كلا والله ، قد ترك لنا خيراً . وأخذت حج ارة ، فوضعتها في كوة البيت . وقلت : ضع يدك على المال . فوضعها ، وقال : لا بأس ، إن كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن . قالت : والله ما ترك لنا شيئاً ، وإنما أردت أن أسكت الشيخ .
وانتهت هذه الرحلة بما فيها من مصاعب وأحداثٍ ، ليصل النبي - صلى الله عليه وسلم -إلى أرض المدينة ، يستقبله فيها أصحابه الذين سبقوه بالهجرة ، وإخوانه الذين أعدّوا العدة لضيافته في بلدهم ، وتلك وقفة أخرى .
وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة
كان المسلمون في المدينة قد سمعوا بخروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة ، فكانوا يغدون كل غداة إلى ظاهر المدينة ينتظرونه ، حتى إذا اشتد الحر عليهم عادوا إلى بيوتهم ، حتى إذا كان اليوم الذي قدم فيه انتظروه حتى لم يبق ظل يستظلون به فعادوا ، وقدم الرسول صلى الله عليه وسلم وقد دخلوا بيوتهم ، فبصر به يهودي فناداهم ، فخرجوا فاستقبلوه ، وكانت فرحتهم به غامرة ، فقد حملوا أسلحتهم وتقدموا نحو ظاهر الحرة فاستقبلوه .
وقد نزل الرسول صلى الله عليه وسلم في قباء في بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة وأسس مسجد قباء .
ولما عزم رسول الله صلى عليه وسلم أن يدخل المدينة أرسل إلى زعماء بني النجار فجاءوا متقلدين سيوفهم .
وقد سجلت رواية أن عدد الذين استقبلوه خمسمائة من الأنصار ، فأحاطوا بالرسول صلى الله عليه وسلم و بأبي بكر وهما راكبان ، ومضى الموكب داخل المدينة ، ( وقيل في المدينة : جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم ) . وقد صعد الرجال والنساء فوق البيوت ، وتفرق الغلمان في الطرق ينادون : يا محمد يا رسول الله , يا رسول الله .
قال الصحابي البراء بن عازب - وهو شاهد عيان - : " ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم "
أما تلك الروايات التي تفيد استقباله بنشيد ( طلع البدر علينا من ثنيات الوداع ) فلم ترد بها رواية صحيحة .
وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير حتى نزل جانب دار أبي أيوب الأنصاري فتساءل : أي بيوت أهلنا أقرب ؟ فقال أبو أيوب : أنا يا نبي الله ، هذه داري وهذا بابي . فنزل في داره .
وقد ورد في كتب السيرة أن زعماء الأنصار تطلعوا إلى استضافة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فكلما مر بأحدهم دعاه للنزول عنده ، فكان يقول لهم : دعوا الناقة فإنها مأمورة فبركت على باب أبي أيوب ، وكان داره طابقين , قال أبو أيوب الأنصاري : " لما نزل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل في السّفل وأنا و أم أيوب في العلو , فقلت له : يا نبي الله - بأبي أنت وأمي - إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك ، وتكون تحتي ، فاظهر أنت في العلو ، وننزل نحن فنكون في السفل . فقال : يا أبا أيوب : إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت . قال : فلقد انكسر حبّ لنا فيه ماء , فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا مالنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفاً أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء يؤذيه " .
وقد أفادت رواية ابن سعد أن مقامه صلى الله عليه وسلم بدار أبي أيوب سبعة أشهر .
وقد اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين ، وآثروهم على أنفسهم , فنالوا من الثناء العظيم الذي خلّد ذكرهم على مرّ الدهور وتتالي الأجيال ، إذ ذكر الله مأثرتهم في قرآن يتلوه الناس : { والذين تبوّأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فألئك هم المفلحون} ( الحشر9) .
وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنصار ثناء عظيماً فقال : ( لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار) و ( لو سلكت الأنصار وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار أو شعبهم) .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حيث أدركته الصلاة ، ثم أمر ببناء المسجد في أرض كان فيها نخل لغلامين يتيمين من بني النجار .
وقد اشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقام المسلمون بتسويتها وقطع نخيلها وصفوا الحجارة في قبلة المسجد ، وما أعظم سرورهم وهم يعملون في بنائه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل معهم وهم يرتجزون :
اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة فانصر الأنصار والمهاجرة
وقد بناه أولاً بالجريد ثم بناه باللبن بعد الهجرة بأربع سنين ، وقد واجه المهاجرون من مكة صعوبة اختلاف المناخ ، فالمدينة بلدة زراعية ، تغطي أراضيها بساتين النخيل ، ونسبة الرطوبة في جوها أعلى من مكة ، وقد أصيب العديد من المهاجرين بالحمى منهم أبو بكر و بلال .
فأخبرت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( اللهم حبّب إلينا المدينة كحبّنا مكة أو أشدّ ، وصححها ، وبارك لنا في صاعها ومدّها ، وانقل حمّاها فاجعلها بالجحفة) . وقال : (اللهم امض لأصحابي هجرتهم ، ولا تردهم على أعقابهم ) .
لقد تغلب المهاجرون على المشكلات العديدة ، واستقروا في الأرض الجديدة مغلبين مصالح العقيدة ومتطلبات الدعوة ، بل صارت الهجرة واجبة على كل مسلم لنصرة النبي عليه الصلاة والسلام ومواساته بالنفس ، حتى كان فتح مكة فأوقفت الهجرة لأن سبب الهجرة ومشروعيتها نصرة الدين وخوف الفتنة من الكافرين . والحكم يدور مع علته ، ومقتضاه أن من قدر على عبادة الله في أي موضع اتفق لم تجب عليه الهجرة منه ، وإلا وجبت . ومن ثم قال الماوردي : إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر ، فقد صارت البلد به دار إسلام ، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها لما يترجى من دخول غيره في الإسلام .
وعندما دون التاريخ في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه اتخذت مناسبة الهجرة بداية التاريخ الإسلامي ، لكنهم أخروا ذلك من ربيع الأول الى المحرم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم ، إذ بيعة العقبة الثانية وقعت في أثناء ذي الحجة ، وهي مقدمة الهجرة . فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هلال المحرم ، فناسب أن يجعل مبتدأ التاريخ الإسلامي. والله الموفق والهادي الى سواء السبيل.
معجزات على طريق الهجرة
بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالهدي ودين الحق، ووعده بالنصر والتأييد، وكان تأييده تعالى لرسوله بأمور كثيرة منها المعجزات والتي هي خوارق العادات، فقد وقعت له معجزات كثيرة ، ومنها ما كان على طريق الهجرة ، وهو ما سنقف عليه في هذه الكلمات.
وقعت معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة , ولنقرأ ما سجله الصديق رضي الله عنه عن بداية الرحلة قال: (أسرينا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة , وخلا الطريق فلا يمر فيه أحد , حتى رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل , لم تأت عليه الشمس بعد , فنزلنا عندها فأتيت الصخرة فسويت بيدي مكاناً ينام فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في ظلها ثم بسطت عليه فروة . ثم قلت : نم يا رسول الله وأنا أنفض لك ما حولك , فنام) . ثم حكى أبو بكر خبر مرور راع بهما , فطلب منه لبناً , وصادف استيقاظ الرسول صلى الله عليه وسلم فشرب ثم قال : ( ألم يأن للرحيل ) قلت : بلى . قال : فارتحلنا بعدما زالت الشمس , وأتبعنا سراقة بن مالك ونحن في جلد من الأرض .
معجزة في خيمة أم معبد :
وقد اشتهر في كتب السيرة والحديث خبر نزول الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بخيمة أم معبد بقديد طالبين القرى , فاعتذرت لهم لعدم وجود طعام عندها إلا شاة هزيلة لا تدرّ لبناً , فأخذ الشاة فمسح ضرعها بيده , ودعا الله , وحلب في إناء حتى علت الرغوة , وشرب الجميع , ولكن هذه الرواية طرقها ما بين ضعيفة وواهية . إلا طريقاً واحدة يرويها الصحابي قيس بن النعمان السكوني ونصها (لما انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبو بكر يستخفيان نزلا بأبي معبد فقال : والله مالنا شاة , وإن شاءنا لحوامل فما بقي لنا لبن . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحسبه - فما تلك الشاة ؟ فأتى بها . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة عليها , ثم حلب عسّاً فسقاه , ثم شربوا , فقال : أنت الذي يزعم قريش أنك صابيء ؟ قال : إنهم ليقولون . قال : أشهد أن ما جئت به حق . ثم قال : أتبعك . قال : لا حتى تسمع أناّ قد ظهرنا . فاتّبعه بعد) . وهذا الخبر فيه معجزة حسية للرسول صلى الله عليه وسلم شاهدها أبو معبد فأسلم .
قصة سراقة بن معبد :
ولندع رواية سراقة بن مالك تكمل الخبر التاريخي ففيها تفاصيل تكشف عن المعجزة النبوية . قال سراقة : " لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجراً إلى المدينة جعلت قريش فيه مائة ناقة لمن رده عليهم . قال : فبينا أنا جالس في نادي قومي إذ أقبل رجل منا حتى وقف علينا فقال : والله لقد رأيت ركبة ثلاثة مروا عليّ آنفاً إني لأراهم محمداً وأصحابه . قال : فأومأت إليه بعيني أن اسكت . ثم قلت : إنما هم بنو فلان يبتغون ضالة لهم , قال : لعلّه , ثم سكت ".
ثم ذكر سراقة خروجه في أثرهم , وأن فرسه ساخت به حتى طلب الدعاء له من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : ( قل له وما تبتغي منا ) ؟ فقال لي ذلك أبو بكر . قال قلت: تكتب لي كتاباً يكون آية بيني وبينك . قال : اكتب له يا أبا بكر ، فكتب لي كتاباً في عظم أو في رقعة أو في خزفة , ثم ألقاه إلي , فأخذته فجعلته في كنانتي , ثم رجعت فسكت , فلم أذكر شيئاً مما كان)) . ثم حكى خبر لقائه برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة وإسلامه .
وقد ذكر سراقة في رواية صحيحة أنه اقترب من الاثنين حتى سمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت , و أبو بكر يكثر الالتفات , كما ذكر أنه عرض عليهما الزاد والمتاع فلم يأخذا منه شيئاً , وأن وصيته كانت : اخف عنا .
وتذكر رواية صحيحة أنه صار آخر النهار مسلمة للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كان جاهداً عليه أوله . وأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي دعا عليه فصرعه الفرس . وقد احتاط الاثنان في الكلام مع الناس الذين يقابلونهم في الطريق , فإذا سئل أبو بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : هذا الرجل يهديني السبيل , فيحسب الحاسب إنه إنما يعني الطريق , وإنما يعني سبيل الخير . وقد صح أن الدليل أخذ بهم طريق السواحل.
وبالجملة: فإن المعجزات جند من جنود الله تعالى أيد بها رسوله صلى الله عليه وسلم، وأكرمه بها ، وكان لها الأثر الفاعل في إرساء دعائم دعوته المباركة ، والله الموفّق .
الهجرة عبر وعظات
إن في دنيا الناس، ذكريات لا يمل حديثها، ولا تسأم سيرتها، بل قد تحلوا أو تعلوا إذا أعيدت وتكررت، كما يحلو مذاق الشهد وهو يكرر، ومن الذكريات التي لا يمل حديثها، ولا تسأم سيرتها، حياة محمد إمام البشرية، وسيد ولد آدم فهي من الذكريات الغوالي، التي تتجدد آثارها وعظاتها، كلما سلك المرء سبيله إلى الاعتبار والادكار، والعبد المؤمن إذ يغشى معالم سيرته فهو كعابد يغشى مصلاه، ومن حسن حظ المؤمن، أنه ما قلب سيرة المصطفى يوما فأخطأ دمع العين مجراه، وفي أيام محمد الجليلة النبيلة أيام خوالد، ما تزال تتضوأ على الأيام . وتتألق في غرة الزمان، ولعل من أسطعها وأروعها، يوم الهجرة، الذي تهب علينا نسمات ذكراه، في كل عام من أعوام الزمن، ومن شواهد عظم حادث الهجرة أنه يزداد بهاء وسناء كلما تناوله العرض والبحث، كالذهب والإبريز ؛ كلما عرضته على النار لتمحصه، ازداد إشراقا وصفاء، وهجرة المصطفى كانت فاتحة الأمل، وبارقة النصر، وطريق العودة له ولأصحابه إلى مكة فاتحين ظافرين، كما قال تعالى : إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد [سورة القصص:85]. يعني إلى مكة.
إننا هنا، نعرض لمحات من هجرة المصطفى ، في الوقت الذي يشهد فيه المسلمون نكبات وويلات، تعصر قلوبهم، وتمزق صدورهم، وأمتهم وعقيدتهم وحرماتهم ومقدساتهم، تستصرخ ولا مجيب، وتطالب المسلمين بتضحيات وفداء وبذل . والهجرة النبوية، تعطينا في هذا المجال، قدوة وأسوة، ففيها تتجلى دروس ودروس، من التضحية والفداء والبذل، فهذا رأس الأمة، وإمام الملة صلوات الله وسلامه عليه يتحمل العبء الثقيل، في سبيل الدعوة إلى الله، وإعلاء كلمته، ويشتط المجرمون من أعدائه في مقاومته، بحيلة الوعد والإغراء، ثم بتسليط الغوغاء والسفهاء، ثم بالتآمر الدنيء ،الذى ينتهي إلى الإجماع على اغتياله بلا ارعواء وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين [سورة الأنفال:30].
لما رأي المشركون أصحاب رسول الله قد تجهزوا، وخرجوا بالذراري والأطفال، وساروا بهم إلى المدينة، خافوا خروج رسول الله إليهم، ولحوقه بهم، فاشتد عيهم أمره، ولم يبق بمكة من المسلمين، إلا رسول وأبو بكر وعلي رضي الله عنهم وخلا من اعتقله المشركون كرها، فلما كانت ليلة همّ المشركون بالفتك برسول الله ، جاء جبريل بالوحي من عند ربه تبارك وتعالى فأخبره بذلك، وأمره ألا ينام في مضجعه تلك الليلة . وجاء رسول الله إلى أبي بكر نصف النهار، في ساعة لم يكن يأتيه فيها، فقال له : ((أخرج من عندك )) فقال إنما هم أهلك يا رسول الله، فقال : ((إن الله قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر : الصحبة يا رسول الله ؟ قال : نعم، فقال أبو بكر، فخذ بأبي وأمي إحدى راحلتي هاتين فقال له رسول الله آخذها بالثمن)) .
وأمر عليا أن يبيت في مضجعه تلك الليلة، واجتمع أولئك النفر من قريش، يتطلعون من صير الباب ويرصدونه، ويأتمرون أيهم يكون أشقاها، فخرج رسول الله فأخذ حفنة من البطحاء، فجعل يذروه على رؤوسهم وهم لا يرونه وهو يتلو وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداًً فأغشيناهم فهم لا يبصرون [سورة يس:9]. ومضى رسول الله إلى بيت أبي بكر، فخرجا من خوخة في داره ليلا، ثم مضى رسول الله وأبو بكر إلى غار ثور فدخلاه، وضرب العنكبوت على بابه، وجدت قريش في طلبهما، وأخذوا معهم القافلة، حتى انتهوا إلى باب الغار فوقفوا عليه، فقال أبو بكر، يا رسول الله : لو أن أحدهم نظر إلى ما تحت قدميه لأبصرنا، فقال رسول الله يا أبو بكر ما ظنك باثنين ،الله ثالثهما .
ولما يئس المشركون من الظفر بهما، جعلوا لمن جاء بهما دية كل واحد منها مائة ناقةبدل كل واحد منها فجدّ الناس في الطلب، فلما مروا بحي مدلج، بصر بهم سراقة بن مالك فركب جواده وسار في طلبهم، فلما قرب منهم سمع قراءة النبي ،ثم دعا عليه رسول الله ، فساخت يدا فرسه في الأرض، ثم قال سراقة، ادعوا الله لي، ولكما علي أن أرد الناس عنكما، فدعا له رسول الله فأطلق، ورجع يقول للناس : قد كفيتم ما هاهنا .
ومر رسول الله في مسيره ذلك بخيمة أم معبد، فقال عندها، ورأت من آيات نبوته في الشاه وحلبها لبنا كثيرا في سنة مجدبة، ما بهر العقول صلوات الله وسلامه عليه .
وقد كان بلغ الأنصار مخرجه من مكة، وقصده المدينة، وكانوا يخرجون كل يوم إلى الحرة، ينتظرونه أول النهار، فإذا اشتد حر الشمس، رجعوا على عادتهم إلى منازلهم، فلما كان يوم الاثنين، ثاني عشر ربيع الأول، على رأس ثلاث عشرة سنة من النبوة، خرجوا على عادتهم، فلما حَمِىَ حر الشمس رجعوا، وصعد رجل من اليهود على حصن من حصون المدينة لبعض شأنه، فرأى رسول الله وأصحابه، فصرخ بأعلى صوته، يا بني قيلة، هذا صاحبكم قد جاء، هذا جدّذكم الذي تنتظرونه، فبادر الأنصار إلى السلاح ليتلقوا رسول الله وسمعت الرجة والتكبير، وكبر المسلمون فرحا بقدومه، وخرجوا للقائه فتلقوه ،وحيوه بتحية النبوة، فأحدقوا به مطيفين حوله، والسكينة تغشاه ؛ وجاء المسلمون يسلمون على رسول الله وأكثرهم لم يره بعد، وكان بعضهم أو أكثرهم، يظنه أبا بكر، لكثرة شيبه، فلما اشتد الحر، قام أبو بكر ، بثوب يظلل على رسول الله فتحقق الناس حينئذ رسول الله .
بذلك كله أيها المسلمون يتضح موقف هو أعظم المواقف، التي وقفها رسول الله ضد العدوان فغير به مجرى الأحداث، وضيع على خصومه فرصة الانتقام، وأحبط مسعاهم، وبلبل أفكارهم، وأسفر عن مبلغ تأييد الله له، وحمايته من كيد الكائدين، وطيش الظلمة الجاحدين .
الهجرة دروس وعبر
بمثل هذه السيرة العطرة، تتجلى الخواطر، لننهل منها دروسا عظيمة . عميقة الدلالة، دقيقة المغزى، بعيدة الأثر في نفوس الكرام من أبناء الملة . ومن واجب المسلمين أن يحسنوا الانتفاع بها، عن طريق التذكر المفضي إلى العمل بها : " إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد " [سورة ق:37]. ومهما تتبارى القرائح، وتتحبر الأقلام، مسطرة فوائد الهجرة، فستظل جميعا كأن لم تبرح مكانها، ولم تحرك لسانها، وقد يعجز عن حصرها كثير من الناس . قال شيخ الإسلام، الإمام محمد بن عبد الوهاب – المجدد لما اندرس من معالم الإسلام رحمه الله تعالى – قال في حادث الهجرة : ((وفيها من الفوائد والعبر ما لا يعرفه أكثر من قرأها )) . انتهى كلامه رحمه الله .
ولعل من أبرز الدروس المستقاة من حادث الهجرة، هو أن صاحب الدين القويم والعقيدة الصحيحة، ينبغي ألا يساوم فيها، أو يحيد عنها، بل إنه يجاهد من أجلها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وإنه ليستهين بالشدائد والمصاعب – تعترض طريقه عن يمين وشمال – ولكنه في الوقت نفسه، لا يصبر على الذل يناله، ولا يرضى بالخدش يلحق دعوته وعقيدته .
ويلوح لنا في حادث الهجرة خاطر آخر، يتعلق بالصداقة والصحبة، فالإنسان في هذه الحياة لا يستطيع أن يعيش وحيدا منفردا، بل لابد من الصديق يلاقيه ؛ ويناجيه ويواسيه، يشاركه مسرته، ويشاطره مساءته . وقد تتجلى هذه الصداقة والصحبة في تلك الرابطة العميقة، التي ربطت بين الرسول وبين أبي بكر .
لقد أصبحت علاقات الكثيرين من الناس في هذا العصر، تقوم لعرضٍ أو لغرض، وتنهض على رياء أو نفاق، إلا من رحم الله، والأمة المسلمة اليوم أحوج ما تكون على عصبة أهل الخير، التي تتصادق في الله، وتتناصر على تأييد الحق، وتتعاون على البري والتقوى الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين [سورة الزخرف:67].
وخاطر ثالث يتجلى من ذكر هذه الحادثة، وهو أن الله ينصر من ينصره، ويعين من يلجأ إليه ويعتصم به ويلوذ بحماه، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن المخلص، الموقن بما عند الله، حين تنقطع به الأسباب، وحين يخذله الناس، وبعض الأغرار الجهلاء يرون مثل ذلك فرارا وانكسارا، ولكنه - في الحقيقة - كان عزا من الله وانتصارا: إلا تنصروه فقد نصره الله [سورة التوبة:40]. وبم نصره الله؟ نصره بأضعف جنده وما يعلم جنود ربك إلا هو [سورة المدثر:31]. نصره بنسيج العنكبوت [قصة العنكبوت حسنها الحافظ ابن حجر رحمه الله، انظر زاد المعاد بتحقيق الأرناؤوط]. وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون [سورة العنكبوت:41].
وخاطر رابع؛ يشير إلى أن الشباب إذا نبتوا في بيئة الصلاح والتقوى ،نشئوا على العمل الصالح، والسعي الحميد، والتصرف المجيد، والشباب المسلمون إذا رضعوا رحيق التربية الدينية الكريمة، كان لهم في مواطن البطولة والمجد، أخبار وذكريات . فعلي بن أبي طالب لم يتردد في أن ينام على فراش الرسول ، وهو يعلم أن سيوف المشركين تستعد للانقضاض على النائم فوق هذا الفراش، يتغطى ببردته، في الليلة التي اجتمع فيها شياطين الكفر والغدر، ليفتكوا برسول الله ، ويالها من نومة تحيطها المخاوف والأهوال، ولكن: فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين [سورة يوسف:64].
هكذا تعطينا الهجرة اليوم ما يعظنا في حاضرنا، وينفعنا في أولانا وأخرانا، وهناك اليوم في أرجاء المعمورة إخوان لنا مهاجرون مسلمون، أرغموا على ترك ديارهم وأوطانهم، بعد أن فعل بهم الكفرة الأفاعيل، وبعد أن تربصوا بهم الدوائر، ووقفوا لدعوة النور في كل مرصد، يقطعون عليها الطريق، ويعذبون أهلها العذاب الشديد، لا لشيء إلا لأنهم قالوا ربنا الله، فهاجروا كرها، وأخرجوا كرها، فهم يهاجرون من موطن لآخر، إقامة لدين مضطهد، وحق مسلوب في فلسطين، وفي البوسنة والهرسك، وفي كشمير، وإريتريا، وغيرها من بلاد المسلمين .
فاتقوا الله أيها المسلمون، وقفوا وقفة المهاجر بنفسه، وإن لم يهاجر بحسه، فلنهاجر إلى الله تعالى بقلوبنا وعقولنا وأعمالنا ولنلجأ إلى الله ليكون ناصرنا ومؤيدنا إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون [سورة آل عمران :160].
التأريخ بالهجرة :
لقد كان ابتداء التاريخ الإسلامي الهجري، منذ عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، حيث جمع الناس إبان خلافته، فاستشارهم من أين يبدأ التاريخ، فقال بعضهم يبدأ من مولد النبي ، وقال بعضهم يبدأ من بعثته ،وقال آخرون يبدأ من هجرته، وقال بعضهم يبدأ من وفاته، ولكنه رجح أن يبدأ من الهجرة، لأن الله فرق بها بين الحق والباطل، فجعل مبتدأ تاريخ السنين من الهجرة، ثم تشاوروا من أي شهر يبدؤون السنة فقال بعضهم من ربيع الأول لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي مهاجرا إلى المدينة، واتفق رأي عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم على ترجيح البداءة بالمحرم لأنه شهر حرام، ويلي ذا الحجة، الذي به تمام أركان الإسلام وهو الحج .
فعلينا جميعا أيها المسلمون، أن نأخذ بالتاريخ الهجري، فأعداء الله حريصون على أن يمسخوا الأمة المسلمة في كل شؤونها، حتى في تسمية الشهور والأعوام وإن استبدال تاريخ الكفار بالتاريخ الهجري عدول عن الطريق السوي، والمسلك القويم، وتشبه بالكفرة والمشركين، والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة في الأمور الباطنة، على وجه المسارقة والتدريج الخفي، والمشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن ؛ فتكون محرمة، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله .